الإثنين 21 / جمادى الآخرة / 1446 - 23 / ديسمبر 2024
(07) قول الماتن " ومن التنازع الموجود عندهم: ما يكون فيه اللفظ محتملاً للأمرين ... "‏
تاريخ النشر: ٢٠ / شوّال / ١٤٣٤
التحميل: 5701
مرات الإستماع: 3947

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين وجميع المسلمين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملاً للأمرين، إما لكونه مشتركاً في اللغة، كلفظ قسورة الذي يراد به الرامي ويراد به الأسد، ولفظ عسعس الذي يراد به إقبال الليل وإدباره.

وإما لكونه متواطئاً في الأصل، لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين، كالضمائر في قوله: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ۝ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدنا [سورة النجم:8-9]، وكلفظ: وَالْفَجْرِ ۝ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ۝ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [سورة الفجر:1-3]، وما أشبه ذلك.

فمثل هذا قد يراد به كل المعاني التي قالها السلف وقد لا يجوز ذلك، فالأول إما لكون الآية نزلت مرتين، فأريد هذا تارة، وهذا تارة، وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه، إذ قد جوز ذلك أكثر فقهاء المالكية والشافعية والحنبلية وكثير من أهل الكلام، وإما لكون اللفظ متواطئاً فيكون عاماً إذا لم يكن لتخصيصه موجب، فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف الثاني.

ومن الأقوال الموجودة عنهم ويجعلها بعض الناس اختلافاً أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة لا مترادفة، فإن الترادف في اللغة قليل، وأما في ألفاظ القرآن فإما نادر وإما معدوم، وقل أن يعبر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدي جميع معناه، بل يكون فيه تقريب لمعناه، وهذا من أسباب إعجاز القرآن، فإذا قال القائل يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا [سورة الطور:9]: إن المور هو الحركة كان تقريبا؛ إذ المور حركة خفيفة سريعة، وكذلك إذا قال: الوحي الإعلام، أو قيل: أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [سورة الإسراء:86] أنزلنا إليك، أو قيل: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة الإسراء:4] أي أعلمنا وأمثال ذلك، فهذا كله تقريب لا تحقيق، فإن الوحي هو إعلام سريع خفي، والقضاء إليهم أخص من الإعلام، فإن فيه إنزالاً إليهم وإيحاءً إليهم، والعرب تضمن الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقد مضى صورتان من صور اختلاف التنوع، ثم بعد ذلك شرع شيخ الإسلام -رحمه الله- في ذكر بعض الصور التي تتردد بين اختلاف التنوع واختلاف التضاد، وهذا -كما سبق- إذا نُظر إليه باعتبار إمكان اجتماع هذه المعاني وأنها مرادة في الآية يكون من قبيل اختلاف التنوع، وإذا كان ذلك يتطلب ترجيحاً فهو من قبيل التضاد.

وهنا يذكر أن من التنازع عن السلف ما يكون اللفظ فيه محتملاً للأمرين، وهذا يكون الاختلاف فيه ناشئاً من اللفظ نفسه، يعني أن اللفظ يحتمل، اختلفوا؛ لأن اللفظ يحتمل، واحتمال اللفظ يكون من وجوه متعددة ذكر منها هنا الاشتراك.

 والمشترك كما عرفنا هو اللفظ الواحد الذي له معانٍ متعددة، هذا المشترك لفظ واحد تعددت معانيه، مثّل لهذا بأمثلة كقسورة، قال: الذي يراد به الرامي ويراد به الأسد فلفظة قسورة تأتي في كلام العرب وهؤلاء الصحابة والسلف عرب أقحاح، فبعضهم قال: القسورة الأسد، بصرف النظر عن قول من قال: إن أصلها ليس بعربي، وإنها بلغة الحبشة مثلاً، مع أن بعضهم أنكر ذلك، وقال: الأسد لا يسمى قسورة في لغة الحبشة. وبعضهم قال: إن قسورة المقصود به أصوات الناس، وبعضهم يقول: الرامي، وبعضهم يقول: النبل الذي يرمى به، إلى غير هذا من الأقاويل، فلفظ قسورة يحتمل؛ ولهذا فسره بعضهم بهذا، وبعضهم بهذا، وبعضهم بهذا.

 المشترك المعاني التي يحملها تارة تكون النسبة بينها التناقض، نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، يعني لا يجتمعان في ذات واحدة في آن واحد، ولا يرتفعان، لا يمكن أن تقول: هذا حي ميت في وقت واحد في ذات واحدة، لكن يمكن أن تقول: هذا حي وهذا ميت في اثنين أو في وقتين، تقول: هذا ميت في الماضي حي الآن، فهذه معانٍ متناقضة. أو ضدان لا يجتمعان في ذات واحدة في وقت واحد، ولكن يمكن ارتفاعهما يعني بالنفي، يمكن نفيهما، ضدان مثل: السواد والبياض، لا يمكن أن يكون أسود أبيض في وقت واحد في ذات واحدة، ولكن يمكن ارتفاعهما نقول: لا أسود ولا أبيض، أصفر، هذا معنى الارتفاع، يعني النفي، فهذان الضدان.

 فالمشترك أحياناً يحمل معانِيَ متضادة، تقول مثلاً: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ [سورة البقرة:228] القرء يقال للحيض، ويقال للطهر، فلو أدخلنا النفاس في حكم الحيض، والاستحاضة في حكم الطهر؛ فيكون هذا من قبيل النقيضين بالنسبة للتناقض، يعني المرأة إما أن تكون حائضاً أو طاهراً، ما يمكن أن تكون حائضاً طاهراً، ولا لا حائض ولا طاهر.

وإذا قلنا: إن النفاس قِسْمٌ برأسه مثلاً فيمكن أن يقال: هذا من قبيل التضاد، الضدان لا يجتمعان ما يمكن أن تقول: حائض طاهر، ولكن يمكن ارتفاعهما نقول: لا حائض ولا طاهر، نفساء مثلاً، يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ فهذا متردد بين كونه من قبيل النقيضين أو من قبيل الضدين.

وأحياناً -وهذا هو الغالب- يحمل المشترك معانٍ متباينة، مثل هذا المثال (قسورة)، إذا قلنا: الأسد، الرامي، أصوات الناس، النبل، هل هذه المعاني متناقضة؟ لا، هل هي متضادة؟ لا، هل هي متماثلة؟ لا.

إذاً النسب أربعة: تناقض، تضاد، تباين، تماثل، فالنسبة هنا التباين، الأسد غير الرامي، غير النبل، غير أصوات الناس، فالنسبة هنا تباين، كل واحد من هذه الأنواع الثلاثة يمكن أن نقسمه إلى قسمين، من حيث إمكان الجمع بين الأقوال تحت الآية، أن تكون مرادة أو عدم الإمكان، يعني لو جعلنا خريطة نقول: هذا المشترك الآن يحمل إما معاني متناقضة أو متضادة أو متباينة، كل واحد من هذه ينقسم إلى قسمين: ما يمكن الجمع فيه، وما لا يمكن الجمع فيه، نعمل شجرة بهذه الطريقة، راحة يدي مثلاً.

المشترك إما أن يحمل معاني متناقضة، -والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان في ذات واحدة في آن واحد- أو متضادة، أو متباينة.

كل واحد منهما ينقسم إلى قسمين: ما يمكن الجمع بينها تحت الآية تكون كلها مرادة وداخلة، وما لا يمكن، المعاني المتضادة أحياناً يمكن الجمع بينها تكون كلها مرادة في الآية، أو لا يمكن، وهكذا المتباين يمكن أو لا يمكن. هذه التي يسمونها النسب الأربع، يدخل منها عندنا هنا ثلاث.

الآن لفظة (قسورة) هذه المعاني التي تطلق عليها هي من قبيل التباين، هل هذا اختلاف تضاد من حيث هو؟ أو اختلاف تنوع؟ (قسورة): أسد، صياد، أصوات الناس، النبل، هل هذا اختلاف تضاد؟ هل هذا تفسير بالمثال؟ الجواب: لا، هذا اختلاف تضاد من حيث هو، في توصيفه، في ذاته، ولا أقصد هنا بكلمة تضاد النسبة هذه التي هي الضدان، أقصد التضاد بمعنى أنه ليس اختلاف تنوع، إذا قلنا: إنه اختلاف تضاد ننظر بعد ذلك النظرة رقم اثنين، هل يمكن جمع الأقوال هنا تحت الآية، ونقول: كلها مرادة أو لابد أن نرجح، ونقول: قسورة القول الأول: هو الأسد، القول الثاني: الرامي، القول الثالث: النبل، القول الرابع: أصوات الناس، يمكن أن نجمع أو لا يمكن؟

فما نحتاج أن نقول: القول الأول والثاني والثالث، فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ [سورة المدثر:51] حيث إن هذا اللفظ من قبيل المشترك فيقال لكذا وكذا وكذا، والله لم يحدد لنا واحدة من هذه المعاني، وكل ذلك يصدق عليه أنه قسورة، ولما كانت هذه وحشية -الحمر المستنفرة حمار الوحش- مستنفرة، يعني هي من شدة عدوها وجريها كأن بعضها ينفِّر بعضاً فيزيده انطلاقاً، مستنفرة، فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ، لما كانت وحشية فهي تفر مما تتخوفه عادة كالأسد، وأصوات الناس، والصياد الرامي، والنبل الذي ترمى به، فكل هذا داخل فيه، وتحديد واحد من هذه المعاني تَحَكُّم من غير دليل، ما الذي جعلك تقول: هو الصياد أو الأسد مثلاً؟ وهذا يقال له: قسورة في لغة العرب، وهذا يقال له: قسورة؟ فهي وحشية تفر. فما نحتاج أن نرجح هنا، فيئول بهذه الاعتبار إلى اختلاف التنوع، فهنا ما جعله مباشرة بنفس الصيغة، ونفس العبارة تحت الأنواع السابقة، تحت الصنفين السابقين.

قال: ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملاً للأمرين، إما لكونه مشتركاً في اللغة، هنا نضع عنواناً: (الاختلاف بسبب الاشتراك في اللغة).

قال: ولفظ عسعس الذي يراد به إقبال الليل وإدباره وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [سورة التكوير:17]، كلمة عسعس في لغة العرب تقال لإقبال الليل وتقال لإدباره، عسعس، المعاني هذه هل هي من قبيل المتناقضين؟ أو من قبيل الضدين أو المتباينين؟ هذان ضدان، يعني لا يمكن أن يجتمعا في وقت واحد في ذات واحدة بنفس الوقت، نقول: أقبل أدبر في نفس الوقت، لا يمكن. لكن هل يمكن نفيهما؟ إذا قلت: لا فهذا من قبيل التناقض النسبة تناقض؛ لأن النقيضين لا يرتفعان كما أنهما لا يجتمعان، وإذا قلت: يمكن لا أقبل ولا أدبر، وإنما ثبت، بقي على حاله، سكن تقول: فلان أقبل وأدبر، جلس، وقف، لم يقبل ولم يدبر، فإذا قلت: يمكن ارتفاعهما فهذا من قبيل التضاد.

الآن في لغة العرب كلمة عسعس تأتي تماماً بمعنى أقبل، وتأتي تماماً بمعنى أدبر، فهنا لا  نقول: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، القول الأول: أقبل، القول الثاني: أدبر، الراجح كذا، هل نحتاج أن نرجح أحد القولين؟ هل هذا بالضرورة أو يمكن أن نجمع بينهما؟

إذا قلت: يمكن أن نجمع بينهما، كأن يقال: أقسم الله بالليل حال إقباله فقال: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [سورة الليل:1] وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [سورة الضحى:2] أرخى سدوله –ظلام-، فهذا إقبالٌ بالليل حال إقباله، وهو مظهر من المظاهر الدالة على عظمة الله وقدرته. كما أقسم الله بالليل حال إدباره، فقال: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [سورة المدثر:33] فالله أقسم بهذا وهذا، ولفظة عسعس تأتي بهذا وهذا، فإذا كان اللفظ محتملاً ودل الدليل هنا من القرآن عندنا على صحة هذا وهذا، فيمكن أن نقول: أقسم الله بالليل بحالتيه، حال الإقبال وحال الإدبار، وكلاهما مظهر يدل على العظمة، ولا نحتاج إلى ترجيح، صار الآن هذا الاختلاف الذي هو من قبيل اختلاف التضاد في الحقيقة -أقبل غير أدبر- إلى اختلاف التنوع، لكن معلوم أن من أهل العلم من السلف فمن بعدهم من يرجح مع أنه يعرف أنها مشتركة تأتي للمعنيين لكن يقول: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ يعني أقبل، لماذا قلت: أقبل؟

اقرأ ما قبلها وما بعدها، قال الله: وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [سورة التكوير:18] هذا ابتداء طلوع الصبح، فهؤلاء يقولون: أقسم بالليل في أول ابتدائه وقابله بابتداء الصبح، أقسم بابتداء هذا وابتداء هذا. ومن يقول: أدبر يقول: إن ذلك يناسب ما بعده فإنه إذا أدبر الليل تنفس الصبح، فجاء بعده بقوله: وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إدبار الليل يعني تنفس الصباح، بعضهم يقول هذا، وبعضهم يقول هذا، هذا يحتجُّ بهذه القرينة، وهذا يحتجُّ بهذه القرينة، ويمكن أن يقال غير هذا كما سبق في الجمع بين هذه الأقوال، يقال: الآية إذا احتملت معنيين فأكثر، وكل واحد منها دل عليه دليل فإنها تحمل على هذه المعاني، وقد مضى كلام أهل العلم على هذا.

إذاً عندنا المشترك، قال: وإما لكونه متواطئاً في الأصل لكن المراد به أحد النوعين. التواطؤ نسبة تعني أن المعنى متساوٍ، يستوي الأفراد في هذا المعنى، في حقيقته، لا تفاوت بينها، المعاني تكون مستوية، تستوي تحته الأفراد في المعنى، تكون النسبة بينها متساوية، هذا بالنسبة للمتواطئ، مثل لفظ الإنسان، الإنسان الآن يستوي فيه عمرو وزيد وسعيد وصالح الخ في حقيقة الإنسانية، مثل الذكورة والأنوثة هذا اللفظ تستوي الأفراد الداخلة تحته في معناه وحقيقته، يعني هذا ذكر، وهذا ذكر، وهذا ذكر الخ، وكذلك الأنوثة، وهذا يسمونه متواطئاً، والذي يقابله المشكِّك؛ لأن الشيخ ذكرها -رحمه الله- وإلا فالأصل أن هذه مصطلحات منطقية لا يضر الجهل بها، لكن تستعمل كثيراً.

فيقابل المتواطئ المشكِّك، المشكِّك تختلف النسبة فيه بين الأفراد، المتواطئ تستوي، الإنسانية تستوي، لكن المشكك تتفاوت، عندما نقول مثلاً: البياض والسواد النسبة تختلف أو ما تختلف؟ البياض: عندنا أبيض ناصع، أبيض نيلي، أبيض سكري، فالثياب التي يلبسها الناس تتفاوت في نسبة البياض، والبياض الذي في العين يتفاوت، بياض عين الطفل غير الذي في عين الكبير، وهو كله يقال له: بياض، فهذا يسمونه مشكِّكاً.

وكذلك السواد يتفاوت.

المهم عندنا هنا يقول: وإما لكونه متواطئاً في الأصل لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين كالضمائر، ذكر الضمائر من المتواطئ باعتبار أن دلالة الضمير لا تتفاوت على الأفراد، دلالة الضمير متحدة لهذا أو هذا أو ذاك هي تعطي فقط أن هذا يرجع إلى المذكور الفلاني فقط، من غير تفاوت، يعني هذا اللفظ يحتمل إما لأنه مشترك وإما لأنه من قبيل التواطؤ كالضمائر، فإذا كان كذلك فالضمائر أحياناً تكون محتملة، يحتمل أن ترجع إلى هذا أو ترجع إلى هذا، وهذا كثير في القرآن، وهذا في أفراده وتطبيقاته -يعني احتمال الضمير-، أحياناً يمكن أن نقول: الضمير يرجع إلى هذا وهذا لا إشكال معنا، والقرآن يعبر بالألفاظ القليلة للمعاني الكثيرة، أحياناً نقول: لا، لابد من الترجيح، اللفظ يحتمل، هذا متردد بين التضاد والتنوع.

انظر إلى المثال الذي ذكره، قال: كالضمائر ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ۝ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدنا ثم دنا هو، من هو الذي دنا؟ هنا ضمير مستتر دنا، فتدلى هو، فكان هو قاب قوسين، من هو (هو)؟ يرجع الضمير المستتر إلى من؟ بعضهم يقول: إلى الله، دنا الجبار -تبارك وتعالى- واقترب، وهذا فيه رواية، حديث شريك لكن تعرفون مقال أهل العلم في رواية شريك لحديث الإسراء والمعراج، انتقد العلماء مواضع منها هذا. وبعضهم يقول: الذي دنا فتدلى هو النبي ﷺ، والذي عليه السواد الأعظم من الجماهير والسلف والصحابة فمن بعدهم أن الضمير في دنا وتدلى يرجع إلى جبريل -عليه الصلاة والسلام.

 قال: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [سورة النجم:10]، جبريل دنا فأوحى. الآن هذه ثلاثة أقوال مع أن ابن كثير -رحمه الله- لما ذكر القول الثالث أنه جبريل -عليه الصلاة والسلام- قال: كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين وعن ابن مسعود، وكذلك رواه في صحيح مسلم عن أبي هريرة ولا يُعرف لهم مخالف من الصحابة في تفسير الآية في هذا، مع أنه يوجد من خالف، لكن السواد الأعظم أن المقصود به جبريل -عليه الصلاة والسلام.  ففي هذا المثال هل نقول: ثم دنا فتدلى يُحمل الضمير على كل هذه الاحتمالات، الله دنا -تبارك وتعالى-، وجبريل دنا، والنبي ﷺ دنا؟ أو نقول: لابد من الترجيح في هذا الموضع؟

نقول: هنا لابد من الترجيح، فالراجح أن الذي دنا فتدلى هو جبريل ﷺ، فهذا اختلاف تضاد يحتاج إلى ترجيح. إذاً هذا لم يرجع إلى اختلاف التنوع لا ابتداءً ولا في المنتهى، بقي اختلاف تضاد.

الآن قال: وكلفظ: وَالْفَجْرِ ۝ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ۝ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، الآن هذا ليس من قبيل الضمائر، ولكن اختلفوا هل الفجر هنا المراد به فجر معين؟ أو يراد به الصبح الذي هو أول اليوم؟ الفجر طلوع -منذ طلوع الفجر الصادق-، فهذا الوقت الشريف أقسم الله به، فهو وقت مبارك، والنبي ﷺ يقول: بورك لأمتي في بكورها[1]، وهذا وقت البكور، وهو وقت الغداة الذي جعله الله موضعاً لذكره، فهو أشرف أوقات اليوم، وهو رأسها، وخيرها، وأكرمها، وأجلها وأعظمها، فإذا ضاع على الإنسان بقي في سائر يومه وهو يحاول أن يأتي بما يمكن أن يأتي به في أول النهار فيتقطع عليه ذلك في سائر اليوم ولا يكاد يخرج بطائل.

هذا الوقت المبارك، بورك لأمتي في بكورها، فمن أهل العلم من يقول أنه الصبح، وهذا قول المحققين من المفسرين، وبعضهم يقول: لا، هو فجر يوم معين فجر يوم عرفة، وبعضهم يقول: هو فجر يوم النحر، وبعضهم يقول: فجر أول يوم من المحرم؛ لأنه أول فجر من السنة، وهذا غير صحيح؛ لأن وضع التاريخ كان في عهد عمر ابتدءوا من المحرم. الآن هذا الفجر فهنا يمكن أن تقال هذه المعاني، أن الله أقسم بالصبح فيدخل فيه فجر يوم عرفة، وفجر يوم النحر، يعني هذه الأقوال تكون داخلة فيه، إذا حملناه على المعنى الأعم، أن الله لم يحدد فيه معنى، فرجع ذلك إلى اختلاف التنوع، وإلا فهو في الأصل اختلاف تضاد.

وَلَيَالٍ عَشْرٍ [سورة الفجر:2] بعضهم يقول: هي عشر ذي الحجة، وهذا قول الجماهير من السلف ومن بعدهم، وبعضهم يقول: هي العشر الأواخر من رمضان، ذكر الليالي، والنبي ﷺ قال: ما من أيام العمل الصالح فيها...[2]، العشر من ذي الحجة، لكن الجواب على هذا أن يقال: إن العرب تعبر بالليالي وما يتبع ذلك من الأيام، وتعبر بالأيام وتريد بذلك الليالي معها، ولا إشكال. وبعضهم يقول: هي العشر الأُوَل من شهر المحرم، فهنا الليالي العشر هل نحمل ذلك على الجميع؟ أو نقول: لا، الليالي العشر هي عشر ذي الحجة؟ هذا هو الراجح، وهذا الذي عليه عامة السلف والخلف.

 الليالي العشر عشر ذي الحجة، فأيامها ولياليها أفضل من سائر أيام وليالي العام بما فيها العشر الأواخر من رمضان، إلا ليلة القدر. الذين استثنوا الليالي كابن القيم قالوا: الأيام العشر من ذي الحجة أفضل من النهار، والليالي العشر الأخيرة من رمضان أفضل؛ لأن فيها ليلة القدر، يُستثنى فقط ليلة القدر، الله أقسم بالليالي العشر من ذي الحجة فهي أفضل مطلقاً إلا من ليلة القدر.

وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ أقوال كثيرة، بعضهم يقول: الشفع هو يوم عرفة، وبعضهم يقول: هو يوم الأضحى، طبعاً الذي يقابله عندهم الوتر ليلة النحر، والوَتر والوِتر لغتان.

وبعضهم يقول: الشفع هو يوم النحر، والوتر عرفة، وبعضهم يقول: إن الشفع والوتر الصلاة منها ما هو شفع ومنها ما هو وتر، وبعضهم يقول: إن الشفع هو الله باعتبار مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [سورة المجادلة:7]، وبعضهم يقول: العكس الوتر هو الله والشفع الخلق.

وبعضهم يقول: الشفع يومان بعد النحر، أي أحد عشر واثنا عشر، والوتر اليوم الثالث عشر، وبعضهم يقول: الشفع والوتر الخلق كله، منه ما هو شفع ومنه ما هو وتر.

وبعضهم يقول: العدد منه ما هو شفع، ومنه ما هو وتر، فأقسم الله بهذا وهذا، وبعضهم يقول: الشفع هو آدم وحواء، والوتر الله، إلى غير ذلك من الأقاويل حتى إن ابن الجوزي في زاد المسير ذكر خمسة عشر قولاً.

ولهذا قلنا من قبل: إن مثل هذا الكتاب إذا قرأ فيه المبتدئ فإنه يتحير من كثرة هذه الأقوال، وبعضها من قبيل اختلاف التنوع بل الكثير منها، وبعضها يمكن الجمع بين الأقوال فيه.

لكن قول المحققين: إن المقصود بالشفع والوتر أن الله أقسم بالشفع والوتر ولم يقيد ذلك، فيدخل فيه كل شفع وكل وتر، كل هذا، فيدخل فيه هذه الأقاويل المذكورة ولا نحتاج أن نرجح، لاحظ أنه آل هنا إلى اختلاف التنوع، وإلا هو في الحقيقة اختلاف تضاد.

الفجر فجر يوم عرفة، وفجر يوم النحر، وفجر الأيام الأخرى إلى آخره، هل هي حقيقة مستوية من هذه الحيثية أنه فجر؟ إذا قلت، مستوية فهذا متواطئ، قلنا: ما استوت أفراده في المعنى، ولهذا قال: وإما لكونه متواطئاً في الأصل، لكن المراد به أحد النوعين، وذكر الضمائر بهذه الصفة من هذه الحيثية.

وكذلك الألفاظ التي تكون الأفراد الداخلة تحتها متساوية في معناها، الفجر، الشفع، الوتر، يعني تستوي من حيث إنها يصدق عليها أنها شفع أو وتر، لا من حيث شرف هذه الأفراد في نفسها لمقتضيات أخرى، لكن من حيث صدق هذه اللفظة أنها شفع أو وتر، نقول: تستوي، فهذا من قبيل المتواطئ.

يقول: فمثل هذا قد يراد به كل المعاني التي قالها السلف وقد لا يجوز ذلك. شيخ الإسلام لا يأتي بهذا الكلام من عنده، هذا الكلام الذي يقوله بحيث إمكان الاجتماع هو مسبوقٌ إليه، وإذا نظرت لأقوال السلف أحياناً تجد أمثلة جميلة ونادرة تستخرج بالمناقيش من بطون الكتب، تجد فيها أن السلف أحياناً يذكرون هذا تماماً في تفسيره.

 خذ على سبيل المثال هذا الكتاب: (السنة للمروزي)، محمد بن نصر المروزي المتوفى سنة 294هـ، وهو من كتب العقيدة المأثورة، كتب مختصرة في الآثار، لو أخذنا من هذا الكتاب موضعاً مثالاً من كلام السلف في صفحة 7 و8 يقول: سمعت إسحاق يقول: وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [سورة النساء:59] قد يمكن أن يكون تفسير الآية على أولي العلم لأن بعض السلف قال: أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ يعني العلماء، بأي اعتبار؟ باعتبار أنهم مرجع للجميع للأمراء في الأصل وللعامة، وعلى أمراء السرايا؛ لأن بعضهم يقول: وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ أمراء السرايا، يقول: لأن الآية الواحدة يفسرها العلماء على أوجه، وليس ذلك باختلاف، يقصد أن ذلك يرجع إلى التنوع.

يقول: وقد قال سفيان بن عيينة: ليس في تفسير القرآن اختلاف إذا صح القول في ذلك، وقال: أيكون شيءٌ أظهر خلافاً في الظاهر من الخُنّس؟ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ۝ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ [سورة التكوير:15-16] مع أن بعض أهل العلم يرجِّح، مثلا ابن القيم يرجح النجوم على اختلاف بينهم، هل هي نجوم محددة منازل الشمس والقمر أو غير ذلك؟ المهم النجوم تختفي نهاراً، وتظهر ليلاً، ويحتج لهذا بأمور ليس هذا موضع ذكرها. قال إسحاق: وتصديق ذلك ما جاء عن أصحاب محمد ﷺ في الماعون، يعني أن بعضهم قال: هو الزكاة، وقال بعضهم: عاريّة المتاع، قال: وقال عكرمة: الماعون أعلاه الزكاة وعاريّة المتاع منه، يعني جمع بين كل هذه الأقوال. قال إسحاق: وجهل قوم هذه المعاني فإذا لم توافق الكلمةُ الكلمةَ قالوا: هذا اختلاف.

وقد قال الحسن وذُكر عنده الاختلاف في نحو ما وصفنا، يعني يجعلون اختلاف تنوع واختلاف تضاد قال: إنما أوتي القوم من قِبَل العُجمة، يعني أن هذا الذي يشقق الأقوال، ويقول: فيها أقوال، وفيها، بالإمكان أن يجمع بينها، يقول: أهلكتهم العجمة، يعني لو كانوا عرباً خلصاً يفهمون فهماً صحيحاً لما قالوا هذا، إذاً نقول: إن هذا إذا كان بالإمكان أن تُحمل هذه الأقوال أن يقال: الآية محمولة على الجميع فهذا هو الأولى، فنكون قد رجعنا إلى اختلاف التنوع، وإن كان في أوله هو من اختلاف التضاد.

 فعندنا قاعدة أن اللفظ إذا احتمل معانيَ متعددة، وأمكن الحمل على الجميع؛ فإنها تحمل على جميع هذه المعاني، وعندنا أدلة لهذه القاعدة من ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد بن المعلى  يقول: "كنت أصلي فدعاني رسول الله ﷺ فلم أجبه فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي فقال: ألم يقل الله: اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ؟ [سورة الأنفال:24][3]، فسياق الآية إذا دعاكم للإيمان، يعني هنا النبي ﷺ حملها على معنى إذا دعاك قال: يا فلان، فهذا منه ﷺ يدل على أن الآية يمكن أن ينظر إلى عموم لفظها فيدخل فيها المعنى الذي جاء السياق دالاً عليه، ويدخل فيها ما يحتمله ظاهر اللفظ من جهة العموم.

أيضاً دليل آخر عند البخاري عن ابن عباس -ا- قال: "خطب رسول الله ﷺ فقال: يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاةً عراةً غُرْلا، ثم قال: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [سورة الأنبياء:104][4]، وهذه أشرت إليها فيما سبق، وهو أن سياق الآية جاء في تقرير القدرة على البعث، الاحتجاج بالنشأة الأولى على الثانية كما هو كثير في القرآن: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [سورة الأنبياء:104] النبي ﷺ أورده في معنى آخر هنا وهو أن الخلق يبعث يوم القيامة، ويعاد بالصفة التي كان عليها عند ولادته، حفاة عراة غرلاً غير مختونين، فهذا ظاهر اللفظ، العموم يحتمل هذا وهذا، فصح أن يكون ذلك جميعاً داخلاً فيه.

ويتفرع عن هذه صور: أحياناً تكون المعاني متساوية أو متقاربة، يعني مثل ما قلنا في قسورة: الرامي أو الأسد، فتدخل فيه، وقد يكون بعضها أرجح من بعض، قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ [سورة الفرقان:77]، يحتمل لولا دعاؤكم أي لولا دعاؤه إياكم إلى الإيمان، ويحتمل لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ يعني تضرعكم وسؤالكم، فهنا من أهل العلم من يرجح هذا، ومنهم من يرجح هذا، وقد تكون هذه المعاني متلازمة، بينها ملازمة وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [سورة غافر:60] بعضهم يقول: يعني اعبدوني، والقرينة أنه قال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي فالمراد بالدعاء العبادة، والقول الآخر: ادعوني: اسألوني أعطكم، أستجب لكم، بين القولين ملازمة، يعني أن القول الأول أعم من الثاني، فإذا قلنا: العبادة فإن من العبادات الدعاء، فالدعاء أصل العبادة، الدعاء عبادة يحبها الله -تبارك وتعالى-، فهذا إذا قلت: العبادة أدخلت فيه القول الآخر؛ لأنه لازم عنه، بين القولين ملازمة، وبهذا تكون جمعت بين القولين.

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ [سورة البقرة:255] مِن علم الله، أو من علم ما ذُكر قبله أي ما بين أيديهم وما خلفهم، بينهما ملازمة، بعضهم يقول: من علم الله، وبعضهم يقول: من علم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولكن بين المعنيين ملازمة، فإنّ عِلْم ما بين أيديهم وما خلفهم هو بعض من عِلْم الله. فإذا قلت: هذا يرجع إلى علم الله كان علم ما بين أيديهم وما خلفهم من لازمه، وإذا كانوا لا يحيطون بشيء من علم ما بين أيديهم وما خلفهم فهذا يلزم منه أنهم لا يحيطون بشيء من علم الله -تبارك وتعالى- وهذا كثير.

أيضاً قد يكون هذا يرجع إلى القراءات، فيكون كل معنى محمولاً على قراءة، وهذا لا إشكال فيه، مثل قوله: فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [سورة الكهف:86] "حامئة" حارة، و"حمئة" متغيرة منتنة، فتجد هذا وهذا في كتب التفسير، فهذا يرجع إلى قراءة، وهذا يرجع إلى القراءة الأخرى، وأحياناً يرجع هذا إلى مواضع الوقف والوصل والابتداء الصحيحة؛فيختلف المعنى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ [سورة آل عمران:7] وتتوقف هنا، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الواو تكون استئنافية، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا إذاً أهل الرسوخ لا يعلمونه، فهذا المتشابه المطلق الذي لا يعلمه إلا الله، وهو حقائق الأشياء الغيبية وليس معاني القرآن، فهذا احتمال، هذا بناء على الوقف وهذا ثابت عند ابن عباس -ا.

على الوصل وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا تكون الواو للعطف يعني أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله. ابن عباس ثبت عنه هذا أيضاً، هذا اختلاف موضع الوصل، يقال: كلاهما صحيح، فإذا وقفت كان المعنى أن المتشابه المطلق وهو حقائق الأمور الغيبية وما إلى ذلك لا يعلمه إلا الله، وإذا وصلت كان الراسخون في العلم يعلمون تأويله، فهذا في المتشابه النسبي الذي هو في المعاني، فهذه المعاني التي تلتبس على البعض وتشكل عليه هي من قبيل المتشابه، لكن الراسخون يعلمون ذلك.

آيتان ظاهرهما التعارض -والقرآن لا يوجد فيه تعارض- تلتبس على بعض الناس كيف قال: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [سورة المعارج:4]، وقال في سورة السجدة: تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ۝ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ۝ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [سورة السجدة:2-5]، فهذه الألف السنة مع الخمسين ألف سنة هل هما يوم واحد أم هما يومان، هذا يوم العروج مثلاً وذاك يوم القيامة؟

فقد يلتبس هذا على بعض الناس إما بسبب أن هذه الأشياء قد تقابلت عنده وأشكل عليه، أو لغموض في اللفظ فأوقع عنده شيئاً من الغموض واللبس، وأعياه فهمه فيكون بالنسبة إليه من قبيل المتشابه، فهذا متشابه نسبي، لا يوجد في القرآن شيء من جهة المعنى يكون متشابهاً مطلقاً بحيث لا يعلمه أحد من الناس، فالله خاطبنا بما نفهم، فلاحظ الوقف والوصل؛ فالمعنى يتغير، فيقال: هذا صحيح، وهذا صحيح.

وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قُتِلَ ونقف على هذه القراءة المتواترة، أنبياء كثير قتلوا، مَعَهُ رِبِّيُّونَ جماعات كثيرة معه مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ [سورة آل عمران:146] يعني لما قُتل نبيهم ما فت ذلك في أعضادهم، ثبتوا، بقوا على الطريق، وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ [سورة آل عمران:146]، صار القتل واقعاً على الربيين، وقع فيهم مقتلة، اسْتَحَرَّ فيهم القتل فما فت ذلك في أعضاد من بقي على قيد الحياة لقتل إخوانهم، بقوا على الطريق، هذا معنى صحيح، وهذا معنى صحيح.

وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ، هذا كله يرجع إلى الوقف والوصل والابتداء، وأحياناً يحتاج إلى ترجيح.

يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء [سورة الأحزاب:32] تلاحظ بعض المصاحف جيم هنا إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ يعني إن كنتن متقيات فلا تخضعن بالقول؛ فهذا مخالف التقوى، المعنى الثاني أو الموضع الثاني يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ يعني هنا نفي التساوي لستن كأحد من النساء يقتضي التفضيل والتشريف، أنتن أشرف وأفضل إن اتقيتن، ليس مجرد الانتساب إلى النبي ﷺ، فامرأة نوح وامرأة لوط قد قص الله خبرهما، فهنا لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ونقف وهذا أقرب -والله أعلم-، ثم قال: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أنتنّ بهذه المثابة لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فإن الخضوع بالقول لا يصلح لأهل البيوت الكريمة الشريفة الرفيعة النظيفة، وإنما يصلح لأهل السفول والضّعة والمهانة والدنس، هذا الشرف ما يصلح لصاحبته الخضوع بالقول في كلامها مع الرجال الأجانب، هنا رجّحنا في موضع الوقف.

أما ما يفعله بعض القراء التفنن والابتكار والاختراع لمواضع وقف، إذا كنت تصلي رفعت بصرك، وأحياناً تكاد ترد عليه تريده أن يرجع ويقرأها صحيحة، يقلب الإعراب، وأحياناً يقلب المعنى، كل هذا من أجل أن يأتي بشيء غريب، ما جذبهم بصوته، يريد أن يكثر من الصفوف التي تصلي خلفه فيلعب بمواضع الوقف والوصل والابتداء، وهذا حرام لا يجوز، يأتيك بمعانٍ أحياناً تقفز في صلاتك، أحياناً كأنه طعنك برمحٍ بالمعنى الذي جاء به وهو يحسب أنه يحسن صنعا بهذا، وهذا لا يجوز.

والسلف  كان الرجل إذا جاء يطلب الحديث سألوه عن القرآن، سألوه عن مواضع الوقف والوصل، وتجد أمثلة في غاية العجب، كيف طرأت على بالهم؟ كيف خطرت؟ كيف ركبوها هذا التركيب؟ كيف اخترعوها؟! والله المستعان.

من هذه الصور ما ذكر هنا: حمل اللفظ المشترك على معنيين أو معانٍ، إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [سورة الأحزاب:56] لاحظ يصلون اللفظ المعبر به واحد مع أن صلاة الله غير صلاة الملائكة، صلاة الله على عبده بمعنى أن يذكره في الملأ الأعلى، وصلاة الملائكة بمعنى الاستغفار، واللفظ المعبر به واحد، والصلاة تأتي بمعنى الاستغفار بهذا وهذا، فعبر بلفظ واحد مع أنه يحمل قطعاً معنيين هنا، فهذا يمكن أن يُستدل به.

كذلك ما يتعلق بأسباب النزول التي ذكرناها بالأمس، يمكن أن نتعامل معها بالقاعدة السابقة ونخرُج، ما نحتاج أن نقول: والله فيه أقوال في سبب النزول، نخرج بسبب النزول سواء كان رواية واحدة أو أكثر، نقول: نزلت الآية بسبب هذا وهذا، وقد نقول: نزلت في وقتين متباعدين، نزلت مرتين، أو نزلت مرة واحدة بعد الواقعتين لأنهما في وقت متقارب.

هناك أشياء أخرى في مسألة الاشتراك في تنوعه وصوره في القرآن مثلاً، وأحيانا يكون هذا الاشتراك في اللفظة الواحدة المفردة مثل: قسورة، عسعس تحمل معانيَ -كما سبق- متناقضة، متضادة، متباينة الخ..

ومما لا يمكن جمع الأقوال فيه وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَء [سورة البقرة:228]، هذا الآن مشترك بين الطهر والحيض، هنا لابد من الترجيح، لا يمكن أن يقال: إن ذلك جميعاً مراد؛ لأن ذلك داخل تحت معنى لفظ القرء، كيف يتربصن ثلاثة قروء يعني ثلاثة أطهار وثلاث حِيَض، هل يمكن هذا؟ هذا لا يمكن، والعجيب أنك تجد في أحد كتب التفسير كلاماً لمؤلفه بأن هذا ممكن، وهذا غير صحيح أبداً، لا يمكن أن تجتمع هذه في هذا المثال.

وأحياناً يكون هذا الاشتراك بسبب اختلاف أحوال الكلمة، ليس من جهة موضوع اللفظ، لكن التصريف، في قوله -تبارك وتعالى- مثلاً: لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا [سورة البقرة:233] هنا جهة التصريف فيحتمل أن يكون لا تضارر يعني الزوج وأهل الزوج بسبب الولد، وتطالبهم بتكاليف ومطالب بسبب الرضاع لا يتحملونها ولا يطيقونها، فتتخذ هذا الولد وسيلة للضغط وكما يقال: تركيع الزوج وأهل الزوج إذا حصل خصومة.

 ويحتمل أن يكون لاَ تُضَآرَّ هي، أي لا يلحق بها الضرر بسبب الولد من أجل إرضاعه أو نحو ذلك، فيكون ذلك سبباً لأذاها وإشغالها آناء الليل وأطراف النهار، كل مدة قليلة يأتون بالولد تعالي أرضعيه، أو يطلبون منها أن تتعنى من أجل إرضاعه، ولا يأتون به مثلا، وهي لا تستطيع، وهكذا، فهنا يمكن أن يقال: إن قوله: لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا محمول على الأمرين لا يصدر منها الضرر ولا يقع عليها الضرر.

وهكذا في قوله: وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ [سورة البقرة:282]، لا يتخذ هذه الشهادة التي ستثبت بها هذه الحقوق وسيلة للابتزاز، يقول: أنا ما أقدم هذه الشهادة إلا عندما تعطوني، وكذلك لا يضار هو بسبب هذه الشهادة أو الكتابة فيلحق به الضرر، فهذا كله صحيح.

وأحياناً يكون هذا من جهة تركيب الكلام بعضه على بعض، يعني في قوله -تبارك وتعالى-: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ [سورة النساء:127] هذا التركيب يحتمل معنيين يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ يعني من المهور، ما تُعطَى مثل مهر مثيلاتها؛ لأنها يتيمة، وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ يحتمل أن يكون وترغبون في نكاحهن لجمالهن أو مالهن، ويحتمل أن يكون المعنى وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ يعني وترغبون عن نكاحهن لقلة جمالهن أو عدم مالهن، هذا من جهة تركيب الكلام.

فالاشتراك يقع تارة من جهة المفردة نفسها، قسورة، عسعس، الاسم، والفعل، وأحياناً الاشتراك في الحرف، نفس الحرف، الحرف يدل على معانٍ متعددة، وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:135] هل هذا للتخيير أو ترتيب؟ أو المقصود به التقسيم مثلاً؟ وهذا هو الصحيح هنا، يعني أن اليهود والنصارى لا يقولون: كونوا هوداً أو نصارى؛ لأن اليهودي يرى أن النصراني كافر عدو له، ولا يقول له: كن نصرانياً لتحصل لك الهداية، والنصراني لا يقول له: كن يهودياً، ولكن وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى هذه أو للتقسيم، يعني اليهود قالوا: كونوا هوداً، والنصارى قالوا: كونوا نصارى تهتدوا، فأو هنا ليست للتخيير؛ لأنهم لا يخيِّرون في هذا، وإنما هي للتقسيم.

وكل هذا على أنواعه من الأمثلة ما يمكن جمع الأقوال فيه، وما لا يمكن جمع الأقوال فيه.

 

  1. رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الابتكار في السفر، برقم (2606)، والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في التبكير في التجارة، برقم (1212)، وأحمد في المسند، برقم (1320)، وقال محققوه: "حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف لضعف عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وجهالة النعمان بن سعد"، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1300).
  2. رواه أبو داود، كتاب الصيام، باب في صوم العشر، برقم (2438)، وابن ماجه، كتاب الصيام، باب صيام العشر، برقم (1727)، وأحمد في المسند، برقم (1968)، وقال محققوه: " إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (2107).
  3. رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب فضل فاتحة الكتاب، برقم (5006).
  4. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سورة المائدة:117]، برقم (4625).

مواد ذات صلة