الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
(99) دعاء الاستفتاح " للذي فطر السموات والأرض وما أنا من المشركين "‏
تاريخ النشر: ٢٧ / ربيع الأوّل / ١٤٣٥
التحميل: 3041
مرات الإستماع: 2511

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: كنا -أيّها الأحبّة- في الليلة الماضية نتحدَّث عن قول المصلِّي في دُعاء الاستفتاح: وجَّهتُ وجهي للذي فطر السَّماوات والأرض حنيفًا، وما أنا من المشركين[1].

وفي هذه الليلة -إن شاء الله- نُواصل الحديثَ عمَّا بقي من شرح هذه الجملة:

فقوله: وجَّهتُ وجهي للذي فطر السَّماوات والأرض حنيفًا نُلاحظ أنَّ السَّماوات تأتي مجموعةً غالبًا في القرآن، والأرض مُفردةً إذا قابل بينهما، وإن كانت في بعض المواضع تأتي السَّماء مُفردةً، ولا شكَّ أنَّ الأرضين سبعٌ كما ثبت ذلك في قوله -تبارك وتعالى-: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق:12]، لما ذكر السَّماوات السَّبع.

وأيضًا في الأحاديث الصَّحيحة ما هو مُصرّحٌ بذلك: طوَّقه من سبع أرضين[2].

فإذا قيل: "الأرض" فهذا جنسٌ يصدق على الواحد والعدد، لكن من حيث الصِّيغة تأتي السَّماوات بصيغة الجمع، والأرض بصيغة الإفراد غالبًا.

والجواب مضمنٌ فيما سبق، وهو أحد الأجوبة التي تُقال في هذا المقام؛ لأنَّ الأرضَ جنسٌ تصدق على الواحد، وعلى الكثير، اسم الجنس يصدق على الواحد، وعلى العدد، وعلى الجمع.

وهناك أيضًا توجيهات أخرى لهذا، فبعض أهل العلم يقول: إنَّ السَّماوات تُذْكَر مجموعةً لسعتها، فهي لا شكَّ أوسع من الأرض، أو لاختلاف طبقاتها، هذا باعتبار أنَّ طبقات الأرض هل هي مُلتصقة، أو بينها مسافات فضاء؟ نحن لا نعلم، نعلم أنَّ السَّماوات: كلّ سماءٍ لها أهلها وسُكَّانها من الملائكة، والنبي ﷺ رأى الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسلام- في السَّماوات، وكلّ سماءٍ لها أبواب: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [الطلاق:12]، هل هي مُلتصقة كل طبقةٍ بالأخرى، تليها مُباشرةً، أو بينها فراغٌ؟ هذا في علم الغيب.

أمَّا ما يذكره أهلُ العلوم -علوم الأرض- من أنَّ الأرضَ لها سبع طبقات، تبدأ بالقشرة، وتنتهي بالنَّواة، وهذه النَّواة يزعمون أنَّها من الحديد الخالص الصَّلب. فهذا الكلام مجرد نظريات، ليس هناك شيءٌ يُثبت هذا الكلام، ولكن الكثيرين حينما يتحدَّثون عن هذه القضايا يذكرونها على أنها حقائق ثابتة، وليست كذلك.

وقد ناقشتُ بعضَهم، وقلتُ له: عندك أثارة من علمٍ ممن خلقها أنَّه قال: إنها طبقات: الأولى كذا، والثانية كذا، والثالثة كذا، والرابعة كذا، كما تزعمون إلى النَّواة، وأنَّها من حديدٍ خالصٍ؟

قال: لا.

طيب، شاهدتم خلقها؟

قال: لا.

قلتُ: طيب، هل توصَّلتم إلى قعرها، ووصلتم إلى الأرض السَّابعة التي تقولون: إنها نواة، ورأيتُموها حديدًا خالصًا، ورأيتُم الطبقات التي قبلها؟

قال: لا.

طيب، إذًا بناءً على ماذا تقولون هذا الكلام؟!

قال: فرضيات.

قلتُ: لماذا لا تقولون: فرضيات للناس؟

قال: مجرد فرضيات.

هذا أستاذ في علوم الأرض، يعني: أنَّه قد حصل أعلى الشَّهادات في هذا التَّخصص.

فعلى كل حالٍ، نحن لا نعلم هل طبقات الأرض مُلتصقة، أو غير مُلتصقة؟ هل هي هذه التي يزعمون بهذه الفرضيات، أو لا؟

ما نعرف، هذا كلّه غيب، ونُفوضه إلى الله -تبارك وتعالى-، لا نخوض فيه، يحتمل -الله أعلم-، والله يقول: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36]، لا يعتقد شيئًا إلا بعلمٍ ويقينٍ ثابتٍ، أمَّا إذا سمعت قولاً يقوله الناس، فتبعتهم عليه، هذا لا تحصل به النَّجاة، ولا تتحقق به السلامة.

فالحاصل أنَّ هذا استطرادٌ، لكن من أهل العلم مَن يقول: باعتبار السَّماوات واسعة جُمعت، أو لاختلاف طبقات السَّماوات، والأرض طبقات، لكن كأنَّه يُشير إلى أنها مُلتصقة، لكن هذا يحتاج إلى دليلٍ، نحن لا نعلم.

أمَّا الآثار المرويات الواردة في سكان أهل كل أرضٍ وما فيها من التَّفاصيل، فهذا كلّه لا يصحّ فيه شيءٌ، كل المرويات التي فيه ضعيفة، فهذا يبقى في علم الغيب.

وبعضهم يقول: تُجْمَع لشرف جهتها؛ لأنَّها في العلو، وجاءت مجموعةً، أو لفضيلة جملة سُكَّانها؛ فإنَّ العالم العلوي فوقه عرش الرحمن، والملائكة يعمرون هذه السَّماوات، والأنبياء ﷺ لأرواحهم أحوال، رأى النبيُّ ﷺ تلك الأرواح قد تمثلت في أجسادٍ في السَّماوات التي عُرِجَ بالنبي ﷺ إليها.

وعمومًا من أهل العلم مَن يقول: لكون السَّماء أفضل من الأرض ذُكِرَتْ مجموعةً.

هذا كلّه احتمالات، ولكن ليس عندنا فيه شيء قاطع، تُذْكَر مجموعةً لأنها أكبر، أوسع، تُذْكَر مجموعةً لأنها أشرف؛ لأنَّ ساكنيها في جُملتهم أشرف، العلم عند الله ، ولكن لا شكَّ أنَّ الأرضَ ليست بشيءٍ بالنسبة للسَّماوات، فإذا كانت الصّور التي تُظهر الشمس، والقمر، والكواكب، والمجرَّات، إلى آخره تبدو الكرة الأرضية كأنَّها حبَّةُ رملٍ بالنسبة لهذه الكائنات والمخلوقات العظيمة؛ فكيف بالسَّماء، وتلك الأفلاك، والمجرَّات السَّابحة في الفضاء؟!

ثم أشرتُ فيما سبق إلى أنَّ السَّماء تقولها العربُ أيضًا لكلِّ ما علا وارتفع، فيدخل في ذلك الأفلاك، والسَّقف المحفوظ الذي هو السَّماء، وما فوقه: الثانية، والثالثة، والرابعة، إلى السَّابعة، وما فوق ذلك من عرش الرحمن، فهو كما قال شيخُ الإسلام بأنَّه سقف الجنَّة، وعلى كل حالٍ، الفردوس هو أعلاها، وعرش الرحمن فوق ذلك.

ثم يقول: وجَّهتُ وجهي للذي فطر السَّماوات والأرض حنيفًا، وفي زيادةٍ عند ابن حبان: مُسلمًا[3]، ذكر الإسلام، فالحنيف، معنى الحنيف ما هو؟

من أهل العلم مَن يقول: إنَّ أصله مأخوذٌ من الميل، فالحنف: ميلٌ؛ ولهذا يُقال لمن تميل قدماه كل واحدةٍ منها إلى أُختها بأصابعها: أنَّه أحنف، والأحنف بن قيس إمام الحلم المعروف، قيل له: الأحنف؛ لميلٍ في قدميه، وكانت أُمُّه ترقصه وهو صغير، وتقول:

والله لولا حنف في رجله ما كان في فتيانكم من مثله[4]

فهذا هو الحنف.

فعلى هذا الاعتبار يكون الحنيفُ مائلاً إلى ماذا؟

مائل إلى العبادة، إلى توحيد الله ، كما يقول الزَّجاج.

وبعضهم يقول: الحنيف هو المستقيم.

طيب، إذا كان الحنيفُ هو المستقيم، لماذا قيل لهذا الذي فيه ميل: أحنف؟

قالوا: قيل له ذلك تفاؤلاً، فالعرب تتلطَّف وتتأدَّب في الكلام، فيقولون للصَّحراء التي هي مُهلكة، بعيدة، كثيرة الأخطار، يُسمُّونها: مفازة، من الفوز، لماذا قيل لها: مفازة؟

تفاؤلاً وتيمُّنًا أنَّ مَن يسلك هذه الصَّحراء يفوز، يظفر بالنَّجاة، وينجو، ويحصل له قطعها، لا يهلك فيها، وإلا فهي مُهلكة، فيُسمُّونها: مفازة.

اللَّديغ تُسميه العرب: سليمًا، وهو لديغٌ، لماذا سمّوه بــ"السليم"؟

تيمُّنًا وتفاؤلاً بالسَّلامة، هكذا يُعبِّرون.

فهؤلاء يقولون: قالوا للأحنف: أحنفًا، وفيه ميلٌ؛ باعتبار أنَّ الحنفَ استقامةٌ، من باب التَّلطف بالعبارة، هذه من آداب اللغة العربية، يعني: لو أنَّ أحدًا عمل رسالة ماجستير، أو دكتوراه، الذين يبحثون دائمًا عن الموضوعات، الموضوعات تخطر على بال طالب العلم وهو يتكلَّم، وتخطر على باله وهو يقرأ، وتخطر على باله وهو يمشي.

وأتعجب من هؤلاء الذين يقولون: ما وجدنا موضوعات، أعطونا موضوعات. الموضوعات كثيرة، وهذه طريقة غير جيدة أبدًا: أن يُزري الإنسانُ بنفسه، ويقول للناس: أعطوني موضوعًا أكتب، هذا إعلانٌ، إعلان ماذا؟ إعلان الإفلاس؛ أنَّ الإنسان خاوٍ، وفاضٍ، ما عنده شيءٌ، أعطوني موضوعًا أكتب.

وقد جرت العادةُ أنَّ هؤلاء الذين يُعطون موضوعات قد خلت أذهانهم منها، هي لا تعيش معهم ويشعرون أنَّها موضوع يحتاج إلى المعالجة فعلاً، وإنما هو شيءٌ طارئٌ عليهم، أنهم يُجهضونه، ما معنى: يُجهضونه؟

يعني: يكتبون فيه كتابةً غير محررةٍ، غير جيدةٍ، غير مُستوفيةٍ، فيكون الموضوعُ سُجِّل، لا يستطيع أحدٌ من المجيدين بعدهم أن يُسجِّل فيه، باعتبار أنَّه خلاص، هذا انتهى، هذه مشكلة.

فيحسُن بطالب العلم أن يقول: عندي موضوعات، وهذه خطط لهذه الموضوعات، أريد تقويمها، أريد مُلاحظات عليها، أريد رأيكم فيها.

ما يقول: أعطوني موضوعًا. فهذا غير جيدٍ أبدًا.

أثقل عبارتين تردان في هذه الرَّسائل: أريد موضوعًا. إعلان يُزري بنفسه، إعلان إفلاسٍ.

والعبارة الثانية: أنت فاضٍ. هل هناك أحدٌ فاضٍ؟! هل يفضى إلا البَطَّال؟ مُقدِّمة السؤال: أنت فاضٍ؟ مَن الذي يفضى؟!

طيب، "حنيفًا"، فهنا بعضُهم يقول: هو الحنف، بمعنى: الاستقامة، أنَّ هذا هو الأصل، وهذا الذي ذهب إليه ابنُ قُتيبة -رحمه الله-[5]، لكن المشهور هو الأول: أنَّ الحنف هو الميل، فهذا مائلٌ عن ماذا؟

مائلٌ إلى التوحيد، مائلٌ إلى عبادة الله .

أو بعضهم يقول: مائلٌ عن الشِّرك والكفر، لكن إلى التَّوحيد، فبينهما مُلازمة.

أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله-، هذا إمامٌ في اللغة، وفي التَّفسير، وفي الفقه، وفي الحديث، يقول: الحنيف عند العرب مَن كان على دين إبراهيم  [6]. يعني: هكذا في عُرفهم في الاستعمال، يعني: هذا الاستعمال الشَّائع عند العرب؛ أنَّ الحنيفَ: هو مَن كان على دين إبراهيم ﷺ، فهو مائلٌ إلى الدِّين الحقِّ الذي هو الإسلام، والنسبة إليه: حنيفي.

أمَّا الذي ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة، ففرَّقوا بينهما بالياء، مَن ينتسب إلى ملَّة إبراهيم ﷺ يُقال: حنيفي، ومَن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة يُقال: حنفي؛ للتَّفريق بينهما.

إذًا الحنيف إذا قلنا: أصل الحنف هو الميل؛ فيكون مائلاً عن الأديان الباطلة، والآراء الزَّائغة، والإشراك بالله -تبارك وتعالى- إلى دين الإسلام، إلى التوحيد والحقِّ وعبادة الله -تبارك وتعالى-، أو مائلاً عن كل جهةٍ وقصدٍ إلى الحضور والإخلاص في عبادة فاطر السَّماوات والأرض -تبارك وتعالى-.

فكأنَّه حالٌ مُؤكَّدة، بمعنى: "وجَّهتُ وجهي للذي فطر السَّماوات والأرض" يعني: أني أخلصتُ قصدي، ووحَّدتُ وجهتي، وأنا لا ألتفتُ إلى أحدٍ سوى الله ، فهو يُؤكِّد ذلك يقول: "حنيفًا" مائلاً عن كل شيءٍ سواه، إذا ربطنا حنيفًا بـ"وجَّهتُ وجهي"، وهذا إذا فُسّر بأنَّ الحنفَ هو الميل، وعلى زيادة ابن حبان: مسلمًا[7]، أي: مُنقادًا مُطيعًا لأمره وقضائه وقدره وما شرعه -تبارك وتعالى-، فإنَّ الإسلامَ يعني: الاستسلام؛ أنَّه لا يُعارض أحكام الله الشَّرعية، ولا يُعارض أحكامه القدرية الكونية، ما ينزل به من المكاره، أمَّا الأحكام الشَّرعية فيستسلم لها، ما تقول: لماذا المرأةُ يُفْرَض عليها المحرم، والقيّم، ولا تُسافر إلا بمحرم، ولها نصف الميراث؟ ولماذا يُقال بأنها تُلْزَم بالحجاب، وما إلى ذلك؟

نقول: الإسلام يقتضي الاستسلام، أمَّا هذا الذي يعترض، ويتمرد، ويقول: لماذا؟ فهذا لم يُحقق العبودية لله ؛ لأنَّ العبودية الحقَّة أنَّ العبدَ ينقاد، ويستسلم، أمَّا هذا فتمرد، وهو يُعْلِن هذا، يقول: أنا حرٌّ! أنا ما أدري مَن الذي أعتقه من عبودية الله ؟! أبق من عبودية ربَّه، وصار عبدًا للشَّيطان والهوى، هي هكذا، لا بدَّ للإنسان من عبوديَّةٍ ورقٍّ، فإنَّ قلبَه مجبولٌ على هذا.

ثم يقول: وما أنا من المشركين، هنا بيانٌ للحنيف بإيضاحٍ، بمعنى: المشرك يُطْلَق على كل كافرٍ، سواء كان من عُبَّاد الأوثان، أو كان من الملاحدة، أو كان من أهل الكتاب: اليهود، والنَّصارى، والمجوس، وكذلك الزِّنديق، والمرتدّ، كل هؤلاء في الواقع يُقال لهم: "أهل إشراكٍ" بالإطلاق الأوسع للمُشركين، فحينما تأتي نصوصُ الكتاب والسُّنة التي لا يُذْكَر فيها أهلُ الكتاب مع المشركين: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة:1]، فهنا يكون أهلُ الإشراك عُبَّاد الوثن مثلاً، وأهل الكتاب هم اليهود، والنَّصارى، لكن إذا ذُكِرَ أهل الشِّرك فقط؛ فإنَّ هذا يدخل فيه -لا شكَّ- اليهود، والنَّصارى، ويدخل فيه كلّ طوائف الكفَّار، ولا شكَّ أنَّ اليهود والنَّصارى من المشركين: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30]، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [المائدة:73]، فهم مُشركون، من جملة المشركين، وكل مَن عبد غير الله، أو خرج عن عبادته -تبارك وتعالى- بإلحادٍ، حتى لو زعم أنَّه لا يعبد أحدًا، فيُمكن أن يُقال له: إنَّه من أهل الإشراك بالإطلاق الأوسع؛ لأنَّه خرج عن عبادة الله ، وصار يعبد الشَّياطين والهوى والنَّفس؛ فصار مُشركًا مع الله في ذلك.

وهنا: وما أنا من المشركين، فيكون ذلك كأنَّه تأكيدٌ لما قبله، أو تأسيسٌ بجعل النَّفي عائدًا إلى سائر الشِّرك الظَّاهر والخفي، يعني: هنا يقول: "حنيفًا مُسلمًا، وما أنا من المشركين"، ويكون الإشراكُ هنا أعمَّ من الإشراك الذي يكون في هذا التَّوجه في العبادة والصَّلاة عند القيام بين يدي الله -تبارك وتعالى-: وما أنا من المشركين.

فهو يقول: أنا حنيفٌ، مُوحِّدٌ لله -تبارك وتعالى-، مائلٌ عن كلِّ دينٍ سواه، ولستُ من أهل الإشراك، ولا ألتفت في عبادتي هذه وصلاتي إلى أحدٍ سوى الله -تبارك وتعالى-، كما قال إبراهيمُ ﷺ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا [الأنعام:79].

ولاحظوا هنا هذه المعاني، يعني: حينما يتذكر الإنسانُ وهو يقف بين يدي الله في هذا المقام أنَّه وجّه وجهه لله، وأنَّه حنيفٌ، وأنَّه ليس من المشركين، فهو يتذكّر التوحيد في أول عبادته وصلاته، يتذكّر الإخلاص لله ، يستفتح به هذه الصَّلاة، بل هو يُذَكِّر نفسَه، ويُقرّ بأنَّ صلاتَه جميعًا ومحياه ومماته كلّ ذلك لله -تبارك وتعالى-، فهو يحيى على طاعته، وعبادته، وتوحيده، والانقياد له، ويلتزم أمره، ويموت في سبيل ذلك، وعليه، وأنَّه من المسلمين ظاهرًا وباطنًا، مُستسلم القلب، مُستسلم الجوارح، ليس عنده أدنى اعتراض، هو فقط يحتاج أن يعرف حكم الله -تبارك وتعالى- ثم يُذْعِن، ويُلْصِق خدَّه في التراب، ويقول: سمعًا وطاعةً يا ربّ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].

فيُذكِّر نفسَه من البداية بهذه المعاني، وهنا هذا يُؤكد، ويذكر الإخلاص في بداية الصَّلاة، فلا يمكن أن يكون فيها رياء إذًا، سواء كانت صلاة فريضةٍ، أو قيام ليلٍ، صلاة نافلةٍ، صلاة تطوعٍ: وما أنا من المشركين، وإلا كان كاذبًا، ومن أقبح الكذب ما يكون في هذا المقام بين يدي الله ، ويستفتح صلاتَه بكذبةٍ كبيرةٍ، يقول: أنا حنيفٌ مُسلمٌ، وما أنا من المشركين. وهو يُرائي، أو أنَّه يدعو غير الله، ويقول: يا علي، يا حُسين، يا عبدالقادر الجيلاني، يا مُتصرّف في الأكوان! -نسأل الله العافية-، ثم يقف ويقول: وجَّهتُ وجهي للذي فطر السَّماوات والأرض حنيفًا مسلمًا، وما أنا من المشركين، هذا يُخالف ويُناقض نفسَه بنفسه، فهذه كذبة كبيرة يفتتح بها هذه العبادة، فينبغي للعبد أن يُراعي مثل هذا.

فهنا حينما يُوجّه قلبَه إلى فاطر السَّماوات والأرض ينبغي أن ينظر هل هذا القلب مُتوجّه إلى أماني فارغة؟ هل هذا القلب مُتوجه إلى حطام الدنيا: يُفكر في عقارٍ، يُفكر في أرضٍ، يُفكر في رحلةٍ، يُفكر في نزهةٍ، يُفكر في طعامٍ، يُفكر في لهوٍ، يُفكر في أولادٍ، يُفكر في زوجه؟

هنا هو يقول: وجَّهتُ وجهي للذي فطر السَّماوات والأرض، فهل قلبُه مُتوجّه لصلاته ولربِّه، أو أنَّ القلبَ مُتوجّه في أوديةٍ أخرى؟

كثيرًا ما نسأل عن الخشوع: كيف نخشع في الصَّلاة؟

إذا كان الإنسانُ يُقرر هذا المبدأ في أول صلاته، فكيف يغيب عنه الخشوع، ويُفكِّر في أشياء أُخرى، وهو يُقرّ بهذا الإقرار، وهذه الدَّعوة العريضة: وجَّهتُ وجهي؟!

الإنسان يستحي من الله أن يقول مثل هذا الكلام بين يديه، والقلب يسرح في كلِّ وادٍ.

فينبغي أن يُراقب الإنسانُ نفسَه، وأن ينظر إلى قلبه أين يتَّجه؟ إلى السوق، إلى الشَّهوات، أو أنَّه مُقْبِلٌ على فاطر السَّماوات.

لا يصحّ أن يكون مفتاحُ الصَّلاة بالكذب والدَّعاوى الكاذبة، فيكون ذلك سببًا لسخط الله، أو ردّ صلاته وعبادته عليه، ولا يمكن أن ينصرف الوجهُ إلى الله -تبارك وتعالى- إلا بالانصراف عمَّا سواه، وهذا يكون في كلِّ الأحوال -أحوال العبد- سواء في الصَّلاة، أو في غيرها، فإن لم يكن في كلِّ الأحوال، وبقيت علائق الشَّهوات؛ فإنَّه لا أقلّ من أن يكون في صلاته مُقبلاً عليها في حال مُناجاته لربِّه، ألا يشتغل قلبُه بشيءٍ آخر.

وهكذا حينما يقول بأنَّه حنيفٌ، ويدَّعي أيضًا أنَّه مسلمٌ، يقول: حنيفًا مسلمًا، فالمسلم هو المستسلم لله : المسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده[8]، فإن لم يكن كذلك فإنَّه يكون كاذبًا.

فينبغي على العبد أن يُصلح حاله، وأن يندم على ما مضى، وأن يُجدد العزمَ على إصلاح ما يستقبل، فكثيرٌ من الناس يُصلي، ثم بعد ذلك يفرغ من صلاته ويذهب، ويفتح التويتر، ويحطب في أهل الخير، والفضل، والعلم، والعبادة، والزهد، والجهاد في سبيل الله، وما إلى ذلك، فمن ثم لا بدَّ من مُلاحظة النَّفس، وملاحظة القلب، كيف يتوجّه؟ وما العبارات التي نُرددها في عبادتنا، وفي صلاتنا، وفي كلامنا هذا الذي نقوله؟

وكذلك حينما يقول: وما أنا من المشركين هو لا يذهب باله إلى الشِّرك الذي هو عبادة الأصنام فقط، بل هناك شركٌ خفيٌّ، وهناك شركٌ أصغر؛ حينما يُرائي بعمله هذا فإنَّه يكون مُشركًا، والله يقول: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، فيستشعر هذا المعنى، ولا يتطرق إلى قلبه التفاتٌ إلى الناس أن يُثنوا عليه، وأن يُطروه: لا في صلاته، ولا في خارج الصَّلاة، فيتبرأ من الشِّرك: قليله، وكثيره، خفيّه، وجليله، فلا مجالَ للخلاص إلا بالإخلاص، وتكون عبادتُه خالصةً لربِّه -تبارك وتعالى-، لا مجالَ للرياء والإشراك فيها.

أسأل الله أن يرزقنا وإيَّاكم الإخلاص، وأن يُعيننا وإيَّاكم على ذكره، وشُكره، وحُسن عبادته، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
  2. أخرجه البخاري: كتاب المظالم والغصب، باب إثم مَن ظلم شيئًا من الأرض، برقم (2453)، ومسلم: كتاب المساقاة، باب تحريم الظُّلم وغصب الأرض وغيرها، برقم (1612).
  3. أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب أبواب تفريع استفتاح الصَّلاة، باب ما يُستفتح به الصَّلاة من الدُّعاء، برقم (760)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان"، برقم (1768).
  4. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (9/57).
  5. انظر: "غريب القرآن" لابن قُتيبة (ص64).
  6. انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص62).
  7. أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب أبواب تفريع استفتاح الصَّلاة، باب ما يُستفتح به الصَّلاة من الدُّعاء، برقم (760)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان"، برقم (1768).
  8. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب: المسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده، برقم (10)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام، وأيّ أموره أفضل، برقم (41).

مواد ذات صلة