الإثنين 21 / جمادى الآخرة / 1446 - 23 / ديسمبر 2024
‏(09) قول الماتن " وما نقل في ذلك عن بعض الصحابة نقلاً صحيحا فالنفس إليه أسكن مما نقل عن بعض التابعين ... "‏
تاريخ النشر: ٢١ / شوّال / ١٤٣٤
التحميل: 5747
مرات الإستماع: 4090

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا والحاضرين وجميع المسلمين، أما بعد:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمنا الله وإياه-: وما نُقل في ذلك عن بعض الصحابة نقلاً صحيحاً فالنفس إليه أسكن مما نقل عن بعض التابعين؛ لأن احتمالَ أن يكون سمعه من النبي ﷺ أو من بعض من سمعه منه أقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين، ومع جزم الصاحب بما يقوله كيف يقال: إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نُهوا عن تصديقهم؟! والمقصود أن مثل هذا الاختلاف الذي لا يُعلم صحيحه ولا تفيد حكاية الأقوال فيه هو كالمعرفة لما يُروى من الحديث الذي لا دليل على صحته وأمثال ذلك.

وأما القسم الأول: الذي يمكن معرفة الصحيح منه، فهذا موجود فيما يُحتاج إليه ولله الحمد، فكثيراً ما يوجد في التفسير والحديث والمغازي أمورٌ منقولةٌ عن نبينا ﷺ وغيره من الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه-، والنقل الصحيح يدفع ذلك، بل هذا موجودٌ فيما مستنده النقل، وفيما قد يعرف بأمورٍ أخرى غير النقل.

فالمقصود أن المنقولات التي يُحتاج إليها في الدين قد نصب الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره، ومعلوم أن المنقول في التفسير أكثره كالمنقول في المغازي والملاحم؛ ولهذا قال الإمام أحمد: ثلاثة أمورٍ ليس لها إسناد: التفسير، والملاحم، والمغازي.

ويروى ليس لها أصلٌ أي إسناد؛ لأن الغالب عليها المراسيل، مثل ما يذكره عروة ابن الزبير، والشعبي، والزهري، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق، ومَن بعدهم كيحيى بن سعيد الأموي، والوليد بن مسلم، والواقدي ونحوهم في المغازي.

فإن أعلم الناس بالمغازي أهل المدينة، ثم أهل الشام، ثم أهل العراق، فأهل المدينة أعلم بها؛ لأنها كانت عندهم، وأهل الشام كانوا أهل غزو وجهاد وكان لهم من العلم بالجهاد والسير ما ليس لغيرهم، ولهذا عظَّم الناس كتاب أبي إسحاق الفزاري الذي صنفه في ذلك، وجعلوا الأوزاعي أعلم بهذا الباب من غيره من علماء الأمصار.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا الكلام الذي ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- كل ذلك يتفرع عما ذكره فيه من سبب الاختلاف لما ذكر أن من المنقول ما لا طريق لتمييز ومعرفة الصحيح منه من السقيم، فاستطرد فذكر أن هذا غالباً ما يكون في رواية الإسرائيليات، وأن ذلك كثر في زمان التابعين، وذلك أن هؤلاء الذين كانوا يروون الإسرائيليات كانوا من التابعين في الغالب، ككعب الأحبار ووهب بن منبه، فأشار إلى الكلام على المرويات في الإسرائيليات، ثم عرج على تفسير التابعي، كذلك ما نُقِل عن بعض التابعين.

هنا عنوان: (حكم تفسير التابعي) وإن كان سيأتي الكلام على حكم تفسير التابعي بموضعه الأصلي في الكلام على طرق التفسير.

كذلك هنا عنوان عند قوله: وما نقل في ذلك عن بعض الصحابة نقلاً صحيحاً (حكم تفسير الصحابي)، وإن كان موضعه الأساس الذي سيتحدث عنه هو في الكلام على طرق التفسير وليس هنا، فهذا كله جاء على سبيل الاستطراد.

وبيَّن أن مثل هذا لا تفيد حكاية الأقوال فيه، يعني هذه المرويات كلب أصحاب الكهف القول الأول: أنه كذا والقول الثاني كذا، والقول الثالث كذا، هذا لا حاجة إليه ولا فائدة فيه، ولا طريق لمعرفته.

وذكر القسم الأول الذي يمكن معرفة الصحيح منه، كل هذا موجود فيما يحتاج إليه، وأن الله -تبارك وتعالى- قد نصَّب من الأدلة التي تبين ما يحتاج الناس إلى معرفته، فلما ذكر هذه المرويات التي لا طريق إلى معرفة الصحيح منها من الضعيف، وأن هذا في زمان التابعين كثر بسبب هذه المرويات الإسرائيلية، ذكر قول الإمام أحمد -رحمه الله-: "ثلاثة أمور ليس لها إسناد: التفسير، والملاحم، والمغازي"، هذا كله جاء على سبيل الاستطراد، هو يتحدث على أسباب الاختلاف فقاد ذلك إلى الكلام على الإسرائيليات وتفسير التابعين، وحكاية الخلاف في مثل هذه القضايا التي لا يمكن أن يميز صحيحها من ضعيفها، قال: هذا كثير فيما نقل عن التابعين بالنسبة إلى ما نقل عن الصحابة، فإذا كان هذا كثر في التفسير فمن هنا أورد كلام الإمام أحمد.

يقول: أي ليس لها أصل هذا توجيه شيخ الإسلام لمعنى كلام الإمام أحمد؛ لأن العلماء -رحمهم الله- وجهوا كلام الإمام أحمد بتوجيهاتٍ متعددة وحملوه على محامل، فشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: لأن الغالب عليها المراسيل هذا تعليل شيخ الإسلام، أكثرها روايات مراسيل، والمرسل في الأصل يعد من أنواع الضعيف، إذاً هذه المرويات الكثيرة جُلّها لا يصح، كثيرٌ منها لا يصح.

 العلماء الذين صنفوا في التفسير لم يُعنوا بالمرويات كما كانت العناية في كتب السنة، ولهذا فإنهم أوردوا في هذه الكتب من الإسرائيليات مما ليس له أسانيد أصلاً، وأوردوا فيها ما هو من قبيل المراسيل كثيراً عن التابعين، وأوردوا فيها من الأحاديث الصحيحة والضعيفة، بل أورد بعضهم بعض الموضوعات، ولكن هذه الكثرة من المرويات التي هي من قبيل المراسيل أو من قبيل الإسرائيليات إنما هي في كتب التفسير بهذه المثابة، هذا أمر واقع.

يوجد من التفسير ما هو بالأحاديث المرفوعة الموجودة في كتب السنن، بل والصحاح والمسانيد وما إلى ذلك، فهذه يُقال فيها: يُجرى عليها أحكام المحدثين، وتُعامل بما تعامل به المرويات الحديثية في كتب السنة، يعني تطبق عليها المعايير التي وضعها العلماء في الحكم على الروايات من حيث الصحة والضعف، لكن لو أردنا أن نطبق هذه المعايير على جميع مرويات التفسير المنقولات عن الصحابة والتابعين فإنه لا يكاد يبقى معنا شيء، لم يبق إلا القليل.

إذا كان ابن عباس -ا- هو من أكثر الصحابة بالنسبة للمرويات في التفسير، ومعلوم أن عامة ما يروى عن ابن عباس لا يُثْبَت عنه، فضلاً عن غيره، فلو أردنا أن ننظر للمرويات عن التابعين مجاهد وعكرمة وقتادة وعطاء وطبقنا عليها نفس المعايير التي يطبقها أهل الحديث ففي هذه الحال ستنكمش كتب التفسير وستهدر أكثر هذه المرويات، مع أن هذه المرويات لها قيمة علمية، فهي أقوال في بيان الآية، سواء صحت عن هذا الذي رُويت عنه أو لم تصح، وما عاملها العلماء معاملة المرويات في كتب السنة مثلاً، ولهذا تساهلوا في الإيراد حتى جاء من اختصر الأسانيد في التفسير، ثم صار يورد هذه الروايات من غير تمييز، بل أدخل بعضهم الموضوعات من غير أسانيد، واختلط هذا وهذا، فصار القارئ يقرأ في التفسير مجرد روايات من دون إسناد، قال فلان، وقال فلان، فاختلط الصحيح بغيره، ثم بُني على ذلك المعاني التي تُرجَّح وتختار أو فيما يصاغ من التفسير.

هل الصحيح أن تلغى المرويات الضعيفة؟ سواء كان ذلك في التفسير أو في المغازي والسير والملاحم؟ فإن الحال مشابهة لما عليه الحال في التفسير، وقد حاول بعض المعاصرين أن يجروا على ذلك أحكام المحدّثين ولم يبقَ معهم إلا القليل، يعني عمِلَ سنين طويلة تصل إلى ما يقرب من عشرين سنة لجرد الروايات واستخراج الروايات الصحيحة الثابتة بمعايير المحدثين، سواء في المرفوعات أو الموقوفات أو المقطوع -يعني ما يروى عن التابعي- فما بقي إلا القليل، يعني الخلاصة خرجت في مجلد واحد.

والذي أظنه وسط في هذا الباب أن يقال: إن الأحاديث النبوية تجرى عليها أحكام المُحدِّثين، فكما هي موجودة في كتب التفسير هي موجودة في كتب الحديث، وأما ما عدا ذلك من المرويات عن الصحابة وعن التابعين فإن مثل هذا إن كان الضعف فيه محتملاً -يعني ليس بشديد ولا يُعد من قبيل الكذب- فإن ذلك يُحتمل في التفسير ويُروى وإلا لذهب كثير منه، لكن يُتحرز من هذا ويجرى عليه أحكام المحدثين إذا كان ذلك يتضمن قضيةً تتصل بالاعتقاد مثلا، أو قضية ينبني عليها العمل، يترتب عليها العمل، وهنا تجرى عليها أحكام المحدثين، قد تؤسس من ذلك عقيدة، يقال هذا القول في تفسير هذه الصفة، وهو مخالف لجمهور الروايات المنقولة عن السلف، فيكون هذا رُوي عن أحد التابعين وإذا أجرينا عليه المعايير المعروفة عند أهل الحديث فإن هذه الرواية لا تصح، فهنا من أجل أن لا يقال: إن هذا قول سائغ أو إن بعض السلف قال به في تفسير هذه الصفة مثلا، أو تفسير هذه الآية، إذا كان هذا يرتبط بالاعتقاد، قضية تتصل بصفات الله أو القدَر أو الإيمان أو نحو ذلك، وهكذا ما يترتب عليه قضايا عملية أو قواعد لربما تُعتمد كأصول.

يعني مثلاً في قوله -تبارك وتعالى-: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [سورة المائدة:44]، هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة المائدة:45]، هُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة المائدة:47]، الذي يذكر في هذا الباب عادة حينما تذكر هذه الآية قول ابن عباس كفر دون كفر، فهنا تحتاج أن تطبق هذه المعايير، لماذا؟ لأنك الآن تؤصِّل أصلاً، هل الحكم بغير ما أنزل الله كفر مُخرج من الملة، أو أنه كفر دون كفر، أو أن في المسألة تفصيلاً وأن ابن عباس يعني نوعاً من الحكم بغير ما أنزل الله لغلبة هوى في جزئية من الجزئيات لا بتنحية الشريعة أو محاربتها، في مثل هذه المقامات تطبق المعايير.

المهم أن شيخ الإسلام -رحمه الله- عند توجيه كلام الإمام أحمد قال: لأن الغالب عليها المراسيل، لكن انظر الآن كلام الخطيب البغدادي مع أن الذين يتكلمون في هذا كثير، وليس المقام هنا لجمع كلام أهل العلم والاستقراء، والمقارنة، والترجيح في بيان مراد الإمام أحمد -رحمه الله- لكن هذا من أشهر ما قيل في توجيهه، أي كلام شيخ الإسلام: لأن الغالب عليها المراسيل جملةً.

القول الثاني: وهو ما يذكره الخطيب البغدادي -رحمه الله- في هذا الكتاب (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) فالخطيب خلاصة ما ذكره أن الإمام أحمد -رحمه الله- عنى بذلك كتباً مخصوصة بعينها، يقول: وهذا الكلام محمول على وجه، وهو أن المراد به كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير معتمد عليها ولا موثوق بصحتها؛ لسوء أحوال مصنفيها، وعدم عدالة ناقليها، وزيادات القصاص فيها.

يقول الخطيب البغدادي: وأما كتب الملاحم فجميعها بهذه الصفة، وليس يصح في ذكر الملاحم المرتقبة المنتظرة -يعني في آخر الزمان- غير أحاديثٍ يسيرةٍ اتصلت أسانيدها إلى رسول الله ﷺ من وجوهٍ مرضيةٍ وطرقٍ واضحةٍ جلية،

يقول: وأما الكتب المصنفة في تفسير القرآن فمن أشهرها كتابا الكلبي ومقاتل بن سليمان، ثم ساق بإسناده: سُئِل أحمد بن حنبل عن تفسير الكلبي فقال: من أوله إلى آخره كذب، فقيل له: فيحل النظر فيه؟ قال: لا. ثم ساق الخطيب بإسناده عن مالك أنه بلغه أن مقاتل بن سليمان جاءه إنسان -مقاتل اثنان: ابن سليمان وابن حيان، كلاهما توفى سنة خمسين للهجرة- والذي يورده ابن كثير بقوله : قال مقاتل يقصد به مقاتل بن حيان لا مقاتل بن سليمان.

مقاتل بن سليمان اتهم في العقيدة في التجسيم، لكن شيخ الإسلام قال: ولعله لا يثبت عنه، واتهم بالرواية، اتهم بالكذب، لكن تفسيره استحسنه العلماء من حيث هو كمادة لا كرواية.

الشاهد أن الإمام مالك بلغه أن مقاتل بن سليمان جاءه إنسان فقال له: إن إنساناً سألني ما لون كلب أصحاب الكهف؟ فقال له مقاتل: ألا قلت: هو أبقع، فلو قلتَ لن تجد أحداً يرد عليك؛ لأن هذا لا يعلم الصحيح منه من السقيم، لا تستطيع أن تقول: نعم أو لا، ثم ساق بإسناده عن نعيم بن حماد قال: أول ما ظهر من مقاتل الكذب هذا، قال للرجل: أمَا لو قلت أصفر أو كذا من كان يرد عليك.

يقول الخطيب: ولا أعلم في التفسير كتاباً مصنفاً سلم من علة فيه، أو عري من مطعنٍ عليه. من هنا نأخذ أن التسلط على كتاب بعينه عبر القرون كلها كتاب واحد وجعْل ذلك ديدن الإنسان يحذر منه، ويبين عيوبه وأخطاءه ويحرم على الناس قراءته، كتب التفسير مليئة بالأخطاء قَلَّ ذلك أو كثر على حسب حال هذه الكتب، لكن لا يسلم كتاب، فتحديد كتابٍ بعينه، وتوجيه النقد إليه هذا ينبغي أن يطّرد، فكل كتاب فيه عيوب، قلت أو كثرت هذه العيوب فيجب التعامل معه بنفس الطريقة، أن يكون الإنسان مطّرداً معه سواء في التفسير أو غير التفسير، وأول ما نبدأ به ابن حزم، فإنه في الصفات كما قال ابن عبد الهادي: على تجهم في الصفات، جهمية، فنبدأ بالتحذير من كتب ابن حزم وكتب الظاهرية، وتجد في كتب غيره كالشوكاني بعض التأويلات فيكون هناك نوع من الاطراد في الأحكام، ولا تكون هذه الأحكام بطريقة في التشهي والهوى.

المهم يقول الخطيب: وأما المغازي فمن المشتهرين بتصنيفها وصرف العناية إليها محمد بن إسحاق المطلبي، ومحمد بن عمر الواقدي، فأما ابن إسحاق فكان يأخذ عن أهل الكتاب أخبارهم ويضمنها كتبه، ورُوي عنه أيضاً أنه كان يدفع إلى شعراء وقته أخبار المغازي ويسألهم أن يقولوا فيها الأشعار؛ ليلحقها بها، مشكلة! يقول: ما قيل في غزوة بدر، ما قيل في غزوة أحد من الشعر، فيأتي يقول: قال فلان كذا، وتأتي القصيدة بذكر ما جرى في المعركة الفلانية أو الغزوة الفلانية.

ثم ساق بإسناده عن ابن أبي عمرو الشيباني قال: سمعت أبي يقول: رأيت محمد بن إسحاق يعطي الشعراء الأحاديث يقولون عليها الشعر، يقول: وأما الواقدي فثناء المحدثين عليه مستفيض، وكلام أئمته فيه طويل عريض. وساق بإسناده عن الشافعي قال: كتب الواقدي كذب.

يقول: وليس في المغازي أصح من كتاب موسى بن عقبة مع صغره، يعني صغر حجم الكتاب، وخلوه من أكثر ما يذكر في كتب غيره. فما رُوي من هذه الأشياء عمن اشتهر تصنيفه وعرف بجمعه وتأليفه هذا حكمه، فكيف بما يورده القُصاص في مجالسهم، ويستميلون قلوب العوام من زخارفهم، يعني من قصص ليس لها إسناد، أو ليس هناك ما يدل على صحتها.

يقول: إن النقل لمثل تلك العجائب من المنكرات، يعني نقلها منكر، وذهاب الوقت في الشغل بأمثالها من أخسر التجارات، ثم بدأ يذكر أشياء عن القُصاص.

هذا كلام الخطيب البغدادي حاصله أنه يوجه كلام الإمام أحمد -رحمه الله- إلى كتب مخصوصة.

على كل حال يقول: لأن الغالب عليها المراسيل.

مثل ما يذكره عروة بن الزبير المتوفى سنة 93هـ، والشعبي الإمام الكبير عامر الشعبي المتوفى سنة 103هـ، هذا لقي نحو خمسمائة من الصحابة ، والزهري محمد بن شهاب أول من دوَّن السنة تُوفِّيَ سنة 124هـ.

وموسى بن عقبة الذي أشار إليه الخطيب البغدادي وأثنى على كتابه مع صغره، وليس الخطيب فقط الذي أثنى عليه، فموسى بن عقبة هو أول وأقدم المؤرخين في المدينة، وكذلك أيضاً هو أول من كتب في هذا الباب، وأول من صنَّف في المغازي كما يقول الذهبي -رحمه الله-، والإمام مالك يثني عليه كثيراً ويقول: عليكم بمغازي ابن عقبة فإنه ثقة، وهي أصح المغازي. وموسى مدني ومعاصر للإمام مالك -رحمه الله-، والذهبي قال عنه: الإمام الثقة الكبير يعني موسى بن عقبة.

الذهبي تكلم على بعض أصحاب المغازي وموسى بن عقبة –أيضاً- يقول: لا ريب أن ابن إسحاق في مغازيه..، يعني المشاهير في المغازي ابن إسحاق، والواقدي، وموسى بن عقبة، وهناك آخرون لكن هؤلاء هم الأشهر.

فالذهبي يقول عن ابن إسحاق في مغازيه: إنه قد كثّر وطوّل بأنساب مستوفاة، اختصارها أملح، وبأشعارٍ طائلة حذفها أرجح، وبآثار لم تصحح، مع أنه فاته شيء كثير من الصحيح لم يكن عنده، فكتابه محتاج إلى تنقيح وتصحيح.

وابن هشام يروي السيرة عن ابن إسحاق -سيرة ابن هشام-، يقول الذهبي: فكتابه محتاج إلى تنقيح وتصحيح ورواية ما فاته.

يقول: وأما مغازي موسى بن عقبة فهي في مجلد ليس بالكبير، يعني الذهبي قرأ هذا المجلد أو سمعه، وغالبها صحيح ومرسل جيد، لكنها مختصرة تحتاج إلى زيادة بيانٍ وترتيب له. .

كان مالكٌ إذا سئل مغازي مَن نكتب؟ يقول: عليكم بمغازي موسى بن عقبة فإنه ثقة، وقال مرة: عليك بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة فإنها أصح المغازي. هذه الكلمة من الإمام مالك لها شأن. وقال مالك مرة: عليكم بمغازي موسى بن عقبة فإنه رجل ثقة، طلبها على كبر السن ليقيد من شهد مع رسول الله ﷺ ولم يكثر كما أكثر غيره. هنا الإمام مالك -رحمه الله- كأنه يعرّض بمن طول كما سبق.

يقول: موسى بن عقبة وابن إسحاق ومن بعدهم، وقد مضى الكلام على ذلك. يقول: كيحيى بن سعيد الأموي، يحيى بن سعيد بن أبان بن العاص الأموي هو أيضاً ممن يروي هذه المغازي، توفى سنة 194هـ بعد موسى بن عقبة، موسى بن عقبة توفى سنة 141هـ، والوليد بن مسلم الأموي الدمشقي توفي سنة 195هـ، والواقدي المشهور محمد بن عمر بن واقد المدني توفى سنة 207هـ.

ثم بعد ذلك يقول: فإن أعلم الناس بالمغازي هنا يمكن أن نجعل عنواناً نقول: (أعلم الناس في المغازي)، يقول: أعلم الناس في المغازي أهل المدينة ثم أهل الشام ثم أهل العراق. هذا يفيد، هذا استطراد، هنا يتكلم في الأصل عن الضعف في الروايات في التفسير -سبب ضعف الرواية في التفسير- فجاء بكلام الإمام أحمد الذي ذكر فيه ثلاثة كتب لا أصل لها، وكان منها المغازي، فبدأ يتكلم شيخ الإسلام عن المغازي، والذين يروون المغازي، هذا كله استطراد.

وبدأ يتكلم عن أعلم الناس بالمغازي، وهذا يفيد بالترجيح، لما نجد أن هؤلاء يختلفون في ذكر المغازي سواء في تاريخها تاريخ الوقعة أو بعض التفاصيل مما حصل فيها فهنا كيف نرجح؟

يقول: أهل المدينة أعلم بها؛ لأنها كانت عندهم، وأهل الشام كانوا أهل غزو وجهاد فكان لهم من العلم بالجهاد والسير ما ليس لغيرهم. يعني أحكام الجهاد من الغنيمة والفيء وقضايا تتعلق بالأرض التي غنمها المسلمون، ما يُفعل بها؟ وما أحكامها؟ هل توزع على الغانمين؟ أو تكون أرضاً خراجية؟ أو غير ذلك مما يذكر في الكتب التي تُسمَّى كتب السير؟ فهنا يرجِّح كتب أهل الشام.

قال: ولهذا عظّم الناس كتاب أبي إسحاق الفزاري الذي صنَّفه في ذلك، يعني صنفه في السيَر، أبو اسحاق الفزاري إبراهيم بن محمد بن الحارث الفزاري -رحمه الله- توفى سنة 186هـ.

يقول: وجعلوا الأوزاعي أعلم بهذا الباب من غيره من علماء الأمصار. وعمرو الأوزاعي المتوفى سنة 157هـ الإمام المعروف أعلم؛ لأنه من أهل الشام، وكان مرابطاً في بيروت كما هو معروف.

 ثم بدأ يتكلم عن أعلم الناس بالتفسير فهنا يمكن أن نجعل عنواناً نقول فيه: (أعلم الناس بالتفسير).

قال: وأما التفسير فإن أعلم الناس به أهل مكة؛ لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد.

مضى هذا وسيأتي الكلام عن مجاهد أكثر من ذلك وقد توفى سنة 102هـ.

وعطاء بن أبي رباح.

توفى سنة 114هـ.

وعكرمة مولى ابن عباس.

توفى سنة 105هـ.

وغيرهم من أصحاب ابن عباس كطاوس بن كيسان.

 

توفى سنة 106هـ وأصله من اليمن.

وأبي الشعثاء

 يعني جابر بن زيد المتوفى سنة 93هـ، وقيل غير ذلك.

وسعيد بن جبير.

الذي قتله الحجاج سنة 95هـ.

وأمثالهم. وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود، ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم، وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم [المتوفى سنة 136هـ]، الذي أخذ عنه مالك في التفسير، وأخذ عنه أيضاً ابنه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

العمري المدني، هؤلاء لهم من موالي عمر -.

فعبد الرحمن بن زيد بن أسلم توفى سنة 182هـ، تجدون كثيراً في التفسير، قال ابن زيد عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأبوه مفسر، وهذا قول زيد بن أسلم يعني هو وأبوه، قال زيد بن أسلم، قال عبد الرحمن بن زيد، قال ابن زيد، كثيراً في كتب التفسير.

وأخذه عن عبد الرحمن عبد الله بن وهب.

بن مسلم الفهري، وهذا كان في مصر توفى 197هـ. هؤلاء الأئمة حينما تقرأ في تراجمهم وتنظر في أحوالهم وعلمهم وسعة اطلاعهم وحفظهم وعبادتهم، وما كانوا عليه من العبادة؛ ترى شيئاً عجيباً، حينما تنظر مثلاً لترجمة ابن وهب -رحمه الله-، أو طاوس بن كيسان. بعض أصحاب النبي ﷺ يقول: إني لأحسب طاوساً من أهل الجنة، هذه ليست سهلة!

ثم بدأ يتكلم عن حكم المرسل هنا نجعل عنواناً نقول: (حكم المرسل).

يقول: والمراسيل إذا تعددت طرقها.

الآن ما الذي جرَّ شيخ الإسلام لهذا الكلام؟ هذا استطراد، كله استطراد، الكلام في اختلاف المفسرين، في أسباب الاختلاف، فقاد إلى هذا كله أن هناك ما يمكن التمييز فيه، وما لا يمكن التمييز فيه من المرويات، وأن هذا أكثر المرويات في زمان التابعين مما يتصل بالإسرائيليات ونحو ذلك، وهناك أشياء كانت سبباً لضعف روايات التفسير، ومن المراسيل بناء على كلام الإمام أحمد.

فشيخ الإسلام يوجه كلمة الإمام أحمد -كما سبق- باعتبار أن الغالب هو أنها من قبيل المراسيل.

 والمراسيل إذا تعددت طرقها وخلت عن المواطأة قصداً أو اتفاقاً بغير قصدٍ كانت صحيحةً قطعاً.

هذا حكم المرسل.

والمرسل كما هو معروف، الكلام فيه كثير، واختلف العلماء في تحديده، بعضهم يقول: ما سقط منه الصحابي، وبعضهم يقول: مرفوع التابعي، وبعضهم يقيده بالكبير:

مرفوعُ تابعٍ على المشهورِ مرسلٌ أو قيِّده بالكبيرِ
أو سقط راوٍ منه ذو أقوال والأولُ الأكثر في استعمالِ

هذا عند المحدّثين، لكن عند الأصوليين كما يقول صاحب المراقي:

ومرسلٌ قولةُ غيرِ مَن صَحبْ *** قال إمامُ الأعجمين والعربْ

يعني عندهم من قال: قال رسول الله ﷺ إذا قال البخاري مثلاً: قال رسول الله ﷺ هذا مرسل، يعني من لم يصحب النبي ﷺ ويقول: قال رسول الله ﷺ يكون ذلك من قبيل المرسل.

فالمرسل الراجح أنه من أنواع الضعيف، هذا عند الجمهور، وإن ذهب بعض أهل العلم كما يروى عن أبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنهما -أعني مالكاً وأحمد- أنه صحيح، لكن هذا مقيد بمن يحترز فلا يرسل إلا عن ثقة.

المرسل إن صح مخرجه يعني جاء من غير وجه، أو جاء مسنداً من طريقٍ آخر أو نحو هذا؛ فإنه يكون صحيحاً بشرطه، يعني يكون الذي أرسل في الرواية الأخرى قد أخذ عن غير رجال المرسِل الآخر، يعني يأتي من طريقٍ آخر، أي الذي أرسله يكون قد أخذه من غير طريق المرسِل الآخر.

هذا ذكره الشافعي -رحمه الله- في الرسالة، وقيَّد ذلك في مرسل كبار التابعين، أو من إذا سمّى سمّى ثقة، أو إذا شاركه الحفاظ المؤتمنون ولم يكن ثمة مخالفة، إلى غير ذلك مما يذكر مما يعتضد به المرسل. هذا كله جاء استطراداً؛ من أجل أن نعرف كيف تَتابُع هذه المعلومات حتى نرجع إلى الموضوع الأساس في اختلاف المفسرين، أسباب اختلاف المفسرين. هذا الكلام يُحتاج إليه.

بعض الذين كتبوا جمعوا أسباب النزول وحكموا على الروايات فتجد كتاباً في ثلاثة مجلدات جمع كثيراً من المرويات في أسباب النزول والحكم على كل رواية بمفردها، وكثير من هذه الروايات هي من قبيل المراسيل، يعني تجد صحيحاً، ضعيفاً جداً، ضعيفاً، موضوعاً، منكراً، وما إلى ذلك، كلمة ضعيف هذه كثيرة جداً تحت هذه المراسيل مع أنك تجد أحياناً لربما عشر روايات في سبب النزول كلها من قبيل المراسيل لا ينظر إليها بمجموعها فيحكم على الحديث مثلا، لا، كل رواية بمفردها. فإذا قرأ من لا يميز ونظر إلى كل روايةٍ بمفردها وجد ضعيفاً، ضعيفاً جداً، منكراً، موضوعاً، والنتيجة: ما عندنا رواية صحيحة في سبب النزول، بينما الأمر قد لا يكون كذلك، قد تعتضد هذه الرواية بمجموعها، فالحكم على أفراد هذه الروايات غير الحكم على المجموع، فكان اللائق أن يذكر في النهاية أن هذه الروايات في مجموعها تتقوى بها هذه الرواية.

والمراسيل إذا تعددت طرقها وخلت عن المواطأة قصداً أو اتفاقاً بغير قصدٍ كانت صحيحةً قطعاً، فإن النقل إما أن يكون صدقاً مطابقاً للخبر، وإما أن يكون كذباً تعمد صاحبه الكذب أو أخطأ فيه، فمتى سلم من الكذب العمد والخطأ كان صدقاً بلا ريب.

الآن سقط الواسطة بين التابعي والنبي ﷺ، لكن جاءت من هذا الوجه، ومن هذا الوجه عن غير رجال الأول، فهذا هنا حينما لا يكون مواطأة فهذا يدل على أن أصل الخبر صحيح، هذا الذي يذكره شيخ الإسلام، أنها جاءت من طرق تعتضد بمراسيل أخرى مثلاً، هذا المراد، وسيذكر مثالاً لذلك يقربه.

فإذا كان الحديث جاء من جهتين أو جهات وقد عُلِم أن المخبرين لم يتواطئوا على اختلاقه، وعُلم أن مثل ذلك لا تقع الموافقة فيه اتفاقاً بلا قصد؛ علم أنه صحيح، مثل: شخص يُحدِّث عن واقعةٍ جرت ويذكر تفاصيل ما جرى فيها من الأقوال والأفعال، ويأتي شخصٌ آخر قد عُلم أنه لم يواطئ الأول فيذكر مثلما ذكره الأول من تفاصيل الأقوال والأفعال، فيُعلم قطعاً أن تلك الواقعة حقٌ في الجملة، فإنه لو كان كلٌّ منهما كذب بها عمداً أو أخطأ لم يتفق في العادة أن يأتي كلٌّ منهما بتلك التفاصيل التي تمنع العادة اتفاق الاثنين عليها بلا مواطأةٍ من أحدهما لصاحبه.

فإن الرجل قد يتفق أن ينظم بيتاً وينظم الآخر مثله، أو يكذب كذبة ويكذب الآخر مثلها.

يعني كما يقال: وقع الحافر على الحافر، الخف على الخف، يعني حصل الاتفاق، حصلت الموافقة اتفاقاً من غير مواطأة، من غير قصد، قد يحصل التوافق في الشيء اليسير، لكن أن يحدث في التفاصيل، وهذا لا ينقل عمن ينقل عنه الآخر ثم بعد ذلك يكون لا أصل لها!

أما إذا أنشأ قصيدة طويلة ذات فنون على قافية وروي فلم تجرِ العادة بأن غيره ينشئ مثلها لفظاً ومعنى مع الطول المفرط، بل يعلم بالعادة أنه أخذها منه، وكذلك إذا حدَّث حديثاً طويلاً فيه فنون، وحدَّث آخر به فإنه إما أن يكون واطأه عليه، أو أخذه منه، أو يكون الحديث صدقاً.

حيث لا يوجد تلقٍّ ولا مواطأة.

وبهذه الطريق يعلم صدق عامة ما تتعدد جهاته المختلفة على هذا الوجه من المنقولات، وإن لم يكن أحدهما كافياً، إما لإرساله، وإما لضعف ناقله، لكن مثل هذا لا تضبط به الألفاظ والدقائق التي لا تعلم بهذه الطريق، بل يحتاج ذلك إلى طريق يثبت بها مثل تلك الألفاظ والدقائق.

يعني بصرف النظر عن الزيادات، لكن أصل الخبر ثابت صحيح، كل هذا تابع للاستطراد السابق، أكثر هذه المرويات من قبيل المراسيل.

ولهذا ثبتت غزوة بدر بالتواتر، وأنها قبل أحد، بل يعلم قطعاً أن حمزة وعلياً وأبا عبيدة برزوا إلى عتبة وشيبة والوليد، وأن علياً قتل الوليد، وأن حمزة قتل قِرنه، ثم يُشك في قِرنه هل عتبة أو شيبة.

وهذا الأصل ينبغي أن يُعرف فإنه أصلٌ نافعٌ في الجزم بكثير من المنقولات في الحديث والتفسير والمغازي، وما ينقل من أقوال الناس وأفعالهم وغير ذلك.

يعني هذه الفروقات تكون غير مؤثرة، والزيادات يتوقف فيها حتى يوجد ما يثبتها أو ترد، وهذا موجود أيضاً حتى في الأحاديث المسندة إلى النبي ﷺ، بل حتى في أحاديث قد تكون في الصحيحين أو في أحدهما، بحيث إنك تجد مثل ما أشرت في سبب نزول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [سورة التحريم:1]، فإذا نظرت في الروايات الصحيحة الثابتة بتحريمه ﷺ العسل تجد في داخل التفاصيل أشياء.

مَن المرأة التي كان يشرب النبي ﷺ عندها العسل؟ مَن مِن أزواجه ﷺ اللاتي تواطأن على القول له -عليه الصلاة والسلام-: إنا نجد منك ريح مغافير[1]، تجد أن هذه الأسماء تتفاوت في الروايات، لكن هذا غير مؤثر باعتبار أن أصل الواقعة ثابت صحيح، وإن اختلفت هذه الدقائق أو التفاصيل.

ومثل ما سبق أيضاً في الظهار أن أوس بن الصامت ظاهر من امرأته[2] تجد في الروايات اسم هذه المرأة، وتفاصيل ما قالت للنبي ﷺ وما حصل من المجاوبة فتجد اختلافاً في هذه الروايات وتفاوتاً في اسم المرأة، يعني غير التصغير خويلة أو خولة بنت ثعلبة تجد أشياء أخرى بنت الدُّلَيج مثلاً، في بعض هذه الاختلافات والتفاصيل بعضهم يقول: هذا للتصغير خولة وخويلة، والدُّلَيج بعضهم يقول: نسبت إلى جد لها، وهذا نسبَها إلى أبيها، لكن هناك أشياء في بعض الروايات ليس ذلك باسم لجدها، ولا يمكن أن يقال: إنه مصغر؛ فهو اسم آخر تماماً، سُميت زوجة أوس بن الصامت، هي زوجته لكن ما اسمها؟ هذا لا أثر له، لكن الرواية ثابتة؟

ولهذا إذا رُوي الحديث الذي يتأتى فيه ذلك عن النبي ﷺ من وجهين مع العلم بأن أحدهما لم يأخذه عن الآخر جُزِم بأنه حق، لاسيما إذا عُلم أن نقلته ليسوا ممن يتعمد الكذب، وإنما يخاف على أحدهم النسيان والغلط.

فإن مَن عَرف الصحابة كابن مسعود وأبي بن كعب وابن عمر وجابر وأبي سعيد وأبي هريرة وغيرهم علم يقيناً أن الواحد من هؤلاء لم يكن ممن يتعمد الكذب على رسول الله ﷺ فضلاً عمن هو فوقهم، كما يعلم الرجل من حال من جربه وخبره خبرة باطنةً طويلةً أنه ليس ممن يسرق أموال الناس ويقطع الطريق ويشهد بالزور ونحو ذلك.

يعني هذا كله بالنسبة للمرسل إذا حصل الاعتضاد بمرسل آخر ونحو ذلك إذا سلم من علل أخرى غير الإرسال، أما إذا كان الراوي ضعيفاً، أو في رواته من هو ضعيف أو متهم أو نحو ذلك فيضعَّف ولو لم يعل بالإرسال.

وكذلك التابعون بالمدينة والشام والبصرة فإن من عرف مثل أبي صالح السمان والأعرج وسليمان بن يسار.

صالح السمان، ذَكوان المدني، الإمام الثقة التابعي، توفى سنة 101هـ، والأعرج هو عبد الرحمن، الأعرج هذا لقب وليس باسمه، وإنما هو عبد الرحمن بن هرمز، توفى سنة 117هـ، وسليمان بن يسار هذا أحد الفقهاء السبعة المشاهير في المدينة، توفى سنة 100هـ، وزيد بن أسلم هذا الذي سبقت الإشارة إليه قبل قليل، توفى سنة 136هـ، هذا الأب والد عبد الرحمن بن زيد، وأمثالهم.

قال: عَلم قطعاً أنهم لم يكونوا ممن يتعمد الكذب في الحديث، فضلا عمن هو فوقهم مثل محمد بن سيرين والقاسم بن محمد أو سعيد بن المسيب أو عَبيدة السلماني.

عَبيدة السلماني بفتح العين، محمد بن سيرين الإمام المعروف توفى سنة 110هـ، القاسم بن محمد أحد الفقهاء السبعة أيضاً توفى سنة 106هـ، سعيد بن المسيِّب والمسيَّب، ما روي عنه من قوله: سيّب الله من سيبني لا يثبت، فلو قال: سعيد بن المسيِّب أو قال: سعيد بن المسيَّب فلا إشكال في هذا -إن شاء الله-، توفى سنة 93هـ، أو عَبيدة السلماني المتوفى سنة 72هـ،

أو علقمة.

بن قيس النخعي المتوفى سنة 62هـ،

أو الأسود.

بن يزيد المتوفى سنة 74هـ.

أو نحوهم.

هؤلاء أئمة تقرأ في ترجمة الأسود بن يزيد أو علقمة أو أمثال هؤلاء أو سعيد بن المسيب أو محمد بن سيرين عبادتهم واجتهادهم، وحجّهم ،هذا حج ستاً وثلاثين حجة، وهذا حج ثمانين حجة، وهذا، وهذا...

وإنما يُخاف على الواحد من الغلط، فإن الغلط والنسيان كثيراً ما يُعرَّض للإنسان، ومن الحُفَّاظ من قد عرف الناس بُعده عن ذلك جداً كما عرفوا حال الشعبي.

الشعبي إمام في الحفظ توفى سنة 103هـ، ومع ذلك يقول: نسيت من العلم ما لو حفظه إنسان لصار به عالماً، كان يقول: أقل ما أحفظه الشعر ولو شئتم لحدثتكم شهراً لا أعيد بيتاً، يروي شهراً كاملاً الشعر من حفظه لا يعيد بيتاً مع أنه ما كان يعرف القراءة والكتابة، لا يقرأ ولا يكتب.

والزُهري.

محمد بن شهاب وقد مضى الكلام عنه.

وعروة.

بن الزبير توفى سنة 93هـ،

وقتادة.

توفي 117هـ،

والثوري.

سفيان الثوري 161هـ.

وأمثالهم، لا سيما الزهري في زمانه.

  الزهري أول من دون السنة.

والثوري في زمانه، فإنه قد يقول القائل: إن ابن شهاب الزهري لا يُعرف له غلط مع كثرة حديثه وسعة حفظه، والمقصود أن الحديث الطويل إذا روي مثلاً من وجهين مختلفين من غير مواطأة امتنع عليه أن يكون غلطاً كما امتنع أن يكون كذباً، فإن الغلط لا يكون في قصة طويلة متنوعة، وإنما يكون في بعضها، فإذا روى هذا قصة طويلة متنوعة ورواها الآخر مثلما رواها الأول من غير مواطأة امتنع الغلط في جميعها كما امتنع الكذب في جميعها من غير مواطأة؛ ولهذا إنما يقع في مثل ذلك غلط في بعض ما جرى في القصة، مثل حديث اشتراء النبي ﷺ البعير من جابر، فإن من تأمل طرقه علم قطعاً أن الحديث صحيح، وإن كانوا قد اختلفوا في مقدار الثمن، وقد بيَّن ذلك البخاري في صحيحه.

البخاري -رحمه الله- أخرج عن جابر  أن النبي ﷺ اشتراه بأوقية[3]، وتابعه زيد بن أسلم عن جابر، ابن جريج عن عطاء وأيضاً غيره رووا عن جابر قال: "أخذته بأربعة دنانير"[4]، فبعض أهل العلم جمع بين الروايتين فقال: هذا باعتبار حساب الأوقية، يعني كم تكون الأوقية؟ حساب الدينار بعشرة دراهم، فيكون هذا أوقية، إذا حسبنا الدينار أنه يعادل عشرة دراهم تكون أربعة دنانير أوقية، بصرف النظر عن هذا الوجه في الجمع، الحديث مخرج في الصحيحين، بكم اشتراه هذا لا يؤثر في أن النبي ﷺ اشتراه، فالواقعة صحيحة وثابتة، لكن التفاصيل والاختلاف فيها غير مؤثر بأصل الروايات.

  1. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، برقم (4912)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق، برقم (1474).
  2. رواه أبو داود، كتاب الطلاق، باب في الظهار، برقم (2219)، والحاكم في المستدرك، برقم (3792)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وقال الألباني: "حديث صحيح مرسل، وقد وصله المصنف بعده" في صحيح أبي داود، برقم (1922).
  3. رواه البخاري، كتاب البيوع، باب شراء الدواب والحمر، وإذا اشترى دابة أو جملا وهو عليه هل يكون ذلك قبضا قبل أن ينزل، وقال ابن عمر ا: قال النبي ﷺ لعمر: «بعْنِيه» يعني جملا صعبا، برقم(2097)، ومسلم، كتاب الرضاع، باب استحباب نكاح البكر، برقم (715).
  4. رواه البخاري، كتاب الوكالة، باب إذا وكل رجلٌ رجلاً أن يعطي شيئا، ولم يبين كم يعطي، فأعطى على ما يتعارفه الناس، برقم(2309)، ومسلم، كتاب الرضاع، باب استحباب نكاح البكر، برقم (715).

مواد ذات صلة