الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
44- أصول منقولة من كتبه وفتاويه المتفرقة ومطاوي كتبه شيئا فشيئا. القواعد 647-662
تاريخ النشر: ٢٨ / ربيع الآخر / ١٤٣٤
التحميل: 2237
مرات الإستماع: 1971

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

قال المؤلف -رحمه الله-:

"فمن كان مُجاهدًا في سبيل الله باللسان بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبيان الدين، وتبليغ ما في الكتاب والسُنة من الأمر والنهي والخبر، وبيان الأقوال المُخالفة لذلك، والرد على من خالف الكتاب والسنة، أو باليد كقتال الكفار، فإذا أُذي على جهاده بيد غيره أو لسانه فأجره في ذلك على الله، لا يطلب من هذا الظالم عِوض مظلمته، بل هذا الظالم إن تاب، وقبل الحق الذي جُوهد عليه؛ فالتوبة تجب ما قبلها، وإن لم يتب بل أصر على مخالفة الكتاب والسنة، فهو مُخالف لله ورسوله، والحق في ذنوبه لله ولرسوله، وإن كان للمؤمنين أيضًا حق تبعًا لحق الله، وهذا إذا عوُقب لحق الله، ولتكون كلمة الله هي العُليا، ويكون الدين كله لله، لا لأجل القصاص فقط".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فحاصل هذا الكلام: أن من كان قيامه لله -تبارك وتعالى- بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الجهاد في سبيل الله، ثم أُوذي، فلا ينبغي أن يتحول قيامه من القيام لله ولأمره إلى الانتصار للنفس، والقيام من أجل حظوظها، فتتحول نيته، فيكون بذلك طالبًا لحظ نفسه، وإنما كان قيامه لله، وأجره على الله، فما يلحقه من الأذى ينبغي أن يُنظر إليه بهذا الاعتبار، ولُقمان لما أوصى ابنه بأن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر قال: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] ما قال: انتصر ممن آذاك، وإنما أمره بالصبر؛ لأنه لا بد من الأذى؛ ولهذا فإن الإنسان قد يكون قيامه حِسبة لله -تبارك وتعالى- ثم يتحول الحال؛ فيصير يريد أن ينتصر لنفسه، فلا يكون أمره لله، هذا حاصل هذا الكلام، فيصبر، ويحتسب، ويبتغي ما عند الله -تبارك وتعالى-.

لكن ما يحصل من الأذى الواقع على هؤلاء المحتسبين، تارة يكون المقام يقتضي الإعراض والاحتساب، وطلب ما عند الله -تبارك وتعالى-، وتارة لا يريد أن ينتصر لنفسه، ولكن يريد إحقاق الحق الذي لله ولرسوله ﷺ وما يكون فيه رِفعة الدين، وإعزاز كلمة الله، وذلك أن الحال أحيانًا تكون أو تصير إلى تطاول على هذه الشعيرة، شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستخفاف بها، وانتقاص لها ولأهلها؛ فتذهب هيبة الاحتساب، ومن ثَم لا يكون لهؤلاء من الأثر ما ينبغي أن يوجد؛ لأن مقام الاحتساب مبناه على الهيبة؛ من أجل الردع والزجر، فإذا كانت الحال تؤدي إلى خلاف ذلك من استخفاف وتطاول على جهاز الحِسبة مثلاً؛ فإن هذا المقام هو لا ينتصر لنفسه، وإنما يكون الانتصار لله، ولرسوله ﷺ وما يكون فيه إعزاز الدين، وقيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكثيرًا ما يختلط هذا بهذا.

يعني: أحيانًا قد يُقال لهذا الإنسان: لا تتنازل عما وقع لك من الأذى من هؤلاء الذين تطاولوا عليه، وآذوه، وضربوه، وما إلى ذلك في سوق، أو في طريق، أو نحو هذا، فيُقال لا تتنازل، متى يُقال له لا تتنازل؟ حينما لا يكون الحق يتعلق بذاته، وإنما يرجع إلى غيره، فهنا يكون تنازله سببًا للاستخفاف بالآمريين بالمعروف والناهين عن المنكر، وإسقاط هيبة الحِسبة، وما أشبه ذلك، فهنا يكون الأمر لله وفي الله؛ طلبًا لإعزاز الدين، ففرق بين هذا وهذا، أما الذي يدخل في هذه الأمور، ثم بعد ذلك كل من آذاه يريد أن يقتص منه، وأن يستوفي حقه فمثل هذا تتحول الحال ولا بد إلى انتصار للنفس، وطلب لحظها ونصيبها، وهذا خطأ، فيُفرق بين الأمرين.

"ما ثبت من الموقتات بشرع أو شرط، فالهلال ميقات له، فبالهلال يكون توقيت الشهر والسنة، ولا يقوم شيء مقام الهلال البتة؛ لظهوره، وظهور العدد المبني عليه، وتيسر ذلك، وعمومه، وغير ذلك من المصالح الخالية من المفاسد".

 ما ثبت من الموقتات بشرع أو شرط، بشرع: كالعِدد، عدة المتوفى عنها زوجها، وكذلك عِدة المُطلقة الآيسة، أو الصغيرة فإنها تعدد بالأشهر، وما إلى ذلك، فمثل هذا الهلال ميقاته، العبرة بالهلال سواء كان الشهر تامًا، أو كان ناقصًا، وهكذا ما ثبت بشرط، يعني: ما كان موقتًا بحيث إنه أقرضه قرضًا مثلاً، وقال: توفي هذا القرض خلال ثلاثة أشهر، أو قال: هذه الشركة تدوم لمدة ثلاثة أشهر، نعمل في هذا النوع من الشركة لمدة كذا، استأجره لشهر، ثم بعد ذلك يكون النظر بماذا؟ هل يحسب عليه ثلاثين يوما؟ الجواب: لا، وإنما الهِلال هو المُعتبر، فإذا كان الشهر تسعة وعشرين يومًا؛ فإنه يكون قد أدى ما عليه، وانتهى هذا الأجل، وهكذا في العهود والمواثيق والعقود، وسائر المؤقتات، لو كان بينهم هُدنة لمدة أربعة أشهر مثلاً، فالاعتبار في ذلك كله إنما هو بالأهلة؛ لأنها هي الميقات المُعتبر شرعًا، ما ثبت من الموقتات بشرع، أو شرط فالهلال ميقات له.

"ما نُهي عنه من العقود ونحوها لحق الغير إذا عفا صاحب الحق نفذ العقد، وصار صحيحًا، وإلا ففيه عُلقة خيار ونحوه لصاحب الحق يكون عقدًا غير لازم، وتفاصيل هذا الأصل كثيرة معروفة".

 ما نُهي عنه من العقود ونحوها لحق الغير إذا عفا صاحب الحق؛ نفذ العقد، وصار صحيحًا، وإلا ففيه علقة خيار ونحوه لصاحب الحق يكون عقدًا غير لازم، وتفاصيل هذا الأصل.

هناك الأشياء المنهي عنها منها ما يكون لحق الله ، ومنها ما يكون لحق الله وحق المخلوق، ومنها ما يكون لحق المخلوق، فما كان لله فيه حق فإنه لا يسقط بإسقاط صاحب الحق، أو الطرف الآخر -كما يُقال-، مثل ماذا؟ يعني: لو أنه تنازل، وهذا يحصل كثيرًا يُخطئ فيه حتى بعض الأخيار، عقد معه عقدًا، هذا العقد فيه شرط، أو بند ربوي، عقد شركة، أو تمويل، أو غير ذلك من الارتباطات والعقود، ويقول هذا الطرف الآخر: أنا قابل بهذا الشرط، أنا قابل بهذا البند الذي فيه ربا، وقد يكون العقد كله يقوم على الربا، يقول مثلاً: أقرضني مائة ألف، وأُعيدها لك مائة وعشرة، وهذا برضاي، وأنت مُحسن إليّ، وأنا قابل لهذا الشيء، ومُسقط لحقي، وأنا بحاجة إلى هذه المائة الآن، فإذا حصل لي فرج، والعشرة أنا مُتنازل، يصلح هذا؟

هذا عقد ربوي ما يجوز، هو من الكبائر: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279] فما يقول الإنسان أنا أقبل هذا، وأُسقط حقي؛ لأن الحق لله ، حتى لو قال: أنا راضي، ولذلك يقع أحيانًا بعض العقود بين الناس الطيبين، الأخيار، الذين فيهم دين وصلاح، وتجد أن أحد هذه الشروط، أو هذه البنود مُحرم لحق الله، فيقول: أنا قابل، نقول: حتى ولو كنت قابلاً هذا لا يصح، من العقود التي تقع كثيرًا بين الناس، يقول له مثلاً: عقد مُضاربة، ادفع مائة ألف، وأعمل لك بهذه المائة، أُثمرها، وأضمن لك رأس المال، وهذا رهن، تفضل هذا رهن، شيك مُصدق، أو غير ذلك، أو ذهب، هذا رهن، رأس المال يرجع إليك، المليون هذه ترجع لك، فإن لم يحصل لك ربح لم يحصل لك خسارة لم يقع عليك خسارة، ويقول: أنا قابل، أنا أعرف هذه التجارة، وإنها رابحة، وأنها لا تخسر، يجوز هذا؟

هذا لا يجوز، ولو قال: أنا قابل، وأنا أتحمل، وأنا راضي، وأنا مُتنازل، نقول: هذا ما يصح، وهذا يقع فيه كثير من الناس، يضمن له رأس المال، وأحيانًا يضمن بعضهم له الربح، هكذا تكون مائة أعطيك إياها مائة وعشرة آلاف مُضاربة ليست بقرض، يعني: ليست ربا صريح في القرض عقد مُضاربة تجارة، يقول: هات مائة ألف، وأنا أبيع، واشتري بالسيارات، أشغل لك هذه المائة ألف، وأرجعها لك، أعطيك كل شهر عشرة آلاف، ربح ثابت من هذه المائة، يجوز هذا؟

ما يجوز، قد لا يكون ربحًا، والله يقول: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188] فهذا ما يجوز، فهذا يقع أيضًا كثيرًا.

لكن ما كان الحق فيه خاص بالطرف الآخر، خاص بالمخلوق، فهنا يكون فيه عُلقة الخيار، الآن لو باعه ناقة، أو شاة مُصراة، فهذه الدابة، هذه البهيمة المُصراة ثلاثة أيام لم تُحلب، فلما حلبها؛ وجد أنه غشه، وخدعه، يظن أنها كثيرة اللبن، وليست كذلك، فما حكمه الآن، ما الحكم؟

يكون له الخيار، إن شاء ردها مع صاع من تمر، مُقابل اللبن الذي حلبه، وإن شاء أبقاها، ويكون له أرش النقص والعيب الذي فيها، يعني: هو اشترى هذه الناقة بثلاثين ألف، على أنها كثيرة اللبن، فتبين أنها قليلة اللبن، فمثلها تساوي عشرة آلاف، فإما أن يرد له فرق السعر، أو يرد السلعة، أو يرد الناقة، أو الدابة، البهيمة مع صاع من تمر، مُقابل اللبن الذي أخذه.

بقيت حالة ثالثة هي المقصودة هنا، حق المخلوق حق خاص، علم هذا أنه غشه، وأنها كانت مُصراة مُصراة، يعني: ما حُلبت ثلاثة أيام، فقال: أنا قابل، ومُتنازل لسبب، أو لآخر متنازل، إما أنه يقول: فلان مُحتاج، وأنا أريد أن أُساعده أصلاً، أو يقول: فلان صاحب فضل عليّ، وأنا لا أُريد أن أردها عليه، أو يقول: أصلاً ما اشتريها من أجل اللبن، اشتريتها من أجل الركوب، ولا حاجة لي باللبن، وأنا قابل بهذا العيب، أو يقول: أصلاً أنا اشتريتها من أجل اللبن، ولكن هي تساوي هذا، ولو كانت قليلة اللبن في نظره، أو أن الفرق في نظره ليس بكثير بتقديره هو، المهم أنه إن قبل وتنازل عن حقه سقط، لو قال: أنا مُتنازل لا أُريد الرد، ولا أريد العوض، فهذا لا إشكال فيه.

كذلك تلقي السِلع، تلقي الرُكبان نهى النبي ﷺ عن هذا، فلو أنه تلقى الرُكبان، هذا لا يجوز، فإذا تلقاهم عند من يُصحح العقد، ثم جاء هؤلاء الرُكبان، ودخلوا السوق؛ ليشتروا أشياء أخرى فوجدوا أن سلعتهم التي باعوها، جاءوا مثلاً معهم بسمن، وباعوه بخمسمائة ريال، فوجدوه في السوق يساوي ألفًا، فهم في هذه الحال بالخيار، إن شاؤوا ردوا البيع، وإن شاؤوا طالبوه بالفارق، لكن لو أنهم أسقطوا حقهم، وقالوا: نحن عرفنا أننا غُبنا، وظُلمنا، ولكن الله يقول: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40] ونحن نريد العفو، ولا نريد شيئًا، ففي هذه الحال يصح البيع، ويسقط الحق؛ لأنه حق محض لهم، هذا حق المخلوق لو أنه أعطى هذا الإنسان أعطاه خمسمائة ريال، وهذه الخمسمائة مشقوقة من طرف، فلما ذهب، كلما ذهب عند أحد قال: هذه ما نقبلها، ذهب بها إلى الجهة المُختصة في المالية، قالوا: هذه ما تصلح مثلاً، عرف أنه غُلب، فقال: أنا مُتنازل، عفوت عنه، هل يُطالب؟ هل يلحقه شيء؟

الجواب: لا، لأن هذا حق خاص بالمخلوق، فإذا تنازل عنه وأسقطه فليس.

كذلك النجش بيع النجش، النجش هذا تعرفون أنه يزيد في السلعة من لا يُريد الشراء، فلو أنه جاء يشتري سلعة، فاجتمع عليه عِصابة من الشبيحة، وصاروا يرفعون في السعر، وهم لا يريدون الشراء، وهذا لا يعلم، فهذه السيارة تساوي خمسة وعشرين ألف، فاجتمعوا عليه؛ صار هذا يقول: بثلاثين، وهذا يقول: بخمسة وثلاثين، وهذا يقول: بأربعين، وهو ما يعرف قيمة السيارات، وأول مرة يدخل في المعارض، فاشترى هذه السيارة بخمسين ألف، وهي تساوي خمسة وعشرين ألف، ثم بعد ذلك تبين له أن هؤلاء لا يريدون الشراء، وأنه غُلب، فقال: أنا عفوت وتنازلت عن حقي، ما الحكم؟

يسقط حقه، لكن إن شاء رجع، وأخذ الفارق، أو رد السلعة بالكُلية، فالمقصود أن المظلوم إذا علم في هذا، علم بالحق فأسقطه سقط، وصح العقد، ولو علم به ابتداء، هو يعلم أن هؤلاء أصحاب نجش، وأنهم غير راغبين في السلعة، أو كان تلقاه الرُكبان، وهو يعلم القيمة في السوق، كان اتصل من قبل، وعرف، ومع ذلك قال: أنا مُتنازل، أنا قابل، ولا أُريد دخول السوق أصلاً من طرف البلد وأرجع، فلا إشكال هذا حقه، فإن علم ابتداء قبل عقد البيع، فهذا صحيح، وجائز بالاتفاق، بلا إشكال، فإن علم بعد ذلك؛ فله الخيار، ولا يقال: إن القانون لا يحمي المُغفلين، هذا غير صحيح.

وهكذا في الحقوق الخاصة، النبي ﷺ نهى عن أن يخطب على خطبة أخيه، أو أن يسوم على سومه، أو أن يبيع على بيعه، فلو أنه حصل شيء من هذا، خطب على خطبته، طبعًا المقصود النهي أن يخطب على خطبته، أن يكون ذاك أُعطي الضوء الأخضر -كما يُقال- يعني: فيه نوع قبول، ولم تكن القضية إلى الآن لم يحصل له جواب، ولا زالوا يسألون عنه، فيجوز لغيره أن يخطب في هذه الحالة، لكن لو أنهم أعطوه شيئًا من الإجابة، وقالوا: نحن سألنا عنك، نحن نرغب بمثلك، نحن كذا، باقي العقد فقط، فلا يجوز لغيره أن يأتي ويخطب على خطبته، فإذا جاء هذا الإنسان، وخطب على خطبته، فعلم الأول، وقال: أنا قابل بهذا، ومُتنازل عن حقي، وأنا أُقدمك، وأُثرك على نفسي، وليس عليك حرج، فهذا حق للمخلوق، فإذا أسقطه؛ لا إشكال في ذلك، وإلا فيحق للأول أن يعترض، فهذا غير ما كان لحق الله.

لو عقد على واحدة من ذوات المحارم بالتوافق والقبول، هذا يصح؟ لا، لأن هذا حق لله، لو عقد على امرأة في العِدة، وقال زوجها: أنا قابل، خذها، فما الحكم؟ لا يجوز، لأن هذا حق لله، وهكذا.

كذلك لو كانت مثلاً: بانت من زوجها الأول، لكن لا زالت في العدة، طُلقت ثلاثًا، ولا زالت في العِدة، لا يجوز أن يتزوجها برضاها، ولا بغير رضى الولي، الرضا هذا لا علاقة له.

"المِلك الذي لا يحصل للعبد إلا بمعصية الله، إما مُقابلة ترك واجب، أو مُقابلة فعل محرم، مكسب خبيث حرام، وعليه أن يتصدق به، أو يُجعل في المصالح، ولا يرده إلى من أخذه منه".

يقول: الملك الذي لا يحصل للعبد إلا بمعصية الله، إما مُقابلة ترك واجب، أو مُقابلة فعل مُحرم، مكسب خبيث حرام، وعليه أن يتصدق به، أو يُجعل في المصالح، ولا يرده إلى من أخذه منه، المكاسب -كما تعلمون- أنواع، منه ما حُرم لذاته كالكلب والخنزير والخمر، فمثل هذا، الأصنام، هذه لا يجوز بيعها ولا شراؤها، ولا يجوز لأحد وقعت في يده أن يُبقيها، يجب إتلافها، هذه مُحرمة لذاتها.

وهناك ما هو مُحرم لكسبه، يعني: الأول محرم لذاته أو لوصفه، أحيانًا يُقال: مُحرم لوصفه، والثاني: مُحرم لكسبه، يعني: طريقة الاكتساب محرمة، فهذه الدراهم، هذه الأموال، هذه النقود هي في أصلها مُباحة، لكن وصلت إليه بطريق إما مُحرم أو مذموم أو مكروه شرعًا، النبي ﷺ حكم على مهر البغي، وكسب الحجام بأنه خبيث[1] لماذا؟

لأن الطريقة التي حصل بها هذا الاكتساب مذمومة، فمثل هذا ماذا يصنع بهذا المال؟ هل البغي نقول لها: رُديه على الذي زنا بكِ؟

الجواب: لا، ولكن ماذا تفعل بهذا؟

يقول: يتصدق به، أو يُجعل في المصالح، يعني: المصالح العامة، يعني: ما يرجع منه شيء إلى نفسه، ما يقول: أنا سأصلح به رصيف الدار، لكن يُجعل في المصالح العامة، تُرصف به طُرق، ونحو ذلك للمسلمين، ولا يرده إلى من أخذه منه، هذا فيما اُكتسب، الإنسان لو أنه باع شيئًا من المُخدرات وتاب، هل نقول هذه الأموال من المُخدرات تُرجع إلى أصحابها الذين أُخذت منهم؟

الجواب: لا، هي لا تُرجع إليهم، هذا إنسان أخذ أموالاً ربوية، ملايين من الربا، ثم تاب، هل نقول: رجعها للبنك؟ هذا الربا أعده للبنك؟

الجواب: لا، ولكن عليه أن يتخلص منه، على خلاف في مسألة التوبة في إرجاع الأموال، أما من أسلم، فإنه أسلم على ما أسلف، لكن بقيت توبة من بلغه خطاب الشارع، هذا إنسان من المسلمين، ويأكل الربا، وهو يعلم، ثم تاب، هل يُرجع الأموال، أو لا يُرجعها؟ هل تحل له هذه الأموال، أو لا تحل؟

نقول: التوبة تجب ما قبلها، وما في يدك لك، لا تُطالب بالتخلص منه؟ أو يُقال: لا، هو مُطالب؛ لأن خطاب الشارع يتعلق به، ومن توبته أن يتخلص من هذا المال الحرام، على قولين، المهم أنه بناء على أنه يجب عليه التخلص، هل نقول: عليه أن يُرجعها؟

الجواب: لا، لا يُرجع هذه الأموال، وهذا يسأل عنه، كثير من الناس في الربا، في المُخدرات، يبيع الدُخان، ثم تاب، هل يُرجع هذه الأموال لأصحابها، بعضهم يعرفه التجار في الجملة، أو غير ذلك، يبيعهم، فالشاهد: أنه لا يُرجعها.

الصورة التي عندنا هنا، طبعًا هناك صور مُتعددة، هناك أشياء نهى النبي ﷺ عن بيعها، نهى عن ثمنها، نهى النبي ﷺ عن ثمن الكلب، السنور القط، فهذا لا يجوز، فلو أنه اشترى من أحد، باع لأحد سِنورًا، فما الحكم؟

هنا نقول: تُرجع إليه الثمن، ويُبذل ذلك مجانًا، وإنما تكلم أهل العلم فيمن احتاج إلى ذلك، فلم يجده إلا بالثمن، مثلاً: عنده زرع، عنده غنم، يريد كلب حراسة، يريد كلب صيد، ومُحتاج إليه، فما وجده إلا بالثمن، فماذا يفعل؟

بعض أهل العلم يقول: هذا من الصور التي يصح فيها البذل، بذل المال، ولا يصح على الآخذ أن يأخذ، هناك مكاسب قد يكون من قبيل تضييع الأموال، فلا يكون ذلك محمودًا، وإن لم نقل بأنه من قبيل المُحرم، مثلاً: بيع الزهور، فتح مكانًا للزهور، هل له أن يبيع هذه الزهور، يعني: هل هذا يُعتبر من إضاعة الأموال؟

هذا ليس من المكاسب، لا يُقال: حرام، لكنه من إضاعة المال، أو يُشبه إضاعة المال، فليس من المكاسب التي تكون في حال من الطيب لصاحبها.

وقل مثل ذلك: الأموال التي تؤخذ من طريق الملاهي، فتح محل ألعاب، ملاهي، فهذه الأموال التي يُحصلها هل هي من المكاسب؟ لا يُقال: حرام إلا إذا كانت مُحرمة، لكن إذا كان -هذه الصورة التي عندنا- لا يحصل للعبد إلا بمعصية الله، إما مقابلة ترك واجب، أو فعل مُحرم، هذه الملاهي يؤجرها في أوقات الصلوات، فتكون سببًا لتضييع الصلوات، فما الحكم؟

المكسب هذا يكون خبيثًا، هذه صورة.

صورة أخرى: لو أنه قيل له: نحن لا نعقد معك هذه الصفقة، أو لا نُعطيك هذه البضاعة، أو لا نُفرغ لك هذا الحق، أو نحو ذلك إلا بترك الصلاة مثلاً، اجلس هنا، ولا تذهب إلى المسجد، ولا تُصلي، أو لا تحضر الجمعة، أو نحو ذلك، بترك الواجب، ففي هذه الحال لا يجوز، ويكون الكسب الذي حصل له من هذا الطريق من المكاسب الخبيثة، مع أنه عقد في أصله مُباح، يقال: نحن لا نتعامل في هذه القضية معك، نحن لا نشتغل إلا من الساعة كذا إلى الساعة كذا، الذي هو وقت صلاة الجمعة مثلاً، أو أوقات الصلوات، أو نحو هذا، فكان سببًا لتضييع ما أوجب الله عليه، فهذا يقال له: فعلك مُحرم.

وقل مثل ذلك، يقال لهذه المرأة: ما نُمكنك من هذا العمل، أو ما نُعطيك رواتب، أو نحو ذلك إلا بأن تخلعي الحجاب، تختلطي بالرجال، فهذا يكون من المكاسب الخبيثة؛ لأنه لم تتوصل إليه إلا بمعصية الله ، فلاحظ الأنواع الآن ليست على مرتبة واحدة، متفاوتة.

"والأصل في العقود جميعها هو العدل، فإنه بُعثت به الرسل، وأُنزلت الكتب، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25] وما نهى عن النبي ﷺ من المعاملات، كبيع الغرر، والثمرة قبل بدو صلاحها، والسنين، والمزابنة، والمُحاقلة، وغيرها داخل إما في الربا، وإما في الميسر، وكلاهما ظلم، وأكل للمال بالباطل".

 الأصل في العقود هو العدل، قال: وما نهى عنه، يعني: ما كان خلاف العدل؛ فإنه لا يجوز؛ ولهذا نُهي عن بيوع الغرر، وما كان فيه جهالة، لماذا؟ لأنه ظلم، وهكذا الربا مع ما فيه من حق الله -كما سبق- إلا أنه حُرم باعتبار ما فيه من الظلم، أكل أموال الناس بالباطل، بأي نوع كان.

قال: وما نهى عن النبي ﷺ من المعاملات كبيع الغرر، بيع الغرر، الغرر له صور كثيرة، كأن لا يُعلم وجوده من عدمه، أو لا تُعلم قلته من كثرته مثلاً، فهذا كله داخل في الغرر، ويدخل فيه أيضًا ما لا يُقدر على تسليمه، فهذا كله من الغرر، إلا أن اليسير منه يُغتفر؛ لأنه لا يخلوا منه عقد، أو لا يكاد يخلو، صعب جدًا حينما الآن تقول: أبيعك هذه الدار، هل يحتاج أنه ينظر في دواخل الأعمدة، وفي القواعد مقدار الحديد، ونوع الحصى الذي في الخُرسانة، ونحو ذلك الذي اُستعمل فيها، لا يمكن، نوع الأسلاك التي في الجُدران إنما ينظر إلى الأشياء الظاهرة.

السيارة، يشتري السيارة خالية من العيوب، لكن هو لا يعلم ما في داخل المُحرك، هو يراه في ظاهره، ولكن الأمور الداخلية التي تحتاج إلى فك لهذه القطع، وينظر في داخلها، وما إلى ذلك، هذا لا يمكن، وإلا تتعطل مصالح الناس.

وهكذا في بيع الثمار، ونحو هذا مما لا يُعلم صحته من فساده، بيع البطيخ، ونحو ذلك، قد يشتريها، ثم تكون فاسدة، فمثل هذا يُغتفر.

وهناك أشياء بين بين، يعني: هل يسيرة فتُغتفر، أو مُعتبرة فتُمنع، مثل ماذا؟ مثل البوفية المفتوح، لو أنه دخل في مطعم، وعلى أساس أنه يأكل عشاء حتى يشبع، فهذا قد لا يأكل إلا القليل، وهذا يأكل الكثير، هذا طفل، هذا كبير، هذا عامل عملية معدة، ما يأكل إلا شيء يسير، فهذا مُتفاوت، فمن نظر إلى أن هذا مُغتفر، وأن القضية محسوبة، وأن ما ينقص عليهم من هذا يزيد من ذاك، بهذه الطريقة، فيقول: هذا مُغتفر. ومن نظر إلى أن الفرق مُعتبر؛ رأى أن ذلك من بيوع الغرر، وهكذا.

يعني: الآن بيوع العرايا، يبيع الثمر على رؤوس النخل خرصًا، يعني: تقديرًا من أهل الخبرة، فيبيع هذا الثمر الذي هو الرُطب بتمر، والتمر -كما هو معلوم- من الأموال الربوية، فلا بد أن يكون مثلاً بمثل، ويدًا بيد، لكن هنا لم يحصل ذلك؛ فيُغتفر فيما دون خمسة أوسق.

قال: والثمرة قبل بدو صلاحها لما فيه من الغرر؛ لأن الثمرة قبل بدو الصلاح قد تعتريها الآفة، فتذهب هذه الثمرة، هذا اشترى بُستان النخيل، اشترى خمسمائة نخلة من بُستان قبل بدو الصلاح، يعني: لم يزل هذا الثمر لم يبدأ به اللون، يعني: أخضر، فمثل هذا قد تعتريه الآفة؛ لأن الآفة تقع في مثل هذه المرحلة من مراحل الثمر.

الغِبير مثلاً، تعرفونه، إذا جاء؛ أفسد الثمر، لكن إذا بدا صلاحه؛ يكون قد جاوز العاهة -بإذن الله - فقد يشتري هذا البستان، ثم لا يكون، وأشد من هذا، وأوضح، قال: قبل بدو صلاحها، والسنين، هذا أشد من قبل بدو الصلاح، يشتري البُستان لسنوات، يقول: ثمر هذا النخيل عندك كم؟ خمسمائة نخلة، أنا اشتريها منك، أسوي معك عقد لمدة عشر سنوات، الثمر أنا الذي سآخذه، البستان عُرف بجودة الثمر مثلاً، هذا تاجر في الجملة، فيقول: أنا أخذ منك هذا البُستان، ويُجري عقودًا مع البساتين الجيدة المعروفة في البلد، يُجري عقودًا مع أصحابها، ويقول: على عشر سنوات، على ثلاث سنوات، على خمس سنوات، طيب قد يكون لها ثمر، وقد لا يكون، قد تُصيبه العاهة، فهذا لا يجوز، ولو قال: أنا مُتنازل عن حقي لو أنها كنت فاسدة، وأنا راضي وقابل، نقول: لا، هذا لا يصح، ولا يجوز كما مثلت في الأمثلة السابقة، هذا السنين.

وكذلك المزابنة التي أصلها بيع مجهول بمعلوم، أو العكس، مجهول بمعلوم، أو معلوم بمجهول من جنسه، يعني: الآن مثل لو أنه باع تمرًا برُطب في غير الكمية المُرخص بها، زاد عن خمسة أوسق، الآن باع مجهولاً بمعلوم، يعني: الذي في الأرض التمر هذا معلوم، والذي على رؤوس النخل مُقدر، فهذا لا يصح.

لو أنه باعه فيما دون خمسة أوسق، من غير خرص، فهذا أيضًا لا يصح، طيب لو أن الرُطب كان على الأرض، يعني: جُني من النخل، أو وضع على الأرض، فباعه، وهو على الأرض بأكثر من الكمية المُرخص بها، ومعلوم أن الرُطب ينقص إذا جف؛ ففي هذه الحال لا يصح.

يقول: والمزابنة، والمُحاقلة، المُحاقلة: بيع الحب بالمُشتد في سُنبله بجنسه، يعني: هذا الحب في السنابل إلى الآن لم يحصل له، يعني: كانوا يضعون الحب في السُنبل في الجرين، ثم يأتون بدابة قديمًا، وتدوس هذا الحب، حتى يتخلص من سُنبله، ثم بعد ذلك يُعرف مقداره بالكيل، يُكال، فهذا الآن وهو في سُنبله إذا بيع بجنسه؛ فإن التماثل غير مُتحقق.

قال: وغيرها داخل إما في الربا -الربا مثل ما سبق في هذه الأموال الربوية- وإما في الميسر، وكلاهما ظلم، قلنا: مثل ما لا يُعلم وجوده من عدمه، بيوع الغرر هذه، فهذا كله باطل.

كلاهما ظلم، وأكل للمال بالباطل، حتى لو قال: أنا راضي؟ حتى لو قال أنا راضي.

"قوله ﷺ: مطل الغني ظُلم، وإذا أُتبع أحدكم على مليء؛ فليتبع[2] من جوامع الكلم جُمع فيه بين حُسن الوفاء، وحُسن الاستيفاء، ونهى عما يُضاد ذلك، فأمر الدين بالوفاء، ونهاه عن المطل، وبين أنه ظالم إذا مطل، وأمر الغريم بقبول الوفاء إذا أُحيل على مليء، وهذا كقوله: فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178] أمر المُستحق أن يُطالب بالمعروف، وأمر المدين أن يؤدي بإحسان"؟

 وبهذا تنتفي الخصومات، والشجار الذي يقع بين الناس، فإن ذلك يحصل إما من جهة من بيده من عليه الحق، فيُماطل، وإما من جهة صاحب الحق، فيتمنع، ويكون عنده شيء من الجفاف في المُطالبة، أو العُسر في التعامل، ومن ثم فلا يقبل الإحالة مثلاً إذا أُحيل على مليء.

لو أُحيل على مُفلس، أو على مُماطل؛ فيحق له أن يمتنع؛ لأن المُماطل حينما يُحيله على مثله؛ فإنه لا يستوفي الحق، وإنما يضيع بين هؤلاء المُماطلين، أو أحاله على مُفلس؛ فلا يحصل له الحق، وإنما المقصود أن يُحال على مليء غير مُماطل، فينبغي أن يكون هينًا لينًا في تعامله، وقد جاء في ذلك ما تعلمون رحم الله رجلاً سمحا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى[3] قال: وأمر المدين أن يؤدي بإحسان.

"الأعيان التي تُستخلف شيئًا بعد شيء بمنزلة المنافع على الصحيح".

 الآن الأعيان التي تُستخلف شيئًا بعد شيء بمنزلة المنافع على الصحيح، الآن المنافع لو أنه أعطاه هذا الكأس، وقال: دعه عندك تستعمل هذا الكأس، أو أعطاه هذه الساعة، وقال: هذه عارية لك تستعملها، وتنتفع بها، ثم بعد ذلك ترد هذه الساعة عليّ، أو هذا الإناء ترده عليّ، أو هذا الكتاب تقرأ به، يُعيره الكتاب، ثم يرده عليه، فهذا كله من إعارة المنافع، ومثل هذا لا يتضرر به صاحبه عادة، ويدخل في قوله -تبارك وتعالى-: وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:7] يعني: لو امتنع، إلا الكتاب فإنه قد يحتاج إليه، ثم بعد ذلك يطول مُكثه، أو قد لا يتعامل معه بطريقة صحيحة هذا الإنسان، وأصحاب الكتب، والذين يهتمون بالكتب لربما لا يتحملون إذا رأوا في الكتاب شيئًا، فلربما شُق أظفر الواحد منهم، ولا تُشق من الكتاب ورقة، ولربما كان وقوع الحبر على ثوبه أسهل بكثير من وقوعه على ورقة في الكتاب، وهذا معروف، فبصرف النظر عن بعض الصور والأمثلة، هذا فيما لا يحصل منه ضرر، ولا يفوت منه شيء، لكن هناك أشياء، نوع آخر من الإعارة، إعارة المنافع يحصل منه انتفاع بوجه آخر، استهلاك نسميه اليوم، لو أنه أعاره، أو أعطاه منيحة عنز مثلاً، بهيمة يحلبها، وأبقاها عنده لينتفع بها، ولم يُملكه إياها، فهذا هنا يقول شيخ الإسلام: الأعيان التي تُستخلف شيئًا بعد شيء بمنزلة المنافع على الصحيح، تُستخلف شيئًا بعد شيء، الآن لاحظ ما الفرق بين إعارة الإناء، والسكين، والقدوم، والقِدر، وبين إعارة، أو منيحة العنز؟ في فرق أليس كذلك؟

هذه لا تنقص الإناء، أما البهيمة فإنه يحصل منها إدرار للبن، فيكون اللبن لهذا الذي قد مُنح، فهذه صورة، لو أنه منحه نخلة في بيته، أو في بُستانه، وقال: هذه النخلة تكون عندك، تأخذ ثمرها، وتنتفع به أنت، وعيالك، فهنا الآن يجني منها الثمر، أعطاه شجرة مُثمرة، ففي هذه الحال.

لاحظ الآن هذا كله يقول شيخ الإسلام: بمنزلة المنافع على الصحيح، أعطاه شقة، أو أعطاه دبلوكس، أو أعطاه دارًا، وقال له: هذه تسكنها، فهذه من المنافع، والشجرة التي يأخذ منها الثمر بمنزلة المنافع، لاحظ مع الفرق، والماشية التي يأخذ منها اللبن بمنزلة المنافع، مع تفاوت هذه الصور، إلا أن الحكم فيها في النهاية واحد، فهذا معنى كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- الأعيان التي تُستخلف شيئًا بعد شيء بمنزلة المنافع على الصحيح.

"من الأصول أن تُقاس مسائل النزاع على مسائل الإجماع، ومن عكس؛ فقد غلط غلطًا فاحشًا، كما تُوضح المسائل الغامضة بتمثيلها وتشبيهها على المسائل الواضحة، وكما يُرد المُتشابه على المُحكم؛ ليصير الجميع مُحكما".

 هنا شيخ الإسلام -رحمه الله- يرد على الأحناف، وجاء هذا الكلام في سياق الرد عليهم، فعلى سبيل المثال، الأحناف يتكلمون في الماء الذي يُصب على النجاسة، هذا الماء الذي يُصب على النجاسة الآن الذي يُلاقي النجاسة يُعتبر قليل، أم كثير؟ قليل.

حينما يُلاقي الماء القليل للنجاسة ما الذي يحصل له في الأصل؟ في بادي الرأي أنه يتنجس، طيب إذا كان كل جزء من هذا الماء يُلاقي هذه النجاسة يتنجس إذًا كيف تطهر، وكيف يُطهرها الماء، وإنما يتنجس هذا الماء بمُجرد ملاقاة هذه النجاسة، مسألة نجاسة الماء حينما يُلاقي، تنجس الماء إذا لاقى النجاسة، هي مسألة مُختلف فيها، لكن عندنا أصل مُتفق عليه، وهو أن النجاسة تزول بزوال عينها، وأن الماء يُطهرها بالإجماع[4] إجماع الصحابة -، وسلف الأمة، أجمعوا على أن الماء، والنبي ﷺ قال: دعوه، وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء[5] فدل على أن الماء يُطهر النجاسات، فهذا أمر مُجمع عليه.

لاحظ هنا يقول: من الأصول أن تُقاس مسائل النزاع على مسائل الإجماع، لا العكس، فعندنا هنا المُتفق عليه أن الماء يُطهر، فحينما نجد الخلاف في الماء الذي يُلاقي النجاسة، هل ينجُس، أو لا ينجُس؟ نرجع إلى الأصل المُتفق عليه حتى ننحل، وننفك من هذا الإشكال، فنقول: هذه المسألة المُتنازع عليها؛ لأنه ليس محل اتفاق أن هذا الماء ينجُس، بعض أهل العلم يقول: ما ينجُس، ولا عليه دليل، وإنما قد ينجس أوله؛ إذا لاقى النجاسة، لكن النجاسة تتحلل، وتتلاشى شيئًا بعد شيء، حتى تزول، فيكون هذا الماء طاهرًا، فبعض أهل العلم يقول: نحن لا نُقر أصلاً بأن الماء ينجس بمُجرد مُلاقاة هذه النجاسة حينما يُصب عليها، فهذا مسألة مُتنازع فيها الآن، فكيف ينحل هذا الإشكال؟

نرجع إلى الأصل المُتفق عليه، ونقول: بالاتفاق، بالإجماع أن الماء يُطهر النجاسات، وإلا إن لم يُطهرها الماء إذًا لم يُطهرها شيء، اختلفوا في الشمس، اختلفوا فيما لو صُب على النجاسة شيء من الطاهرات غير الماء، وزال عين النجاسة، لو أنها تحللت، وتحولت إلى شيء طاهر كالملح، ونحو ذلك، والخمر تستحيل خلاً على القول بأنها نجسة العين.

لكن هنا الماء بالاتفاق أنه يُطهر النجاسات، فإذا كان كذلك؛ رجعنا في المُختلف فيه إلى المُتفق عليه، لا أن يُجعل المتفق عليه، وهو أن الماء يُطهر النجاسة عُرضة للقيل، والقال، والأخذ، والرد بسبب الاختلاف في مسألة مُختلف فيها، وهي هل مُلاقاة الماء للنجاسة يُنجس الماء، أو لا يُنجسه، وهل يُطهرها، أو لا يُطهرها، لا، هذا النظر الصحيح.

"الإحسان إلى المُحتاجين، كأبناء السبيل، والفقراء، والمُحتاجين، والأقارب المُحتاجين من الواجبات، ومن أصول الشرائع التي بها قيام مصلحة العالم، فإن الله لما قسم عباده بين غني وفقير، ولا تتم مصلحتهم إلا بسد خَلة الفقراء، فأمر بالصدقة وحرم الربا الذي يضر بالفقراء".

 هذا الكلام واضح، وذكره -رحمه الله- في سياق مُعين، لكن يتضح بدونه.

هو يقول -في المسألة السابقة-: عندنا ظلم، وعندنا عدل، وعندنا فضل وإحسان، فالظلم الربا، والعدل البيع يأخذ مقابل السلعة، والفضل والإحسان الذي هو الصدقة والهبة والهدية، وما شاكل ذلك، هذا هو المُراد، هو يتحدث عن هذه القضايا.

فيقول: الإحسان إلى المُحتاجين هذا النوع الثالث الذي هو الفضل، فبدأ يتحدث عنه، هذا الإحسان تارة يكون واجبًا، يعني: أنه ليس بمعاوضة هذا المقصود، لا مُحرمة، ولا مُباحة، تارة يكون واجبًا، وتارة يكون مُستحبًا.

"أسباب الرد في المعاوضات ثلاثة: العيوب، وفقد الصفات المشروطة لفظًا أو عُرفًا، والتدليس، وتفاصيل هذا الأصل كثيرة جدًا".

 هو قال هذا أيضًا في سياق الرد على الأحناف، هم يتكلمون على خلاف الأصل، تذكرون نحن قلنا: إن الأحناف يردون بعض النصوص الواضحة الصريحة أحيانًا بحجة أنها خلاف الأصول، مثل: رد حديث المُصراة باعتبار عندهم أنه يُخالف الأصول، يعني: يُخالف القياس مثلاً، فالشاهد: أن شيخ الإسلام يرد عليهم، ويُبين أن هذا ليس بخلاف الأصل، أو الأصول، وأنه موافق للقياس، وأهل العلم ردوا على هؤلاء أيضًا بردود معروفة، وقد مضى بعض ذلك، فهؤلاء الأحناف يتكلمون مثلاً على مسألة المُصراة، يقولون: هذا على خلاف الأصول حديث المُصراة أنها تُرد، وصاع من تمر، فيقولون: هذا خلاف الأصول، لماذا؟

يقولون: لأن الرد يرجع إلى أمرين، انظر الأول والثاني الذي ذكره شيخ الإسلام يقولون: إما بسبب العيب، وإما فقد الصفات المشروطة لفظًا أو عُرفًا، فبيع المُصراة ليس من ذلك، شيخ الإسلام يقول: لا، باقي ثلاث يحصل به الرد ما ذكرتموه، ما هو؟

التدليس، جاء بهذه حافلة الضرع، ثم بعد ذلك تبين أن هذا لا حقيقة له، أنه فيه تدليس، فهذا يوجب الرد، وهذا ما يُسمى بطريقة، يعني: أحيانًا الأقسام الذي يسمونه التقسيم لا بد من استيفاء جميع الأقسام، أو الأنواع، أو الصور، أو الأوصاف، فأحيانًا تُذكر بعض الأوصاف، ثم يأتي الحكم بناء عليها، وهناك أوصاف أخرى، أو أنواع أخرى لم تُذكر، فيأتي الكلام ناقصًا، فهذا يُشبهه هنا، قالوا: الرد إما أن يكون للعيب، أو لفقد بعض الصفات المشروطة، والمُصراة ليست من هذا، يقول لهم شيخ الإسلام: هذا الاعتراض على مسألة التقسيم السبر هو الاختبار، على مسألة التقسيم: أن يُبدي المُعترض وصفًا زائدًا، يقول: الحصر عندك ناقص، باقي واحد، أن يكون الرد لأحد أمور ثلاثة، أنت ذكرت اثنين، بقي التدليس، فهذه طريقة صحيحة في المُعارضة عند الأصوليين، وأصل ذلك عند أهل المنطق.

"إدراك الصفات التي رتب الشارع عليها الأحكام على الوجه التام، ومعرفة الحكم والمعاني التي تضمنتها الشريعة من أشرف العلوم، فمنه الجلي الذي يعرفه كثير من الناس، ومنه الدقيق الذي لا يعرفه إلا خواصهم، وهذا ونحوه مما يُعرف به كمال الشريعة وموافقتها لمصالح العباد في معادهم ومعاشهم في أمورهم الكلية والجُزئية".

 هذه المسألة لها تعلق، وذكرها في سياق قضية مُهمة جدًا ذكرتها في مناسبة سابقة، لكن لما كان في نفس السياق، ونفس القضية أذكر هذا السياق ليُفهم هذا الكلام بصورة واضحة، إدراك الصفات التي رتب الشارع عليها الأحكام، على الوجه التام، ومعرفة الحِكم والمعاني التي تضمنتها من أشرف العلوم منه الجلي، ومنه الدقيق.

يقول في مجموع الفتاوى في المُجلد رقم عشرين صفحة 567 يقول: "وبالجُملة فما عرفت حديثًا صحيحًا -هنا يرد على الأحناف في مسألة أن هذا يُخالف الأصول، رد عليهم في مواضع، هذا أحد المواضع- يقول: فما عرفت حديثًا صحيحًا إلا ويمكن تخرجه على الأصول الثابتة، وقد تدبرت ما أمكنني من أدلة الشرع، فما رأيت قياسًا صحيحًا يُخالف حديثًا صحيحًا -هذا كلام مُهم- كما أن المعقول الصريح لا يُخالف المنقول الصحيح، بل متى رأيت قياسًا يُخالف أثرًا فلا بد من ضعف أحدهما، لكن التمييز بين صحيح القياس، وفاسده مما يخفى على كثير من أفاضل العُلماء فضلاً عمن هو دونهم"، هذا مُهمة جدًا، ذكرنا فيه الكلام على درأ التعارض، كلام شيخ الإسلام في أهل الكلام أنهم يقولون: إن هذا يُخالف المقاييس العقلية، يُخالف القواعد، يُخالف الأصول المُقررة عندهم، شيخ الإسلام يقول: هذه المقاييس العقلية التي عندكم، هذه الأصول التي عندكم هي أصلاً غير صحيحة، هي باطلة، وتذكرون ناقشهم في عدد منها، وبين أن هذا غير صحيح، أو أن هذا ناقص، أو لا؟

فهذا في غاية الأهمية، يعني: هم يقولون: هذا يُخالف الأصل المُقرر عندنا، ما هو هذا الأصل المُقرر عندك؟! الأصل أصلاً أحيانًا يكون فاسدًا، فتنبه لهذا.

يقول: فإن إدراك الصفات المؤثرة في الأحكام -هذا الكلام الذي هنا- على وجهها، ومعرفة الحِكم، والمعاني التي تضمنتها الشريعة من أشرف العلوم، فمنه الجلي الذي يعرفه كثير من الناس، ومنه الدقيق الذي لا يعرفه إلا خواصهم، فلهذا صار قياس كثير من العلماء يرِد مُخالفًا للنصوص، يقول: هذا يُخالف القياس، نقول: أصلاً قياسك غلط، قياس هذا غير صحيح لخفاء القياس الصحيح عليهم كما يخفى على كثير من الناس ما في النصوص من الدلائل الدقيقة التي تدل على الأحكام، هذا مُهم، فمن أراد أن يُراجع فشيخ الإسلام هو ناقشهم في خصوص هذه المسائل، يعني: مسألة مسألة، يعني: مثلاً مسألة المُصراة، تكلم عليها، وأنها توافق الأصول، ورد على الأحناف بردود مُفصلة، يعني: ما هو كلام مُجمل فقط، لا، كل قضية يقولون: تُخالف الأصول، نقاشهم فيها، ومثل هذا لو أنه جُمع من كلام شيخ الإسلام، وكلام غير شيخ الإسلام أيضًا، وكُتب فيه في رسائل جامعية، أنا أستغرب من الإخوان الذين يرسلون رسائل، أو يتصل، يقول: أُريد موضوعًا أكتب فيه، هذه صعبة الكلمة هذه، أنا لا أجرؤ عليها، أقول لأحد: أعطني موضوعًا، ما يصح هذا، يعني: طالب العلم أصلاً دائمًا يقرأ، فهو يقرأ؛ تنبعث في نفسه مسائل وقضايا يرى أنها بحاجة إلى دراسة، وكذا، نحن، ونحن نقرأ الآن، تخرج موضوعات، نرى أنها بحاجة إلى جمع، إلى رصد، إلى دراسة، إلى مُعالجة، فطالب العلم يقرأ، لكن أنا لا أعرف كيف يحصل مثل هذا لطالب علم؟

لكن وجدت جوابًا قريبًا قبل حوالي ثلاثة أيام، حل عندي هذا الإشكال، يعني: قال لي أحد المشايخ: السبب في ذلك -وهو جواب واضح، أنا ما كنت أعرف هذا الجواب وأتساءل- قال: السبب أن هذا الجيل كثير منهم هم يقمشون عن طريق الموسوعات، الموسوعة الشاملة، أو غيرها، فهو إذا أراد مسألة طلعها من الشاملة، وانتهى، فهم لا يجردون الكتب، ولا يدرسون العلم بالطريقة التي درس فيها الجيل السابق، ومن ثَم فهذا التقميش لا يولد له المسائل، وإنما هو مُرتاح، فقط المسألة التي يُريدها، الحكم على هذه القضية، على هذا الحديث، أقوال العلماء في المسألة الفلانية، انتهينا، فقط، لكن، وهو يقرأ يدرس العلم، يدرس الكتب، يجرد المطولات؛ تخرج له مسائل كثيرة جدًا، ففي المجلس الواحد ممكن أنه فقط بلحظات يُريد لك خمسة، ستة، سبعة ثمانية موضوعات عشرة موضوعات فقط من الخاطر، فكيف يقول الإنسان: أنا لا أعرف، ليس عندي موضوع، أريد موضوعًا، لا، اقترح موضوع، اكتب خِطة، ثم قل: ما رأيكم في هذا الموضوع، وهذه الخطة؟ هل هي مناسبة؟ عليها تعديلات؟ عليها اقتراحات؟ أعطوني موضوعًا، هذا ما يصح.

"كل من اشتغل بالأمور الضارة، فهي مع ضررها تصد عن الأمور النافعة".

 نعم، يقول: كل من اشتغل بالأمور الضارة، فهي مع ضررها تصد عن الأمور النافعة، هذه الأمور الضارة على، يعني: عندنا الأشياء شيخ الإسلام يتكلم على قضايا مُتعددة، الأمور الضارة، يعني: مثلاً اليهود وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [البقرة:102] اشتغلوا بالسحر، فكان ذلك على حساب ماذا؟ على حساب اتباع الكتاب المُنزل، والعمل بمُقتضاه، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- تكلم على هذا في القواعد الحِسان، وذكر له أمثلة جيدة القواعد الحِسان، كل من أعرض عما هو بصدده ابُتلي بالاشتغال بضده[6].

فهؤلاء الذين مثلاً الآن كل من اشتغل بالأمور الضارة، فهي مع ضررها تصد عن الأمور النافعة، شيخ الإسلام يذكر صورًا، وأمثلة، الذي يلعب بالشطرنج، والنرد، قد جاء النهي عن النرد، وقد يُلحق به الشطرنج، سواء كان على معاوضات، أو لم يكن، يعني: مُجرد لعب، فشيخ الإسلام يقول: حتى لو لم يكن في نفسه مُحرمًا، يعني: من غير مُقابل، فإنه إذا كان يشغل عن ذكر الله، وعن الصلاة فإنه يحرم لذلك، يعني: كل ما ألهى، حتى لو كان في نفسه من قبيل المُباح؛ لأنه يكون على حساب شيء آخر، بل الشاطبي، يعني: ذهب إلى ما هو أبعد من هذا، الشاطبي يرى أن كثرة الذهاب إلى أماكن النُزه أن ذلك يكون سببًا لسقوط العدالة، وبه تُرد الشهادة[7] لاحظ مع أنه أمر مُباح، يعني: هو يقول الشاطبي: الذي يذهب لكي يتنزه كثيرًا، يُكثر، كلما بحثت عنه هو ذاهب إلى استراحة، ذاهب إلى بر، ذاهب إلى حديقة، ويتمشى، كل يوم وهو طالع، ذاهب إلى الكورنيش في الأوقات التي لا يكون فيها أحد، يعني: يُكثر من هذا جدًا، فهذا يكون على حساب الأمور النافعة، معنى هذا أن هذا إنسان مُفرط، ومُضيع، وتغلب عليه الغفلة، لكن مثل هذا إنما يطُلب كالملح في الطعام للترويح، لشيء من تجديد النشاط، ويستعيد همته، فهذا لا إشكال فيه، لكن يتحول هذا إلى أصل فهذا غير صحيح، كل من اشتغل بالأمور الضارة فهي مع ضررها تصد عن الأمور النافعة، يعني: هو في نفسه.

يعني: الآن مثلاً الخمر والميسر كما قال الله : إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90] ثم ماذا قال؟ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة:91] لاحظ الخمر بالسُكر، والميسر ليس بالسُكر، ولكن بهذا الاشتغال الباطل، فهو اشتغال بمُحرم، شيخ الإسلام يقول: اشتغال بمُحرم، وكذا لو اشتغل بمُباح يُلهيه عن ذكر الله فإنه يكون بهذا من قبيل المُحرم، كل من اشتغل بالأمور الضارة فهي مع ضررها تصد عن الأمور النافعة، يعني: فيها الحرام، الإثم في نفسها، وكذلك أيضًا تشغله عما هو بصدده من الأمور النافعة.

"إذا كان سبب السكر محظورًا لم يكن السكران معذورًا".

إذا كان سبب السُكرِ محظورًا لم يكن السكران معذورًا، طبعًا شيخ الإسلام ذكرها في سياق مُعين، لكن لا بأس أن أوسع المعنى، إذا كان سبب السُكر محظورًا؛ لم يكن السكران معذورًا، سبب السُكر شرب الخمر، فلما شرب الخمر صار يُتلف أموال الناس، ويصدمهم بسيارته، وما إلى ذلك، فهل جناياته هذه مُغتفرة؟

الجواب: لا، سبب السكر محظور، شرب الخمر، إذا كان سبب السُكر محظورًا؛ لم يكن السكران معذورًا، على خلاف هل يقع طلاق السكران لو صدر منه كفر هل يكون مرتدًا، أو لا، لكن المقصود أنه ليس في كل الصور، والحالات أن يُقال: إن ذمته بريئة؛ لأن العقل قد ارتفع، ورُفع القلم عن ثلاثة، فهذا في حُكم المجنون، غير مؤاخذ، يُقال: لا، لأن سبب السُكر محظور، لكن لو كان ذلك وقع له بسبب غير محظور، مثل ماذا يقع له سُكر بسبب غير محظور؟

هذا يقع حسًا ومعنى، حسًا مثل ماذا؟ مثل لو أنه دخل في مكان في مصنع، في كذا، ففيه غازات تسربت، تُسبب لمن وجد في هذا المكان السُكر مثلاً، وصار سكرانًا، فهو معذور، لو أنه تعاطى شيئًا لا يعرفه، ذهب إلى بلاد الكفار، ووجد أنواع من الحلويات، فيها كحول، كما هو معروف، وهو لم ينتبه لهذا، ولم يخطر له على بال، فأعجبته، وصار يأكل منها، ويُكثر، حتى سكر، فهذا معذور، أليس كذلك؟

لو أنه شرب شرابًا، وهو لا يعلم، فتبين أن هذا الشراب مُسكر، كان يظنه عصير تُفاح مثلاً، فتبين أنه خمر، فلم يعلم، فسكر، فهو معذور، هذه صورة حسية، الصورة التي يتكلم عنها شيخ الإسلام غير هذه مع أن هذه داخلة فيه، إنما أردت أن أُقرب المعنى، شيخ الإسلام يتكلم عن الصوفية، وما يحصل عندهم من التخليط أحيانًا، فهو يتكلم عن حالة الفناء، فيعتذر لبعضهم أنه قد يحصل له مثل السُكر، بسبب المحبة التي تغلبه، محبة الله ، فيحصل له مثل السُكر، كأنه قد فقد العقل، ثم بعد ذلك يبدأ يتكلم بكلام لا يُقر عليه شرعًا، فيقول: من كان مغلوبًا، غُلب على عقله بسبب هذا السُكر الذي لا يد له فيه، فهو معذور، بصرف النظر عن الأمثلة.

هذا كلام شيخ الإسلام عن هؤلاء الصوفية الذين لربما يدعي الواحد منهم أنه لغلبة المحبة يصير إلى حال تُشبه السُكر، أو سُكر، حتى قيل: إن أحدهم وقع في الماء -ليس بأحد من الصوفية- أن أحد الأشخاص، يعني: كيف أن المحبة تفعل، فهذا يُحب آخر، هذا غير محبة الله لكن مثال للتقريب، وقع في الماء، فالآخر وقع مُباشرة بعده، فسئل ما الذي أوقعك في الماء؟

قال: وقعتَ، فوقعتُ، فظننتُ أنك أنا، وأني وقعتُ، يعني: هو الآن غاب عن شهوده بمشهوده، فوصل إلى مرحلة كما يُقال الفناء، يعني: هذا الله أعلم بحال هؤلاء، لكن هذا المُراد، الصحابة والنبي ﷺ الله أحب إليهم من كل شيء، وما كان يحصل لهم مثل هذا الهذيان.

"الولي لله كل مؤمن تقي، وارتكاب الولي المحظور متأولاً، أو عاصيًا لا يُخرجه عن ولاية الله، ولا يمنع الإنكار عليه، فإن تاب؛ رجع إلى ولايته، وإلا نقص من إيمانه وولايته بحسب ما ترك من المأمور، أو تجرأ على المحظور".

يعني: الله يقول: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] من هم؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] فبقدر ما يكون عند العبد من الإيمان والتقوى يحصل له من ولاية الله -تبارك وتعالى-، فهذه الولاية تزيد وتنقص بحسب زيادة مُتعلقها؛ لأن الحُكم المُعلق على وصف زيد بزيادته، وينقص بنقصانه أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63] فبقدر ما يكون عند العبد من الإيمان والتقوى يحصل له من ولاية الله وليس المقصود أن يكون معصومًا، فالناس يتفاوتون، السابقون بالخيرات يتفاوتون، فكيف بالمُقتصدين، ولهذا يُقال: بأن هذا الذي يكون من أهل هذه الصفة؛ من الذين آمنوا وكانوا يتقون إذا حصل منه وقوع في المُخالفة متأولاً أو جاهلاً فإن ذلك لا يؤثر في ولايته، فإن كان على سبيل المعصية؛ نقص من ولايته بحسب ذلك، فإن تاب؛ رجع إلى حاله، فهذه أمور، يعني: حتى الأشياء المكروهة، كما ذكرت في دروس التوبة في الأعمال القلبية: أن هذا يُتاب منه المكروه، وأن الناس في هذا مراتب، وأن التوبة تنفع فيه، وذكرت لهذا حديث عِمران بن حصين -رضي الله تعالى عنه- أنه كان يُسلم عليه، يعني: تُسلم عليه الملائكة، وأنه أُصيب بمرض، وصبر عليه، جلس نحو أربعين سنة، ثم بعد ذلك اكتوى، فلما اكتوى -مع أن الكي ليس بمُحرم لكنه مكروه- لم يعد ذلك يقع له، لم يحصل له تسليم[8] يعني: من الملائكة، مع أنه ما فعل مُحرمًا، لكن الكي نقص في، يعني: هو فعل لشيء مكروه، تعذيب بالنار تنقص مرتبة العبد، وإن كان من السابقين بالخيرات، فهم على مراتب، فتاب، لاحظ هذا يدل على أن حديث السبعين ألف أن من وقع في شيء من هذا أنه يمكن أن يتوب، ويرجع إلى حاله الأولى، فتاب، فرجع ذلك إليه، صار الملائكة تُسلم عليه، مع أنه ما فعل شيئًا مُحرمًا، فإذا كان هذا في المكروه؛ فهكذا يُقال أيضًا في المحرم، يعني: التوبة يرجع إلى حاله، وقد يرجع إلى ما هو أفضل من حاله، ومرتبته كما ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في أحوال الناس بعد المعصية؛ منهم من يرجع إلى حاله الأولى، ومنهم من يكون أفضل؛ لأنه يشعر أن هذا الذنب يُلاحقه فيزيد في العمل الصالح فيرتقي في سُلم العبودية[9].

"إذا علمنا استحقاق كل واحد من الأشخاص، وجُهل المقدار، فالأصل أن يُقسم بالسوية، وإن عُلم أن المستحق أحدهما، أو أحدهم دون الآخر، وجهلنا، أو انبهم علينا؛ أُعملت القرعة في العبادات، والأموال، والحقوق، والعِتق، والطلاق، وغيرها".

 الآن إذا علمنا استحقاق كل واحد من الأشخاص، وجُهل المقدار، فالأصل أن يُقسم بالسوية، الآن هذه أشياء وردت، ولم نستطع التأكد والتحقق ما لكل واحد من هؤلاء الذين جيء بهذا الطعام لهم مثلاً، أو بهذا المال، قيل مثلاً: هذه عشرة آلاف تُعطى لفلان، وفلان، وفلان، ولا نعرف كم يُعطى هبة، ولم نستطع التوصل إلى هذا المصدر الذي جاء بها، فماذا يُفعل في هذه الحال؟ تُقسم بينهم بالسوية.

هذا إنسان أرسل طعامًا، أرسل عشرة أكياس من البُر، أو الرُز، أو نحو ذلك، وقال: هذه لبيت فلانٍ، وبيت فلانٍ، وبيت فلانٍ، وبيت فلانٍ، وسمى ثلاثة أبيات مثلاً، وهذه عندنا عشرة أكياس، ولا نعرف ما مقدار، أو ما الذي يُعطى لكل واحد، لكل بيت، ففي هذه الحال يُقسم بالسوية، إذا ما أمكن الرجوع إليه.

استحقاق كل واحد من الأشخاص، وجُهل المقدار؛ فالأصل أن يُقسم بالسوية، وإن عُلم أن المُستحِق أحدهما، أو أحدهم دون الآخر، وجهلنا، أو انبهم علينا، ما نعرف من هو هذا المُستحق؛ أُعملت القُرعة في العبادات، والأموال، والحقوق، والعِتق، والطلاق، وغيرها.

الآن هذا الإنسان، علمنا أن زيدًا من الناس، أو فلانًا طلق واحدة من نسائه الأربع، ونسي من هي التي طلقها، وأعتق واحدًا من مماليكه، ونسي من هو، أو أنه قال ذلك لأحد الأشخاص، ثم توفي، وهذا قال: أنا نسيت، أو أنه كتب ذلك في ورقة، ثم انمزق، أو تلف، أو أكلته الأرضة الاسم الذي فيه هذا المُطلق، أو المُعتق فما الحكم؟

القُرعة؛ لأن القُرعة تكون في الأشياء، أو في الحقوق المُتساوية، فيُجرى قُرعة بين المماليك، من ظهرت له القُرعة؛ فهو حُر، قُرعة بين الزوجات من ظهرت لها القُرعة؛ فهي تطُلق، وقل مثل ذلك هنا يقول: انبهم علينا، أُعملت القُرعة في العبادات، والأموال، والحقوق، والعتق، والطلاق، وغيرها.

الآن الأموال التي للناس، شيخ الإسلام يذكر مثل هذا في سياق مُعين، هذا إنسان صاحب غزل وصوف، والناس يأتونه بالصوف، ويأتونه بالثياب؛ ليُصلحها، أو ليغزل لهم، وينسج، وما إلى ذلك، ففوجئوا أنه قد أقفل المحل، وذهب، ولا يُدرى أين ذهب، فُفتح المحل، فلما فُتح؛ وجدت أشياء، فشيخ الإسلام يقول: هذه الموجودات أنواع، فما ثبت لأحد بعينه، يعني: ثوب يعرفه، هذا ثوب فلان، فيأخذه، ولا يجوز لأحد أن يأخذ مال غيره؛ ليستعيض عن ماله، لو قال واحد مثلاً من الناس: أنا دفعت له ثلاثة آلاف ريال على أن يغزل لي ثوبًا، أو ينسج، أو نحو ذلك، أو أن يشتري لي صوفًا، فيغزل، أنا أريد أن أخذ مُقابل هذا من الصوف الموجود، ومن الثياب، يقول: لا يجوز أن يأخذ من مال غيره، فهذه الثياب المُعينة المعروفة لأصحابها هي لهم.

هناك أشياء يقول: كُتب عليها أسماء، أو علامات لأصحابها، فيأخذونها، أشياء مُعينة، هناك أشياء لا تتميز، وجد هذا الصوف مُجتمعًا، ولا أحد يستطيع أن يُميز صوفه من صوف غيره؛ ففي هذه الحال، ولا يُعرف مقدار ما لكل واحد، فيُقسم بين هؤلاء بالسوية، يمكن أن يأخذ، أو يأخذ، ويحلف أن له من هذا الصوف؛ لأنه لا يوجد له اسم، ولا عنده أحد يشهد أن هذا الثوب له، هذا صوف الآن، مفتول، فماذا يفعل؟ يُقسم بينهم بالسوية.

"أمر الله المؤمنين بأمرين يجمعان الخير كله: بالتقوى التي مدارها على تصديق الله ورسوله وطاعة الله ورسوله، وبالقول السديد؛ وهو المُطابق الموافق، فإن كان خبرًا؛ كان صدقًا مُطابقًا لمُخبره، ولا يزيد ولا ينقص، وإن كان أمرًا؛ كان أمرًا بالعدل الذي لا يزيد ولا ينقص".

يعني: الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا [الأحزاب:70] فأمر بالتقوى، وبالقول السديد، يقول: القول السديد، عبارات السلف: القصد، العدل، الحق الثابت، أو ما أشبه ذلك، يقول: هذه كلها لا إشكال فيها، عبارات صحيحة، تؤدي نفس المعنى، وتلتئم تحت هذه الآية وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا [الأحزاب:70] فهنا يقول: هو المُطابق الموافق، فإن كان خبرًا؛ كان صدقًا، وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا [الأحزاب:70] يعني: إذا نقلت خبرًا، أخبرت عن شيء يكون هذا الخبر مُطابقًا للواقع، يعني: صدق، لا يزيد ولا ينقص، يعني: من غير مُبالغات، ولا ينقص منه ما يؤثر في مؤداه، وإن كان أمرًا؛ كان أمرًا بالعدل، يعني: لا يأمر بمعصية الله أو ببدعة، أو بمُخالفة، أو بمُنكر، أمرًا بالعدل الذي لا يزيد ولا ينقص، فيكون الإنسان في ذلك أحواله على السداد في أخباره وأعماله وأقواله، ولهذا الإنسان، يعني: يسأل ربه أن يُسدد لسانه، وأن يهدي قلبه، فإذا كان قلبه مهديًّا؛ كان واقعًا على الحق، مُريدًا له، موفقًا في إصابته، وإذا هُدي اللسان لم يحصل منه شطط في القول، فالعبد بحاجة إلى هذا وهذا، والتقوى يرجع إليها ذلك جميعًا؛ لأن من التقوى: أن تكون أحوال الإنسان على السداد، وأن تكون أقوال العبد أيضًا على الاستقامة والقصد، وإنما يحصل البغي، ويحصل الظلم، ويحصل بسبب التجاوز، تجاوز الحد الذي أمر الله به، فيحصل بسبب ذلك الوقيعة في الأعراض، والغيبة، والبُهتان، والأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف.

  1. أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب، وحلوان الكاهن، ومهر البغي، والنهي عن بيع السنور، برقم (1568).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الحوالات، باب الحوالة، وهل يرجع في الحوالة؟، برقم (2287)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم مطل الغني، وصحة الحوالة، واستحباب قبولها إذا أحيل على ملي، برقم (1564).
  3. أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع، ومن طلب حقا فليطلبه في عفاف، برقم (2076).
  4. انظر: موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي، لأسامة القحطاني (1/539).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يسروا ولا تعسروا)) برقم (6128).
  6. انظر: القواعد الحسان لتفسير القرآن، لابن سعدي (1/96).
  7. انظر: الموافقات، للشاطبي (1/209).
  8. أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب جواز التمتع، برقم (1226).
  9. انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم (1/302).

مواد ذات صلة