الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
[2] من قوله: "ألا ترون رحمكم الله.." إلى "من خلافة عثمان إِلى إِمْرَةِ الحجاج"
تاريخ النشر: ١٦ / شعبان / ١٤٣٦
التحميل: 7388
مرات الإستماع: 5953

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:

قال الإمام الآجُرِّي -رحمه الله تعالى: أَلا تَرَوْنَ -رَحِمَكُمْ اللهُ- إِلَى مَوْلاكُم الْكَرِيْم كَيْفَ يَحُثُّ خَلْقَهَ عَلَى أَنْ يَتَدَبَّرُوا كَلامَهُ، وَمَنْ تَدَبَّرَ كَلامَهُ عَرَفَ الرَّبَّ ، وَعَرَفَ عَظِيمَ سُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَعَرَفَ عَظِيمَ تَفَضُّلِهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ، وَعَرَفَ مَا عَلَيْهِ مِنْ فَرْضِ عِبَادَتِهِ، فَأَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَاجِبَ، فَحَذِرَ مِمَّا حَذَّرَهُ مَوْلاهُ الْكَرِيْمُ، وَرَغِبَ فِيمَا رَغَّبَهُ فيه.

 وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ عِنْدَ تِلاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ، وَعِنْدَ اسْتِمَاعِهِ مِنْ غَيْرِهِ، كَانَ الْقُرْآنُ لَهُ شِفَاءً، فَاسْتَغْنَى بِلا مَالٍ، وَعَزَّ بِلا عَشِيرَةٍ، وأَنِسَ بِمَا يَسْتَوحِشُ مِنْهُ غَيْرُهُ، وَكَانَ هَمُّهُ عِنْدَ تِلاوَةِ السُّورَةِ إِذَا افْتَتَحَهَا: مَتى أَتعِظُ بِمَا أَتْلُو؟ وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ: مَتى أَخْتِمُ السُّورَةَ؟ وَإِنَّمَا مُرَادُهُ: مَتى أَعْقِلُ عَنْ اللهِ الْخِطَابَ؟ مَتى أَزْدَجِرُ؟ مَتى أَعْتَبِرُ؟ لأَنَّ تِلاوَتَهُ لِلْقُرْآنِ عبادة، والعبادة لا تَكُونُ بِغَفْلَةٍ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ لذلك.

عَنْ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: لا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقْلِ وَلا تَهُذُّوهُ هَذَّ الشِّعْرِ، قِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ، وَلا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ[1].

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقول ابن مسعود : "لا تنثروه نثر الدَّقل"، والمقصود بالدَّقل التمر الرديء اليابس، "ولا تهذوه هذّ الشعر"، بمعنى أن القرآن يُقرأ بطريقة لائقة به، هذا كلام الله -تبارك وتعالى- وهو أصل الهدايات، فيُتعامل معه على هذا الأساس، هذا أشرف الكلام وأجلّ الكلام.

عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ : يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [البقرة:121]، قَالَ: "يَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ"[2].

يتلون كتاب الله بمعنى القراءة، وبمعنى العمل والاتباع والامتثال، هذا نموذج ومثال من كلام السلف في تفسير مثل هذه المواضع بالعمل "يتلونه"، وعرفتم مأخذ هذا، تلا بمعنى تَبِع، فلان يتلو فلاناً بمعنى يتبعه، التالي بمعنى التابع، فهؤلاء تكون تلاوتهم بمعنى القراءة يتلون الحروف والألفاظ، وكذلك أيضاً بالعمل والامتثال.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: وَقَبْلَ أَنْ أَذْكُرَ أَخْلاقَ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَمَا يَنْبَغِي لهم أَنْ يَتَأَدَّبُوا بِهِ؛ أَذْكُرُ فَضْلَ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ؛ لِيَرْغَبُوا فِي تِلاوَتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَالتَّواضُعَ لِمَنْ تَعَلَّمُوا مِنْهُ أَوْ عَلَّمُوهُ.

بَابُ: فَضْلِ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: للهِ مِنْ النَّاسِ أَهْلُونَ، قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟، قَالَ: أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللهِ، وَخَاصَّتُهُ[3].

وفي رواية: أهلين، وفي هذه الصيغة صيغة جمع -أهلون أو أهلين- وهذا مُشعر بالكثرة، أنهم كثير، وفَسر هؤلاء بأنهم أهل القرآن، ومتى يكون ذلك صفة صادقة على الإنسان "أهل القرآن"؟، إذا كان حافظاً له، مقبلاً عليه، مشتغلاً بتلاوته، مكثراً من ذلك، يقرأ كتاب الله -تبارك وتعالى- آناء الليل وأطراف النهار مع العمل به، هكذا حمله بعض أهل العلم؛ من أجل أن يتأهل هذا الإنسان ليكون من أهل القرآن، فالحافظ الذي لا يتدبر ولا يعمل لا يكون من أهل القرآن، والذي يقرأ ويتدبر لكنه لا يعمل لا يكون من أهل القرآن، فهذه الأمور تكون مجتمعة، فهؤلاء هم أهل الله.

أهل الله: أي أولياؤه وخاصته من خلقه، وهذا يدل على مزيد من الاختصاص، كاختصاص أهل الإنسان به فهم أقرب الناس إليه، فهذا يدل على قرب هؤلاء من ربهم -تبارك وتعالى، وعلى قربه -تبارك وتعالى- منهم، ومن كان بهذه المثابة فلا تسأل عن حاله وعن نزول الألطاف به، وعن حفظ الله ورعايته وهدايته وتوفيقه وتسديده وعنايته بهذا العبد، فهو يتقلب في ألطاف الله ، الطريق إلى ذلك هو هذا القرآن، هم أهل القرآن كما قال ﷺ، وذلك يدل على تشريف بلا شك، وتعظيم لهؤلاء، وقد قال بعض أهل العلم: إنه لا يتأهل لذلك إلا من تطهر من الذنوب ظاهراً وباطناً، وتزين بالطاعة فعندها يكون من أهل الله، وأما من لم يكن كذلك كان قلبه مدنساً بالمقاصد الفاسدة من الرياء والسمعة، أو العلل والأوصاب القلبية، وكذلك المدنسات في الأعمال فإن مثل هذا لا يكون بهذه المثابة، لا يصلح أن يكون من الخواص الذين هم أهل الله وخاصته، فهؤلاء الشاردون عن الله -تبارك وتعالى- عن طاعته، هم آبقون على ربهم -تبارك وتعالى- خارجون عن حد العبودية -عبودية الاختيار، فكيف يكون الواحد منهم من أهل الله وخاصته ولو كان حافظاً للقرآن حفظاً تامًّا لا يخرم منه حرفاً، يُقيم حروفه ولكنه يضيع حدوده؟، فمثل هذا لا يصدق عليه مثل هذا الوصف، وقد اتخذ إلهه هواه، والله يقول: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146]، فهؤلاء مصروفون عنها، أما من كان قائماً بما يجب نحو هذا القرآن فيما ذكرته من حفظه وتلاوته وتدبره والعمل به فهؤلاء هم أهله على الحقيقة، وقد كان النبي ﷺ يقدم أهل القرآن في المواطن كما هو معلوم، قدمهم يوم أحد في القبور حيث إنهم دفنوا الرجلين والثلاثة في القبر الواحد، فكان النبي ﷺ يقول: قدِّموا إلى القبلة أكثرهم قرآنًا[4].

فهم مقدمون في الدنيا وهم مقدمون أيضاً في قبورهم وهم مقدمون أيضاً في آخرتهم، فهؤلاء هم أهل الله، والله -تبارك وتعالى- يقول: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة:121]، فحكم بالإيمان أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ، فالعمل لا شك أنه داخل في ذلك مع الإيمان يعملون به، فالتلاوة نوعان كما سبق: تلاوة لفظية وهذه تكون للبر والفاجر، وكما في حديث أبي موسى في المنافق يقرأ القرآن والمؤمن يقرأ القرآن فالنبي ﷺ مثّل حال المنافق الذي يقرأ القرآن بالريحانة، ريحها طيب وطعمها مر[5]، وأخبر النبي ﷺ عن الخوارج أنهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، أو تراقيهم[6]، فهؤلاء يقرءون لكن هذه القراءة ما نفعت.

إذن ليست القراءة بمجردها هي التي تنفع وترفع، ولكن القراءة التي يحصل معها التدبر وذلك لا يحصل إلا بحضور القلب مع حياته مع ما يحتفّ بذلك فإن كان ذلك على الوجه المطلوب فإنه لا شك يورث الأعمال الزاكية، والأخلاق الصالحة، وكذلك أيضاً يُصحح القلب فلا يكون في قلب العبد أدنى التفات إلى غير الله -تبارك وتعالى، فيكون القلب عامراً بمحبته، والخوف منه، ورجائه، والتوكل عليه، ويكون قلبه عامراً بذكره وشكره وما إلى ذلك مما يُطلب في القلوب، فتنطق الألسن بما رسخ في هذه القلوب فلا تسمع منه إلا القول الطيب، والكلام الطيب، وكذلك تزكو الأقلام وهو اللسان الآخر، فلا يكتب إلا ما يُرضي الله -تبارك وتعالى، وتزكو هذه الجوارح فلا يصدر عنها إلا ما يرضيه، فهؤلاء هم أهل القرآن، وما عداهم فقطاع الطريق وإن قرءوا القرآن.

فالتلاوة الثانية هي التلاوة الحُكمية، تلك تلاوة لفظية وهذه تلاوة حُكمية، التلاوة اللفظية هي التي لا تجاوز حناجرهم، وهذه تلاوة حُكمية فتقتضي العمل أعمال القلوب وأعمال الجوارح، وهي التي عليها المعوّل، وهي التي تحصل بها السعادة الأبدية، فهي تلاوة الاتّباع.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -ا، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْتَقِِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا[7].

هنا النبي ﷺ ذكر هذا الوصف: يقال لصاحب القرآن، هذا يقال له عند دخول الجنة وتوجُّه العاملين إلى مراتبهم بحسب أعمالهم ومكاسبهم، أو يقال له إذا دخل الجنة فيرتقي في الدرجات العُلى كما يقوله طائفة من أهل العلم، يقال لصاحب القرآن، من هو صاحب القرآن؟

هو الذي يلازمه بالتلاوة والعمل، لا من يقرأ القرآن والقرآن يلعنه -نسأل الله العافية، فهذا أبعد ما يكون عن هذه الصفة، "يقال لصاحب القرآن" ولا يمكن أن يكون ممن يصح أن يقال له: صاحب القرآن إلا لشدة الملازمة والمصاحبة، لا بد من هذا، أما الذي لا يكاد يقرأ القرآن أو إذا جاء رمضان بحث عن مصحف هنا وهناك، أو جاء إلى إمام المسجد، وقال له: أريد أن أستعير مصحفاً من المسجد؛ لأقرأ في البيت القرآن، هذا يدل على أن هذا الرجل طول العام يعيش بعيداً عن القرآن، ولا أدري كيف يعيش من كان بهذه المثابة -نسأل الله العافية-؟، كيف يأكل؟ كيف يشرب؟ وكيف ينام؟ وكيف يُنجز أعماله وهو بعيد عن مصدر النور والهداية ومصدر الحياة الحقيقية، بعيد عنه؟، فهو جاف، لا تسأل عن وحشته وحسرته وظلمة صدره وقلبه؛ لبعده عن هذا الكتاب الذي هو المنهاج الذي يوصل إلى كل خير في الدنيا والآخرة.

فهنا يقال له: اقرأ وارتقِ، يعني: إلى درجات الجنة، أو إلى المراتب العالية.

ورتل، يعني: أنه يقرأ على ترسُّل قراءة يراعي فيها ما ينبغي مراعاته؛ ليؤدي ذلك بطريقة صحيحة، كما كنت ترتل في الدنيا، لا تعجلْ وتريثْ، فيراعي في ذلك تجويد الحروف ومعرفة الوقوف والترسُّل في هذه القراءة، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها، عدد آيات القرآن بالإجماع يزيد على الستة الآلاف بمائتي آية، ويبقى في ذلك ما زاد على ذلك يختلف فيه العادون باعتبارات معينة لا أن هذا عنده آية غير الآية التي عند الآخر، لا، هم متفقون على ما بين دفتي المصحف، لكن يختلفون في بعض المواضع هل هذه آية واحدة، كما في الفاتحة مثلاً هل البسملة آية منها، أو من كل سورة عدا براءة؟.

وكذلك الآية السابعة أين هي إن لم تكن البسملة منها؟ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، هذا غاية ما هنالك، يعني ليس عند الآخر آية أخرى فزاد العدد، والبسملة على الأرجح من أقوال أهل العلم، وإلى هذا ذهب خاتمة المُقرئين ابن الجزري، وقال به طوائف من أهل العلم ومن المتأخرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وذكره صاحب المراقي أن ذلك بالنظر إلى القراءة، ففي بعض القراءات هي آية من الفاتحة أو من كل سورة عدا براءة، وفي بعضها ليست منها، فيُرجَع في ذلك إلى الرواية كما قال صاحب مراقي السعود:

وبعضُهم إلى القراءة نظر وذاك للوفاق رأيٌ معتبر

فالمقصود أن مثل هذا يقال له: اقرأ وارتقِ، يعني: أكثر من ستة آلاف ومائتي آية.

إذن هذه درجات يتفاوت فيها هؤلاء القراء، ويرتقون بحسب ما معهم من القرآن، فظاهره أن الدرجات تكون بحسب ما معه من الحفظ، فيقرأ حتى ينتهي ما معه من القرآن، إلى آخر آية كان يحفظها، فتكون درجته عند ذلك، ثم ينتهي، هذه درجته في الجنة.

وبعض أهل العلم -وهذا ذكره بعض الشراح كالطيبي -رحمه الله-[8]قال: إن المقصود بذلك الترقي الدائم بمعنى أنه لا يقال له ذلك عند دخول الجنة لأول وهلة مثلاً؛ لتتحدد مرتبته في الجنة كما يقوله الأولون، وإنما يكون ذلك على سبيل الدوام، فهو يقرأ، الجنة ليس فيها تكليف والقراءة تعبُّد، يقال: إنهم يلتذون بذلك، ويُلهَمونه كما يلهمون التسبيح، كما يلهمون النفس، كما تُلهم الملائكة التسبيح، فيكون ذلك من نوع الالتذاذ، فيبقون في الجنة يقرءون القرآن يلتذون بذلك وهم في ارتقاء دائم مع هذه القراءة بلا توقف، ارتفاع مستمر متجدد، فإذا توقف عن القراءة توقفت تلك العطايا والهبات، فإذا عاود القراءة عاد إلى الترقي والارتفاع وجاءه من الألطاف ما لا يقادر قدره، وهكذا، فإذا ختم عاد من جديد ولا يكون ذلك من قبيل الكُلفة والمشقة، وإنما يكون من قبيل النعيم واللذة الذي يكون لهم بمثابة النفس الذي لا يجدون معه أدنى مشقة، فهذا ذكره بعض أهل العلم، فيترقون في المنازل التي لا تتناهى على هذا الاعتبار.  

يعني: هو ترقٍّ غير متناهٍ لا يتوقف عند حد، فهذا القول لا شك أنه أعلى، ويدل على ألطاف أكبر وأعظم، يكون ذلك كتسبيح الملائكة، لا تشغلهم هذه القراءة عن لذاتهم ونعيمهم وما هم فيه من الألطاف والنِّعم بل يكون ذلك من أعظم اللذات.

وذكر آخرون المعنى الأول وهو أنه يتوقف عند آخر آية، وعلى كل تقدير فإن ذلك يدل على منزلة أهل القرآن، وعلى رفيع مراتبهم سواء قيل بالأول أو قيل بالثاني، وقد ذكر بعض أهل العلم كالحافظ ابن حجر -رحمه الله- أنه لا ينال هذا الثواب إلا من حفظ القرآن، وأتقن أداءه وقراءته كما ينبغي له[9]، ثم أورد سؤالاً في حمل ذلك على الحافظ دون الملازم للقراءة من المصحف، يعني: لماذا لا يقال ذلك -صاحب القرآن- للذي كان يلازم قراءته من المصحف؟.

فأجاب عنه: بأن الأصل في الجنة فيما يكون فيها أنه يحكي ما في الدنيا، يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتقِ، فهذا هو الحافظ، ولا يقال له ذلك على سبيل الإطلاق إلا أن يكون كذلك، هذا بالإضافة إلى أمر آخر وهو الملازمة "لصاحب القرآن" مع العمل، والامتثال.

وقد جاء في رواية عند أحمد: يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة: اقرأ واصعد، فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شيء معه[10]، هذا في إسناده ضعف لكنه يتقوى بغيره.

فهنا ظاهر هذا الحديث يدل على المعنى الذي ذكره عامة أهل العلم من أن المقصود بذلك هو: أن درجته في الجنة تكون بحسب حفظه، ويدل أيضاً على أن المراد بذلك الحفظ إلى آخر آية كانت معه، معه: أي محفوظة، كما هو ظاهر اللفظ، والله تعالى أعلم.

وأما الذين حملوا ذلك على المعنى الآخر فإنهم يقولون: إن هذه المنزلة: فإن منزلتك بمعنى ما يكون له من الكرامة ونحو ذلك بحسب حاله من الحفظ والتلاوة التي يشتغل بها وهو في الجنة.

والمعنى الآخر أشهر والقائل به أكثر، ولكن يراعى فيه العمل والتدبر والملازمة وما إلى ذلك؛ ليصدق عليه أنه صاحب القرآن، ولا يكفي الحفظ وحده مع الإعراض عن العمل به وتدبره، وامتثال ما أمر الله -تبارك وتعالى- به، هذا حاصل ما ذكره أهل العلم، والعلم عند الله .

عن عبدالله بن مَسْعُودٍ ، قَالَ: تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ، واتلوه، فَإِنَّكُمْ تُؤْجَرُونَ بِهِ، إِنَّ بِكُلِّ اسْمٍ مِنْهُ عَشْرًا، أَمَا إِنِّي لا أَقُولُ بِـ(الم) عَشْرٌ، وَلَكَنْ بِالأَلف عَشْرٌ، وَبِاللام عَشْرٌ، وَبِالْمِيم عَشْرٌ[11].

وفي لفظ عند الترمذي: من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف[12]، فتأمل قوله ﷺ: من قرأ حرفاً من كتاب الله، ما المقصود بالحرف هنا؟.

الحرف يُطلق بإطلاقات متعددة، يطلق على حرف التهجي، وهي التي يقال لها: حروف المباني، تُبنى منها الكلمات، وكذلك أيضاً يقال: لحروف المعاني مثل: حروف الجر: على ومِن وإلى ونحو ذلك، يقال لها: حروف، ويقال أيضاً ذلك للكلمة: كيف تقرأ هذا الحرف؟، وهنا يحتمل، فما المراد بقول النبي ﷺ: من قرأ حرفاً من كتاب الله، هل المقصود به حرف التهجي؟ أو المقصود به الكلمة سواء كان ذلك من قبيل الاسم أو الفعل أو الحرف الذي جاء لمعنى -حروف المعاني، كما يقول النحاة، كما قال ابن مالك -رحمه الله:

كلامُنا لفظٌ مفيدٌ كاستقمْ واسمٌ وفعلٌ ثُمّ حرفٌ الكَلِمْ

إذن هو اسم وفعل وحرف، ولهذا يقولون: الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، يقولون: الاسم ما دل على معنى في نفسه ولم يقترن بزمن، كزيد.

والفعل: ما دل على معنى في نفسه واقترن بزمن، ذهب في الماضي، يذهب في المضارع، اذهب في المستقبل.

والحرف: ما ليس له معنى في نفسه، ولم يقترن بزمن وإنما هو عندهم للتعدية، أو الربط ونحو ذلك بين أجزاء الكلام، مع أن شيخ الإسلام -رحمه الله- يخالفهم في هذا، ويقول: إن الحروف لها معانٍ في نفسها فـ"في" تدل على الظرفية، و"على" تدل على العلو والارتفاع، ونحو هذا، وهم يريدون بذلك شيئًا آخر[13].

فالمقصود أن الكلام عند النحاة هو هذه الثلاث، فهنا من قرأ حرفاً، هل المقصود به حرف المبنى أو أن المقصود به الكلمة سواء كانت اسماً أو فعلاً أو حرفاً جاء لمعنى؟.

لاحظوا أن النبي ﷺ هنا قال: لا أقول: الم..، فالنبي ﷺ لم ينطق بلفظ الحرف، فإن النبي ﷺ ذكر أسماء الحروف، اسم الحرف يعني حينما تقول مثلاً: "زاء" إذا نطقت باسمه زاي، فزاي هذا اسم الحرف مكون من ثلاثة أحرف، فالنبي ﷺ نطق بأسماء الحروف ألف ثلاثة أحرف، لام ثلاثة أحرف، ميم ثلاثة أحرف، فهذا اسم للحرف، وبناء عليه فإنه قد اختلف أهل العلم في المراد بهذه الأحرف، فذهب بعضهم إلى أن المراد حروف التهجي وهذا الذي عليه الجمهور، حروف المباني، فإذا قلت مثلاً: زيد فهذه مكونة من ثلاثة أحرف.

وبعضهم يقول: المراد بالحرف: الكلمة، وليس المقصود به حرف التهجي، جاء في رواية عند ابن أبي شيبة والطبراني وغيرهما: من قرأ حرفاً من القرآن كُتب له به حسنة، لا أقول: "الم ذلك الكتاب"، ولكن الألف واللام والميم والذال واللام والكاف[14]، هذه رواية لا تخلو من ضعف في إسنادها، ولو صحت لكانت رافعة للخلاف، كانت صريحة، يعني: إذا كان قول النبي ﷺ: الم، يحتمل هل المراد به حروف التهجي أو أن النبي ﷺ نطق بأسماء الحروف فيكون المقصود بالحرف الكلمة يعني، لكن ذلك فالنبي ﷺ لو صح عنه هذا، فقد ذَكر هنا قال: "الذال واللام والكاف" ذلك يدل دلالة صريحة على أن المقصود حروف التهجي، لكن هذه لا تصح.

وكذلك في رواية للبيهقي: لا أقول: بسم الله، ولكنْ باء وسين وميم، ولا أقول: الم، ولكن الألف واللام والميم[15]، الجزء الأول منه "بسم الله" ذكر الباء والسين والميم يدل على أن المقصود حروف التهجي، هذا لو صح.

فأهل العلم مختلفون بناء على وجود الاحتمال، والذي ذهب إليه أكثرهم أن المقصود بالحرف حرف التهجي، وهذا الذي مشى عليه أيضاً الحنابلة، وإنما ذكرت الحنابلة؛ لأني سأذكر قول شيخ الإسلام -رحمه الله- وهو في عداد الحنابلة فهو يخالف في ذلك، وله قول مشهور في هذه المسألة.

وقد قال الإمام أحمد -رحمه الله- في رواية حرب: "إذا اختلفت القراءة -القراءات- فكانت في إحداها زيادة حرف أنا أختار الزيادة ولا يَترك عشر حسنات"[16]، هذا معيار في الترجيح عند الإمام أحمد والاختيار في القراءات أنه يختار ما كان أكثر حروفاً -يعني من الكلمات، فيقول: أختار الزيادة ولا يَترك عشر حسنات مثل: فأزلّهما، فأزالهما، وووصى، وأوصى، لاحظ زيادة حرف تهجٍّ قطعاً هنا، ليس الكلام في زيادة كلمة إنما هو في زيادة حرف من حروف المباني، في الأول: الألف "فأزالهما"، وفي الثاني: "وأوصى" زيادة الألف، فهذا واضح في أن الإمام أحمد -رحمه الله- كان يرى أن الحرف المراد في هذا الحديث هو حرف التهجي، فيختار في القراءة بناء على ما كان أكثر أحرفاً ليزداد الأجر؛ ليكون له بالحرف الواحد عشر حسنات.

أما شيخ الإسلام -رحمه الله- فكان يرى أن الحرف بمعنى الكلمة سواء كانت اسماً أم فعلاً أم حرفاً جاء لمعنى أو نحو ذلك، ويحتج بنفس الحديث فيقول: إن النبي ﷺ ذكر أسماء الحروف ولم ينطق بألفاظها، وبهذا الاعتبار يكون في الم يقول: لو كان المقصود أحرف المباني أحرف التهجي فألف كم فيها حرف من حروف التهجي؟ ثلاثة، فهذه ثلاثون، ولام فيها ثلاثة فهذه ثلاثون، وميم ثلاثة أحرف حينما ننطق باسم الحرف كما نطق النبي ﷺ فهذه ثلاثون، فيكون مجموع الم تسعين وليس بثلاثين[17]، النبي ﷺ ماذا قال في هذا الحديث؟ قال: ألف عشر، ولو كان المقصود كما يقول شيخ الإسلام حروف التهجي فقد نطق النبي ﷺ بثلاثة أحرف "ألف" فهذه كيف قال بأنها عشر؟ فتكون الم بتسعين حسنة وليس بثلاثين، لو كانت تلك حروف التهجي -حروف المباني- الحديث جعل فيها ثلاثين حسنة، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: إن كثرة استعمال الحروف مراداً بها حروف التهجي حُمل عليه قول النبي ﷺ وسبق إلى الأذهان هذا المعنى وأنه ليس هو المراد، ويَذكر عن الخليل بن أحمد أنه سأل أصحابه عن نطق بحرف الزاي من "زيد" -هذا حرف مبنى الآن وليس حرف معنى، كما قلنا: حروف المعاني مثل حروف الجر، فقالوا: زاي، فقال: جئتم بالاسم -يعني: اسم الحرف، وإنما الحرف زاء، ثم إن النحاة كما يقول شيخ الإسلام: "اصطلحوا على أن هذا المسمى في اللغة بالحرف يُسمى كلمة، وأن لفظ الحرف يُخص لما جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل كحروف الجر ونحوها"[18]، يعني: هذا عند النحاة.

وأما ألفاظ حروف الهجاء فيُعبَّر تارة بالحرف عن نفس الحرف من اللفظ، وتارة باسم ذلك الحرف، ولمّا غلب هذا الاصطلاح صار يتوهم من اعتاده أنه هكذا في لغة العرب، شيخ الإسلام يقول: "إنما سبق إلى الأذهان إطلاق الحرف -حمل الحرف- على حرف التهجي؛ لأن هذا صار استعمالاً شائعاً عند الناس"[19]، ولكنه يحتج لكلامه بما سبق على أن المقصود بالحرف الكلمة، وهذا عند شيخ الإسلام -رحمه الله- إذا أردت أن تعد ما يكون لقارئ القرآن من الحسنات فعليك أن تعد الكلمات بأنواعها الثلاثة، سواء كانت من قبيل الأفعال، أو الأسماء أو حروف المعاني لا حروف التهجي، وأما على قول الجمهور فإنك تعد الحروف والحرف المشدد بحرفين، فلا شك أن هذا سيكون أضعاف العدد، وفضل الله واسع لا يُحد، فضل الله واسع.

وهذا يدل على فضل قراءة القرآن، فلو أحصيت عدد حروف القرآن، وقد أحصاها أهل العلم، أحصوها إحصاءً دقيقاً لو نظرت في مثل كتاب "فنون الأفنان" لابن الجوزي تجد عدد الحروف إلى النصف، وفي جميع القرآن، بل يذكر كل عدد حروف التهجي في ورودها في القرآن، يعني ابتداء من حرف الألف إلى الياء، كل حرف كم ورد من مرة في القرآن، كم تكرر، أحصوا ذلك جميعاً وتفننوا في إحصائه، فإذا ضربتَ عدد الحروف -حروف القرآن- بمجموعها بعشرة فإنه يظهر لك عدد الحسنات، وهذه الحسنات قد تزيد إلى سبعمائة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء، وهذا بحسب ما يكون بقلب العبد، وبحسب ما يكون أيضاً من حضور القلب والإخلاص، وأيضاً الإتيان بالعمل على الوجه المشروع، يعني أن يحقق فيه ما يُطلب شرعاً إن كان تلاوة أو غير ذلك، فيعظُم الأجر فيكون للعبد أكثر من عشرة أضعاف، ومن ثَمّ فإن العبد يجدّ ويجتهد في استجماع ما ينبغي استجماعه عند القراءة؛ ليتضاعف أجره ويعظُم.

بَابُ: فَضْلِ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ

عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، قَالَ شُعْبَة: قُلْتُ لَهُ: عَنْ النَّبيِّ ﷺ؟، قَالَ: نَعَمْ، أنه قَالَ: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، وَعَلَّمَهُ[20]، قَالَ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَن: فَذَلِكَ الذي أَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هَذَا، فَكَانَ يُعَلِّمُ مِنْ خِلافَةِ عُثْمَانَ إِلَى إِمْرَةِ الْحَجَّاج.

قوله هنا: "عن عثمان بن عفان قال شعبة: قلت له"، شعبة هو شعبة بن الحجاج الإمام المعروف، وهو أحد رواة إسناد هذا الحديث، يرويه عن شيخه علقمة بن مرثد ويوجِّه السؤال إليه، يقول: عن النبي ﷺ؟، يعني: ليس بموقوف على عثمان من كلامه، فقال: عن النبي ﷺ؟ قال: نعم، يعني: أن هذا من قبيل المرفوع، خيركم من تعلم القرآن وعلمه، قال أبو عبد الرحمن، والمقصود به: السُّلمي التابعي الإمام المعروف الذي أخذ القرآن عن عثمان وغيره، فكان يُقرئ القرآن، وهذا غير أبي عبد الرحمن السُّلمي الصوفي الذي له تفسير، أو كلام في المعاني الإشارية، التفسير الإشاري ونحو ذلك، وتجد بعض العبارات المنقولة عن الصوفية يقال: قال أبو عبد الرحمن السُّلمي، ذاك يختلف عن هذا، وهو متأخر عنه مع أن ذاك مُحدِّث، ومع ذلك وقع في شيء من كلام الصوفية، خيركم من تعلم القرآن وعلمه، يقول أبو عبد الرحمن: فذلك الذي أقعدني مقعدي هذا، فكان يُعلِّم من خلافة عثمان إلى إمرة الحجاج، وقد ذكر الحافظ ابن حجر -رحمه الله- ما بين خلافة عثمان وولاية الحجاج على الاحتمالات، يعني لا يُدرى متى كان جلوسه للإقراء، فذكر الحافظ ابن حجر أن ذلك إن كان من بداية خلافة عثمان إلى آخر ولاية الحجاج فيُقدر باثنتين وسبعين سنة إلا ثلاثة أشهر، وإذا قُدر من آخر خلافة عثمان إلى أول ولاية الحجاج -يعني للعراق- فذلك يبلغ أو يقرب من ثمانٍ وثلاثين سنة إلا ثلاثة أشهر.

المقصود أنها مدة طويلة عشرات السنين وهو يُقرئ وهو عالم وإمام، وكل ذلك رجاء لهذا الأجر والثواب، ثم هذا الحديث: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، يكفي بمجرده أن يكون سائقاً ودافعاً لتعليم القرآن ولتعلمه أيضاً، أن يجمع العبد بين هذا وهذا، ولذلك العلماء -رحمهم الله- وقفوا عند هذه الجملة طويلاً واختلفت توجيهاتهم فيها؛ لأن قول النبي ﷺ: خيركم، خير أفعل تفضيل؛ خير وأخْيَر كما قال ابن مالك:

وغالباً أغناهم خير وشر عن قولهم أخْيَر منه وأشَرّ

فهي صيغة تفضيل، أفعل تفضيل، خيركم، يعني: أخْيَر الأمة، أخيركم من تعلم القرآن وعلمه، وفي رواية: إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه[21]، وكلاهما عند البخاري في الصحيح، والمعنى متقارب أو متحد، فإن قوله ﷺ: خيركم، بمعنى الأخْيَر، والأخْيَر هو الأفضل، والمعنى: يا معاشر القراء أو يا أيها الأمة: إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه، تعلمه يعني حق تعلمه، وعلمه يعني علمه لغيره، فأهل العلم قالوا: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، أبو بكر لم يُعرف عنه أنه كان يُقرئ القرآن ولا عمر، فهل هذا الذي يُعلم ويتعلم القرآن يكون أفضل من أبي بكر وعمر وهؤلاء الكبار من فقهاء الصحابة ؟، فمن هنا وقع السؤال والإشكال وتنوعت أقوال أهل العلم في توجيهه والجواب عنه، لكن كما قلت: إن ذلك يكفي شرفاً في بيان فضل تعلم القرآن وتعليمه.

فبعض أهل العلم يقولون: إن قوله: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، لا يتمكن من هذا إلا بالإحاطة بالعلوم الشرعية أصولها وفروعها مع ما يحتفّ بذلك وما لا تصلح معه هذه المرتبة إلا به من العمل والامتثال فيظهر أثر القرآن على عمل الإنسان وسلوكه، وينصبغ به قلبه وجوارحه ولسانه، وبهذا يكون كاملاً مكملاً من كل وجه، قالوا: وأكمل الناس في هذا هو النبي ﷺ، ثم الأشبه فالأشبه، فهذا يحتاج إلى فقه "تَعَلّم القرآن" فكانوا يتعلمون ألفاظه كما يتعلمون معانيه مع العمل به، وهكذا في تعليمه، فإن ذلك يكون بتعليم ألفاظه وبتعليم أحكامه ومعانيه وهداياته، فهذا لا يكون إلا لمن كان فقيهاً عالماً له بصر بمعاني القرآن وما دل عليه، فحملوه على هذا، فقالوا: هؤلاء هم أكمل الأمة، فعلماء الصحابة هم الأحق بهذا الوصف، وليسوا بعيدين عنه فإن التعليم لا يكون بمجرد تعليم الألفاظ بل تعليم المعاني والأحكام والهدايات، وما أشبه ذلك. 

وبعضهم خصه بباب معين قالوا: إن قوله ﷺ: خيركم من تعلم القرآن وتعلمه، خيركم، يعني: في باب التعلم والتعليم، خيركم في هذا الباب، وهذه الشريعة كما قال شيخ الإسلام: "بمنزلة الشرائع المتعددة"، فباب التعلم والتعليم باب واسع، وكذلك أيضاً هناك أبواب أخرى: أنواع العبادات والقربات من الصدقات، والذكر، والعبادات البدنية، وما أشبه ذلك، فبعضهم خصه بهذا.

وبعضهم قال: هذا يُحمل على أن المراد بقوله: خيركم من تعلم القرآن، يعني: مِن خيركم مَن تعلم القرآن وعلمه، فهذا على هذا المحمل والتقدير عند هؤلاء، ومع ملاحظة العمل، وإلا فإنه إن كان بعيداً عن العمل به فلا يكون له هذا الفضل والوصف بحال من الأحوال.

ومن عصى الله -تبارك وتعالى- فهو جاهل، ثم أيضاً هل يختص هذا بأصحاب النبي ﷺ أو يكون لعموم الأمة؟، يعني: بالنسبة للصحابة قال أهل العلم: إن الذين خوطبوا بذلك كانوا يتعلمون ألفاظه ومعانيه، ولهذا كان الواحد إذا حفظ البقرة وآل عمران جدّ في أعينهم، يعني: يكون له قدر ومنزلة، يكون قد عرف كثيراً من الأحكام والهدايات فيكون عالماً بذلك، فما كانوا يحفظون الألفاظ بمجردها بعيداً عن الفقه في معانيه، ولهذا جاء عن عمر أنه بقي في سورة البقرة يحفظها اثنتي عشرة سنة ثم نحر جزوراً ودعا الناس[22]، يتفقه في معانيها.

وكذلك أيضاً جاء عن ابن عمر أنه بقي فيها ثماني سنين[23]، فكانوا يتفقهون بمعاني القرآن، وعلى هذا الأساس فقوله ﷺ: خيركم من تعلم القرآن، يُحمل على هذا أنهم كانوا يتعلمون الألفاظ والمعاني في آن واحد، فيكون هؤلاء هم الأشرف والأكمل والأخير والأفضل في الأمة، ثم بعد ذلك لما تغيرت الحال بعد زمن الصحابة وصار الناس يحفظون القرآن في الغالب يحفظون ألفاظه بعيداً عن معانيه فإن ذلك لا يصدق عليهم عند هؤلاء القائلين بذلك من أهل العلم، قالوا: الحال تختلف عند أصحاب النبي ﷺ فحينما يخاطبهم بمثل هذا فكانوا فقهاء، وإذا ازداد أخذه من القرآن ازداد علمه وعمله وفقهه خيركم من تعلم القرآن، فإذا حصل النفع المتعدي بتعليم غيره أيضاً فتلك أجور متتابعة وأعمال واصلة من عمل غيره قد ترتبت على تعليمه أشرف العلوم وهو القرآن، فهذا قول لبعض أهل العلم، إذا كان أفضل الكلام هو كلام الله -تبارك وتعالى- فكذلك خير الناس بعد النبيين من يتعلم القرآن ويعلم القرآن، لكن على المأخذ الذي ذُكر، ليس مجرد تعليم الألفاظ، على قول هؤلاء من أهل العلم، والنووي -رحمه الله- عقد مقارنة بين تعلم الفقه وتعلم القرآن فبالنسبة للقدر الواجب مِن تعلم الفقه وتعلم القدر الواجب مِن القرآن يعني الذي يصلي به سوى بينهما، وما زاد عن القدر الواجب الإمام النووي -رحمه الله- يرى أن الأفضل هو تعلم الفقه؛ لأنه يعرف به كيف يعبد ربه لا الحفظ المجرد، وهذا ليس محل اتفاق بين أهل العلم، فبعض أهل العلم رد هذا، لكن إذا استحضرنا هذا المعنى وأن الذين كانوا في زمن النبي ﷺ كانوا فقهاء وأن زيادة الحفظ تعني زيادة الفقه بالنسبة إليهم فلا إشكال أن يقال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، لكن هل هذا خطاب لجميع الأمة فيكون من تعلم القرآن وعلمه مجرد الألفاظ يدخل في هذا؟ هذا احتمال.

لكن أنا أقول: خلاصة ما يمكن ذكره في هذه المسألة: أن ذلك يمكن أن يُحمل على هذا المعنى أن المخاطبين إما أن يكون قد خوطب فئة معينة بمعني قوم عند النبي ﷺ فخاطبهم بذلك وليس المقصود عموم الأمة ولا عموم الصحابة، يعني: كان في حضرته ﷺ جماعة من الناس فخاطبهم بهذا، وقال لهم: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، هذا احتمال.

الاحتمال الآخر: أن يكون ذلك باعتبار ما ذُكر من أن العمل بالقرآن وفهم معانيه والتفقه فيه كما كان عليه الصحابة وهذا واضح، لا شك أن من كان بهذه المثابة فهو خير الأمة.

وهناك محمل آخر: وهو ما ذكره بعض أهل العلم من تقدير "مِن"، مِن خيركم، ويمكن أن يُستغنى عن هذا   -والله تعالى أعلم- بأن يقال: إن أفعل التفضيل "خير" قد تأتي مراداً بها مطلق الاتصاف وليس معنى التفضيل، وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى [الليل:17]، "الأتقى" هل المقصود به الأكثر تقوى كما قالوا: هو أبو بكر الصديق ؟ أو المقصود التقيّ كما ذكرتُ في البيت آنفاً:

تمنى رجالٌ أنْ أموتَ وإنْ أمتْ فتلك سبيلٌ لستُ فيها بأوحدِ

يعني: لست فيها بواحد، فـخيركم يعني: مَن يوصف بالخيرية، "خيركم" هنا لا يقصد بها أفعل التفضيل، هذا وجه.

الوجه الآخر: وهو أنه يقال: إن أفعل التفضيل باعتبار أنها أفعل تفضيل لا تمنع التساوي ولكنها تمنع الزيادة أن يزيد أحد على هذا، ولذلك تجدون في كتاب الله -تبارك وتعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ، يعني: لا أحد أظلم، و"أظلم" أفعل تفضيل، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [البقرة:114]، فهذا أظلم الناس، وفي آية أخرى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا [الكهف:57]، لا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها، وفي موضع آخر: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [العنكبوت:68]، لا أحد أظلم، فمن هو الأظلم؟.

هل هو الذي منع مساجد الله؟.

أو الذي ذُكر بالآيات وأعرض عنها؟.

أو الذي افترى على الله الكذب؟.

فالعلماء يجيبون عن هذا بجوابين:

الجواب الأول: هو أن يقال: إن كل واحدة من هذه الآيات هي في بابها، ففي المانعين لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، وفي المعرضين لا أحد أظلم ممن ذُكر بآيات ربه ثم أعرض عنها، وفي المفترين لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب.

الجواب الثاني: -وهو الذي يعنينا هنا- أن يقال: إن أفعل التفضيل لا تمنع التساوي، ولكن تمنع الزيادة، فهؤلاء كلهم قد بلغوا في الظلم غايته، استووا في المرتبة العليا، بلغوا الغاية العليا، وهذه الغاية العليا يمكن أن يصل إليها كل أحد من هؤلاء ومن غيرهم من الذين يفعلون الجرائم العظام ويبالغون في الظلم فيصلون غايته، فيكون هؤلاء جميعاً قد بلغوا الغاية في الظلم، فأفعل التفضيل لا تمنع التساوي ولكنها تمنع الزيادة لا أحد أظلم منه، لكن يمكن أن يوجد من يساويه، ولهذا قد تقول أنت في بعض المناسبات: فلان أكرم الناس، في مناسبة أخرى تذكر رجلاً آخر وتقول: فلان أكرم الناس، وفي مناسبة ثالثة ترى رجلاً آخر ثالثًا وتقول: هذا أكرم الناس، وليس ذلك بتناقض، وإنما هؤلاء جميعاً قد بلغوا في الكرم الذي يصل إليه البشر قد بلغوا فيه غايته، فيكون بهذا الاعتبار، وهذا من أحسن الأجوبة وأوضحها وأقربها، وهو يتفق مع هذه القاعدة من قواعد التفسير، والله تعالى أعلم.

وبهذا يمكن أن يوجه هذا الحديث -والله تعالى أعلم، ونعرف الجواب بذلك أيضاً عن السؤال الذي يرِدُ وهو أيهما أفضل الفقيه أو المُقرئ؟ فأولئك كانوا فقهاء كما هو معلوم، والله تعالى أعلم.

  1. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، برقم (1883)، وابن أبي شيبة في المصنف، برقم (8733)، وتفسير البغوي (8/ 251).
  2. تفسير الطبري (2/ 490).
  3. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، برقم (7977)، وأحمد في المسند، برقم (12279)، وقال محققوه: "إسناده حسن من أجل عبد الرحمن بن بديل العقيلي، وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2165).
  4. أخرجه أبو داود، كتاب الجنائز، باب في تعميق القبر، برقم (3215)، والترمذي، أبواب الجهاد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في دفن الشهداء، برقم (1713)، والنسائي، كتاب الجنائز، باب ما يستحب من إعماق القبر، برقم (2010)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (202).
  5. أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب فضل القرآن على سائر الكلام، برقم (5020)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة حافظ القرآن، برقم (797).
  6. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب ، وخالد بن الوليد ، إلى اليمن قبل حجة الوداع، برقم (4351)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، برقم (1063).
  7. أخرجه أبو داود، باب تفريع أبواب الوتر، باب استحباب الترتيل في القراءة، برقم (1464)، والترمذي، أبواب فضائل القرآن عن رسول الله ﷺ، برقم (2914)، وأحمد في المسند، برقم (6799)، وقال محققوه: "صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن من أجل عاصم، وهو ابن أبي النجود، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين"، وقال الألباني: "إسناده حسن صحيح" كما في صحيح أبي داود، برقم (1317).
  8. انظر: شرح المشكاة للطيبي "الكاشف عن حقائق السنن" (5/ 1655).
  9. انظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1469).
  10. أخرجه ابن ماجه، أبواب الأدب، باب ثواب القرآن، برقم (3780)، وأحمد في المسند، برقم (11360)، وفي إسنادهما عطية العوفي ضعيف، قال ابن حجر -رحمه الله- في تقريب التهذيب (ص: 393): "صدوق يخطئ كثيرًا وكان شيعيًّا مدلسًا"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (8121).
  11. أخرجه الآجري مرسلاً، وفي إسناده سعيد بن فيروز أبو البختري الطائي كثير الإرسال عن ابن مسعود . انظر: جامع التحصيل (ص:183).
  12. أخرجه الترمذي، أبواب فضائل القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء فيمن قرأ حرفًا من القرآن ماله من الأجر، برقم (2910)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6469).
  13. الفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/ 635).
  14. أخرجه البزار في مسنده، برقم (2761)، والطبراني في الأوسط، برقم (314)، والكبير، برقم (141).
  15. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، برقم (1830).
  16. الآداب الشرعية والمنح المرعية (2/ 328).
  17. انظر: الرد على المنطقيين (ص: 129-230)، ومجموع الفتاوى (12/ 103)، و (17/ 420).
  18. انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 215)، ومجموع الفتاوى (10/ 233).
  19. انظر: المصدر السابق.
  20. أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، برقم (5027).
  21. أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، برقم (5028).
  22. الدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/ 54).
  23. المصدر السابق.

مواد ذات صلة