الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
فاللهم اغفر لنا، ولشيخنا، ولوالديه، ولوالدينا، ولجميع المسلمين.
قال الإمام الآجُري -رحمه الله تعالى:
بَابُ: آداب الْقُرَّاءِ عِنْدَ تِلاوَتِهِمْ الْقُرْآنَ مِمَّا لا يَنْبَغِي لَهُمْ جَهْلُهُ
وَأَحِبُّ لِمَنْ أَرَادَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ في لَيْلٍ أَوْ نِهَارٍ أَنْ يَتَطَهَّرَ، وَأَنْ يَسَتَاكَ، وَذَلِكَ تَعْظِيم للْقُرْآنِ؛ لأَنَّهُ يَتْلُو كَلامَ الرَّبِّ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلائِكَةَ تَدْنُو مِنْهُ عِنْدَ تِلاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ، وَيَدْنُو مِنْهُ الْمَلَكُ، فَإِنْ كَانَ مُتَسَوِّكًا وَضَعَ فَاهُ عَلِى فِيهِ، فكُلَمَّا قَرَأَ آيَةً أخذ الْمَلَكُ بِفِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَسَوَّكَ تَبَاعَدَ الملك منْهُ.
فَلا يَنْبَغِي لَكُمْ يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ أَنْ تُبَاعِدُوا مِنْكُمْ الْمَلَكَ، فاسْتَعْمِلُوا الأَدَبَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد إِلا وَهُوَ يَكْرَهُ إِذَا لَمْ يَتَسَوَّكْ أَنْ يُجَالِسَ إِخْوَانَهُ، وَأَحِبُّ أَنْ يُكْثِرَ الْقِرَاءَةَ في الْمُصْحَفِ؛ لِفَضْلِ مَنْ قَرَأَ فِي الْمُصْحَفِ.
وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْمِلَ الْمُصْحَفَ إِلا وَهُوَ طَاهِرٌ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ في الْمُصْحَفِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَلا بَأْسَ بِهِ، وَلَكِنْ لا يَمَسّهُ، وَلَكِنْ يَصَّفَّحُ الْمُصْحَفَ بِشَيْءٍ، وَلا يَمَسّهُ إِلا طَاهِرًا.
وَيَنْبَغِي لِلْقَارِئِ إِذَا كَانَ يَقْرَأُ، فَخَرَجَتْ مِنْهُ رِيحٌ أَمْسَكَ عَنْ الْقِرَاءَةِ حَتَّى ينقضي الرِّيحُ، ثُمَّ إِنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَوَضَّأَ ثُمَّ يَقْرَأَ طَاهِرًا، فَهُو أفْضَلُ، وَإِنْ قَرَأَ غَيْرَ طَاهِرٍ فَلا بَأْسَ بِهِ، وَإِذَا تَثَاءَبَ وَهُوَ يَقْرَأُ أَمْسَكَ عَنْ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يَنْقَضِي عَنْهُ التَّثَاؤبُ.
يَنْبَغِي لِلْقَارِئِ إِذَا كَانَ يَقْرَأُ، فَخَرَجَتْ مِنْهُ رِيحٌ أَمْسَكَ عَنْ الْقِرَاءَةِ حَتَّى ينقضي الرِّيحُ، ثُمَّ إِنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَوَضَّأَ ثُمَّ يَقْرَأَ طَاهِرًا، فَهُو أفْضَلُ، وَإِنْ قَرَأَ غَيْرَ طَاهِرٍ فَلا بَأْسَ بِهِ، وَإِذَا تَثَاءَبَ وَهُوَ يَقْرَأُ أَمْسَكَ عَنْ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يَنْقَضِي عَنْهُ التَّثَاؤبُ.
وَأُحِبُّ لِلْقَارِئِ أَنْ يَأْخَذَ نَفْسَهُ بِسُجُودِ الْقُرْآنِ، كُلَمَّا مَرَّ بِسَجْدَةٍ سَجَدَ فِيهَا، وَفِي الْقُرْآنِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً، وقِيلَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وقِيلَ: إحدى عَشْرَةَ.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فما يتعلق بالطهارة للقراءة وما ذكره الآجُري -رحمه الله- هنا لا يخفى، ولا شك أن الطهارة أفضل، وكان النبي ﷺ يذكر الله على كل أحيانه[1]، ولكن في الوقت نفسه كره النبي ﷺ أن يذكر الله إلا وهو على طُهر، فالقراءة والقارئ في حال تطهر أفضل من القراءة بغير هذه الحال، فإن أراد أن يقرأ نظراً فإنه لا يمس المصحف، ولكن له أن يتصفح -كما قال- بعود، لكن لو كان المصحف في حاشيته تفسير فإن كانت كلمات التفسير أكثر من كلمات القرآن فله أن يحمل هذا التفسير، وأن يقرأ به، وأن يصّفح بيده، والمرأة في حال الحيض تقرأ ما شاءت وتختم، ويمكن أن تقرأ بهذه المصاحف التي على حاشيتها تفسير، ويكون هذا التفسير أكثر من القرآن، كالتفسير المُيسر، أو المختصر في التفسير، أو الجلالين، فكل هذا التفسير فيه أكثر من القرآن من ناحية عدد الحروف والكلمات.
أما إذا كانت مجرد كلمات يسيرة في الهامش والقرآن هو الغالب فالعبرة بذلك، فلا يقال لمن قرأ في ذلك: إنه يقرأ في كتاب تفسير، فيحتاج إلى تطهر، وهكذا ما يتعلق بسجود القرآن فإنه يسجد على خلاف أشار إليه الآجُري -رحمه الله- في عدد سجدات القرآن، فبعضهم يقول: أربع عشرة سجدة، اثنتان في الحج، وثلاث في المفصل، وليس موضع "ص" منها -سجدة "ص"، وهذا قول الشافعي، ورواية عن مالك وأحمد -رحم الله الجميع.
القول الآخر: أنها أربع عشرة سجدة وموضع "ص" منها، ولكن كما هو معلوم أن في الحج سجدتين فهؤلاء يقولون: الثانية ليست من مواضع السجود، وهذا قول أبي حنيفة، استووا في العدد ولكنهم اختلفوا في موضع.
والقول الثالث: أنها إحدى عشرة سجدة بإسقاط سجدات المفصل الثلاث، وهذا هو المشهور عن مالك، والقول القديم للشافعي، وهو مروي عن ابن عمر، وابن عباس، وابن المسيب، وسعيد بن جُبير، والحسن، وعكرمة، ومجاهد، وعطاء، وطاوس، وقال به جماعة من أهل العلم من المدينة.
والقول الرابع: أنها خمس عشرة سجدة بإثبات سجدة "ص"، وهذا رواية عن أحمد، ومذهب إسحاق بن راهويه، والثوري، وقول أيضاً في مذهب أبي حنيفة، وهو أحد الأقوال في مذهب مالك، وبه قال جمع من الفقهاء كابن سُريج، وأبي إسحاق المروزي، هؤلاء من فقهاء الشافعي، وذلك منقول أيضاً عن بعض السلف كعقبة بن عامر ، ونسبه بعضهم إلى بعض أصحاب النبي ﷺ غير عقبة، إلى جماعة منهم.
والذي اتفقوا عليه من مواضع السجود عشرة مواضع، الأعراف، والرعد، والنحل، والإسراء، ومريم، والموضع الأول من سورة الحج: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ... [الحج:18] إلى آخر الآية، الآية الثامنة عشرة من سورة الحج، وكذلك ما في سورة الفرقان، والنمل، والسجدة، وفصلت، هذه عشرة مواضع اتفقوا عليها.
واختلفوا في الموضع الثاني من سورة الحج: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77]، الآية السابعة والسبعون، وموضع أيضاً سجدة "ص"، وكذلك الثلاث التي في المفصل: في النجم، وفي الانشقاق، والعلق، هذه اختلفوا فيها، فالآية التي في سورة الحج الآية الثانية، الأولى لا إشكال في أنها من مواضع السجود، لكن التي اختلفوا فيها هي الثانية، فهذه فيها قولان:
القول الأول: من أهل العلم من يقول: إنها من مواضع السجود، وبهذا قال الشافعي، وكذلك أحمد، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وابن المنذر، وداود الظاهري، وابن جرير الطبري، وممن كان يسجد في الحج سجدتين عمر، وعلي، وابن عمر، وكذلك هو منقول عن أبي الدرداء، وأبي موسى الأشعري، ومن التابعين عن أبي عبد الرحمن السُّلمي، وأبي العالية، وزِر بن حُبيش، وهو رواية عن ابن عباس -ا، ورواية عن الإمام مالك.
القول الثاني: أنها ليست من مواضع السجود، وهذا قول الحسن، وسعيد بن جبير، وجابر بن زيد، والنخعي، وهو أيضاً قول مالك، وأبي حنيفة، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس -ا.
الموضع الآخر الذي اختلفوا فيه وهو سجدة "ص":
القول الأول: أنها ليست من عزائم السجود، وهذا مروي عن ابن مسعود وعلقمة، وقال به الشافعي.
والقول الثاني: أنها من عزائم السجود، وهذا مروي عن الحسن، وبه قال مالك، والأوزاعي، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وهو راوية عن الإمام أحمد، ونُقل عن جماعة من السلف من الصحابة وغيرهم، روي عن عمر وعن ابنه، وعن عثمان أنهم كانوا يسجدون فيها، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس .
الموضع الثالث الذي اختلفوا فيه: هي الثلاث التي في المفصل في النجم، والانشقاق، والعلق، فيها قولان:
الأول: أنها ليست من مواضع السجود، وهو منقول عن ابن عمر وابن عباس وأُبي بن كعب، وكذلك من التابعين سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وطاوس، وعطاء، وهو قول مالك، وكذلك أيضاً أصحاب الإمام مالك، وبعض العلماء والفقهاء من المدينة.
القول الثاني: أنها من مواضع السجود، وهو قول الشافعي، والثوري، وأبي حنيفة، وبه قال الإمام أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وذلك مروي عن جمع من الصحابة كأبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وعثمان، وأبي هريرة، وابن عمر، وكذلك عن جمع من التابعين كعمر بن عبد العزيز وغيره.
هذا ما يتعلق بمواضع السجود، والخلاف فيها، يبقى الكلام في حكم السجود سجود التلاوة، هل هو واجب؟ أو أنه مندوب؟
قال: وَالَّذِي أَخْتَارُ أَنْ يَسْجُدَ كُلَّمَا مَرَّتْ بِهِ سَجْدَةٌ؛ فَإِنَّهُ يُرْضِي رَبَّهُ ، وَيَغِيظُ عَدُوَّهُ الشَّيْطَانَ.
رُوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قال: إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ، فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ، أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ، فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فعصيت، فَلِي النَّارُ[2].
هنا في قوله: إذا قرأ ابن آدم السجدة، ابن آدم، أضافه إلى أبيه، فكأنه ذكر ذلك تلميحاً لقصة أبيه آدم مع الشيطان التي كانت سبباً للعداوة، إذا قرأ السجدة، يعني: آية سجدة، فسجد، فهنا يعتزل الشيطان، ينصرف، يبكي، يقول: يا ويله، ويل يقال: للحزن والهلاك، كأنه يقول: يا حزني يا هلاكي يا حسرتي، يا هلاكي احضر ونحو ذلك، فهذا يقوله على سبيل التحسر، يا هلاكي احضر هذا أوانك، وذلك نداء -نسأل الله العافية- بالويل والحسرة على ما فاته من الكرامة والشرف والمنزلة والقبول، وحصلت له أضداد ذلك من اللعن، والخيبة، والطرد من رحمة الله -تبارك وتعالى، هكذا فعل به الحسد.
يقول: أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمرت بالسجود فأبيت، يعني: امتنع تكبراً فَلِي هكذا يقول: له النار، يا ويله، لاحظوا هنا هذه الرواية: (يا ويله) الضمير للشيطان، يحتمل أن يكون الشيطان هو الذي عبر بضمير الغائب "يا ويله"، يعني: كأنه جعل نفسه غائباً طرداً له وغضباً عليه حيث أوقعه هذا الفعل في هذه المهالك والمعاطب والنتائج الوخيمة.
ويحتمل أن الحاكي لكلامه كالراوي يذكر ذلك على سبيل الغيبة من باب التأدب في العبارة؛ لئلا يضيف ذلك إلى نفسه -يعني الراوي- يقول: يا ويلي مثلاً، وإنما يقول: يا ويله، فهذا من أدب الألفاظ في الرواية، ولو تتبعت ألفاظ الرواة تجد أنهم تارة يُبهمون من تلحقه نقيصة أو نحو ذلك، جاء رجل، قال رجل، ونحو ذلك ستراً عليه، فهذا من الأدب أدب الرواة.
وكذلك أحياناً العبارات التي لا يحسُن أن يضيفها الإنسان إلى نفسه، لما مات أبو طالب، وكان النبي ﷺ يعرض عليه الإيمان والتوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، قال في النهاية: "هو على ملة عبد المطلب"[3]، ما قال: أموت، يعني: الراوي ما قال: أموت، قال: هو يموت؛ لئلا يضيف ذلك الراوي إلى نفسه كأنه يحكي عن نفسه أنه يموت على عقيدة عبد المطلب، مع أن الناقل للكفر ليس بكافر، وذلك لا يضره حينما يروي عن غيره أنه قال كذا بضمير المتكلم، لكن من باب التنزه والتأدب.
فأخذ منه بعض أهل العلم أن السجود واجب بهذا الاعتبار، وهذا ليس محل اتفاق، ومن أهل العلم من يقول: إن هذا السجود سجود التلاوة سنة مؤكدة كما هو عند الشافعية والحنابلة، والمالكية يقولون: سنة أو فضيلة كما هو معلوم، يفرقون بين الرغيبة والسنة، والنفل والراتبة والفضيلة ونحو ذلك، أعني المالكية، فهذان قولان للمالكية يعني هل هو فضيلة أو سنة، كما قال صاحب المراقي:
وسنةٌ ما أحمدٌ قد واظبا | عليه والظهورُ فيه وجبا |
بهذين القيدين عند المالكية يكون سنة، يعني: المواظبة بجانب أن يكون قد أظهره أمام الناس، لكن مثلاً الرغيبة:
رغيبةٌ ما فيه رغب النبي | بذكر ما فيهمن الأجر جُبي |
يعني: الذي يحصل به الأجر فذَكَر هذا يسمونه رغيبة، هذا اصطلاح عند المالكية ولكن أكثر أهل العلم لا يفرقون بهذه الطريقة، فيتفق المالكية والشافعية والحنابلة على أنه غير واجب بصرف النظر عن التسمية.
وقد ذكر ابن قدامة -رحمه الله- أن سجود التلاوة سنة مؤكدة وليس بواجب عند أحمد ومالك والأوزاعي والشافعي، وأنه مذهب عمر، وابن عمر -ا، وكذلك عند آخرين[4].
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى الوجوب[5]، استدلوا بأدلة على كل حال منها هذا الحديث: أن الشيطان لما امتنع من السجود كان بهذه المثابة، كان له النار؛ لامتناعه؛ فلا ينبغي للإنسان أن يمتنع.
واستدلوا أيضاً بأدلة أخرى، وقد ساق شيخ الإسلام -رحمه الله- جملة من هذه الأدلة، وظاهر كلام شيخ الإسلام أنه يرى الوجوب[6]، يحتجون بأنواع من الأدلة غير هذا الحديث.
ويقولون: إن آيات السجود تفيد ذلك وتدل عليه -يعني: الوجوب، يقولون: هي ثلاثة أقسام:
القسم الأول: فيه الأمر الصريح بالسجود فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:62] والأمر للوجوب إلا لصارف، وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19].
القسم الثاني: يتضمن حكاية استنكاف الكفرة حيث أُمروا بالسجود فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ [الانشقاق:20-21]، وهكذا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا [الفرقان:60]، قالوا: وهذا قبيح من هؤلاء الكفار لا يصح بحال من الأحوال أن يتشبه المؤمن بهم في هذه الحال فيترك السجود.
القسم الثالث: من الآيات التي ذُكر فيها السجود عموماً هو ما جاء فيه الحكاية عن فعل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- والأخيار، والصلحاء حيث يسجدون إذا تُلي عليهم كلام الله -تبارك وتعالى، فحري بالمؤمن أن يقتدي بهؤلاء وأن لا يتشبه في الوقت نفسه بأعداء الله والكفار من المستنكفين عن السجود لربهم .
والذين قالوا بأن ذلك لا يجب يجيبون عن هذا بأجوبة، يقولون: بالنسبة لإبليس فقد طُرد؛ لأنه امتنع من الاستجابة لأمر الله واستكبر فكان من الكافرين.
وكذلك أيضاً حديث زيد بن ثابت قال: "قرأت على رسول الله ﷺ والنجم فلم يسجد"[7]، فهذا صارف عن الوجوب.
وكذلك أيضاً استدلوا بحديث أبي سعيد الخدري قال: "قرأ رسول الله ﷺ وهو على المنبر "ص"، هذه التي اختلفوا فيها سجدة "ص" هل هي من عزائم السجود، أو لا، "فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تَشزَّن الناس -يعني: تهيئوا للسجود، فقال رسول الله ﷺ: إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تَشزَّنتم للسجود، فنزل وسجد، وسجدوا[8]، يعني: ما كان يريد أن يسجد ﷺ في المرة الثانية.
إذا قرأ القارئ السجدة وهو في طريقه يمشي أو نحو ذلك، إن كان في مركبته في السيارة أو نحو هذا، فإنه يومئ بالسجود، ولا يُشرع له في هذه الحال أن يعمد أو يقصد أن يضع جبهته على شيء، كأن يضع جبهته على المقود، أو إن كان راكباً يضع جبهته على ما يليه من السيارة أو نحو هذا، فإن هذا لا يُشرع؛ لأن السجود إذا كان بالإيماء فإنه لا يُطلب فيه وضع الجبهة على شيء، وإنما يكفي في ذلك الإيماء، ولذلك هذا الكرسي الذي يسمونه ويباع باسم كرسي الصلاة، ويُعمل له دعاية أحياناً، هذا ليس بكرسي الصلاة ولا تشرع عليه، هؤلاء يجعلون هذه الكراسي بهيئة معينة، ويغطونه ويضعون عليه لربما لباساً أو مُخملاً أو نحو هذا ويقولون بأنه يعني قد هُيئ فإذا صلى عليه من يصلي على الكرسي فإنه يضع جبهته على هذا الموضع، وهذا غير صحيح، الذي يصلي على الكرسي ولا يستطيع السجود على الأرض يكفيه الإيماء، فيكون سجوده أخفض من ركوعه، هذا هو المشروع، لا أن يضع جبهته على الكرسي فهذا غير مشروع، فكذلك أيضاً هذا الذي يسجد وهو في السيارة أو يصلي وهو في السيارة، أو في الطائرة إذا كان يصلي نافلة في السفر فإنه لا يُطلب منه أن يضع جبهته على المقود، أو على ما يليه من السيارة وإنما يكفي أن يومئ إيماءً، والذي يمشي على راحلة وجاءت آية سجدة فإنه يومئ إيماءً لا يحتاج أن ينزل، طيب فإذا كان يمشي على قدميه فماذا يفعل؟
فبعض أهل العلم قال: يسجد على الأرض، وبهذا قال أبو العالية وأبو زرعة، وهو مروي عن ابن عمر، وبه قال أبو جعفر بن جرير، وهذا مذهب أصحاب الرأي -يعني من الحنفية، وهو الصحيح من مذهب الشافعية، وهو مذهب الحنابلة أيضاً أنه يسجد على الأرض.
القول الثاني: أنه يومئ برأسه يعني إيماءً من غير وضع الجبهة على الأرض، وبهذا قال الأسود بن يزيد النخعي، وهو مروي عن عطاء ومجاهد، وفعله علقمة -أيضاً- النخعي، وأبو عبد الرحمن وكذلك أيضاً إبراهيم -يعني النخعي- وكذلك أيضاً هو مروي عن ابن مسعود، وهو قول عند الشافعية في السفر، ولو أن قائلاً فصّل في هذا: فإذا كان يمشي في مكان يتهيأ فيه السجود سجد، يمشي في حديقة، يمشي في برية على قدميه، يمشي في مكان نظيف فإنه يسجد على الأرض، وإذا كان يمشي في مكان غير مهيأ للسجود فيمكن أن يومئ إيماءً، لو قيل بهذا لم يبعُد، -والله تعالى أعلم، يُفصل في هذا والشريعة ما جاءت بالحرج.
وَأُحِبُّ لَهُ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي قِرَاءَتِهِ، وَيَتَدَبَّرَ مَا يَتْلُو، وَيَسْتَعْمِلَ غَضَّ الطَّرْفِ عَمَّا يُلْهِي الْقُلُوبَ.
وَإنْ يَتْرُكْ كُلَّ شُغْلٍ حَتَّى يَنْقَضِي دَرْسُهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ؛ لِيَحْضُرَ فَهْمُهُ، وَلا يَشْتَغِلَ بِغَيْرِ كَلامِ مَوْلاهُ.
وَأُحِبُّ إِذَا دَرَسَ، فَمَرَّتْ بِهِ آيَةُ رَحْمَةٍ سَأَلَ مَوْلاهُ الْكَرِيْمَ، وَإِذَا مَرَّتْ بِهِ آيَةُ عَذَابٍ اسْتَعَاذَ باِللهِ مِنْ النَّارِ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ تَنْزِيهٍ للهِ تعالى عَمَّا قَالَهُ أَهْلُ الكفر سبَّحَ اللهَ تعالى -جَلَّت عَظَمَته، وَعَظَّمَهُ، فإِذَا كَانَ يَقْرَأُ، فَأَدْرَكَهُ النُّعَاسُ فَحُكْمُهُ أَنْ يَقْطَعَ الْقِرَاءَةَ, ويَرْقدَ، حَتَّى يقرأ وَهُوَ يَعْقِلُ مَا يَتْلُوهُ.
فيما يتعلق هنا بالسؤال عند آيات الرحمة، والاستعاذة عند آيات العذاب هذا نُقل عن النبي ﷺ في صلاة الليل ولم ينقل عنه في الفريضة، وإنما نُقل عنه بإطلاق: "أنه كان إذا قرأ سبح اسم ربك الأعلى، قال: سبحان ربي الأعلى"[9]، فظاهره أن ذلك يكون في الصلاة وفي خارج الصلاة، في الفريضة وفي غيرها؛ لأن ذلك مقتضى الإطلاق.
وصح عنه ﷺ أنه "كان إذا قرأ القيامة قرأ آخرها أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:40]، قال: سبحانك فبلى"[10]، بهذه الصيغة "كان إذا قرأ"، تدل على الإطلاق وتدل على التكرر أيضاً، ولم يأتِ بذلك تفصيل أو استثناء بأنه كان يفعل ذلك في النافلة أو في القراءة خارج الصلاة، فدل ذلك -والله أعلم- على أنه يقوله بحال كونه في الصلاة وفي خارج الصلاة، في الفريضة، وفي النافلة، لكن السؤال "كان إذا مر بآية رحمة إلى آخره" هذا نُقل عن النبي ﷺ في صلاة الليل، ولهذا يقال -والله أعلم: إن ترك ذلك في صلاة الفريضة هو المشروع، فلم يُنقل عن النبي ﷺ، إنما ذلك في صلاة الليل، إذا كان ذلك في صلاة الليل فإن ذلك يكون في القراءة خارج الصلاة أيضاً سائغاً؛ لأن باب الصلاة أضيق من باب القراءة خارج الصلاة، فإذا قاله في صلاة النافلة فإن ذلك يكون مسوِّغاً ليقوله في خارج الصلاة عند تلاوته إذا مر بآية رحمة أو آية عذاب، فيسأل أو يستعيذ، والله أعلم، كذلك فيما يتعلق بترديد الآية كان النبي ﷺ يردد الآية هذا في صلاة الليل لكن لم ينقل عن النبي ﷺ أنه كان يردد الآية في صلاة الفريضة.
هذا على طريقته التي سبق ذكرها في أول الكتاب، حينما يذكر جملة من الأحكام أو الآداب يذكر بعدها الدلائل ويسوقها.
ومثل هذا لا يقال من جهة الرأي؛ لأنه أمر غيبي فله حكم الرفع إلى النبي ﷺ.
عن إِسْحَاق بن مَنْصُورٍ الْكَوْسَجِ قَالَ: قُلْتُ لأَحْمَدَ: الْقِرَاءةُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ؟، قَالَ: لا بَأْسَ بِهَا، وَلَكِنْ لا يقرأ فِي الْمُصْحَفِ إِلا مُتَوَضِّئٌ[12].
قَالَ إِسْحَاقُ – يَعْنِي: ابْنَ رَاهَوَيْه : كَمَا قَالَ سُنَّةٌ مَسْنُونَةٌ.
عن أبي بَكْرٍ الْمرْوذيُّ قَالَ: "كَانَ أبُو عَبْدِ اللهِ رُبَّمَا قَرَأَ فِي الْمُصْحَفِ، وَهُوَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، فَلا يَمَسُّهُ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ عُودًا، أَوْ شَيْئًا يَصَّفَّحُ بِهِ الْوَرَقَ"[13].
عَنْ زُرْزُرٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَخْرُجُ مِنِّي الرِّيحُ؟ قَالَ: تُمْسِكُ عَنْ الْقِرَاءةِ حَتَّى تنقضي الرِّيحُ[14].
عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِذَا تَثَاءبْتَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ فَأَمْسِكْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْكَ[15].
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَال: إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْقُدْ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ، فَيَسُبّ نَفْسَهُ[16].
هذا إذا نعس فهو مأمور بأن يرقد، والنعاس معروف هو مقدمة النوم وخُثورته، والفتور الطبيعي الذي يعتري الإنسان قبل النوم، وبعض أهل العلم يقولون: السِّنة في الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب، فالمقدمة تكون في العين ثم بعد ذلك إذا وصل إلى القلب فذلك هو النوم فينتفي معه الإدراك إذا صار في القلب.
فإذا كان الإنسان في حال مغالبة النوم والنعاس ونحو ذلك فقد قال بعض السلف في قوله تعالى كما جاء ذلك عن الضحاك: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43]، قال: في حال النعاس[17]، هو يعلم أن السُّكر هو ما خامر العقل بتعاطي المسكر بأي وجه كان كما هو معلوم، ولكن هنا يشير إلى أمر آخر قد يغفل عنه المكلف وذلك أنه يصير مع النعاس ومغالبة النوم في حال تشبه السكر فلا يعقل في صلاته، وقد يدعو على نفسه، وقد يقرأ الفاتحة وهو في السجود، ويقرأ التشهد وهو في حال القيام ونحو ذلك، ومن هنا فإن من أهل العلم من أخذ ذلك على عمومه أن ذلك يكون في حال الفرض والنفل في الليل والنهار كما نقله النووي -رحمه الله، وعزاه إلى الجمهور[18].
يعني: إذا كان في حال مغالبة للنوم؛ لئلا يقع له ذلك، لكن إذا كان يستطيع في صلاة الفريضة أن يجدد نشاطه، وأن يطرد عنه النوم فيصلي وهو يعقل في الصلاة فهذا هو الواجب عليه، لكن قد يكون الإنسان في حال من الإعياء الشديد الذي قد لا يعقل معه الصلاة ففي هذه الحال النادرة يكون ذلك عذراً له إن لم يستطع دفعه، يكون عذراً له فيستريح ينام نومة من أجل أن يعاود النشاط ويصلي وهو يعقل في صلاته؛ لأنه إن صلاها وهو لا يعقل فإن ذلك لا يصح، الصلاة لا يعقل ما صلى فيها أصلاً، يشبه حال السكر فإنه في هذه الحالة مأمور أن يرقد، والنبي ﷺ لم يفصل بين الفرض والنفل، ولا يقولن قائل يتخذ هذا ذريعة وحينما يكسل عن القيام لصلاة الفريضة صلاة الفجر أو صلاة العصر أو غير ذلك يقول: أنا أغالب النوم، والنبي ﷺ قال: فليرقد، فيتخذ ذلك سبيلاً لتضييع الصلوات، لكن هذه حالات نادرة تعرض للإنسان فيدفع ذلك عن نفسه ما استطاع، والله يعلم المفسد من المصلح، لكن لو ضاق عليه الوقت فإنه مأمور بأن يصلي ولا يترك الصلاة حتى يخرج الوقت، فهو يجاهد نفسه ما استطاع، ولا يترك الفريضة حتى يخرج الوقت، فهذا يؤخذ من هذا الحديث، والله تعالى أعلم.
وهو يدل أيضاً على ما يُطلب في الصلاة من حضور القلب والخشوع واستحضار ما يقوله ويفعله فيها.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ -رحمه الله: جَمِيعُ مَا ذَكَرْتُهُ يَنْبَغِي لأَهْلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَتَأَدَّبُوا بِهِ، وَلا يَغْفَلُوا عَنْهُ، فَإِذَا انْصَرَفُوا عَنْ تِلاوَةِ الْقُرْآنِ اعْتَبَرُوا أنفسهم بِالْمُحَاسَبَةِ لَهَا، فَإِنْ تَبَيَّنُوا مِنْهَا قَبُولَ مَا نَدَبَهُمْ إِلَيْهِ مَوْلاهُمْ الْكَرِيْمُ؛ مِمَّا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ مِنْ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ، حَمِدُوهُ فِي ذَلِكَ، وَشَكَرُوا اللهَ عَلَى مَا وَفَّقَهُمْ لَهُ، وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّ النُّفُوَس مُعْرِضَةٌ عَمَّا نَدَبَهُمْ إِلَيْهِ مَوْلاهُمْ الْكَرِيْمُ، قَلِيلَةُ الاكْتِرَاثِ بِهِ؛ اسْتَغْفَرُوا اللهَ مِنْ تَقْصِيرِهِمْ، وَسَأَلُوهُ النُّقْلَةَ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ، الَّتِي لا تَحْسُنُ بِأَهْلِ الْقُرْآنِ، وَلا يَرْضَاهَا لَهُمْ مَوْلاهُمْ، إِلَى حَالٍ يَرْضَاهَا؛ فَإِنَّهُ لا يَقْطَعُ من يلجأ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ وَجَدَ مَنْفَعَةَ تِلاوَةِ الْقُرْآنِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَعَادَ عَلَيْهِ مِنْ بَرَكَةِ الْقُرْآنِ كُلُّ مَا يُحِبُّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ -إِنْ شَاءَ اللهُ.
عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَمْ يُجَالِسْ هَذَا الْقُرْآنَ أحدٌ إِلا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، قضاء اللهِ الَّذِي قَضَى: شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82].
عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِ اللهِ : وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف:58]، الْمُؤْمِنُ سَمِعَ كِتابَاللهِ فَوعاهُ, وَأَخَذَ بِهِ, وَانتَفَعَ بِهِ؛ كَمَثَلِ هَذِهِ الأَرْضِ أَصَابَهَا الْغَيْثُ، فَأَنبَتَتْ, وَأَمرَعَتْ، وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا [الأعراف:58]، أَيْ: إِلا عَسِرًا، فـــهَذَا مَثَلُ الْكَافِرِ قَدْ سَمِعَ الْقُرْآنَ فَلَمْ يَعْقِلْهُ، وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ، كَمَثَلِ هَذِهِ الأَرْضِ الْخَبِيثَةِ أَصَابَهَا الْغَيْثُ، فَلَمْ تُنْبِتْ، وَلَمْ تُمْرِعْ شَيْئًا.
بَاب: فِي حُسْنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ
عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ رَسولِ اللهِ ﷺ قال: زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ[19].
عن صالح بن أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَل عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: قَوْلُهُﷺ: زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ مَا مَعْنَاهُ؟ قَالَ: التَّزْيِينُ أَنْ يُحَسِّنَهُ.
هنا في قوله: زينوا القرآن، هل المقصود بالقرآن هنا القراءة -القرآن مصدر يعني القراءة، أو أن المقصود به المقروء المتلو الذي هو كلام الله -تبارك وتعالى-؟، فإن القرآن يأتي لهذا وهذا كما هو معلوم، وقد ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، وذكر ذلك ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله- شارح الطحاوية، وكلامه في جملته هو كلام شيخ الإسلام وكلام الحافظ ابن القيم -رحم الله الجميع، القرآن مصدر وتارة يُذكر ويراد به القراءة، وتارة يراد به المقروء، فقوله -تبارك وتعالى- مثلاً: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، هذا قطعاً المراد به القراءة في صلاة الفجر في الفريضة تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، "وقرآن الفجر".
كذلك أيضاً قول النبي ﷺ: زينوا القرآن بأصواتكم يحتمل هنا أن يراد به هذا المعنى، يعني: زينوا القراءة قراءة القرآن بأصواتكم، وقد يُذكر القرآن ويراد به المقروء كما في قوله: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ القرآن هنا المقروء الذي هو كلام الله -تبارك وتعالى: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]، وهكذا في قوله: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204]، القرآن الذي هو كلام الله، والنبي ﷺ قال: إن هذا القرآن أُنزل على سبعة أحرف[20]، المقصود به كلام الله، وقوله ﷺ: زينوا القرآن بأصواتكم، قال بعض أهل العلم كما ذكر غير واحد ونقله الخطابي -رحمه الله: إن المعنى زينوا أصواتكم بالقرآن، زينوا القرآن بأصواتكم أي زينوا أصواتكم، قالوا: هذا من قبيل القلب، أنه مقلوب[21]، وكما يقال: عرضتُ الناقة على الحوض، يعني عرضتُ الحوض على الناقة، وهذا أسلوب عربي معروف.
وقد جاءت رواية للحديث تدل على هذا المعنى الذي ذكروه حيث قدم الأصوات على القرآن زينوا أصواتكم بالقرآن، فهذا يشهد لهذا القول، زينوا أصواتكم بالقرآن، فيكون هذا معناه، والله أعلم.
وخلاف هذا من يكون ذلك فتنة له، فيكون سبباً لطلب الدنيا، والمال والتكسب هنا وهناك، والارتزاق بالقرآن، ويتحول ذلك إلى صنعة، ويكون ذلك مورداً له يتكسب به ويأخذ أموال الناس، هذا لا يليق، وكذلك حينما يصير بذلك مرائياً يتزين للناس بقراءته وينظر إلى ثنائهم وإطرائهم ومدحهم وما يُغني عنه قول هؤلاء الناس، ومدح هؤلاء الناس حينما يوارى في قبره ويلقى الله ، والآخرة دار لا تصلح للمفاليس، والحديث السابق: أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة..[22]، هذا الحديث ينبغي أن يقف الإنسان عنده طويلاً حيث ذكر من هؤلاء القارئ، فحسن الصوت نعمة، لكنه في الوقت نفسه قد يكون فتنة، فتنة من هذه الحيثية، فتنة من حيث فتنة الناس به، فتنة أصحاب القلوب الضعيفة به.
فيحتاج إلى أن ينظر فيما يُصلح قلبه، وقد لا يحتاج إلى نشر قراءته، ووضعها في القنوات أو في المواقع في الشبكة ونحو ذلك، فعند الإنسان ما يكفيه من أنواع المجاهدات فلا يفتح على نفسه أبواباً يعجز عن سدها، القُراء كُثُر، والتسجيلات للتلاوات كثيرة جدًّا، ولم تقف عليه، قد يأتيه من يغريه بهذا ويقول له: تُؤْجر، سجل هذه القراءة الناس يستمعون، الناس يستفيدون، فليكن جوابه أن ذلك لم يقف عليّ، فتوجد مئات القراءات المسجلة فهي تكفي وتُغني، ولست بحاجة لأن افتح على نفسي باباً لا أستطيع أن أضبط فيه نيتي، يعني: هذا من باب النصيحة، وإلا فلست أقول: إن من سجل قراءته ووضعها أنه لا يريد بذلك وجه الله، حاشا وكلا، هذا بين الإنسان وبين ربه لا أحد يستطيع أن يطلع على نيته، لكن أتحدث عن المجاهدة أن هذا يحتاج إلى مجاهدة أكبر، المشكلة أن هذه الأشياء التي هي عبارة عن مهارات، أو هبات من حُسن الصوت، أو حُسن الصورة أو نحو ذلك لا يد للإنسان فيها إن لم يكن معها أمور كسبية من التقوى العظيمة التي تعمر القلب، أو العلم الراسخ أو نحو ذلك فيضبط الإنسان حاله ونفسه وإلا فإنه قد يطير مع المادحين، ولا يدري بأي وادٍ هلك.
ابن عمر جاءه بعض الناس فقال: "يا خير الناس، أو يا ابن خير الناس، فقال: ما أنا بخير الناس، ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله، أرجو الله، وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه"[23]، وهو ابن عمر الذي كان يصلح للخلافة، وهو إمام في العلم والفقه والدين المتين الراسخ، وسالم من الفتن اعتزل الفتن جميعاً، وكان يقول: لست بسيدكم ولا بابن سيدكم، وهو ابن عمر بن الخطاب سيد المسلمين، ويقول مثل هذا الكلام، فكيف بنا نحن مع ضعف المراقبة لله، وضعف التقوى، والخشية وقلة العلم، وقلة الصبر، وضعف البصر والبصيرة؟!.
هو كما قال ابن كثير -رحمه الله- بأن المطلوب شرعاً هو تحسين الصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهم القرآن، والخشوع والخضوع والانقياد للطاعة، هذا هو المطلوب إذا رأيته حسبت أنه يخشى الله، لما يظهر عليه من الآثار آثار الخشوع، آثار الإخبات، آثار الخشية، أنوار القرآن تظهر عليه، هذا إذا رأيته حسبت أنه يخشى الله، فيقول ابن كثير: "أما الأصوات بالنغمات المُحدثة"، يقصد هذه التي يسمونها بالمقامات، "المركبة على الأوزان والأوضاع الملهية والقانون الموسيقائي فالقرآن يُنزه عن هذا ويُجل ويُعظَّم أن يُسلك في أدائه هذا المذهب، وقد جاءت السنة بالزجر عن ذلك"[25]، هكذا فهم أهل العلم، ولذلك تجد في كلام الشراح كالمناوي أنهم فهموا من هذا الحديث الحث على الترتيل ورعاية ما ينبغي تحسين الصوت به، والاحتراز من اللحن والتصحيف، فمثل هذا إذا قرأ كانت قراءته أوقع في القلب، وأشد تأثيراً، وذلك من التزيين تزيين القراءة بالأصوات، يعني: التي يُشرع التزيين بها وليست المقامات، ويكون مستحضراً لعظمة الله، وأن هذا هو كلامه -تبارك وتعالى، فيظهر عليه آثار ما يقرأ من الوعد والوعيد ويعتبر ويتعظ وما إلى ذلك، فيظهر عليه من الهيبة والجلال، فهذا هو أحسن الناس قراءة إذ إن حاله تدل على أثر القرآن عليه، وعلى أن هذه القراءة قد خالطت قلبه ومازجته، وهو يلتذ بذلك غاية الالتذاذ، بخلاف ذلك الذي يقرأ لا تتجاوز قراءته حنجرته -نسأل الله العافية، لا يفقه ولا يتدبر، بينما هذا إذا رأيته حسبت أنه يخشى الله، هذا ما تُنتجه القراءة الصحيحة الشرعية، وهذا أثر حُسن الصوت المطلوب، أحياناً تسمع بعض الأصوات الجميلة التي وهبها الله لبعض الناس مع إتقان القراءة تقول: ما أجمل هذا إذا كان يُحيي به ليله، ويعمر به نهاره، نعمة عظيمة، وإذا نظرت إلى بعض القراءات والتحزين فيها وقراءات مؤثرة جدًّا تقول: ما أجمل هذا حينما يناجي الإنسان به ربه، بهذه الطريقة، لا أن يتخذ ذلك أداة لما سبق من المطالب الدنية.
القراءة بالمقامات، لحون أهل الفسق، لكن من كان يقرأ من غير قصد، فالإنسان حينما يقرأ تقع قراءته من غير إرادة على شيء من هذه الأوزان على شيء من هذه المقامات على واحدة أو اثنتين فإن هذا غير ملوم، وقد لا يعرفها ولم يدرسها، لكن من يعرف ذلك يقول: إن قراءته تقع على هذا أو هذا النحو، فهذا غير ملوم، كذلك لو أنه يقلد غيره ممن أعجبته قراءته ويحاكيه في القراءة وهو لا يعرف هذه الأوزان، وذاك يقرأ على شيء من هذه المقامات، فإن هذا المُحاكِي غير ملوم، لكن أن يقصد أن يُوقع القراءة عليها فهذا لا، ولو رأيتم كيف يتعلمونها كأنه يعلمهم الطرب والغناء تماماً.
قال: فَإِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِثْلِ: يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَالأَصْمَعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَل، وَأبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَغَيْرِ وَاحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ, ويَأْمُرُونَ الْقَارِئَ إِذَا قَرَأَ أَنْ يَتَحَزَّنَ، وَيَتَبَاكَى، وَيَخْشَعَ بِقَلْبِهِ.
فَأُحِبُّ لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ أن يَتَبَاكَى، وَيَخْشَعَ قَلْبُهُ، فيتفكر فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.
وهذا إذا كان لا يراه أحد، أما أن يتباكى وهو يصلي بجموع الناس فمثل هذا لا يحسن ولا يجمل ولا يليق ولا يُطلب، إنما يتباكى إذا كان لا يراه أحد، يستجلب بذلك البكاء ويستجره، أما التصنع أمام الناس فالإنسان إذا غلبه البكاء يدفعه ما استطاع، والنبي ﷺ كان يُسمع له نشيج في صدره ﷺ، ولم يكن ﷺ يتصنع البكاء أمام الناس، وما كان ﷺ يرفع صوته بالبكاء، فكيف باستفزاز الناس بالبكاء بأصوات يصدرها قصداً وهو ليس بخاشع، كأن ينشُج من غير بكاء بين حين وآخر قصداً لاستفزاز الناس للبكاء؟، فمثل هذا لا يليق.
ألَمْ تسمع إِلَى مَا نَعَتَ اللهُ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَأَخْبَرَ بِفَضْلِهِمْ، فَقَالَ : اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23].
ثُمَّ ذَمَّ قَوْمًا اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ، فَلَمْ تَخْشَعْ لَهُ قُلُوبُهُمْ، فَقَالَ: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ [النجم:59-61]، يعني: لاهين، ثُمَّ يَنْبَغِي لِمَنْ قَرَأَ القرآن أنْ يُرَتِّلَ القرآن ترتيلًا كَمَا قَالَ اللهُ: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4]، قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: بَيِّنه تَبْيِينًا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا رَتَّلَهُ وَبَيَّنَهُ انْتَفَعَ بِهِ مَنْ يَسْمَعُهُ مِنْهُ، وَانْتَفَعَ هُوَ بِذَلِكَ؛ لأَنَّهُ قَرَأَهُ كَمَا أُمِر، قَالَ اللهُ : وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ [الإسراء:106]، يقال: عَلَى تُؤَدَة.
عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللهِ : وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا [الإسراء:106]، قال: على تؤدة.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ -رحمه الله: وَالْقَلِيلُ مِنْ الدَّرْسِ لِلْقُرْآنِ مَعَ الْفِكْرِ فِيهِ، وَتَدَبُّرِهِ أَحَبُّ إلِيَّ مِنْ قِرَاءَةِ الْكَثِيرِ مِنْ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ تَدَبُّرٍ، وَلا تَفَكُّرٍ فِيهِ، وظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَالسُّنَّةُ، وَقَوْلُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
عَنْ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ : إِنِّي سَرِيعُ الْقِرَاءَةِ، إِنِّي أَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي ثَلاثٍ، قَالَ: لأَنْ أَقْرَأَ الْبَقَرَةَ فِي لَيْلَةٍ، فَأَتَدَبَّرهَا، وَأُرَتِّلهَا أحبُّ إِلَيَّ مِنْ أَن أَقْرَأَ كَمَا تَقُولُ[26].
عَنْ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ قَالَ: سُئِلَ مُجَاهِدٌ عَنْ رَجُلٍ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، وَرَجُلٍ قَرَأَ الْبَقَرَةَ قِرَاءَتُهُمَا وَاحِدَةٌ، وَرَكُوعُهُمَا، وَسُجُودُهُمَا, وجلوسهما، أيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ قَالَ: الّذِي قَرَأَ الْبَقَرَةَ، ثُمَّ قَرَأَ: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا [الإسراء:106].
الله -تبارك وتعالى- يقول: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، فهذا هو المقصود من إنزال القرآن، وهذا التدبر هو الذي يحصل به زيادة الإيمان وكمال الإيقان، وهو الذي يحصل به أيضاً العمل بعد أن يعقل عن الله -تبارك وتعالى- ويفقه مراده، ويتبين له أنواع الهدايات التي ضمنها الله بهذا القرآن، فالقراءة على تؤدة يمكن أن نُمثل لها بمن مر في طريق وهو في غاية الإسراع فلو سئل عن معالم هذا الطريق وما رآه وما شاهده فيه من المتاجر والمحال ونحو ذلك فإنه لا يكاد أن يعقل من ذلك شيئاً
التدبر هو الذي يحصل به زيادة الإيمان وكمال الإيقان، وهو الذي يحصل به أيضاً العمل بعد أن يعقل عن الله -تبارك وتعالى- ويفقه مراده، ويتبين له أنواع الهدايات التي ضمنها الله بهذا القرآن، فالقراءة على تؤدة يمكن أن نُمثل لها بمن مر في طريق وهو في غاية الإسراع فلو سئل عن معالم هذا الطريق وما رآه وما شاهده فيه من المتاجر والمحال ونحو ذلك فإنه لا يكاد أن يعقل من ذلك شيئاً
، أليس كذلك؟! يمر الإنسان بطريق في غاية الإسراع، وهذا الطريق عن يمينه وشماله المتاجر والمعالم المختلفة فإنه لا يعقل من هذا أو لا يكاد يعقل منه شيئاً، لكن آخر مضى بشيء من التؤدة وهو يتأمل وينظر فإذا سألته عما شاهد في هذا الطريق فإنه يخبرك بما لا يخبرك عنه الأول، فهكذا في قراءة القرآن والتؤدة فهذا مثل يقربه، وحينما يقرأ الإنسان قراءة يترسل فيها ويتدبر ويعقل فيظهر له من أنواع الهدايات ما لا يقادر قدره، ولهذا كان بعض أهل العلم يقول: إنه يختم في كل أسبوع في كل جمعة ختمة، وله ختمة في كل شهر، وله ختمة في كل عام، ويقول: إنه في ختمة منذ سبع عشرة سنة ما قضاها، ولذلك أقول: نحن نستقبل هذا الشهر وكان بعض أهل العلم في شهر شعبان يتفرغ للقرآن، تهيُّؤًا لرمضان، فكيف تكون حاله في رمضان؟!.
فأقول: أولاً فيما يتعلق بالقراءة خارج الصلاة لو أن أحدنا في هذه الأيام إلى نهاية شعبان ختم ختمة، ونظر في كتاب من كتب الغريب غريب القرآن، كُتب سهلة التناول مختصرة فالكلمة التي لربما يُشكل عليه شيء في معناها يرجع إليها، فإذا ختم خلال عشرة أيام فإنه لا يبقى شيء من ألفاظ القرآن لا يدري ما هو، وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [التكوير:17]، لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ [المدثر:29]، ما معنى لواحة؟ وما معنى البشر؟ هل هي الأبشار أو الناس؟ وهكذا أيضاً في ألفاظ لربما وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ص:16]، ما هو قطهم هنا في الآية؟ فإذا كانت كلمة فيها شيء من الغرابة والإشكال يرجع إليها، فيكون في عشرة أيام لا تبقى عليه لفظة مبهمة، ولو أنه استطاع أن يقرأ في مثل التفسير الميسر أو المختصر في التفسير هذه العشرة الأيام أن يقرأه، وأن يُنجزه، أو يقرأ في رمضان أيضاً، قبل أن يأتي لصلاة التراويح مثلاً، يصلي مع إمام يختم فيقرأ تفسير الجزء قبل أن يأتي، ويُراعي في ذلك أن لا يأتي وهو في حال من الشِّبع، وقد سُئل الإمام أحمد عن الخشوع هل يجد الخشوع مع الشِّبع؟.
قال: لا أُراه، وهذا واضح وظاهر، الإنسان إذا كان في حال من الشِّبع فإنه يجد في نفسه شيئاً من الثقل وهو أبعد ما يكون من الخشوع، فيأكل بقدر يسير، ويجعل أكله بعد صلاة التراويح، ويأتي مبكراً؛ لأن الذهن يبقى مشوشاً مفرقاً في المشاهد التي شاهدها قبل أن يدخل المسجد، فيأتي مبكراً، يكون في المسجد مثلاً قبل إقامة الصلاة بنحو نصف ساعة، يقرأ ويتدبر وينظر، فإذا كان بهذه المثابة وهو ليس في حال من الشبع وقد قرأ التفسير تفسيراً مختصراً للآيات فإنه لن يشبع من قراءة الإمام، ومن سماعه خاصة إذا كان يصلي خلف من يجد قلبه عنده سماع قراءته أو عند الصلاة خلفه، لن يشبع وإذا ركع الإمام يتمنى أنه لا يركع؛ لأنه يقطع عليه هذا التفكر والتدبر فهو مسترسل مع هذه الآيات، يكون في لذة وفي عالم من الالتذاذ بالقرآن، وابن جرير الطبري -رحمه الله- يقول: "عجبت لمن يقرأ القرآن ولا يعرف معانيه كيف يلتذ بقراءته!"، كالأعجمي، فهذه لو روعيت من الليلة ابتدأنا وهيأنا لرمضان ليكون هذا الشهر يختلف عن سائر الشهور الأخرى في الأعوام السابقة وعن شهور هذا العام، شهر جديد نستقبله بقلب جديد، ثم بعد ذلك ينظر كيف يكون أثر القرآن، البعض منا لربما تدخل العشر الأواخر ولا زال قلبه لم يلن بعد، بل لربما ينقضي الشهر وما دمعت عينه وما رق قلبه، لا زال في حال من القسوة بل لربما يعتكف ويبقى قلبه في حال من القسوة لم تدمع له عين، ولم يخشع في لحظة واحدة في هذا الشهر الذي تصفد فيه الشياطين، وتدنو الرحمة، تُفتح أبواب الجنة، وتُغلق أبواب النار، وتُفتح أبواب الخير على الصائمين ومع ذلك لا حراك به، فمتى سيتحرك؟!.
إذن نحتاج أن نتهيأ للشهر قبل دخوله، ونتهيأ للصلاة قبل المجيء إليها، ولا يؤذن المؤذن إلا وقد ترك الإنسان -في أقل الحالات- ما في يده وانصرف إلى المسجد، هذا إذا ما أمكنه أن يكون في المسجد عندما يؤذن المؤذن، لكن لنقل: المرحلة الأولى أنه إذا أذن المؤذن ضع ما في يدك، الله أكبر من كل شيء، فتكون تربية يستمر عليها بعد رمضان، هذه نصيحة لي أنا أحوج ما أكون إليها وهي لإخواني، والله يقول: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3]، ولولا هذا لما قال الإنسان شيئاً، فإن ما يذكره الإنسان لا يعني أنه قد تحقق به.
الحمد لله، أسأل الله أن يبارك لنا ولكم في ما سمعنا، وأن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل، وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- ذكره البخاري معلقاً في صحيحه، كتاب مواقيت الصلاة، باب هل يتتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا، وهل يلتفت في الأذان، (1/ 129)، ومسلم، باب ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها، برقم (373).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، برقم (81).
- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا الله، برقم (1360)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أول الإيمان قول لا إله إلا الله، برقم (24).
- انظر: المغني لابن قدامة (1/ 446).
- انظر: المصدر السابق.
- الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 340)، ومجموع الفتاوى (23/ 139).
- أخرجه أبو داود، باب تفريع أبواب السجود، وكم سجدة في القرآن، باب من لم يرَ السجود في المفصل، برقم (1404)، والترمذي، أبواب السفر، باب ما جاء من لم يسجد فيه، برقم (576)، وأحمد في المسند، برقم (21591)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1266)، وقال بشذوذه الشيخ مقبل الوادعي في أحاديث معلة ظاهرها الصحة (ص: 136)، برقم (136)، حيث قال: "هذا الحديث إذا نظرت إلى سنده وجدتهم رجال الصحيح، ولكن أبا صخر وهو -حميد بن زياد- خالف يزيد بن خصيفة وابن أبي ذئب فهما يرويانه عن ابن قسيط عن عطاء بن يسار عن زيد بن ثابت أنه قرأ على النبي ﷺ، وهو يرويه عن ابن قسيط عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه به، وهما أرجح منه، فيعتبر شاذاً".
- أخرجه أبو داود، باب تفريع أبواب السجود، وكم سجدة في القرآن، باب السجود في ص، برقم (1410)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1271).
- أخرجه أبو داود، باب تفريع أبواب الركوع والسجود، باب الدعاء في الصلاة، برقم (883)، وأحمد في المسند، برقم (2066)، وقال محققوه: "صحيح موقوفا، رجاله ثقات رجال الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (826).
- أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، تفريع أبواب الصفوف، باب الدعاء في الصلاة، برقم (884)، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (3692)، والبغوي في شرح السنة (3/ 105)، برقم (624)، وصحح إسناده الألباني في صحيح أبي داود، برقم (827).
- أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، برقم (1799).
- أخلاق أهل القرآن، برقم (71).
- المصدر السابق، برقم (72).
- شرح السنة للبغوي (2/ 50).
- المصدر السابق (12/ 315).
- أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب الوضوء من النوم، ومن لم يرَ من النعسة والنعستين أو الخفقة وضوءً، برقم (212)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته، أو استعجم عليه القرآن، أو الذكر بأن يرقد، أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، برقم (786).
- أخرجه السيوطي في الدر المنثور ، عن ابن عباس والضحاك (2/ 546)، وانظر: فتح القدير للشوكاني (1/ 546).
- شرح النووي على مسلم (6/ 74).
- أخرجه أبو داود، باب تفريع أبواب الوتر، باب استحباب الترتيل في القراءة، برقم (1468)، والنسائي، كتاب الافتتاح، باب تزيين القرآن بالصوت، برقم (1015)، وابن ماجه، أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب في حسن الصوت بالقرآن، برقم (1342)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1320).
- أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، برقم (4992)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، برقم (818).
- معالم السنن، للخطابي (1/ 290).
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، برقم (1905).
- أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/307)، وانظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (31/155)، وسير أعلام النبلاء (3/236).
- أخرجه ابن ماجه، أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب في حسن الصوت بالقرآن، برقم (1339)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2202).
- تفسير ابن كثير (1/ 64).
- فضائل القرآن للقاسم بن سلام (ص:157)، وتفسير ابن كثير (1/ 78).