الخميس 16 / شوّال / 1445 - 25 / أبريل 2024
(2) حديث أَبي حفْصٍ عُمَر بن أَبي سلَمةَ كُنْتُ غُلاماً في حجْرِرسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم
تاريخ النشر: ٢٨ / محرّم / ١٤٢٨
التحميل: 678
مرات الإستماع: 2053

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب وجوب أمره أهله وأولاده المميزين وسائر من في رعيته بطاعة الله تعالى، ونهيهم عن المخالفة، وتأديبهم، ومنعهم عن ارتكاب منهي عنه؛ أورد المصنف -رحمه الله- "حديث أبي حفص عمر بن أبي سلمة"، وأبو سلمة هو عبد الله بن عبد الأسد القرشي المخزومي، وهو من صغار الصحابة ، ولد في الحبشة بعد هجرة النبي ﷺ إلى المدينة بسنتين، ثم بعد ذلك لما مات أبوه تزوج النبي ﷺ أم سلمة، وروايته عن رسول الله ﷺ ليست كثيرة، روى نحوًا من اثني عشر حديثًا، وهو ربيب رسول الله ﷺ، بمعنى أنه عاش في كنفه مع أمه لما تزوجها النبي ﷺ، كما قال الله -تعالى-: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [النساء:23].

"قال: كنت في غلامًا في حجر رسول الله ﷺ"، والغلام يقال للصغير، يُقال له من بعد الولادة إلى سن البلوغ، لربما قيل له غلام، ولربما أطلق الغلام على المملوك ولو كان كبيرًا، والخادم، ولربما أطلق الغلام أيضًا على الكبير إذا كان لا يحسن التدبير، كما قال النَّبي ﷺ: هلاك أمتي على يد أغيلمة سفهاء من قريش[1]، وهؤلاء لم يكونوا دون سن البلوغ، فهم وصلوا سن البلوغ قطعًا، ويقال الغلام أيضًا لغير هذا.

فعلى كل حال هذا الولد الصغير كان يأكل مع النبي ﷺ، يقول: "وكانت يدي تطيش في الصحفة"، يعني في الإناء، تطيش بمعنى أنه يأخذ من هاهنا ومن هاهنا، لا يأكل من محل واحد، وممَّا يليه، وهذا أمر كما هو في مجاري العادات، وكما جبلت عليه النفوس أمر يحصل منه النفور، نفور الآكل أو الجليس، أمر غير مستساغ عند الناس، والإسلام جاء بما يهذب الأخلاق، وبما يلائم الأذواق السليمة، وما تستحسنه العقول المستقيمة، لا تجد في هذا الدين شيئًا يأمر الله به تأباه العقول، لكنها قد تتوقف عند بعض الأمر لا تدركها؛ لأنها من أمر الغيب، كما قيل لأعرابي: بما عرفت أنه رسول الله ﷺ؟ فقال: "ما أمر بشيء فقال العقل: ليته نهى عنه، وما نهى عن شيء فقال العقل: ليته أمر به"[2].

فهنا في هذه الآداب، هذه الشريعة جاءت بتهذيب النفوس والأرواح، وإقامتها على الحالة القويمة الرفيعة مما يحفظ للناس كرامتهم ومروءتهم، ويحفظ لهم أديانهم وأعراضهم ونفوسهم، ويحفظ أموالهم وعقولهم، كل هذا جاءت به هذه الشريعة، فالأمور التي يعدّها كثير من الناس أمور صغيرة جاءت الشريعة بتهذيبها وتقويمها، وعلمتهم ما ينفعهم في ذلك، وجاءت بتنظيم الأمور العظام في تدبير حياة الناس وسياستهم، وما إلى ذلك، فهذا كانت تطيش يده في الصحفة، تذهب هنا وهناك أثناء الأكل، "فقال له النبي ﷺ: يا غلام سم الله تعالى"، سم الله: يعني قل: بسم الله، وهذا صغير غير مكلف، ومع ذلك أمره النبي ﷺ، فهذا يؤكد المعنى الذي ذكرناه في مرة سابقة وهو أنَّ الصغير لا يترك، وإنما يعلم ويؤمر وينهى حتى يكون على حالة مرضية، ما يقال: هذا صغير يترك، فإن وليه يقوم عليه بما فيه صلاحه، وهذا الصغير يشب بعد ذلك، ويتقدم به العمر، ويصعب تقويمه بعد ذلك، يتمرد إذا شب عن الطوق.

فقال له: يا غلام، وهذا فيه لون ملاطفة لهذا الصغير، يا غلام سم الله تعالى، وما عنفه ﷺ، ما ضربه.

فكان النبي ﷺ من أحسن الناس تعليمًا، بعض الناس يحتقرون الصغار، لا يأكلون معهم، ولا يكلمونهم، ولا يجالسونهم، فالنبي ﷺ كان يأكل مع هذا الطفل الصغير، وهو ليس ولده، هو ربيبه، وكثير من الناس يأنفون بل لربما رأوا أنه من العيب أن يأكل الإنسان مع الصغار، يترفعون عن هذا، هذا نوع كبر، الإنسان ينبغي أن يتواضع، والأكل مع هؤلاء فيه تربية لهم، وفيه تقوية لنفوسهم وقلوبهم، وهذا دين الرحمة، فما زجره ولا أقامه من الطعام، ولا ضربه، وإنما قال له: يا غلام سم الله تعالى، علمه التسمية؛ لأنه إذا سمى الله لا يأكل معه الشيطان، كما دلت عليه الأحاديث الأخرى، فالشيطان إذا جاء مع الإنسان وأراد أن يدخل بيته ولم يسم دخل مع الشيطان، فيقول الشيطان لأصحابه: أدركتم المبيت[3]، يبيت معه، فإذا أراد أن يأكل ولم يسم الله قال: أدركتم المبيت والعشاء، يعني البعيد يبيت عنده الشيطان، داعي الشيطان عازمه على المبيت وعلى العشاء.

فالشاهد أنه قال له: سم الله تعالى وكل بيمينك، أيضًا هذا أدب آخر، فالإنسان الذي يأكل بشماله يكون متشبهًا بالشيطان، ونحن لا يجوز لنا أن نتشبه بالأشرار، ولا بما يحصل فيه معرّة ونقص على الإنسان، فالتشبه بالشيطان لا يجوز؛ ولهذا النبي ﷺ نهى عن الأكل بالشمال، والشرب بالشمال، وأخبر أن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله.

وكذلك أيضًا نهانا عن التشبه بالكفار، ونهانا أيضًا عن التشبه بالحيوانات، عن إقعاء كإقعاء الكلب، وبروك كبروك الجمل، ونهى الرجال أن يتشبهوا بالنساء، والنساء أن يتشبهن بالرجال، فهذا كله خروج عن الفطرة التي ارتضاها الله وفطر الناس عليها، فقال له: وكل بيمينك، وهذا يدل على الوجوب، وهذا الأصل فيه، والرجل الذي كان يأكل بشماله قال له النبي ﷺ: كل بيمينك، فقال: ما أستطيع، فقال: لا استطعت[4]، دعا عليه النبي ﷺ، وهذا يدل على أن الأمر للوجوب هنا، قال: لا استطعت، فما رفعها، استجيبت دعوة النبي ﷺ فيه، الرجل ما رفع يده.

فالشاهد أنه قال: وكل بيمينك، فاليمين للأكل وللتسبيح ولكل أمر طيب، والشمال للخلاء ونحو ذلك، قال: وكل مما يليك[5]، ثلاثة أشياء أمره بها، كل مما يليك من أجل أن لا تقذر على الآخرين الطعام، هذا إذا كان الطعام واحدًا، فليس للإنسان أن يتجاوز ما يليه إلى غيره، ولذلك قال النبي ﷺ للأعرابي: إنما هو طعام واحد[6]، فهذا الطعام الواحد لماذا يأكل الإنسان من الناحية الأخرى والناحية الأخرى والطعام متحد؟! ليس له معنى أن يفارق الإنسان ناحيته إلى غيرها، لكن إذا كان الطعام متعددًا متنوعًا فإن للإنسان أن يأكل من النواحي المتعددة، مثلاً إذا كان فاكهة هنا نوع وهنا نوع وهنا نوع فله أن يأكل من هنا ومن هنا ومن هنا، كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ حيث علمنا هذا، أيضًا النبي ﷺ كان يتتبع كما في حديث أنس يتتبع الدباء[7] يعني القرع، كان يحبها ﷺ، فكان يتتبعها في الإناء، فلم يقتصر على ما يليه؛ لأنه يريد هذا اللون من الطعام، وهذا اللون قد يكون موجود هنا وهناك ونحو ذلك، وقد أخذ منه بعض أهل العلم أن ذلك إذا كان لا يسبب نفرة للإنسان، يعني يأذن فلا بأس أن يأكل الإنسان من الناحية الأخرى إذا فيه، إذا كان مثل هذا فيه دباء ونحو ذلك، وأنس يسر بهذا.

فالشاهد أن هذه من الآداب، يقول أبو سلمة: فما زالت تلك طعمتي بعد، يعني طعمتي يعني صفة أكلي، طريقتي في الأكل، آكل مما يليني، تعلم وأخذ هذا الأدب وتربى عليه، هذا الحديث متفق عليه.

ولذلك أقول أيها الأحبة: بأن تربية هؤلاء الأولاد ليست فقط تربية أجسام بهذا الطعام الذي يأكلونه، كما يفعله كثير من الناس، يوفر لهم ألوان الطعام والثياب ونحو ذلك ولكنه لا يؤدبهم ولا يعلمهم ولا يربيهم ولا يجالسهم ولا يؤاكلهم، فمثل هؤلاء متى يتعلمون، فالواحد منهم إذا جلس مع الرجال يريد أن يأكل لا يحسن الأكل، إذا أراد أن يتكلم معهم لا يحسن الكلام، إذا أراد أن يجلس في المجلس لا يحسن الجلوس، ولا يحسن الاستقبال، ولا يحسن الاعتذار؛ لأن أباه لم يؤدبه ولم يجالسه ولم يصاحبه، فهذه قضية مهمة، هؤلاء الأولاد يحتاجون بعض الوقت، يحتاجون أن نأكل معهم، أن نجلس معهم، أن نعلمهم، أن نرشدهم، أن نوجههم، ولا نمل من هذا، كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته[8]، ومن ظن أن التربية بتوفير ما يحتاجون إليه من سائق وخادم وطعام وشراب ونحو ذلك فهو مخطئ، هذا جزء مما يحتاجون إليه في تربية الأبدان، بقيت تربية القلوب، وهذا أولى وأهم، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم (3410).
  2. مفتاح دار السعادة: (2/7).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، رقم (2018).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، رقم (2021).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام والأكل باليمين، رقم (5061)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما برقم (2022)
  6. أخرجه الترمذي، كتاب الأطعمة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب في ترك الوضوء قبل الطعام، رقم (1848)، وضعفه الألباني في سن الترمذي برقم (1848).  
  7. أخرجه البخاري، كتاب الأطعمة، باب من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه، إذا لم يعرف منه كراهية رقم (5379)
  8. أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب المرأة راعية في بيت زوجها، رقم (4904)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، رقم (1829).

مواد ذات صلة