الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب الإسراع بالجنازة.
والمقصود بالإسراع: الإسراع الذي لا يحصل معه اضطراب الجنازة، أو لربما يؤدي إلى سقوطها، أو يؤدي إلى مشقة على من يتبع الجنازة، وإنما المقصود بالإسراع على الأرجح من أقوال أهل العلم: أن يكون فوق المشي، يعني: أسرع من المشي المعتاد، ودون الخَبَب، يعني: يكون مشيًا فيه شيء من السرعة، كما نشاهد الآن ما يفعله الناس في حمل الجنائز، هذا هو العمل المشروع في الإسراع بالجنازة.
وجاء في ذلك:
هذا الحديث يدل دلالة أولية على الإسراع في السير بها إلى القبر؛ لأنه قال: فشر تضعونه عن رقابكم، إذن أسرعوا بها من أين؟ أسرعوا بها في توجهكم إلى القبر، أو المقبرة، لكنه أيضًا يدل على الإسراع في تجهيز الميت، والمبادرة في ذلك، وعدم التأخير، وذلك يؤخذ من عموم قوله ﷺ: أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة، فخير تقدمونها إليه، إذن كلما كان الدفن في وقت أقصر وأقرب فهذا هو المشروع، فإن كان من أهل الخير والصلاح، فإن ذلك يكون خيرًا له؛ لأنه يقدم إلى روضة من رياض الجنة.
وبهذا نعرف أن تأخير الناس للجنازة، التأخير الذي يكون باختيارهم للجنازة غير مشروع، فالإنسان يموت في الصباح لربما لا يصلى عليه إلا في اليوم الثاني أو الثالث، هذا غير مشروع، يقولون: من أجل أن يأتي الأقارب، والناس من البلاد الأخرى، فيشهدوا الجنازة، يقال: لا، هؤلاء إذا جاءوا يمكن أن يذهب الواحد منهم إلى القبر، ويصلي عليه، كما صلى النبي ﷺ على المرأة السوداء التي كانت تقمّ المسجد[2]، فماتت، فسأل عنها، فأخبر أنها ماتت، الشاهد: أنه صلى على قبرها ﷺ، أما أن يؤخر من أجل هذا فلا، فالمشروع أن يدفن في يومه، وفي أقرب وقت، ولن يعدم وجود عدد من المصلين، كما جاء في الأحاديث السابقة: "من صلى عليه مائة"[3]، وحديث: "من صلى عليه أربعون"[4]، فهؤلاء يشفعون له، كما جاء في الأحاديث السابقة، فسيجد اليوم في المساجد ما يزيد على هذا العدد، فالمشروع هو: الإسراع، وأحيانًا لربما يتباهى الناس بكثرة من شهد الجنازة، وصلى عليها، وحضرها، وجاء إلى العزاء، وما أشبه ذلك، فيعلن في الصحف، وتؤخر الجنازة من أجل أن يأتي القريب والبعيد، ويحتشد الناس لها، فهذا خلاف المشروع، هذا إساءة إلى الميت.
وقل مثل ذلك فيما يفعله بعضهم من نقلها من بلد إلى بلد من غير موجب، حتى لو أوصى الميت، أوصى أنه يدفن في قريته، أو في بلده، أو نحو هذا، فإذا أراد ذووه وأهله أن يدفنوه حيث أوصى فلا بأس، لكن ذلك لا يجب عليهم، لاسيما إذا كانت مؤنة ذلك عليهم، يعني: فيه كلفة، ويدفعون أجرة للطائرة لنقله، أو نحو ذلك، فلا يجب عليهم، أو كان فيه مشقة عليهم، أما إذا كان يحصل بسبب ذلك ضرر على الجنازة، كالتغير، ونحو هذا فإنه لا تنفذ هذه الوصية، يدفن في المكان، وفي البلد الذي مات فيه، وهذه هي السنة، وهذا هو العمل المشروع، وليس من صالحه أن يوصي أن يدفن في بلد آخر؛ لأن ذلك يكون تأخيرًا في حقه، هذا من جهة، والأمر الآخر: فيه مخالفة شرعية.
والأمر الثالث هو: أن هذا الميت يكون قد شق على ورثته؛ لأنهم يكونون في حال من المصيبة، ومن الألم والحزن، ونحو ذلك، والسفر قطعة من العذاب، فإذا سافروا به فإن ذلك يتضاعف عليهم، لكن إذا دفنوه في البلد الذي مات فيه فهذا خير له، والله أعلم، والبلد لا تقدس أحدًا، ما في فرق، ولو دفن في أي مكان، الذي يقدسه هو عمله، وما يُقبِل عليه.
وفي رواية لمسلم: فخيرٌ تقدمونها عليه[5].
وذكر هنا أيضًا الحديث الثاني:
حديث أبي سعيد الخدري قال: كان النبي ﷺ يقول: إذا وضعت الجنازة، فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة، قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة، قالت لأهلها: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق[6].
يعني: المقصود: على الأكتاف، وإنما عبّر بالعنق للمجاورة، وإلا فإنها لا تحمل على العنق.
إذا وضعت الجنازة، فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، أسرعوا، عجلوا بي.
وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها، أين تذهبون بها؟، قوله: يا ويلها يحتمل وهو الظاهر: أن تكون قالت ذلك بضمير المتكلم، يعني: يا ويلي، أين تذهبون بي؟ ولكن من باب التأدب في الخطاب فإن الناقل لا ينسب إلى نفسه شيئًا مما يُكره، يعني: بدلا من أن يضيف هذا الإنسان على سبيل الحكاية إلى نفسه، وهذا أمر مكروه، كأنه هو الذي يحصل له هذا، عبر بضمير الغائب، يا ويلها، مثلما في قصة أبي طالب عند الوفاة، لما دعاه النبي ﷺ إلى التوحيد، والإيمان، والإسلام، ماذا قال آخر ما قال؟، قال: هو على ملة عبد المطلب[7]، هو ماذا قال في الحقيقة؟ قال: أنا، لكنه كُره للناقل أن ينسب ذلك إلى نفسه، يعني: أن يتكلم الواحد ويقول: أنا على ملة عبد المطلب، قال: هو على ملة عبد المطلب، فهذا من الأدب في المخاطبة، مثلما تقول لمن تخاطبه بشيء في أمر يكره أن يضاف إليه للتمثيل أو للتقريب، تقول كما لو قال البعيد: كذا، وكذا، تقول: قال البعيد، من باب التأدب، ما تقول له: كما لو قلتَ، كما لو فعلتَ، في أمر مكروه، تقول: كما لو قال البعيد، كما لو فعل البعيد كذا، هذا من أدب الخطاب، وهكذا في قوله تعالى: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]، فقال: "مرضتُ"، والذي يُمرض هو الله -تبارك وتعالى، فأضاف المرض إلى نفسه تأدبًا، وقوله: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3]، والأصل: وما قلاك، فقال: وَمَا قَلَى، فما أضافه إلى النبي ﷺ، وهكذا قوله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79]، وقال: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا [الكهف:82]، ما قال: فأردتُ أن يبلغا أشدهما، بل فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82]، فهذا كله من الأدب، وكذلك: يا ويلها.
ويحتمل أن تكون هي التي تقول هذا: يا ويلها، من باب ما يسمى بالالتفات في البلاغة، وهذا فيه بُعد.
وبعضهم يقول ما هو أبعد من هذا في معناه، يعني هنا يقول في قوله: وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها، أين تذهبون بها؟، باعتبار أن الجِنازة بالكسر: السرير، والجَنازة بالفتح: الميت، وأن الرواية هنا: الجِنازة، في قوله: إذا وضعت الجِنازة، ولهذا ضبطها عندي في هذه النسخة الجِنازة، وليس ذلك بعبرة؛ لأني أرى فيه أخطاء في الضبط، قلنا: الجِنازة هي: السرير الذي يوضع عليه الميت، النعش، والجَنازة: الميت الذي فوقها، كما قلنا لكم: إذا أردت أن تضبطها، فالأسفل للأسفل، والأعلى للأعلى، الكسرة للنعش، والفتحة للميت الذي يوضع على النعش، فبعضهم يقول: إن الذي يقول هذا هو الجِنازة النعش الذي تُحمل عليه: يا ويلها، أين تذهبون بها؟، لكنه هنا قال: قالت لأهلها، فلا يُحمل هذا على النعش.
يا ويلها، أين تذهبون بها؟ يسمع صوتَها كلُّ شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق رواه البخاري، يعني: يغشى عليه لو سمع هذا الكلام، فلاحظ هنا: هذا في كلامها قبل الدفن، إذن الذي يسمعه كل شيء ليس فقط الضربة التي بالمرزبة من حديد يضرب بها الكافر حينما يسأله الملكان عن الأسئلة الثلاثة: من ربك؟ وما دينك؟ ومن هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فإذا ضرب يصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلان، وهنا أيضًا يسمع قولها: يا ويلها، أين تذهبون بها؟.
إذن هؤلاء الذين يُحملون: من كان من أهل السعادة، فإنه يقول: قدموني، وإن كان غير ذلك -نسأل الله العافية- يقول: يا ويلها، أين تذهبون بها؟، يعني يقول: يا ويلي، أين تذهبون بي؟ يسمعه كل شيء، فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم من السعداء، وأن يحسن لنا ولكم الخاتمة والعاقبة، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، اللهم اغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب السرعة بالجنازة، رقم: (1315)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب الإسراع بالجنازة، رقم: (944).
- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر بعدما يدفن، رقم: (1337)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر، رقم: (956).
- أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب من صلى عليه مائة شفعوا فيه، رقم: (947).
- أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب من صلى عليه أربعون شفعوا فيه، رقم: (948).
- أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب الإسراع بالجنازة، رقم: (944).
- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب حمل الرجال الجنازة دون النساء، رقم: (1314).
- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا الله، رقم: (1360)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أول الإيمان قول لا إله إلا الله، رقم: (24).