الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب فضل من مات له أولاد صغار، والمراد بالأولاد ما يشمل الذكر والأنثى، فكل ذلك يقال له: ولد، والصغار يراد به ما كان دون البلوغ، ولعل السبب في ذلك -والله تعالى أعلم- هو شدة علوق القلب بهم، والرحمة، والحنو الذي يكون للصغير، لاسيما أنه لم يجر عليه القلم، وليس عليه ذنوب، ولا يكاد يصدر منه ما يصدر من الكبير من العقوق، وهو غير مؤاخذ على ما يبدر منه من تصرفات لربما ينزعج منها الأبوان.
فهو صغير، تحتمل عيوبه، وأخطاؤه، وتجاوزاته بخلاف الكبير، فإن ذلك يكون من قبيل العقوق.
فهنا قال عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: ما من الناس من مسلم، يتوفى له ثلاث لم يبلغوا الحنث، إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم[1].
قوله: "ما من مسلم" هذا يفيد العموم، يعني: أي مسلم، سواء يدخل في ذلك المرأة والرجل، وإنما يعبر بصيغ المذكر من باب التشريف تقديم الأشرف ما من مسلم يموت له ثلاثة لم يبلغوا الحنث، ثلاثة، والعدد هنا ثلاثة لا يقال بأنهم إذا كانوا أربعة، أو خمسة، أو عشرة بأن ذلك لا يحصل له كما قاله بعض أهل العلم، وهو خطأ، قالوا باعتبار أن الثلاثة هي غاية الكمال في الكثرة، وأنه إذا زاد صار معتادًا، ومن ثم يضعف أثر المصيبة متعود على موت الأولاد كلما جاءه ولد مات، وهذا غير صحيح.
بل بالعكس إذا كان ثلاثة يحصل له هذا، فأكثر من باب أولى، قال يموت له ثلاثة، ما قال ثلاثة أبناء، أو ثلاث بنات، ثلاثة يعني: من الولد، ثلاثة أولاد، فيصدق على الذكر والأنثى، فلو أنه مات له ثلاث بنات، فإن ذلك يصدق عليه، ولو أنه مات له ثلاثة أبناء كذلك، لو أنه مات له أبناء وبنات فكذلك.
يقول: لم يبلغوا الحنث، يعني: لم يصلوا إلى سن التكليف، الاحتلام، والحنث المراد به الإثم وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ يعني الشرك بالله الإثم العظيم، لم يبلغوا الحنث يعني: لم يجر عليهم القلم بكتب السيئات، ولماذا خص السيئات باعتبار أن الصغير تكتب له الحسنات فإذا قرأ القرآن، أو حج، أو اعتمر، أو نحو ذلك كل هذا يكتب له، لكن السيئات لا تكتب.
قال: لم يبلغوا الحنث، وهذا يدل على أنه إن كان الذي مات له من الأولاد بعد البلوغ فإن ذلك لا يصدق عليه، خلافا لما قاله بعض أهل العلم باعتبار أن المصيبة تكون أشد في موت الكبار؛ لأن الصغار يكون الواحد منهم كلا على أبويه، وهو يحتاج إلى رعاية، وتربية، ونفقة، أما إذا بلغ معه السعي، وصار قادرا على الكسب فإن المصيبة به أعظم، هذا فهم قاله بعض أهل العلم، ولكن فيه بعد، وظاهر الحديث لا يعدل عنه إلا بدليل.
قال لم يبلغوا الحنث، فهذا شرط إضافة إلى ما ذكرت آنفًا من أن علوق القلب بالصغير أشد، ولهذا تجد القلب يبدأ يتعلق بالصغير، إذا بدأ الصغير يدرج على الأرض، إذا بدأ يمشي إذا بدأ يخطو، يزداد التعلق به، ويستملح، تستملح تصرفاته، ويرحم، فإذا كان رجلاً فإن الرحمة له لا تكون كالرحمة للصغير، وهذا أمر معلوم، وإن كان الوالد يحب أولاده جميعا.
وكذلك لو أن هؤلاء الصغار لا يحبهم أبوهم، وكم من صغير قد يجفى، ولربما لا يرغب فيه ذووه لسبب أو لآخر؛ لكن هذا لا تعلق له بالحديث، يعني: بمعنى لو كان لا يحنو عليه، لو كانت الأم لا تحنو عليه، بينها وبين الأب مشكلة، وطلاق، وأمور فهي لا تحنو، والأب لا يحنو، فإذا ماتوا لا يقال: لا يحصل له هذا الأجر، بل يحصل، وإنما ذلك باعتبار الغالب -والله تعالى أعلم-.
قال: إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم هنا بفضل رحمته الضمير يحتمل أن يرجع إلى الوالد يعني: بسبب رحمة الوالد لأولاده، بفضل رحمته إياهم، فإذا مات له الواحد منهم؛ عظمت مصيبته لرحمته لهؤلاء الأولاد، فينكسر قلبه، وينفطر لموت هؤلاء الصغار، لرحمته إياهم.
ويحتمل أن يكون ذلك الضمير في قوله بفضل رحمته أن يرجع إلى الله بفضل رحمته إياهم يعني الوالدين، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم- والأول، وإن كان محتملاً بظاهر اللفظ إلا أن هذا دلت عليه بعض روايات الحديث بفضل رحمة الله إياهم، فهذا صريح بأن الرحمة، أي: رحمة الرب -تبارك وتعالى- لهؤلاء الأبوين لما فقدا.
ثم ذكر حديث أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد لاحظ هنا من الولد، وكما ذكرت هناك أطلق قال ثلاثة لم يبلغوا، وهنا قال ثلاثة من الولد، والولد كما هو معلوم يصدق على الذكر والأنثى، وما قال هنا دون البلوغ، وإنما أطلقه، فالمطلق محمول على المقيد، وهناك رواية مقيدة، لم يبلغوا الحنث، فنقيد بها هذه الرواية المطلقة، قال: لا تمسه النار إلا تحلة القسم[2] متفق عليه.
هناك أدخله الله الجنة، وهنا لا تمسه النار إذا نظرنا إلى الحديث الأول أدخله الله الجنة قد يقول قائل: هذا لا يمنع من دخوله النار، يعذب بذنوبه، لكنه يدخل الجنة بعد ذلك، وقد يقول قائل: بأن ذلك لجميع أهل الإيمان، وليس لمن مات له ثلاثة من الولد.
إذًا ما مزية موت ثلاثة من الولد المقصود أنه يدخل الجنة، ولا يعذب بالنار، لكن هذا فهم يفهمه السامع، وقد لا تتفق الفهوم على هذا، لكن هذه الرواية هنا حديث أبي هريرة قال: لا تمسه النار فهي صريحة بأنه لا يعذب بالنار، قال: إلا تحلة القسم ما المراد بالقسم؟
بعضهم يقول: ذلك مطلق كما تعبر العرب، لا يقصد به قسم معين، يقول: أنا والله ما أكلت إلا تحلة القسم، يعني: أدنى ما يصدق عليه أنه أكل، ما شربت إلا تحلة القسم، لو أن أحدًا أقسم أن يشرب، فشرب أقل ما يصدق عليه الشرب، فإنه يكون قد بر باليمين تحلة القسم، نعم.
وهكذا لو أن الإنسان أقسم أن يدخل دارا، أو مكانا، أو نحو ذلك، فدخل، ومشى خطوة بداخلها، ثم رجع، فهذا تحلة، يقول: ما دخلتها إلا تحلة القسم، ما جلست إلا تحلة القسم، يعني: جلوسا يسيرا لا يذكر.
لكن الأقرب -والله تعالى أعلم- أن المراد بتحلة القسم هنا هو قوله -تبارك وتعالى- وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا وهذا جاء مصرحا به في عدد من روايات الحديث، سئل الزهري عن ذلك، وهو من رواته، فذكر الآية، وجاء ذلك عن غيره أيضا أن المراد هذه الآية وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم-.
وما معنى الورود هنا إلا تحلة القسم، لا يدخل النار إلا تحلة القسم، هل معناه أنه يعذب؟
الجواب لا.
العلماء اختلفوا كثيرا في المراد بهذه الآية وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ما معنى الورود؟
بعضهم قال الاقتراب، وبعضهم قال: وقوفهم على النار، وبعضهم قال: يدخلونها، وتكون بردا، وسلاما عليهم، واحتجوا بحديث رواه بعض أصحاب السنن كالترمذي، وبعضهم يقول: المرور على الصراط.
وذكر بعض أهل العلم كالحافظ ابن حجر: أنه لا منافاة بين هذين القولين القويين المتوجهين، وهو أنهم يدخلون، فتكون بردا، وسلاما، وهو قول من قال يمرون عليها على الصراط باعتبار أنهم يمرون بحسب إيمانهم بحسب أعمالهم، فمنهم كالبرق، ومنهم كالريح المرسلة إلى آخر ما ورد عن النبي ﷺ في وصف المرور على الصراط.
فالشاهد أن المقصود بذلك -والله تعالى أعلم- أنه لا يعذب بالنار، وهذا الذي يمر على الصراط كالبرق لا يعذب بالنار، ولا يجد من حرها، وهكذا الذي يمر كالريح المرسلة، فالشاهد هنا قال: لا تمسه النار إلا تحلة القسم يعني المرور على الصراط أنه لا يعذب الذي يموت له ثلاثة، وهذا من فضل الله وسعة رحمته لعباده؛ لأن الإنسان لا يد له في موتهم، أو حياتهم، هذه أمور جرى فيها القدر، والإنسان ليس له إلا الصبر، ومع ذلك يكون ذلك له سببًا بدخول الجنة، والنجاة من النار، والإمام النووي -رحمه الله- فسر تحلة القسم هنا بقوله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا قال: والورود هو العبور على الصراط، وهو جسر منصوب على ظهر جهنم -عافانا الله منها-.
ثم ذكر الحديث الأخير في هذا الباب، وهو حديث أبي سعيد الخدري قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله ﷺ "فقالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك" يعني أن مجالس النبي ﷺ استأثر بها الرجال "فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله"[3].
وهذا دليل واضح على أن نساء الصحابة -رضي الله عنهن- ما كن في ذلك الزمان الشريف، وبين يدي أشرف الخلق -عليه الصلاة والسلام- ما كن يختلطن بالرجال، ولا يحضرن مجالسهم، وإنما كنا يعتزلن عنهم.
ولهذا جاء في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في صلاة العيد لما شهدها مع النبي ﷺ ثم لما خطب النبي -عليه الصلاة والسلام- قام حتى أتى النساء، فوعظهن إلى آخره[4] فلم يسمعن خطبته؛ لأنهن قد اجتمعن في مكان بعيد عن الرجال بمعزل عن الرجال، ما تجلس المرأة مع الرجال، وتقول أنا قلبي نظيف، نحن عندنا ثقة بالمرأة التي إذا كانت تربت تربية صحيحة، لا مانع أن تخالط الرجال، وتجلس معهم، لا، هؤلاء نساء الصحابة تجلس بمنأى، والنبي ﷺ يذهب إليهن، ويخطب الخطبة الثانية في العيد للنساء بعيدًا عن الرجال، وإذا صلى -عليه الصلاة والسلام- والنساء صلين معه بمعزل عن الرجال.
وأخبر: أن خير صفوف النساء إذا كان مع الرجال آخرها، وأن شرها أولها[5] كل هذا من أجل إبعاد المرأة عن مجامع الرجال، وكان ﷺ إذا صلى ثبت في مكانه، ولم يقم الرجال حتى ينصرف النساء[6] وكلام أهل العلم كثير في هذا المعنى من أئمة المذاهب الأربعة.
بل إن بعضهم يقول لا تخرج الشابة إلى المسجد لا في العيد، ولا في الجمعة، ولا في صلاة الفريضة المرأة الشابة، ورخصوا للعجوز.
بل إن بعضهم في الفرائض رخص للعجوز في مثل العشاء، والفجر، ولا يكون دائما، لا تخرج للصلاة، فكيف تخرج تعمل مع الرجل، وبجانب الرجل، وتختلط بالرجل، هذا لا يمكن معه حصول السلامة لا لها، ولا للرجل، والقلب ضعيف.
وكل من يقول أنا لا أتأثر، وأنا قلبي نظيف، وأنا لا يمكن أن يحصل عندي مثل هذا، فهو إما كذاب، وإما من غير أولي الإربة من الرجال، هذا، أو هذا؛ لأن الله لم يرخص إلا لغير أولي الإربة، وأما رجل فحل فهذا لا يمكن إطلاقا، ولا يتصور، ولا يخطر ببال لا في بني آدم، ولا في غيرهم، فهذا أمر لا يجوز لأحد أن يكابر فيه.
فهنا قالت: "ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه تعلمنا، وهذا يدل على أن المرأة لها أن تخرج لتتعلم دينها، تتفقه، واليوم لربما كان خروج الفتيات والنساء إلى المحاضن التربوية، ودور التحفيظ، وما شابه من المراكز الصيفية الموثوقة أن هذا قد يكون خير لها من البقاء في بيتها أمام النت، والعبث بالهاتف، أو النظر إلى القنوات الفضائية إلا إذا كانت امرأة تعرف كيف تحفظ وقتها، تقبل على كتاب ربها، وتشتغل بما ينفعها.
فالشاهد قال: اجتمعن يوم كذا، وكذا وعدهن ﷺ فاجتمعن فأتاهن النبي ﷺ فعلمهن مما علمه الله، ثم قال -وهذا هو الشاهد-: ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها ما منكم من امرأة، طيب والرجل؟
كذلك. لكن لأنه هنا يخاطب النساء إلا كان لها حجابا من النار حجاب، وهذا يدل على أنها لا تعذب بالنار، فقالت امرأة، واثنين، وجاء في بعض الروايات تسمية هذه المرأة، جاء في بعضها أنها أم سليم، وجاء في بعض الروايات أن الذي سألت عائشة، وجاء في بعض هذه الروايات أن السائلة أم هانئ، وجاء في بعضها أم أيمن، وجاء في روايات أخرى غير هذا الحديث أنه سأل بعض الصحابة عن ذلك، فلعل المقامات تعددت. على كل حال قالت امرأة: واثنين فقال رسول الله ﷺ واثنين يموت له اثنان يكونان حجابا له من النار، متفق عليه[7].
على كل حال من تأمل في نصوص الشريعة، وما ورد يعني: يخرج بنتيجة أن المؤمن كما قال النبي ﷺ عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له[8] إن مات له من الولد حصل له هذا، إن ركب البحر وماد فيه، يعني: شعر بالغثيان، فله مثل أجر الشهيد، كذلك أيضا إذا غرس غرسا، أو زرع زرعا، فأكل منه إنسان أو طائر أو بهيمة إلا كان له به صدقة، إذا أصابته الشوكة كفر الله بها من خطاياه: الهم، والغم، والنصب، والوصب التعب هذا، والحر، والهموم، والغموم، والأكدار، والآلام كل هذه تكتب، ما يضيع شيء، وإذا سرق متاعه يؤجر، كل ذلك يؤجر عليه، فلا يذهب على المؤمن شيء إطلاقا.
فنسأل الله أن يلطف بنا، ويرحمنا برحمته، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد.
- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب فضل من مات له ولد فاحتسب وقال الله -عز وجل-: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]، برقم (1248).
- أخرجه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب قول الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام:109]، برقم (6656)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه، برقم (2632).
- أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب تعليم النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته من الرجال والنساء مما علمه الله، ليس برأي ولا تمثيل، برقم (7310)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه، برقم (2633).
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة العيدين، برقم (885).
- أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول، والمسابقة إليها، وتقديم أولي الفضل، وتقريبهم من الإمام، برقم (440).
- انظر: صحيح البخاري (1/173) وصحيح مسلم (1/446).
- أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم؟، برقم (101)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه، برقم (2633).
- أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، برقم (2999).