الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
بعض ما جاء عن السلف في كتاب عيادة المريض (2-6)
تاريخ النشر: ٠٩ / شوّال / ١٤٣١
التحميل: 805
مرات الإستماع: 1558

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:

فكنا نقرأ في الأبواب المتعلقة بالمرض عيادة المريض، واتباع الجنائز، وما إلى ذلك، وذكرت بعدها ما جاء عن السلف في هذا الباب، فمما يتصل بتلقين المحتضر لا إله إلا الله ما جاء عن ابن المبارك -رحمه الله- أن رجلاً جعل يلقنه قل لا إله إلا الله، فأكثر عليه، فقال ابن المبارك: لست تحسن ذا، وأخاف أن تؤذي مسلما بعدي إذا لقنتني، فقلت لا إله إلا الله، ثم لم أحدث كلاما بعدها، فدعني، فإذا أحدثت كلاما، فلقني حتى تكون آخر كلامي[1] هذا الرجل أكثر عليه من قوله: قل لا إله إلا الله، فعلمه هذا الإمام كيف يقول، الإنسان في حال الاحتضار يكون في وضع وحال تختلف تماما عن حال الإنسان في أوضاع العافية، وأحوال العافية، فيكون لربما في ضيق، وشدة، وكرب.

فالموت له كروب، وشدة، وسكرات، فربما يكون الإنسان ضجرًا، فيصدر منه كلام لا يليق، ولهذا فإن أهل العلم يتلطفون في تلقين المحتضر لا إله إلا الله من غير أن يقولوا له: قل، فقد يقول لا، وإنما يقولون عنده: لا إله إلا الله لا إله إلا الله، فإذا قالها، يعني يذكرونه بها من غير أمر، فإذا قالها سكتوا عنه، تركوه، فإن تكلم بكلام آخر قالوا عنده: لا إله إلا الله، من أجل أن يموت على لا إله إلا الله، ليكون آخر ما يخرج به من الدنيا لا إله إلا الله؛ لأنه ثبت عن النبي ﷺ أن من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة، فهذا الرجل كان يقول لابن المبارك: قل لا إله إلا الله، ويكرر ذلك عليه، فابن المبارك علمه كيف يفعل، وأنه إن قالها تركه، فإن تكلم بكلام آخر أعاد عليه التذكير، والناس يتفاوتون في هذا تفاوتا كبيرًا، ولهم أحوال عند الموت.

وهذا الواثق الخليفة العباسي لما احتضر ردد هذين البيتين:

الموت فيه جميع الخلق مشترك لا سوقة منهم يبقى، ولا ملك

يعني: لا الفقير، ولا الملك.

ما ضر أهل قليل من تفرقهم وليس يغني عن الأملاك ما ملكوا[2]

ثم أمر بالبسط، فطويت، وألصق خده بالتراب، وجعل يقول يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه[3].

وهذا آدم العسقلاني -رحمه الله- حضرته الوفاة، فختم القرآن، وهو مسجّى، ثم قال: بحبي لك إلا ما رفقت لي هذا المصرع، كنت أؤملك لهذا اليوم، كنت أرجوك، ثم قال: لا إله إلا الله، ثم قضى -رحمه الله-[4] مات على هذا.

ولما احتضر زكريا بن عدي التيمي، قال: اللهم إني إليك مشتاق[5].

وهذا آخر يقال له: "ابن خضرويه" حضره الموت فكان في النزع، وقال: بابًا كنت أقرعه منذ خمسٍ وتسعين سنة الساعة يُفتح، لا أدري يُفتح بالسعادة أم بالشقاء[6].

ولما دخلوا على ابن القصار، وهو مريض، وقلق قالوا ما هذا القلق قال: من أجل الموت، والقدوم على الله، قال له رجل يقال له ابن سحنون من أهل العلم: ألست مصدقا بالرسل، والبعث، والحساب، والجنة، والنار، وأن أفضل هذه الأمة أبو بكر، ثم عمر، والقرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يرى يوم القيامة، وأنه على العرش استوى، ولا يخرج على الأئمة بالسيف، وإن جاروا قال: إي والله، فقال مت إذا شئت، مت إذا شئت[7] يعني أنت على الجادة.

وأبو زرعة الرازي -رحمه الله- إمام من كبار أئمة السنة حضره بعض أهل العلم عند الوفاة، وأرادوا أن يلقنوه لا إله إلا الله، ولكن لإمامته، وجلالته، وعلمه، وهو جبل في الحفظ، والعلم تهيبوا أن يلقنوه ذلك، وكان عنده بعض الكبار كأبي حاتم، والمنذر بن شاذان، وأمثال هؤلاء، فاحتالوا بحيلة حياء منه، فبدأوا يذكرون الأسانيد، وهو حافظ للأسانيد، وحافظ للحديث، وهو في النزع، فذكروا حديث التلقين لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، لكن ما استطاعوا أن يقولوه، فقال ابن وارة: حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح، وجعل يقول ابن أبي، ولم يجاوزه، يعني يريدون أن يتذكر هو يعرف الإسناد، ويحفظ، وقال أبو حاتم حدثنا بندار حدثنا أبو عاصم عن عبد الحميد بن جعفر عن صالح، ولم يجاوزه، وسكت الباقون، فقال أبو زرعة، وهو في النزع مجرد ما ذكروا له الإسناد عرف ما يريدون، فقال حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد عن صالح بن أبي عريب عن كثير بن مرة عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله ﷺ: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة، ثم توفي، ذكروا له الإسناد، فعرف، فساق الإسناد، والمتن، ثم مات -رحمه الله-[8].

وهذا ابن جرير الطبري كبير المفسرين صاحب التفسير المعروف جامع البيان، عند موته حضر جماعة من أهل العلم، فقالوا له قبل خروج روحه: يا أبا جعفر أنت الحجة فيما بيننا وبين الله، فيما ندين الله به، فهل من شيء توصينا به من أمر ديننا، وبينة لك، وبينة لنا نرجو بها السلامة في معادنا، فقال الذي أدين الله به، وأوصيكم هو ما ثبتُّ في كتبي فاعملوا به، وعليه، وذكر كلاما هذا معناه، ثم أكثر من التشهد، ومن ذكر الله ومسح يده على وجهه، وغمض بصره بيده وبسطها، وقد فارق الدنيا[9].

وهذا عبد الله بن جعفر عند الاحتضار حضره بعض أهل العلم، وجلسوا عنده، فقال: سمعوه يقول: هذا ملك الموت قد جاء؛ لأن الإنسان قد يرى عند النزع، قد يرى الملائكة، فقال هذا ملك الموت قد جاء، ثم قال: بالفارسية اقبض روحي كما تقبض روح رجل يقول: تسعين سنة أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده، ورسوله، هؤلاء الأئمة -رحمهم الله-[10].

وهذا شيخ الشافعية ابن الإسماعيلي توفي ليلة الجمعة، سنة ست وتسعين وثلاثمئة، توفي -رحمه الله- وهو في صلاة المغرب، وهو يقرأ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وهو يقرأها[11].

وغير هذا كثير ممن ماتوا في حال كهذه، فهذا أبو بشر اليشكري مات، وهو ساجد خلف المقام مقام إبراهيم[12].

وذكر أبو جعفر القرطبي أنه انتهى في القراءة هذا كان حضر صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- عند الاحتضار، فجعل يقرأ عنده القرآن، كأنه يرقيه، فلما بلغ قوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ صلاح الدين كان مغمى عليه، كان في غيبوبة، فلما وصل عند هذه الآية قال: صلاح الدين -رحمه الله- صحيح، نطق، تكلم، قال: صحيح، ثم مات[13].

ومن سمع في وقتنا هذا أخبار الناس الذين كانوا يداومون على الطاعة، والعبادة، والاستقامة، ومن أهل الصلاح، والخير، فإن الناس يرون من أحوالهم أعاجيب، يكون الواحد منهم في غيبوبة، بعضهم يكون مؤذن أربعين سنة، أو أكثر، فإذا جاء وقت الأذان أذن، وبعضهم يكون في غيبوبة، ويكثر من ذكر الله ورأيت بعضهم يحرك أصبعه، وشفته، وهو في غيبوبة، من سنوات في غيبوبة، وطول الوقت، وهو يحرك شفته، وأصبعه، فمن عاش على شيء رجي أن يموت عليه.

وهذا الإمام عبد الغني المقدسي -رحمه الله- مرض مرضا شديدا منعه من الكلام والقيام، واشتد عليه المرض ستة عشر يوما، وكان ولده أبو موسى يسأله كثيرا: ما تشتهي، فيقول: أشتهي الجنة أشتهي رحمة الله، ولا يزيد على ذلك.

فجاءه، ولده بماء حار فمد يده فوضأه وقت الفجر، فقال يا عبد الله قم صل بنا، وخفف، يقول: فصليت بالجماعة، وصلى جالسا، ثم جلست عند رأسه، فقال اقرأ يس، فقرأتها، وجعل يدعو، وأنا أؤمن فقلت هنا دواء تشربه قال: يا بني ما بقي إلا الموت، فقلت: ما تشتهي شيئا قال: أشتهي النظر إلى وجه الله سبحانه، فقلت ما أنت عني راض قال: بلى والله، فقلت ما توصي بشيء، قال: ما لي على أحد شيء، ولا لأحد علي شيء، قلت: توصيني، قال: أوصيك بتقوى الله، والمحافظة على طاعته، فجاء جماعة يعودونه، فسلموا، فرد عليهم، وجعلوا يتحدثون، فقال ما هذا، اذكروا الله، قولوا لا إله إلا الله، فلما قاموا جعل يذكر الله بشفتيه، ويشير بعينيه، فقمت لأناول رجلاً كتابا من جانب المسجد، فرجعت، وقد خرجت روحه -رحمه الله-[14].

وذكر عن ابنه أنه لما جاء الموت العماد المقدسي جعل يقول يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث، واستقبل القبلة، وتشهد[15].

وهذا ابن عساكر صاحب التاريخ الكبير صلى الظهر، وجعل يسأل عن العصر، وتوضأ، ثم تشهد، وهو جالس، وقال رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا لقنني الله حجتي، وأقالني عثرتي، ورحم غربتي، ثم قال: وعليكم السلام، يقول من حضره أبو شامة ينقل عمن حضره يقول: فعلمنا أنه حضرت الملائكة، ثم انقلب ميتا[16].

هذا ابن عساكر -رحم الله الجميع-

فنسأل الله أن يحسن لنا، ولكم العاقبة في الأمور كلها، وأن يحسن لنا، ولكم الخاتمة.

  1. انظر: تاريخ الإسلام (12/246).
  2. انظر: نهاية الأرب في فنون الأدب، للنويري (22/270).
  3. انظر: سير أعلام النبلاء (10/313).
  4. انظر: ترتيب الأمالي الخميسية للشجري، للشجري (1/102).
  5. انظر: تذكرة الحفاظ، للذهبي (1/290).
  6. انظر: سير أعلام النبلاء (11/488).
  7. انظر: المصدر السابق (12/67).
  8. انظر: الإرشاد في معرفة علماء الحديث، للقزويني (2/676).
  9. انظر: سير أعلام النبلاء (14/276).
  10. انظر: التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد، لابن نقطة (315).
  11. انظر: سير أعلام النبلاء (17/88).
  12. انظر: تاريخ الإسلام، للذهبي (3/387).
  13. انظر: سير أعلام النبلاء (21/288).
  14. انظر: المصدر السابق (21/467).
  15. انظر: تاريخ الإسلام، للذهبي (13/395).
  16. انظر: سير أعلام النبلاء (16/162).

مواد ذات صلة