الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
الحديث على آيات الباب
تاريخ النشر: ٢١ / محرّم / ١٤٢٧
التحميل: 565
مرات الإستماع: 1368

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب جديد عقده الإمام النووي -رحمه الله- بعد الباب السابق بعد أن أورد أحاديث تتعلق بالنهي عن البدع ومحدثات الأمور ذكر هذا الباب فيمن سن سنة حسنة أو سيئة، وهذا في غاية المناسبة، وذلك أن هذا الباب يفهم على ضوء الباب السابق، والبدع محرمة بجميع أنواعها ولا يوجد شيء في هذا الدين يقال له: بدعة حسنة وليس لأحد أن يبتكر أو يخترع عبادة أو قربة يتقرب بها إلى الله من غير أن يكون الله شرعها، وبهذا القدر يُعرف المراد بهذا الباب في باب فيمن سن سنة حسنة قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، هذا من دعاء المؤمنين حيث ذكر الله جملة من أوصافهم في آخر سورة الفرقان، فلما ذكر صفة مشيتهم وحالهم في ليلهم ونهارهم يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان:64]، وذكر دعاءهم يقولون: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74] فالإنسان يعمل ما استطاع في هذه الحياة ولكن العمر قصير فهو بحاجة إلى أعمال متنامية يصل برها وأجرها له بعد موته.

فالمؤمن يدعو ربه أن يجعل له من زوجه وولده قرة أعين يعني ما تقرب به عينه فذكر الزوجة والأولاد؛ لأنهم ألصق ما يكون بالإنسان فهو يراهم صباح مساء ويعاشرهم، وإذا كان في زوجته أو في ولده عسرًا في الأخلاق ومشاقة في الطبع وعقوقًا وخروجًا عن طاعته وكانت حالهم غير ملائمة فإنه يشقى بهم، ولهذا قال من قال من السلف : بأن من سعادة العبد أن يرزق ولدًا بارًا[1]، الولد البار تقر به عين الإنسان وأما إذا كان الولد شقيا البعيد فإن الإنسان يشقى معه ويأتيه من أذية الناس، ودعائهم في حياته وبعد موته ما لا يقادر قدره، فلا تنقطع سيئاته إذا مات بسبب هذا الولد؛ لأن الناس يذمونه، ويدعون عليه بسبب ذلك.

والمقصود أن الولد إذا كان تقيا صالحًا يدعو لأبيه، يدعو الدعاء بنوعيه دعاء المسألة يسأل ربه أن يغفر لأبيه، وأن يرفع درجته في الجنة، ويدعو لأبيه أيضا بمعنى أنه قد يتصدق عنه، بمعنى العبادة يتصدق عنه، أو نحو ذلك، وقد سئل النبي ﷺ كما في الحديث المشهور: هل بقي من بر أبوي شيئا أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، وذكر من ذلك الدعاء لهما[2]، فالإنسان يجد في صحائف الأعمال أشياء وصلته من دعاء هذا الابن وقد يجد روح ذلك في قبره بسبب دعوة من هذا الابن الصالح.

ومعلوم أن الابن هو امتداد لحياة الأب ولهذا قال النبي ﷺ: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: -وذكر منها:- الولد الصالح الذي يدعو له[3]، مع أن الإنسان يمكن أن يدعو له إنسان آخر وينتفع ويمكن أن يتصدق عنه إنسان آخر وينتفع ولكن هذا الولد هو من عمله، انقطع عمله هو إلا من ثلاث وذكر منها هذا الولد، أما الآخرون حينما يتصدقون عنه أو يدعون له فهذا شيء قد سخره الله له من فعل هؤلاء الناس الذين أحسنوا إليه، تصدقوا عنه مثلاً، أو دعوا له، أما الولد فهو من عمل أبيه، وهو امتداد لحياته.

وقال: قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74] يعني ما تقر به أعيننا.

وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74] وهذا هو الشاهد من هذه الآية في هذا الباب اجعلنا للمتقين إماما؛ ما معنى ذلك هل هؤلاء يحبون أن يعظمهم الناس، وأن يصدروا، وأن يقدموا في المجالس، وأن يثني عليهم الخلق؟ ليس هذا مرادهم، هل هم يطلبون رئاسات؟ حاشا وكلا، وإنما المقصود وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا أي: أنهم يقتدى بهم، يكونون أسوة في الخير وفي العمل الصالح، والله قال لإبراهيم : إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، فأخذته الشفقة على بنيه فقال: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] يعني اجعلهم أئمة، قال الله : لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] عهد الله لا ينال الظالمين، لا يحصل لهم، وإنما يستحق الإمامة في الدين أهل التقوى والصلاح والخير والفضل، وهم الأسوة، والقدوة الذين يقتدى بهم، فالمؤمن إذا دعا ربه أن يقتدي الناس بعمله الطيب الصالح يكون له كأجرهم كما في حديث: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة[4]، فإذا رآك الإنسان تفعل خيرًا تتصدق، أو تقوم بشيء من ألوان المعروف فعمل اقتداء بك فلك كأجره، ولا ينقص من أجره شيء، فهذا خير، فتصور أن الإنسان يعيش بمفرده، ويعمل بمفرده، ولا يأتيه إلا ما عمله بيده، أعماله قليلة مهما كان، كم اليوم وكم العمر وكم طاقة الإنسان، لكن إنسان آخر الناس يقتدون به في مشارق الأرض ومغاربها في حياته وبعد موته، فيما يتناقلون من هديه وسمته، وعلمه، وأخلاقه، وما أشبه ذلك.

وهنا عالم من العلماء في هذا العصر مثلا الناس يتحدثون في مجالسهم عن أخلاقه عن علمه عن فضائله ويقرأون من كتبه ومن فتاواه ما الذي يأتيه؟ يأتيه فقط السجدة التي سجدها؟ والركعة التي ركعها؟ وصيام اليوم الذي صامه؟ أبدًا؛ يأتيه من هذه الحيثية أضعاف أضعاف ما يأتيه من عمله الذي مارسه بنفسه وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، فهذا معنى ذلك يكون الإنسان قدوة في الخير ومن الناس بعكس هذا، -نسأل الله العافية-، لا يأتي يوم القيامة بذنوبه بل هو أسوة في الشر يقتدي به الناس في الشر أو يدعوهم إليه وما أشبه هذا.

وقال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] هذا في بني إسرائيل جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا أي صاروا مقدمين في الناس يهدون بأمر الله فيما فيه صلاح العباد، ونفعهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وصار الناس يعملون بذلك ويقتدون بهم فصار لهم كأجور هؤلاء، وهذا لا يأتي من غير شيء لما صبروا؛ لأن الإنسان لا بد أن يؤذى ولو بالقول يساء إليه الكلام في عرضه، يغتاب، وما إلى ذلك من ألوان الأذية فضلا عن الأذى بالفعل أنبياء ضربوا وحصل لهم ما حصل من قتل وما إلى ذلك لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] لا يتشكك ولا يتزعزع بعقيدته ومبدئه فيكون ثابتا ثبات الجبال.

فالإنسان يحرص دائما أن يكون قدوة في الخير أولاً لأهل بيته يرونه يحرص على العبادة وعلى الطاعة يحرص على الصلاة مع الجماعة، يحرص على ذكر الله على السنن الرواتب يحرص على الصيام يحرص على كل ما ينفع فينطبع ذلك فيهم لأن الأولاد هؤلاء هم يتأثرون أولاً بهذه البيئة القريبة في البيت ثم بعد ذلك يتأثرون بخارجه فإذا صلح هؤلاء الناس كانوا قرة عين، وكنت السبب في صلاحهم، فكل عمل يعملونه بما ربيتهم عليه وعلمتهم إياه لك كأجرهم، فبدلاً من أن يكون وحيدا أصبح عشرة، يمكن من زوجة وولد وما إلى ذلك يعملون قل عملهم أو كثر وهم صغارا كانوا أو كبارًا، وهكذا فيما يتعلق بحال الإنسان خارج بيته أيضا أن ينفع وأن يقدم وأن يبذل وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم[5]، فهذا معنى: من سن سنة حسنة أي: من سن في الإسلام سنة حسنة أي عمل بعمل طيب صالح مشروع فاقتدى الناس به هذا معناه، وليس من يخترع عبادة جديدة الذي يبتدع بدعة ويقتدي الناس به عليه مثل أوزارهم، -نسأل الله العافية- لكن هذا رجل تبرع أوقف كتبًا مثلاً علم نافع فتتابع الناس على هذا وصاروا يقفون في هذه المكتبة مثلا من الذي له كأجرهم الذي بدأ هو الأول يؤجر كأجر كل من لو تبرع بعشرة كتب ثم تتابع الناس يضيفون إليها فصارت مكتبة تضم آلاف الكتب الأول له مثل أجرهم، لو أن أحدا أخذ جائزة في مناسبة من المناسبات أعطي جائزة أمام الناس عشرة آلاف أو أقل أو أكثر فقال هذه الجائزة هي لوجه الله تبرع لتحفيظ القرآن مثلاً فقام كل من بعده ممن أخذوا الجوائز وقالوا: هي تبرع لتحفيظ القرآن فهذا سن سنة حسنة، والمسألة ليس فيها ابتداع عمل مشروع، صدقة، تبرع فله مثل أجر كل الذين جاءوا بعده.

وهكذا لو أن أحدا بنا دارًا لابن السبيل، أو للأيتام، أو للأرامل، لابن السبيل مثل الذي على الطرق لو بنا له على الطريق طريق المسافرين دارا ووضع فيها عاملاً ينظفها ويهيئها يستريح فيها الناس مع نسائهم ويبيتون من غير مقابل، وتتابع الناس وصاروا يتنافسون على الطرق البعيدة والأسفار يضعون مثل هذه الدور للناس فله مثل أجور من تبعه.

ويأتي إنسان في البلد الناس يلقون الأطعمة ولا يدرون ما يصنعون بها في الولائم ويأتي ويضع له عملاً ومشروعًا وسيارات يأخذ هذه الأطعمة منهم ويوصلها إلى الفقراء فتتابع الناس في بلاد مختلفة يفعلون فله مثل أجور من تبعه، وقل مثل ذلك في أمور كثيرة جاء إنسان وحط كتب تفسير في المسجد، فرآه إنسان آخر ووضعها في مسجد آخر، وجاء ثالث وفي مسجد آخر فصارت عادة عند الناس يضعون كتب التفسير المبسطة الميسرة أمام الناس من الذي له كأجرهم الأول هذا معنى: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.

فنسأل الله أن يوفقنا وإياكم للخير، وأن يرزقنا وإياكم النية والإخلاص والعمل الصالح، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. كنز العمال (11/98)، رقم: (30779).
  2. أخرجه أحمد في المسند، برقم (16059)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لجهالة حال علي بن عبيد، فقد انفرد بالرواية عنه ابنه أسيد بن علي، ولم يؤثر توثيقه عن غير ابن حبان، وقال الذهبي في "الميزان": لا يعرف، وقال ابن حجر في "التقريب": مقبول، وبقية رجاله ثقات. يونس بن محمد: هو ابن مسلم البغدادي المؤدب، وعبد الرحمن بن الغسيل: هو عبد الرحمن بن سليمان".
  3. مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، برقم (1631).
  4. أخرجه مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، برقم (1017).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس إلى الإسلام والنبوة، وألا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، برقم (2942)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله عنهم-، باب من فضائل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، برقم (2404).

مواد ذات صلة