الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(04) حديث عائشة وحديث أبي موسى رضي الله عنهم من ظلم قيد شبر وإن الله ليملي للظالم
تاريخ النشر: ٠٤ / جمادى الأولى / ١٤٢٧
التحميل: 460
مرات الإستماع: 1226

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله ﷺ قال: من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين[1] متفق عليه.

من ظلم قيد شبر أي قدر شبر من الأرض، وهذا يذكر للتقليل هذه المسافة مسافة شبر من الأرض تعتبر قليلة، لا يرفع الناس عادة لها رأسًا، فكيف بمن ظلم أكثر من ذلك لو أخذ مترًا، أو أخذ ميلاً، أو أخذ أميالاً، إذا كان إذا أخذ الشبر يطوق ذلك من سبع أرضين يوم القيامة.

وقوله ﷺ: طوقه يحتمل عدة معاني طوقه يمكن أن يفسر أي أن الله يطوقه من الطاقة حمل ذلك إلى المحشر يأتي به معه في المحشر، وقد جاء في الحديث عن النبي ﷺ فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر[2] أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-.

وهؤلاء هم أصحاب الغلول وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الذين يأخذون من الأموال العامة من الأملاك العامة، من بيت مال المسلمين، أو من الغنائم قبل قسمتها، يأتون يوم القيامة هذا يحمل مطرقة، وهذا يحمل كمبيوتر، وهذا يحمل برميلاً فيه أصباغ، وهذا يحمل برميلاً فيه غاز، وهذا يحمل طاولة، وهذا يحمل دفاتر مكتب، وهذا يحمل دباسة، وهذا يحمل دبابيس، وهذا يحمل أوراقا، وذاك يحمل كتبا، وآخر يحمل فرشًا، وإلى غير ذلك مما يسرقه السارقون من الأموال العامة، يأتون يوم القيامة كل واحد يحمل ما غل، وما سرق، قلّ ذلك أو كثر سيأتي به كما أخبر الله -تبارك وتعالى-: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يضيع شيء لا قليل، ولا كثير، والمتع تزول، وتتقضى، وما ينتفع به الإنسان من هذه الأشياء القليلة التي غلها قبل خمسين سنة، أو عشر سنوات، أو نحو ذلك إن كان في ولده ذمة بدأوا يسألون ويبحثون عن طريق الخلاص، كيف يخلصون ذمته من هذه الأشياء التي غلها.

وهنا من غل الأرض كيف يصنع؟ قال طوقه من الطاقة على هذا المعنى أي أنه يحمل ذلك إلى أرض المحشر، ويحتمل معنى آخر، طوقه أي أنه يخسف به إلى الأرض السابعة، فتكون كل أرض بمنزلة الطوق على عنقه، ومال إلى هذا الحافظ ابن حجر -رحمه الله- وأيده برواية البخاري عن ابن عمر في مثل هذا الحديث.

قال خسف به، وذكر النبي ﷺ أنه يخسف به إلى الأرض السابعة، فتكون كل أرض كالطوق بهذا الاعتبار، ويحتمل معنى آخر، وهو أن الله يمد عنقه كما أخبر النبي ﷺ أن ضرس الكافر، أو ناب الكافر مثل أحد[3] وأن مقعده في النار كما بين مكة، والمدينة.

فهذا يمد عنقه، ويكون فيه سبعة أطواق من الأرض؛ لأن الأرض ما تحتها يأخذ حكمها، وما فوقها من هوائها يأخذ حكمها، ولذلك نحن نطوف في الحرم في الدور الثاني، والثالث، ونحن قد نكون في هواء الكعبة، نطوف على هواء الكعبة، ولا نطوف على الكعبة حقيقة لأن هواء الشيء له حكم أسفله، وهكذا لو أن الإنسان طاف بالقبو مثلا، فإن طوافه يصح لو كان متصلاً؛ لأن أسفل الشيء يأخذ حكمه.

فهذا عاقبه الله من سبع أرضين، فالذي يأخذ ميلاً من الأرض كم يطوق -نسأل الله العافية-؟

ويحتمل الحديث معنى آخر، وهو أن هذا الإنسان يطوق الإثم يأتي بوزر ذلك في يوم القيامة، وهذا أبعد هذه المعاني، والأصل أن يحمل الحديث على ظاهره أن يجعل ذلك له كالطوق في عنقه، يحمله في أرض المحشر، ويعذب بذلك، وبعض أهل العلم يقول: المراد هو أن هذا الإنسان يكلف بأن يجعل ذلك طوقا، وهو أمر لا يستطيعه أن يجعل طوقا سبع أرضين كالقلادة، أو الطوق الذي يكون حول الرقبة، فهو لا يستطيع، فيعذب بذلك كما يعذب أهل التصاوير يقال لهم: أحيوا ما خلقتم يعذبون، ولا يستطيعون إحياء هذه الصور، ونفخ الروح فيها، وكما يعذب من يكذب في الرؤيا المنامية كما صح عن النبي ﷺ أن عذابه أنه يكلف بالعقد بين شعيرتين، وليس بفاعل، هل يستطيع أحد أن يعقد بين شعيرتين؟

ما يستطيع فهذا هو عذابه، فكل أناس لهم عذاب، الزناة رآهم النبي ﷺ في التنور، والذي يقتل نفسه بحديدة، فهو يجأ نفسه بها في نار جهنم، والذي تحسى السم، ومات به عمدا يعني انتحر فإنه يتحساه في نار جهنم يعذب بهذا، فالعذاب يتنوع، على كل حال هذا يطوق من سبع أرضين، فالإنسان إذا أراد أن يمد يده على شيء، أو تاقت نفسه إلى شيء حتى لو غابت عنه العيون، فإنه ينبغي أن يتذكر أنه سيحمل ذلك على ظهره يوم القيامة، ويأتي به، ويعذب على هذا.

والحديث الآخر هو حديث أبي موسى عن النبي ﷺ أنه قال: إن الله ليملي للظالم أي: أنه يمهله، الإملاء بمعنى الإمهال حتى إذا أخذه لم يفلته يعني: لم يخلصه الله -تبارك وتعالى- إذا أخذ فإن أخذه أليم شديد، حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ[4] متفق عليه.

فالله أخبرنا عن الظالمين، وعن إمهالهم: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا والله -تبارك وتعالى- يقول: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ والكيد معروف، هو التدبير الخفي للإيقاع بمن توجه الكيد إليه، تدبير خفي حتى يقع في حفرته -نسأل الله العافية-.

وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ يعني: أن الله يمهلهم ليغتروا، ويزدادوا إثما، وعتوا، وتكبرًا، وتجبرا، وإفسادا، ثم بعد ذلك يأخذهم، فإذا أخذهم لم يفلتهم، وبهذا نعرف أن الإنسان لا يغتر إذا رأى إنسانا ظالما مجرمًا أنه منعم، ومترف في الحياة الدنيا، وأنه قد حصل ثروته، وسكن المساكن الفارهة، الواسعة، وركب أحسن المراكب، لا يغتر بهذا؛ لأن الله يملي، وإذا رأيت الله يعطي العبد، وهو على غير طاعة واستقامة، فإن هذا من الاستدراج، من أجل أن يزداد في الغي والإثم والباطل، ثم بعد ذلك يأخذه الله -تبارك وتعالى- وقد حمل من الأوزار والذنوب، وأما إذا كان الله يعطي العبد على طاعة، فإن ذلك يكون من الإفضال والإنعام، والإنسان يخاف.

الإمام أحمد -رحمه الله- لما قال له المروذي، وغير المروذي من أصحابه، لما قالوا له: إن الناس يدعون لك، وهذا رجل من النصارى دخل عليه، وقال إن النصارى يحبونك، ويثنون عليك، ويعظمونك.

وقال له رجل جاء من الثغر قبالة العدو، قال: إنهم وضعوا في المنجنيق حجرًا، ثم قالوا هذا عن الإمام أحمد، يعني: يرمون عن الإمام أحمد، فكان علج على الحصن، فضرب رأسه، فطار به فطأطأ الإمام أحمد -رحمه الله- رأسه طويلاً، ثم قال: أرجو ألا يكون ذلك استدراجا![5].

هذا الإمام أحمد إمام أهل السنة صاحب العبادة والزهد والورع والخوف من الله أقبلت عليه الدنيا، فزهد فيها، وابتلي أشد البلاء وصبر، يقول: أخشى أن يكون ذلك استدراجا، فماذا نقول نحن، فلا يغتر الإنسان بما وقع في يده، أو وقع في يد غيره مما يحصله على غير طريقة صحيحة، أو يكون الإنسان على غير عمل طيب، فهذه الأشياء التي تحصل باليد، لا تدل على رضا الله عن الإنسان.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا، وإياكم بما سمعنا.

  1. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب إثم من ظلم شيئا من الأرض، برقم (2453)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، برقم (1612).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الحيل، باب احتيال العامل ليهدي له، برقم (6979)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال، برقم (1832).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم (2851).
  4. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، برقم (4686) ومسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2583).
  5. انظر: مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي (201).

مواد ذات صلة