الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(4) من قوله:وترجع الأحكام لليقين فلا يزيل الشك لليقين إلى:وسائل الأمور كالمقاصد واحكم بهذا الحكم للزوائد
تاريخ النشر: ٠٧ / ذو القعدة / ١٤٣١
التحميل: 2243
مرات الإستماع: 4345

بسم الله الرحمن الرحيم

القواعد الفقهية لابن سعدي

(4) من قوله: وترجع الأحكامُ لليقين... إلى قوله: واحكم بهذا الحكم للزوائدِ

 

قال العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى-:

وتَرجِع الأحكامُ لليقينِ *** فلا يُزيلُ الشكُّ لليقينِ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه من القواعد الكبار التي تدخل في عامة الأبواب، وهي من القواعد المتفق على أصلها، ونص هذه القاعدة عند المؤلف -رحمه الله- في كتابه: "القواعد الجامعة" يقول: "الأصل بقاء ما كان على ما كان، واليقين لا يزول بالشك"، فهذه القاعدة يمكن أن يُعبَّر عنها بإحدى العبارتين، نقول: "اليقين لا يزول بالشك" ونكتفي بهذا، أو نقول مثلاً: "الأصل بقاء ما كان على ما كان"، ومن ذلك أن: "اليقين لا يزول بالشك"، فهذا من بقاء ما كان على ما كان حتى نتحقق الانتقال عنه بناقل يجب التعريج عليه، بهذه الطريقة.

هذه القاعدة الكبيرة: "اليقين لا يزول بالشك"، "اليقين" معلوم وهو استقرار العلم، نقول: يَقَن الماء في الحوض مثلاً، اليقين هو استقرار العلم بحيث إنه لا يتطرقه شك أو تردد، فهذا هو اليقين: العلم الثابت.

فهو يقابل التردد والشك.

"اليقين لا يزول بالشك"، الشك ما المراد به؟

الشك يطلقه الفقهاء -وهو أصل معناه في اللغة- على ما يقابل اليقين سواء كان مستوي الطرفين أو كان وهماً، أو كان ظنًّا غالباً من حيث الأصل، بمعنى أن الأقسام أربعة:

يقين، وذلك إذا قلت لك مثلاً: خمسة زائد خمسة، الجواب عشرة هل عندك فيها تردد؟ لا، فهذا يقين.

ما حكم الطهارة؟ واجبة، هذا يقين.

وما دون اليقين ثلاثة أقسام:

قسم يكون ظنك فيه غالباً، الظن يكون راجحاً، فهذا على هذا التقسيم يقال له: الظن، أو يقال له: الظن الغالب.

وأحياناً يكون الأمر مستوياً لا تدري هل زيد جاء أو لم يأتِ، القضية مستوية عندك، تقول: أنا أشك في مجيء زيد هل جاء أو ما جاء، نسبة خمسين بالمائة، وخمسين بالمائة، أو تقول: أنا أشك في قدرتي على فعل هذا الشيء، مستوي الطرفين، فهذا يقال له: شك. 

والوهمُ والظنُّ وشكٌّ ما احتَملْ *** لراجحٍ أو ضِدِّه أو ما اعتدلْ([1])

"ما اعتدل"، يعني هذا هو الشك، معتدل الطرفين، مستوي الطرفين، "لراجح" هو الظن، أو "ضده" للمرجوح، وهذا يسمونه: الوهم، إذا كنت تتوقع هذا بنسبة عشرة بالمائة، عشرين بالمائة، ثلاثين بالمائة، أربعين بالمائة، هذا يسمونه: وهماً، يقال له: وهم، وإذا كان التوقع بنسبة خمسين بالمائة، فهذا هو الشك، إذا كان ستين بالمائة، سبعين بالمائة، ثمانين، تسعين، يقولون له: الظن، أو يقولون له: الظن الراجح، إذا كان مائة بالمائة فهذا الذي يسمونه: اليقين.

"العلم" يشمل اليقين ويشمل الظن الراجح، اتباع الظن الراجح هل هو شيء مذموم أو محمود، أو لا يحمد ولا يذم؟

النصوص التي عندنا في القرآن: إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا النجم:28، فهذا الظن الذي عاب الله على المشركين اتباعه ليس هو الظن بهذا التقسيم الرباعي، وإنما المقصود به الترخص، واتباع الأوهام، وعادات الآباء والأجداد، وأخذ العلم من غير مصادره، يقولون: وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ الزخرف:22، يقال: (بئس مطية الرجل زعموا)([2])، فهذا الذي يُذم متبعه، الترخص.

أما الظن الغالب فإن الشريعة لم تمنع من اتباعه، بل كثير من الأحكام الشرعية إنما مبناها على الظن الغالب، لو سألنا عن كثير من الأشياء الآن ما حكمها؟.

مبنية على الظن الغالب.

تفسير كثير من الآيات هل تستطيع أن تقطع أن هذا هو المعنى تماماً مائة بالمائة؟

لا تستطيع، تقول: نسبة سبعين بالمائة، ثمانين بالمائة، ستين بالمائة، يمكن خمسين بالمائة، الآن لو سألنا عن أشياء كثيرة: ما حكم المسح في الشتاء على هذه العمامة وهي مشدودة وأنت قد ربطتها؟

جواب سريع: يجوز، لكن هل تقول: يجوز مائة بالمائة؟ جازم بهذا قاطع، أو تقول: يجوز بنسبة خمس وسبعين بالمائة في ظنك، هو هكذا.

وحينما نسأل الآن عن قضية المسح على الجورب المشقق والجورب الشفاف ما الحكم؟ يجوز، لكن تقطع بهذا مائة بالمائة؟ لا، كم نسبة الجواز عندك؟ خمسون؟ فوق الخمسين -ستون-؟ لا بأس مقبولة، لك أن تعمل بهذا الحكم، وأن تتبع ذلك.

وهكذا لو سألنا عن نوع من المعاملات المالية: هل تجوز أو لا تجوز؟ هذه التي يسأل عنها دائماً الناس، قضية أنْ يجتمع مجموعة من الناس، وكل واحد يدفع مبلغًا معينًا في الشهر، ثم كل شهر يأخذها واحد، إذا قلنا لهم: يجوز هذا الكلام هل نقطع به مائة بالمائة؟

لا، لكن نقول: يجوز، ونقول: إن هذا بنسبة سبعين بالمائة يترجح، فيجوز لنا أن نقدم عليه؛ لأن هذا اتباع للظن الراجح، الظن الغالب.

إذن ينبغي أن نفرق في الإطلاق، أصل معنى الظن في اللغة، وعند الفقهاء يطلق على الظن كيفما اتفق، سواء كان راجحاً أو مرجوحاً، بينما الشك عند الأصوليين يطلق على الوهم، وعلى مستوي الطرفين، ويطلق أيضاً على ما كان فيه الظن غالباً، هذا في اللغة وعند الأصوليين، يعني طالما أنك لست بمتأكد مائة بالمائة فهو عند الفقهاء يعتبر: شكًّا.

تقول: هذا الماء هذه الرطوبة لا أدري، نقول: ماذا تتوقع؟ يقول: بنسبة تسعين بالمائة أنها طاهرة، إذا ما الذي وقع لك قبل قليل؟ يقول: وقع لي شيء من الشك، هذا عند الفقهاء، يقول: أنا لا أدري الآن أنا صليت أربع ركعات لكنّ في النفس شيئاً، في النفس ماذا؟ أخشى أني صليت ثلاثًا، كم النسبة؟ يقول: ثمانون بالمائة أني صليت أربع ركعات، فهذا ماذا تسميه عند الفقهاء؟، يسمى: شكًّا، بغض النظر هل يلتفت إليه، أو لا يلتفت إليه.

الشك عند الأصوليين وعند المناطقة مستوي الطرفين: خمسون، خمسون، تعادل، فلابد أن نفرق في الإطلاق، فهنا هذه القاعدة حينما نقول: "اليقين لا يزول بالشك" أيّ الشك المستوي الطرفين أو طُروء الاحتمال؟ ليس مستوي الطرفين، طُروء الاحتمال.

 

الشك عند الأصوليين وعند المناطقة مستوي الطرفين: خمسون، خمسون، تعادل، فلابد أن نفرق في الإطلاق، فهنا هذه القاعدة حينما نقول: "اليقين لا يزول بالشك" أيّ الشك المستوي الطرفين أو طُروء الاحتمال؟ ليس مستوي الطرفين، طُروء الاحتمال.

 

ما الدليل على هذه القاعدة: أن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وأن اليقين لا يزول بالشك؟

عندنا عدد من الأدلة: الحديث المخرج في الصحيحين حديث عبد الله بن زيد في الرجل الذي يجد شيئاً في الصلاة، قال: (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)([3])، إنسان يصلي متوضئ، ثم وقع له شك هل انتقض وضوءه أو لا، فالنبي ﷺ يقول: (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)، فأحاله النبي ﷺ على أمر -وهو دليل على هذه القاعدة-: أن طهارته متيقنة فلا ينصرف عنها إلا بيقين.

وهذه القاعدة من أنفع ما يكون لعلاج الوسوسة.

الوسوسة علاجها الناجع بأمرين اثنين بعد الاستعانة بالله -:

الأول: بالعلم.

والثاني: بقوة الإرادة.

عنده علم لكن ما عنده قوة إرادة يفشل، وقوة إرادة بلا علم لا يفلح، فالقضية تحتاج إلى علاج بهذه الطريقة: قوة الإرادة، ويعتبر كل مرة لا يعيد فيها مع منازعة النفس يعتبرها خطوة إلى الأمام انتصار على الشيطان، فيتقوى بذلك، ثم الثانية ثم الثالثة، فإذا أخفق في مرة يعتبر رجع خطوة فلا يتراجع القهقري أكثر من ذلك، فيحتاج إلى معاودة المحاولة مرة أخرى.

وطريقة معالجته معروفة يعني نحن نبدأ معه بالأمور الأساسية، في البداية نبدأ معه ألا يعيد، هذه المرحلة الأولى، ويستمر عليها لمدة أربعة أشهر مثلاً، لا تعيد وتعال بعد أربعة أشهر، فيأتيني بعد أربعة أشهر: هل أعدت صلاة أو وضوءًا؟ يقول: لا ما أعدت، لكن نفسي أتعبتني، نقول: جيد أنت قطعت المرحلة الأولى في العلاج، نبدأ في المرحلة الثانية.

فالحاصل: أنها تحتاج إلى إرادة وتحتاج إلى فقه، الفقه ما هو؟

من أعظم الفقه حفظ هذه القواعد: "اليقين لا يزول بالشك" طرأ لك شيء أثناء الصلاة، نقول: أنت متطهر فلا تنصرف إلا بيقين.

عندنا قواعد أخرى: "الشك في العبادة بعد الفراغ منها لا يؤثر" بعدما توضأ، قال: أنا ربما ما غسلت يدي، نقول: "الشك بالعبادة بعد الفراغ منها لا يؤثر".

كذلك عندنا قاعدة: "إذا كثرت الشكوك لم تعتبر"، الإنسان الذي عنده وسوسة، شكاك، ما يدري، وهذه النقطة هي بول أو شيء طاهر؟ وعند الصلاة هل انتقض وضوءه أو لا؟ وهل غسل يده بالطهارة أو ما غسلها؟ هل مسح رأسه أو ما مسحه؟ هل قرأ الفاتحة أو ما قرأ؟ هل كبر للإحرام أو ما كبر؟ أشياء كثيرة جدًّا، فإذا كثرت هذه الوساوس لم تعتبر حتى إنه لا يسجد للسهو، يقول: أسجد للسهو؟

نقول: لا، ما تسجد للسهو، السهو لغيرك، فهناك قواعد إذا حفظها هذا الإنسان المبتلى بالوسوسة شفي -بإذن الله إذا وجد معها قوة الإرادة.

وممكن أن يعان الإنسان على هذا.

إذن عندنا هذا الحديث حديث عبد الله بن زيد: (فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)([4]).

وعندنا نحوه من حديث أبي هريرة عند مسلم([5]).

وأيضاً عندنا حديث: (إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى ثلاثًا أم أربعًا، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن)([6]).

لاحظ الحديث الأول في الطهارة، وهذا الحديث في الصلاة في عدد الركعات: (فلم يدر كم صلى ثلاثًا أم أربعًا، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن) اليقين هنا ما هو؟، شاكٌّ صلى ثلاثًا أو أربعًا فاليقين أنها ثلاث، هذا متيقن أنه صلى ثلاثًا، لكنه شك في الرابعة، فنقول: اطرح الشك، اعتبرها ثلاث ركعات، وزد ركعة، فهذا الحديث صريح في إثبات هذه القاعدة وتصحيحها.

وكذلك في باب الصيد حديث عدي بن حاتم لما سأل النبي ﷺ وأخبره أنه في أرض صيد، فالحاصل قال له النبي ﷺ فيما قال: (وإن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل)([7])، يعني وجدته ميتًا، رمى هذا الظبي فانفلت فوجده بعد يوم أو يومين ميتاً، ليس فيه إلا السهم، لم تنهشه سباع، ولم يقع في ماء تسبب في موته غرقًا، ففي هذه الحالة نقول له: كل، بنص حديث رسول الله ﷺ؛ لأن الأصل أنه مات بهذا السهم الذي أصابه، وهذا صيد فلا يُنتقل عنه يقال: احتمالات! لربما أنه جاءه أزمة قلبية من كثرة الجري فمات، أو أنه من الروع -الخوف- جاءته جلطة فمات، أو لربما أمسكه أحد فخنقه حتى مات ثم تركه، نقول: لا، هذه احتمالات، وهذا الاحتمال لا يلتفت إليه، الأصل أنه مات بسبب هذه الرمية، بسبب هذه الإصابة.

وبناءً على ذلك نقول: "كل شيء شككنا في وجوده فالأصل عدمه"، شككنا هل وقعت نجاسة في هذا المكان أو لا، فالأصل عدمها.

كثير من النساء أو من الناس في بيوتهم لربما يتحرج يقول: أين أصلي؟ إذا جاء إلى أناس زارهم قال: أين أصلي؟ صلِّ في أي مكان يا أخي، قال: أخشى أن يكون فيه نجاسة، أنت متأكد أنه فيه نجاسة؟، عندك علم أن هنا نجاسة؟ قال: لا، أنا فقط أحتاط، نقول: لا يشرع لك هذا السؤال، الأصل أن تصلي، لماذا؟ لأن الأصل في هذه الأشياء الطهارة -كما سيأتي-، فلا ينتقل عنها إلا باليقين.

"كل شيء شككنا في وجوده فالأصل عدمه"، "اليقين لا يزول بالشك" إنسان أقرضك مالاً ثم نسيت هل أعطيته أو لم تعطه، ثم بعد ذلك أتيت وقابلته وسألته: هل وفيتك هذا المال؟ قال: لا أتذكر، ربما أعطيتني، وربما لم تعطني، فما هو الأصل الذي نعول عليه؟ الأصل أنه لم يعطه، إنسان تذكر أنه سرق من المتجر الفلاني مالاً وهو صغير مثلاً أو أيام سفهه، يقول: ولكن لا أذكر هل أرجعت لهم قيمته أو لا، فنقول له: الأصل أنك لم ترجعه، يقول: أنا استعرت من فلان قلماً، ولا أتذكر هل أرجعته أو لم أرجعه، أخذت من المسجد مصحفاً ولا أذكر هل أرجعته أو لم أرجعه، فماذا نقول له؟  

"كل شيء شككنا في وجوده فالأصل عدمه"، و"كل شيء شككنا في عدده فالأصل البناء على الأقل"، البناء على اليقين وهو الأقل في مسألة العدد، وهذا في أشياء كثيرة، شككت في عدد الركعات، ماذا تصنع؟ نقول: تبني على اليقين وهو الأقل، عليك نذر صيام عشرة أيام، شككت هل صمت عشرة أو تسعة؟ فنقول: تأخذ بالأقل أنك صمت تسعة فتأتي بيوم آخر، إنسان يقول: أنا عليّ أيام من رمضان ولا أدري كم هذه الأيام، من زمان لا أدري، وهذا تسأل عنه النساء كثيرًا، تقول: ما كنت أقضي، أسوّف فعليّ أيام من رمضان كثيرة جدًّا لا أدري كم، كيف أصوم؟

نقول: المعادلة هكذا على طرفين: هناك قدر أنتِ تتيقنين منه تماماً، أنتِ متيقنة أن الأمر لا يقل عن خمسين يوماً مثلا، متأكدة أن خمسين يومًا هذه ما فيها شك، لكن هل تبلغ الستين أو لا تبلغ؟ هي لا تدري، فماذا نقول لها؟   

نقول: الخمسون لازمة وفي ذمتك، وما زاد؟ فنقول: وما زاد لا يلزمك لكن إن فعلت ذلك من باب الاحتياط فهو حسن، لكن لا يلزم، إنسان يقول: أنا ما كنت أزكي لمدة خمس سنوات، ست سنوات، عشر سنوات، نقول: هي في ذمتك، يقول: لا أدري كم، نقول: ما القدر الذي تتيقنه؟ يقول: قطعاً هي لا تقل عن كذا، فهذا يلزمك، طيب والزائد؟، يقول: أنا لا أدري كم تبلغ الزكاة، تبلغ ستين ألفًا، أو خمسين ألفًا، نقول: ما الذي تتيقنه؟ يقول: خمسين ما فيها شك، لكن هل تبلغ الستين؟ نقول: يلزمك الخمسون، وما زاد فهو من باب الأحوط إن فعلته كان أبرأ لذمتك، لكن لا نستطيع إلزامك بهذا.

رجل صاحب حملة في الحج يسأل أبناؤه يقولون: لمدة أربعين سنة وهو يأخذ الأموال من الحجاج للهدي ولا يذبح هدياً، أربعين سنة، ما حكم هذا الرجل؟

نقول: هي في ذمته وتخرج من تركته.

فكم نخرج نحن لا ندري؟ أربعين سنة وعنده ما يقرب من ألفي حاج، نقول لهم: ما تتيقنونه، تقولون: قطعاً هذا لا شك فيه أنه لا يقل عن الرقم الفلاني، متيقنين، نقول: هذا يلزم إخراجه، وما زاد فهو أبرأ للذمة، قد يقولون مثلاً: أربعمائة ألف هذه لا نشك فيها، إذا قمنا بعملية حسابية بسيطة على مدة أربعين سنة، لكن ما زاد؟، نقول: نحن لا نستبعد أنها تصل إلى خمسمائة ألف، نقول: ما بين الأربعمائة والخمسمائة هذا من باب الأحوط، إن فعلتموه فهو حسن، وإن لم تفعلوه فلا يلزم ذلك؛ لأنه غير متيقن.

وقل مثل ذلك في كثير من الأمثلة التي نعايشها.

القاعدة صريحة جدًّا أن "اليقين لا يزول بالشك" هل هذا بإطلاق؟ نحن نعرف أن الشك هنا يكون على الوهم، وهذا لا شك فيه، نسبة عشرة بالمائة الشك، ثلاثين بالمائة، هذا لا يلتفت إليه، أربعين بالمائة، خمسين بالمائة لا يلتفت إليه، لو كان تسعين بالمائة هل يلتفت إليه أو لا يلتفت إليه؟ فإذا تمسكنا بظاهر القاعدة "اليقين لا يزول بالشك"، فنقول: ما ننتقل من اليقين إلا عند الجزم والتيقن تماماً، لكن الواقع أن هذا ليس على إطلاقه، بل يعمل بالظن الراجح أحياناً، وينتقل من اليقين إلى الظن الراجح، متى؟ عندنا قاعدة وذكرها المؤلف -رحمه الله- في كتابه: "القواعد الجامعة": "إذا قويت القرائن قدمت على الأصل"، الآن ما هو الأصل؟ "بقاء ما كان على ما كان" الأصل "اليقين لا يزول بالشك"، "فإذا قويت القرائن قدمت على الأصل"، إذا قويت القرائن هل معنى هذا أننا وصلنا إلى مرحلة اليقين؟

الجواب: لا، وإنما هو ظن راجح، لماذا نقول: "إذا قويت القرائن قدمت على الأصل"؟  

لأننا وقفنا مع الأصل حيث لم نجد دليلاً، لماذا بقينا على ما كان ولم ننتقل عنه إلى غيره؟

نقول: لعدم الدليل الناقل، بقينا على الأصل، لكن طالما أنه وجدت دلائل وقرائن قوية، فيمكن أن ينتقل معها من الأصل إلى حكم آخر، مثال -وأمثلة كثيرة-: الآن أنت توضأت تريد أن تدرك الصلاة، لو جاءك إنسان وقال لك: لحظة هل أنت الآن متيقن مائة بالمائة أن الوضوء قد بلغ مبلغه وأسبغته كما أمرك الله تماماً؟ هل تستطيع أن تقول: نعم مائة بالمائة؟ الجواب لا، لكن ماذا تقول؟ تقول: حصل الإسباغ بغلبة الظن، هل يجوز لك أن تفعل هذا؟ الأصل ما توضأت، الأصل عدم تحقق الطهارة، فكيف انتقلنا منها إلى حكم آخر، وهو أن الطهارة قد تحققت وحصلت؟ بظن غالب، فهذا صحيح.

مثال آخر: وهو الحديث الذي أخرجه الشيخان حديث ابن مسعود : (إذا شك أحدكم في صلاته فليتحرَّ الصواب، وليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين)([8])، فلاحظ في الحديث الأول: (لم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعًا، فليطرح الشك، وليبنِ على ما استيقن)، وهنا قال: (فليتحرَّ الصواب، وليتم عليه، ثم ليسلم، ويسجد سجدتين) للسهو، فهذا الحديث: (ليتحرَّ الصواب) أخذ بالظن الراجح.

هل بين الحديثين تعارض؟

الجواب: ليس بينهما تعارض، تارة نعمل بالـظن الغالب إذا قويت القرائن ننتقل من اليقين إلى الظن عند وجود غلبة هذا الظن، وجود قرائن، ونحو ذلك، وتارة نبني على اليقين ونزيد ركعة، وذلك حينما يكون الأمر ملتبساً، حينما يكون شكًّا مستوياً، حينما لم يتبين لنا شيء يغلب على الظن، مثلاً أنت الآن تصلي إمامًا، فحينما جلست وفي ظنك أنها الرابعة قال لك من ورائك: سبحان الله! فقمت مباشرة، قيامك هذا هل هو عن يقين؟ غالباً لا ليس عن يقين، إنما هو عن ظن راجح، بل تقوم وأنت أحياناً تفكر كيف أسقطت هذه الركعة؟ وهل فعلاً أسقطتها أو لا؟ لكن لما سمعت الناس يقولون: سبحان الله! وقع عندك أنك أنت المخطئ وأن هؤلاء جميعاً لا يمكن أن يكونوا قد أخطئوا، ووقع الاتفاق بالخطأ عندهم بهذه الصورة، فبنيت على ظن راجح، لماذا لم تبنِ على اليقين؟، أنت تصلي الآن ووقع عندك شك هل هذه الركعة هي الثانية فأجلس للتشهد أو الثالثة ماذا تصنع؟ هل دائماً تبني على اليقين وتقول: نعتبرها الثانية؟ لا، نسألك هل لديك ظن راجح قوي، تحري أماراتٍ ونحو ذلك؟ إذا وجد عندك هذا الظن الراجح لك أن تبني عليه، تتحرى الصواب وتعتبرها الثانية أو الثالثة، لكن متى نبني على اليقين؟ إذا كان الأمر متقارباً أو ملتبساً أو نحو ذلك، فيكون هذا هو المخرج.

أيضاً عندنا: تعارض الأصل والظاهر، إذا تعارض الأصل والظاهر "الأصل بقاء ما كان على ما كان"، فهل ننتقل عنه إلى غيره؟ إذا جاء شاهدان يشهدان على رجل أنه قد غصب مال فلان أو سرق مال فلان، أو نحو ذلك، ماذا نصنع إذا هم عدول؟

نقبل هذه الشهادة، نأخذ بها، مع أن الأصل ما هو؟ براءة الذمة، و"اليقين لا يزول"، هل نحن متيقنون من كلام هذين الشاهدين مائة بالمائة؟ لا، أبداً، لسنا بمتيقنين، لكن شهد العدول، وقد أمر الله بأخذ هذه الشهادة، وبقبولها، فعملُنا بالشهادة هو عمل بالظن الراجح، فالظاهر هو هذا، و"الأصل بقاء ما كان على ما كان"، وبراءة الذمة، فإذا تعارض الأصل والظاهر ماذا نصنع؟ ننظر في هذا الظاهر، هل عليه دليل شرعي أو لا؟ فإن كان عليه دليل شرعي قبلنا به مثل شهادة الشهود وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ البقرة:282، فالشهادة معتبرة شرعاً، فهذا الظاهر عليه دليل شرعي أمرنا الله به، فنقبل هذا الظاهر.

والنبي ﷺ، حينما سأل الجارية التي كانت تتشحّط بدمها، وقد رُضخ رأسها بين حجرين، فهي في الرمق الأخير، سألها النبي ﷺ: (فلان قتلك؟)-رجل من اليهود-، فأشارت برأسها: أن لا، ثم أعاد عليها السؤال مرة ثانية: (فلان قتلك؟) فقالت: نعم، فماذا فعل به النبي ﷺ؟ أخذ رأسه ووضعه بين حجرين و قتله بمثل ما قتلها([9])،، هل وُجد شهود؟ هل رآه النبي ﷺ وهو يقتلها؟

لا، الأصل براءة الذمة، لكن انتقلنا منها إلى الظاهر، ما هو الظاهر؟

الظاهر أن هذا الإنسان -هذا على قول بعض الفقهاء- في مثل هذه الحالة عند الموت والرمق الأخير أنه لا حاجة له بالكذب؛ لأن علائقه في الدنيا قد انقطعت، فليس له طمع ولا حاجة، فلا يقول غير الصواب، فقبلنا قوله على خلاف في بعض الصور، الفقهاء يذكرون أشياء يقولون: لو وجدنا إنسانًا مقتولا، وآخر معه سكين وعلى ثيابه دم، وكذا، فهذا قرينة قوية على أنه هو الذي قتله، على خلاف في هذا، فهذا إذا كان الظاهر عليه دليل شرعي.

وإذا كان الظاهر ليس عليه دليل شرعي فهنا لا يلتفت إليه، إذا كان الظاهر ليس بحجة شرعاً، الآن إنسان صلى وبعد الصلاة شك: هل صلى أربعاً أم صلى ثلاثاً؟ فماذا نقول له؟ هل نقول له: الأصل أن الصلاة بذمتك، وأنك محاسب عليها ومسئول عنها ومطالب بها، وأن ذمتك لم تبرأ؟ هذا الأصل، لكن الظاهر أنه فعل العبادة على الوجه الذي أمر به، فتعارض الأصل مع الظاهر، فماذا نقول؟.

القاعدة: أن الشك في العبادة بعد الفراغ منها لا يؤثر، تعارض أصل وظاهر، فقدمنا الظاهر، وهكذا إذا أفطر الإنسان بعد وجود قرائن أن الشمس قد غربت، ما هو الأصل؟ إنسان صائم وفي العصر شك هل غربت الشمس أو ما غربت، فأفطر لوجود قرائن قوية عنده، فالظاهر أنها غربت لا يرى شمسًا ولا يرى شيئًا، فهنا ما الذي  تعارض؟، الأصل والظاهر؟ ما هو الأصل؟ بقاء النهار، فلا ينتقل عنه إلا بالأصل على قاعدة: "اليقين لا يزول بالشك"، لا ينتقل عنه إلا باليقين، لكن هنا يمكن أن نعمل بغلبة الظن، غلبة الظن ما هي؟ أنت جالس في الغرفة ولا تنظر إلى الشمس، لكن مجرد ما سمعت المؤذن مباشرة طيب هذا المؤذن أحياناً يلتبس أحياناً يكون راديو، وأحياناً يكون ولد الجيران، أليس كذلك؟! وأحياناً يكون المؤذن مخطئًا؟ فهل عملنا بأذان المؤذن عملاً باليقين أو بغلبة الظن؟، بغلبة الظن.

إذا جاءك إنسان وأخبرك، قال: أذّنَ، وأحياناً ما تتوقع أنه أذن، لكن جاءك وأخبرك وأنت تصدق خبره، فهل هذا عمل باليقين أو بغلبة الظن؟

بغلبة الظن، فيجوز لك أن تنتقل من اليقين إلى غلبة الظن، كما في الحديث: "أفطرنا يوماً في يوم غيم على عهد رسول الله ﷺ ثم طلعت الشمس، فما أمرهم النبي ﷺ بقضاء ذلك اليوم([10])، مع أن الأصل بقاء النهار.

وهكذا في أمثلة، الآن الإنسان إذا شك هل طلع الفجر أو لم يطلع؟ ماذا يصنع؟

نقول: الأصل بقاء الليل، فيأكل ويشرب حتى يعلم طلوع الصبح، وهكذا يقال: "الأصل انتفاء التكاليف عن المكلفين إلا لدليل".

وهذه أمثلة على قاعدة: "اليقين لا يزول بالشك"، إنسان يصلي وأحس برطوبة، أو كأن قطرة من البول خرجت، فماذا يصنع؟

نقول: "اليقين لا يزول بالشك"، لكن لو تأكد نقول: خلاص تنصرف من الصلاة.

النوم، هل النوم ناقض للوضوء أو مظنة النقض؟

ليس بناقض، لكنه مظنة النقض؛ لأنه قد يُحدث وهو نائم وهو لا يشعر، فلو أنه نام مستلقياً وغاب عن وعيه في النوم، فنقول: تتوضأ من جديد، لكنه لو نام قاعداً متمكناً في المسجد مثلاً، أو في غير المسجد، فهنا غالب الظن أنه لم يحدث، فنبقى على الأصل وهو الطهارة.

النحنحة والنفخ والأنين في الصلاة، الكلام في الصلاة لا يجوز، والكلام يتركب من ماذا؟ إذا تنحنح هل هذا كلام؟ إذا صدر منه أنين أو نفخ، هل هذا يعتبر كلامًا؟

نحن لا نتيقن أن هذا كلام، فالصلاة في الأصل أنها صحيحة إذا أداها الإنسان كما أمره الله، فوجود هذه الأشياء التي لا نتيقن أنها كلام لا نبطل به الصلاة.

يصلي وهو يئن من المرض، أو يتنحنح في الصلاة، أو ينفخ في الصلاة، فماذا نقول له؟

الصلاة صحيحة.

لو جاء إنسان وتهاوش مع واحد من آل بيت النبي ﷺ فسب أباه وجده.

إنسان سب هذا الرجل الذي هو من أهل البيت، سب جده، من جده في النهاية؟ هو النبي ﷺ، لكن نحن ننظر في هذا الساب والقرائن، وكذا، من هو، إذا كان رجل مسلمًا لا يظن به أنه يسب النبي ﷺ، وإنما يسب جده هو فقط، فهل نقول: هذا زنديق ويقتل لحق رسول الله ﷺ، وأن سب النبي ﷺ كفر؟ هل نطبق عليه هذا؟

الجواب: لا، فإسلامه ثابت، ولا ينتقل عنه إلا بيقين.

وهنا أيضاً مسألة تكفير المعين، إنسان صدر منه أشياء كفر، هل نسارع ونكفر هذا الإنسان؟

الجواب: لا؛ لأن إسلامه ثابت فلا ينتقل عنه إلا بيقين، ولذلك نتحرز في هذا ولا نتسرع في تكفير أحد من المسلمين، فـ "اليقين لا يزول بالشك"، فلابد من وجود الشروط وانتفاء الموانع، لو أنه تيقن أن في بيته بقعة نجاسة، لكن لا يدري أين هي، فماذا يصنع إذا أراد أن يصلي؟

يتحرى ويصلي في أي مكان، وليس عليه شيء.

من شك في وجوب الصلاة والزكاة، أو الكفارة عليه، شاكٌّ هل تلزمه الزكاة أو ما تلزمه؟ ماذا نقول له؟

نقول: لا تلزمك.

شخص شك هل الصلاة لازمة له؟ هل بلغ أو لم يبلغ؟

الأصل أنه لم يبلغ.

وهكذا من شك في دخول شهر رمضان، فنقول: الأصل بقاء شعبان.

ومن شك في دخول شهر شوال؟

نقول: الأصل بقاء رمضان، فما تفطر.

طيب من شك في تاسوعاء وعاشوراء -وهذا دائماً يقع فيه الناس ويسألون عنه- ماذا يصنع؟ شك هل هذا اليوم التاسع أو العاشر، ماذا يفعل؟

نقول: لا بأس أن تتحرى، أو تحتاط، وليس هذا من صيام يوم الشك الذي جاء النهي عنه، فتصوم التاسع والعاشر، فلربما التاسع هذا يقع العاشر، فتكون صمت العاشر والحادي عشر، ويمكن أن تأخذ بالظاهر بأن (الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون)، وهكذا فيما دل عليه حديث رسول الله -ﷺ([11]).

إنسان يتعامل مع أناس معاملات مالية وعندهم أموال محرمة لكن شاك، لا يدري ما عين هذه الأموال المحرمة، عندهم سيارة مسروقة وهم يبيعون السيارات، لا يدري أي هذه، عندهم سيارات كثيرة، فماذا يصنع؟

نقول: الأصل في أموالهم أنها ملك لهم؛ لأنها تحت أيديهم، فلا يمنع ذلك وجود سيارة عندهم، ومن ثَمّ لا يكون ذلك سببًا لمنع التعامل معهم.

والأصلُ في مياهنا الطهارةْ *** والأرضِ والثيابِ والحِجارةْ

هذه تابعة للقاعدة السابقة، وشرح القاعدة السابقة يغني عن الكلام عليها.

"الأصل في الأشياء الطهارة" هذا الأصل فيها، فهذه الأعيان الموجودة، والذوات، الثياب، اللباس، الأقمشة، الحجارة، المياه، ما الأصل فيها؟

الأصل فيها الطهارة، فلا ينتقل عن هذا الحكم إلا بيقين، هذا ماء في الصحراء تنتابه السباع لربما الكلاب، نحن نقول: الأصل الطهارة فلا ينتقل عنها إلا بيقين، الماء طهور لا يغيره شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة، فكل هذه الأشياء التي نشاهدها الأصل أنها طاهرة إلا ما دل الدليل على نجاسته، كالبول، ونحوه، ومثل لعاب الكلب، على خلاف بين العلماء في بعض الأشياء، مثل: جلد الخنزير، أو شعر الخنزير، أو رطوبة الخنزير، أو نحو ذلك، وكذلك بول ما لا يؤكل لحمه وروثه.

فالمقصود: أن هناك أشياء محصورة قد نتفق على أنها نجسة، أو يقع الخلاف في نجاستها، لكن باقي الأشياء كيف ننظر إليها؟

على أنها طاهرة، فمثلاً ما يخرج من الحمام من الفضلات وقع على ثوبك وأنت تمشي للمسجد، ما حكمه؟

نقول: طاهر؛ لأن الأصل في الأشياء الطهارة.

أرواث الإبل والغنم وأبوالها، وما إلى ذلك؟

نقول: طاهرة، وعندنا ما يدل على أنها طاهرة.

أنواع الألبسة، أنواع الأقمشة، أنواع المفروشات، أنواع المعادن، النباتات، كلها طاهرة، إذ إن الأصل في الأشياء الطهارة، فلا ينتقل عنها إلا بيقين.

والأصلُ في الأبضاعِ واللحومِ *** والنفسِ والأموالِ للمعصومِ

تحريمُها حتى يجيءَ الحِلُّ *** فافهَمْ هداك اللهُ ما يُمَلُّ

هذه قاعدة: "الأصل في الأبضاع والذبائح والعبادات والدماء المعصومة، والأموال المعصومة المنع والحظر، وعندنا قاعدة هي: الأصل في العادات الحل، لكن الأصل في العبادات المنع والحظر، الأصل في الذبائح كذلك، الأصل في الأموال والدماء المعصومة المنع، ما لم يوجد دليل ينقلنا عن هذا الأصل.

ما هي الأدلة على ذلك؟

الأدلة كثيرة: النبي ﷺ يقول في العبادات: (من أحدثفي أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)([12]).

والله يقول: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ الشورى: 21، فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا الكهف: 110، عَمَلًا صَالِحًا أي صواباً، فالله لا يعبد إلا بما شرع، فالأصل في العبادات الحظر والمنع، بمعنى أن الإنسان لا يبتكر عبادة، ولا يخترع عبادة يتعبد ربه بها، سواء كان ذلك من الأذكار المعينة بحال أو زمان أو مكان، فلا يبتكر شيئاً من ذلك، لا يزيد في العبادات، ولا يغير في صفتها، لا ينشئ أصل عبادة، ولا يغير في صفتها، ولا في زمانها ولا مكانها إنْ شُرعت في مكان معين؛ لأن الأصل في العبادات المنع والحظر، بمعنى أن التشريع يُتلقى من الله -تبارك وتعالى- مباشرة، وليس لأحد أن يشرع مع الله -.

وكذلك هنا "الأصل في الأبضاع واللحوم المنع" البُضع يطلق على الفرج، ويطلق أيضاً على الجماع، ويطلق على العقد، فـ"الأصل في الأبضاع المنع" التحريم، وكذلك في الذبائح.

الشك الذي يطرأ عندنا بالنسبة للذبائح والأبضاع له صورتان:

الصورة الأولى: الشك في النوع.

والصورة الثانية: الشك في توفر الشروط.

أما الشك في النوع فإنه لا يؤثر؛ لأن الأصل في الذبائح والأبضاع -يعني النكاح- الإباحة، كيف الأصل فيها الإباحة؟ يعني يطأ من شاء؟.

ليس هذا هو المقصود، إنما المقصود التزوج، لما ذكر الله في الزواج أنواع المحرمات الأخوات والعمات والخالات، وبنات الأخت والأخوات من الرضاعة، إلى آخره قال: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ}[النساء:24]، فلو أن الإنسان شك وقال: ما حكم التزوج من أخت زوجة أبي؟ فماذا نقول له؟

نقول له: يجوز.

يقول: ما الدليل على أنه يجوز؟

نقول: الأصل الجواز؛ لأن الله قال: وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ النساء:24، فالأصل الجواز، أنه يجوز ما وراء هذه المحرمات من الأنواع.

ما هو المقصود بالقاعدة أن الأصل في الأبضاع المنع؟

نقول: لو شك في تحقق الشروط، هذا إنسان أراد أن يعقد على امرأة، قال لهم: أريد وليًّا، قالوا: لا، ما فيه داعٍ، هذا زواج يحصل كثيرًا في الصيف عند بعض من يسافرون، يقولون: نزوجك إياها بدون ولي، يقول: لا، هذا يُشترط: (أيّما امرأةٍ نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل)([13])، لابد أن تأتوا بولي، فجاءوا له بإنسان قالوا: هذا وليها، والرجل شاك هل هذا وليها فعلا أو لا، فماذا نقول؟  

نقول: الأصل في الأبضاع المنع.

لاحظ هو ما شك أن هذه المرأة تحل له ابتداء، أو ما تحل، لأن الأصل الحل، أنه يتزوج من النساء ما شاء إذا راعينا ما نهى الله عن التزوج منهن، أليس كذلك؟ ، فهذا الإنسان شك في تحقق الشرط، شك في أهلية الشهود، شك في الولي، فماذا نقول؟

نقول: الأصل أنه لا يعتبر هذا العقد إلا بيقين؛ لأن الأصل في الأبضاع المنع، فاحتاط لها الشارع، فما يتزوج الإنسان كيفما اتفق، أحد الناس يسأل: رجل متزوج عنده زوجة ومحبوس ومحكوم عليه بالإعدام، فجاء رجل طيب، وهذه المرأة عندها أولاد، وبقيت عرضة للضيعة، فأراد أن يحسن إليها فتزوجها، وزوجها حي، ولم يحكم بفسخ ولا بتطليق إطلاقاً، هي باقية على عصمة الزوج، ويقول: الآن هو مقيم معها هو زوج لها، كيف فعلتَ هذا؟ قال: إحسانا إليها، وهذا الزوج محكوم عليه بالإعدام، انتهى، نقول: هذا لا يجوز، الأصل في الأبضاع المنع، يقول: أنا تزوجتها بإذن وليها وبالشروط، نقول: هي في عصمة زوج كيف تتزوجها؟

وأحياناً بعض الناس يسألون في بعض البلدان، يقول: والد هذه البنت يفتنها في دينها، وهو إنسان لا يسجد لله سجدة، عفيف الجبهة، ولا يعرف من الإسلام إلا اسمه، ويمنعها من الحجاب، وهي امرأة طيبة وصالحة، فيخطفها، ويذهب بها، ويتزوجها، يتفق هو وإياها، ويتزوجها، ويسألون عن حالات واقعة، صاحب الشأن لم يسأل، لكن هؤلاء الناس الذين عرفوه يسألون عن حكم هذا التزوج؟

هذا التزوج ما يصح، باطل، كيف تزوجتَ؟، مَن زوجك إياها؟، فالأصل في الأبضاع المنع -التحريم-، ما يقدم الإنسان عليه بحجة أنه يريد أن ينقذ هذه الفتاة من ظلم هذا الولي وعسفه وفتنته لها في دينها، فتكون قد هربت من بيتها؛ لأن أباها يعيرها في دينها، وما إلى ذلك، وذهبت تعيش مع رجل بالحرام والسفاح، لاحظ الجهل كيف يوقع صاحبه، امرأة متحجبة طيبة صالحة تعيش مع رجل بهذه الطريقة.

فإذاً النظر في هذه القاعدة من جهة توفر الشروط لا من جهة حل الأنواع، سواء في الأبضاع أو في الذبائح، الذبائح: لو وجدنا نوعًا من الطيور، لو سأل إنسان قال: ما حكم أكل الببغاء؟ عندنا دليل خاص في الكتاب والسنة أن الببغاء يجوز أكلها؟

لا، ولربما لا تعرف أصلاً في بلاد العرب، فما حكم أكل الببغاء؟ فماذا نقول؟

لاحظ الشك هنا وقع أو السؤال أو اللبس عن النوع، فنقول: الأصل الحل؛ لأن الله خلق لنا ما في الأرض جميعاً، وامتن علينا بذلك، فإنما يحرم ما حدده الشارع: "نهى رسول الله ﷺ عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير"([14])، الببغاء ليست من ذوات المخالب، لو سأل إنسان: ما حكم أكل الوبر الذي يشبه الأرنب؟ وما حكم أكل الزرافة؟ ما عندنا دليل عن أكل الزرافة وعن أكل الوبر ماذا نقول له؟

نقول: يجوز.

ما الدليل على الجواز؟

نقول: الدليل على الجواز: أن الله حدد المحرمات، وامتن علينا بإباحة الطيبات، وهذا ليس من الخبائث.

لكن لو قال لنا إنسان: ما حكم أكل الوزغ والجعلان والخنافس وما إلى ذلك؟ ماذا نقول له؟

ما عندنا دليل، لكن هل هذه من ذوات الأنياب أو ذوات المخالب؟

الجواب: لا، لكنها من المستقذرات.

لو قالوا: ما ثبت الضرر فيها.

نقول: هي من الأمور المستقذرة، والشرع يحل الطيبات ويحرم الخبائث، وهكذا إذا كان الشيء ثبت أنه مضر، سموم وأشياء من هذا القبيل، وما عدا ذلك فهو حلال، لو سأل إنسان: ما حكم الأخطبوط الذي في البحر أو طائر البحر؟

نقول له: الأصل الحل، ليست من ذوات المخالب ولا من ذوات الأنياب، إذاً يجوز أكلها، وحيوانات البحر البحرية كلها تجوز أصلاً، إذاً عند الشك في النوع لا يقال: الأصل المنع في الذبائح، لكن متى نقول هذه القاعدة؟

إذا كان الشك في الشرط، الشك في تحقق الشرط، شرط الذبيحة مثلاً معروف: قطع الأوداج مثلاً، قطع الحلقوم مع أحد الودجين، أو قطع الودجين.

فالحاصل: أن شروط الذبيحة يذكرها الفقهاء وإن كانوا يختلفون في التفاصيل، لو جئنا ووجدنا ذبيحة لا ندري هل هي ذبحت أو أنها لم تذبح فماذا نقول؟

الأصل في الذبائح المنع حتى يثبت فعلاً أنها ذبحت، هذا الأصل هل يعارضه حديث عائشة حينما سألت النبي ﷺ عن أناس يأتونهم باللحم وهم حدثاء عهد بشرك، فوجهنا النبي ﷺ بقوله: (سموا أنتم وكلوا)([15])، لا تدري يسمون على الذبيحة أو لا فهل يعارض هذا الأصل؟

يقال: لا يعارضه -إن شاء الله-؛ لأن هؤلاء من المسلمين، وعندنا أصل آخر أو قاعدة أخرى وهي: "الأصل في أفعال المسلمين السلامة"، وأنها على الوجه الشرعي، لاحظ الأصول كيف تتقابل، فنقول: هؤلاء مسلمون وإن كانوا حدثاء عهد بالإسلام، لكن الأصل في أفعالهم أنها على الوجه الشرعي، والأصل فيها السلامة، فإذا وقع الشك بقينا على الأصل.

لكن لو جاءنا إنسان وقال: أنا أصلاً أعارض ذبح هذه الأشياء، وهذه الطريقة فيها قسوة، وفيها تعذيب للحيوان، المفروض أنها بالصعق الكهربائي، وجاء لنا بذبيحة لا ندري هل ذبحها أو ما ذبحها فماذا نقول؟

نقول: الأصل في الذبائح المنع والحظر.

هذا الأصل الآن في واقعنا المعاصر قد يعارضه أصل آخر: "الأصل في ذبائح أهل الكتاب الحل": وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ المائدة: 5 الطعام يشمل الذبائح، وغيرها، لكنه قطعاً في هذه الآية المراد به: الذبائح، وإلا فمعلوم أن الكيك –الخبز- الذي يعملونه أنه لا خلاف في جواز الأكل منه، لكن المقصود بـوَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ أنه ذبائحهم، فيمكن أن يقال: الأصل في ذبائح أهل الكتاب أيضاً الحل، فإذا شككنا هل ذبحوها أو لا؟

فنقول: الأصل في ذبائحهم الحل، لكن إذا قوي الظن فهنا نتوقف، جاءت عندنا قرائن أنهم لا يذبحون وإنما يصعقون، فعند ذلك نبدأ -إذا قويت القرينة- نراعي القواعد السابقة.

وهل يُستثنَى من هذه القاعدة شيء في الشك في الذبائح؟

نقول: يستثنى باب الصيد، الدليل عليه قول النبي ﷺ: (إذا أرسلت كلبك وسميت فكل) قلتُ –أي السائل-: أرسل كلبي فأجد معه كلباً آخر؟ فقال: (لا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسمِّ على الآخر) متفق عليه([16])، الآن في باب الصيد وجد كلبه مع كلب آخر فإنه لا يأكل، فالشك وقع هنا في المُبيح.

كذا حديث عدي بن حاتم في الصحيحين: (إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن وجدته قد قتل فكل، إلا أن تجده قد وقع في ماء، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك)([17])، فهنا الأصل في الصيد الحل، لكن إذا وقع الشك في المبيح وهو هل قتله هذا السهم أو قتله هذا الكلب المعلم أو قتله كلب آخر، فإننا لا نأكل منه.

والأصلُ في عاداتنا الإباحةْ *** حتى يجيءَ صارفُ الإباحةْ

نص القاعدة عند المؤلف -رحمه الله- في "القواعد الجامعة" يقول: "الأصل في العبادات الحظر فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله"، "والأصل في العادات الإباحة فلا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله".

والأصلُ في عاداتنا الإباحةْ *** حتى يجيءَ صارفُ الإباحةْ

وقد تكلمت ضمنًا على الشطر الأول من البيت في الكلام على البيتين السابقين.

والأصلُ في عاداتنا الإباحةْ *** حتى يجيءَ صارفُ الإباحةْ

فالأصل جواز الألبسة المتنوعة وألوان الزينة التي يتزين بها الناس سواء الرجال أو النساء، وجواز أنواع المركوبات، وكذلك أيضاً عادات الناس مما يفعلونه في زواجاتهم ومناسباتهم، الأصل في هذه العادات الإباحة، أنه يجوز إذا خلا من المحظور مثل تشبه المرأة بالرجل، أو تشبه الرجل بالمرأة، أو التشبه بالكفار، أو التشبه بالفساق، إذا كان ذلك من خصائصهم الدينية أو العادية، وما عدا ذلك فالأصل الإباحة، لو جاء إنسان يسأل يقول: ما حكم لبس الساعة؟

نقول: لا شيء في هذا، الأصل في العادات الإباحة.

لو جاء إنسان قال: ما حكم لبس النظارة؟

نقول: الأصل في العادات الإباحة، ما نحتاج إلى دليل خاص على جواز هذه الأشياء؛ لأن الله أباح لنا ما في الأرض جميعاً، وامتن علينا بهذه الإباحة، إلا إذا كان الشيء قد ورد فيه دليل خاص في تحريمه، أو ثبت ضرره، كأن يكون هذا الشيء مثلا أو هذا النوع من المساحيق التي تضعها المرأة للزينة فيه ضرر، فإنه لا يجوز استعماله، وكذلك إذا كان فيه إضاعة للمال وإسراف، فمثل هذا لا يجوز.

كذلك إذا كان فيه تغيير لخلق الله: (لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة)([18])إلى آخره، فلو كانت هذه من عادات الناس، فيقال: لا يفعلونه للزينة، نقول: لا يجوز؛ لأنه تغيير لخلق الله.

وباقي الأشياء إذا سلمت من هذا الضرر، أو مما ورد الشرع بتحريمه بخصوصه، أو دلت الأدلة العامة على تحريمه، فإنها تجوز، وهذا من سعة الشريعة، ومن سعة رحمة الله، ولطفه في الناس، ما سكت عنه فهو عفو، فمثلاً لو جاء إنسان يسأل يقول: ما حكم حلق شعر الرقبة؟

نقول: لا إشكال فيه؛ لأنه مسكوت عنه.

ما حكم إزالة المرأة لشعر الساقين أو الذراعين؟

نقول: هذا مسكوت عنه، الأصل فيه الإباحة، ما سكت عنه فهو عفو.

وقل مثل ذلك في أنواع الملبوسات ما لم يشتمل على محرم.

تقول: ما حكم لبس هذه العمامة؟ العقال؟ أنواع الأحذية؟

نقول: كل هذا جائز ما لم يشتمل على محرم، كالتشبه بالكفار، أو التشبه بالفساق، أو نحو ذلك، أو تعري المرأة أمام محارمها، أو أمام الأجانب، أو أمام النساء، أو نحو ذلك.

وكذا البيت الآخر:

وليس مشروعاً من الأمورْ *** غيرُ الذي في شرعنا مذكورْ

وهذا شرحته، وخلاصة القاعدة فيه: "الأصل في العبادات المنع" هذه القاعدة التي شرحتها قبل قليل.

وليس مشروعاً من الأمورْ *** غيرُ الذي في شرعنا مذكورْ

أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ الشورى: 21.

ولا يظهر أن مقصود المؤلف هو: هل شرع من قبلنا شرع لنا أو لا؟

لأن المؤلف -رحمه الله- نقل هذه القاعدة والتي قبلها من كلام الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله-، وشيخ الإسلام تكلم على هذه القضية بكلام واضح وصريح، وهو أن الأصل في العبادات الحظر والمنع، والعادات الأصل فيها الحل، وهذا عادةً هو الذي يذكر معه، يعني قاعدة: "الأصل في العبادات الحل"، يذكر معها قاعدة: "الأصل في العبادات الحظر"، فلا يفهم من قوله:

وليس مشروعاً من الأمورْ *** غير الذي في شرعنا مذكورْ

أن المقصود أن شرع من قبلنا شرع لنا إلا إذا جاء في شرعنا ما يخالفه، على قول الجمهور، أو على قول الشافعي:"شرع من قبلنا ليس بشرع لنا إلا ما أقره شرعنا"([19])، ليس هذا المقصود، ولذلك لن أشرح هذه القاعدة وهي "شرع من قبلنا.."، إنما المقصود: "الأصل في العبادات الحظر"، وهذه شرحتها عند الكلام على البيتين قبله.

وسائلُ الأمورِ كالمقاصدِ *** واحكمْ بهذا الحُكمِ للزوائدِ

"وسائل الأمور كالمقاصد" هذه قاعدة شريفة من أجلّ القواعد وأشرفها وأنفسها وأنفعها يحتاجها الناس في يومهم وليلتهم في عباداتهم وعاداتهم، والمؤلف -رحمه الله- ذكر هذه القاعدة في كتاب: "القواعد الجامعة" بعبارة مختصرة اعتاد العلماء أن يعبروا بها: "الوسائل لها أحكام المقاصد" هذه خلاصة القاعدة التي في البيت.

ما الدليل على هذه القاعدة؟

أدلة كثيرة: الله يقول عن المجاهدين: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ التوبة:120-121، فهذا ذكر فيه أن خطوات المجاهدين تكتب وهم في طريقهم إلى الجهاد، وما ينالهم في طريقهم من الأذى والتعب والجوع والعطش يكتب لهم.

وكذلك في قوله -تبارك وتعالى- في سورة يـس: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ يــس:12، الشاهد قوله: وَآثَارَهُمْ.

ما المقصود بـوَآثَارَهُمْ؟

بعض العلماء يقولون: وَآثَارَهُمْ أي: ما تركوه؛ لقول النبي ﷺ: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)([20]).

فهذه الآثار، هذا هو المشهور.

وذهب بعض أهل العلم في تفسير الآية وهو الشاهد هنا على هذا القول: أن قوله: وَآثَارَهُمْ أي: الخطا التي يخطونها إلى المساجد، إلى أماكن العبادة، إلى الجهاد في سبيل الله، إلى العلم، وما إلى ذلك، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ فتكتب لهم هذه الخطا.

ومما يدل على ذلك الحديث: (ومن سلك طريقًا يلتمس به علمًا سلك الله له به طريقًا إلى الجنة)([21])، وفي لفظ: (سهل الله له به طريقًا إلى الجنة)([22]).

وكذلك في حديث الرجل الذي كان بيته بعيدًا عن المسجد، وكان لا تخطئه صلاة، أو لا يترك صلاة، يأتي من مكان بعيد على قدميه، فقالوا له: لو اشتريت حماراً؟ فماذا قال الرجل؟ قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال النبي ﷺ: (قد جمع الله لك ذلك كله)([23]).

وكذلك الحديث الآخر: صلاة الرجل في الجماعة، وذكر فيه: وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخطُ خطوة إلا رُفع بها درجة، وحطت عنه خطيئة([24]).

فخطواته إلى المسجد تكتب له.

إذن:

وسائلُ الأمورِ كالمقاصدِ *** واحكمْ بهذا الحُكمِ للزوائدِ

ما المقصود بـ"احكم بهذا الحكم للزوائد"؟

الزوائد يعنى التوابع واللواحق للعبادة.

ما هي التوابع واللواحق للعبادة؟

الآن ذهب إلى المسجد هل الرجوع يكتب له؟ ذهب للجهاد الرجوع والتبعات والعناء الذي يلحقه بعد الجهاد هل يكتب له أو لا يكتب؟ هذا الإنسان جاء لطلب العلم رجوعه إلى بيته هل يكتب؟ ذهب إلى الحج رجوعه هل يكتب؟ العناء والمصروفات التي يصرفها في الطريق في الرجعة هل تكتب له؟

الجواب: نعم، تكتب له.

ما الدليل على أن هذه الأشياء تكتب حتى في الرجعة؟

الدليل حديث الرجل الأنصاري الذي قال: إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فالنبي -صلي الله عليه وسلم- أقره بقوله: (قد جمع الله لك ذلك كله)([25])، فهذا صريح.

وكذلك الحديث الذي أخرجه أبو داود بإسناد صحيح: (قَفلة كغزوة)([26]).

ما معنى: (قَفلة كغزوة)؟

رجوعه من الغزو يكتب له أجره فيه كذهابه للغزو.

فإذن الأمور المترتبة على العبادة من اللواحق فإنها تكتب للإنسان، ويؤجر عليها.

وهل هذه التوابع للعبادة على نوع واحد أو أنها على أنواع؟

هي أنواع: نوع متولد منها ناشئ عنها.

ونوع من لوازمها؛ مثل إذا ذهب إلى المسجد لابد أن يرجع.

وأما النوع المتولد منها فإن ذلك ما تؤثره هذه الأعمال، سواء كانت صالحة أو سيئة؛ فمثلاً رجع من الحج وأصيب بالإنفلونزا بسبب الزحام والطريق والتعب والحر، هذه الإنفلونزا متولدة عن سفر الطاعة، فيؤجر عليها، الجراحة التي تصيب المجاهد هي من جهاده، متولدة من هذا الجهاد، ناشئة عنه.

والمشقة التي تحصل له أثناء التعلم؛ فإن هذه متولدة من هذه العبادة، يؤجر عليها، هو في عبادة، والمشقة يؤجر عليها أجراً زائداً.

وكذلك أيضاً المشقة التي تلحقه مع العبادة؛ الطهارة بالماء البارد، وما إلى ذلك، فهذه كلها من لواحق العبادة، ومن آثارها، فمنها ما يكون ناشئاً عنها متولدًا منها، ومنها ما يكون من لوازمها، فـ "الوسائل لها حكم المقاصد" بعض العلماء يجعل القسمة ثنائية، ما يجعلها وسائل ومقاصد ولواحق –زوائد-، يقولون: عندنا مقاصد وعندنا وسائل فقط، طيب والزوائد هذه التي تكلمنا عنها قبل قليل؟

قالوا: هذه من جملة الوسائل.

فلا مُشاحّة في الاصطلاح، نحن نعرف أن الوسيلة يؤجر عليها، وقد يأثم إذا كانت الوسيلة إلى حرام، وكذلك أيضاً ما ينشأ عن ذلك، ويترتب عليه، وبهذا نعرف أن الوسائل لها حكم المقاصد، أن العمل إما أن يكون وسيلة أو أن يكون مقصوداً، أو أن يكون من الزوائد التي تُلحق بالوسائل، صارت القسمة كم؟

ثلاثة أقسام.

المقاصد هي ما أمر الشارع به، أو نهى عنه.

وتسميتها بالمقاصد أمر نسبي؛ لأن الشيء يكون مقصوداً باعتبار، ووسيلةً باعتبار، مثلما نقول مثلاً في علم الإدارة أحياناً نختلف هل هذا هدف أو وسيلة، مثلاً: التعليم إذا نظرنا إليه باعتبار أنه غاية، ما هي وسائل التعليم؟ فتح المدارس والمساجد، طباعة الكتب، الأشرطة السمعية، وما إلى ذلك، فهذه تعتبر وسائل، والتعليم مقصد.

والتعليم لماذا نتعلم؟

نتعلم مثلاً لنعمل، إذًا العمل صار غاية، والتعليم وسيلة حتى نعمل.

ولو نظرنا إلى الغاية الأخرى التي هي العمل، لماذا نعمل؟

نعمل لتحصيل رضا الله والجنة.

فلاحظ أن الغاية أو الهدف أو المقصد -سمه ما شئت- تارة يكون وسيلة باعتبار ما فوقه، وتارة يكون غاية باعتبار ما تحته، وما يوصل إليه، لو جئنا ووجدنا إنسانًا يجري في الشارع، قلنا له: لماذا تفعل هذا؟

قال: من أجل تخفيف الوزن، وحفظ الصحة، وتجديد النشاط.

قلنا: إذن المشي هذا وسيلة، وحفظ الصحة غاية.

ولو سألناه: حفظ الصحة لماذا يا أستاذ؟ وتجديد النشاط لماذا؟

إذا كان هذا غاية همه سيقول لك: فقط، لكن قد يقول لك: من أجل تحصيل السعادة مثلاً.

إذن حفظ الصحة وسيلة لحفظ السعادة، صار وسيلة باعتبار، وغاية باعتبار.

آخر يقول: أنا أحفظ الصحة من أجل أن أعبد الله: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)([27])، فيكون الشيء غاية ووسيلة بالنظر إلى ما فوقه، وإلى ما تحته.

إذن عندنا: مقاصد، الحج مقصد، والسفر إلى الحج يعتبر وسيلة، لو نظرنا إلى ما فوق الحج نحن نحج لماذا؟ لتحصيل رضا الله، إذن صار الحج وسيلة إلى رضا الله.

فالحاصل: أن مأمورات الشارع إذا نظرنا إليها باعتبار الطرق المؤدية إليها فهذه تعتبر مقاصد، والوسائل هي الطرق التي يتوصل بها إلى هذه المطلوبات، إلى المقاصد.

إذن الوسيلة هي الواسطة التي يتوصل بها إلى المطلوب، والمطلوب هذا هو الغاية، أمثلة على الغايات والوسائل: الحج واجب، وركن من أركان الإسلام، ما حكم السفر إلى الحج؟

واجب؛ لأن الوسائل لها حكم المقاصد، فالحج واجب، والسفر إليه يكون واجباً.

وحج التطوع ما حكمه؟

سنة.

ما حكم السفر إلى حج التطوع؟

سنة.

إذن وسيلة المسنون مسنونة، وسيلة الواجب واجبة، وسيلة المباح مباحة.

التجارة ما حكمها؟

مباحة.

كيف تكون التجارة؟

تفتح متجراً مثلاً.

ما حكم فتح المتجر؟

مباح.

إذن الوسيلة مباحة؛ لأن الغاية مباحة.

لكن أنا سمعت أن بعض الناس يفتح متجراً في سوق النساء ولا حاجة له به إطلاقاً، ويجلس هو بنفسه فيه، من أجل اصطياد النساء، ففتح المتجر هنا لأي غاية؟ لأي غرض؟

لغرض محرم، فما حكم فتح المتجر ودفع المال فيه والإيجار؟

كله حرام.

ما حكم تأجير هذا الإنسان هذا المحل؟

حرام، لا يجوز.

فلاحظ كيف اختلف الحكم باختلاف المقصد.

فالوسيلة تابعة له، فلما كانت الغاية محرمة حرمت الوسيلة، ولما كانت مباحة صارت الوسيلة مباحة، الغاية واجبة الوسيلة واجبة، الغاية مستحبة الوسيلة مستحبة، الغاية المكروهة وسيلتها مكروهة، الإقامة في بلاد الكفار من غير حاجة ما حكمها؟

لا تجوز، من غير عذر شرعي.

السفر إلى الإقامة هناك وشراء التذاكر ودفع الأموال؟

لا يجوز.

ما حكم السياحة في بلاد الفسق والفجور والرذيلة والكفر والعري؟

لا تجوز.

السفر إليها؟

لا يجوز.

لماذا لا يجوز؟

لأنه وسيلة إلى أمر محرم.

الصلاة الفرض ما حكمها؟

واجبة.

المشي إليها ما حكمه؟

واجب.

صلاة الجمعة؟

واجبة.

المشي إليها؟

واجب.

هل ورد الأمر من الشارع بالمشي إلى الصلاة صلاة الجمعة؟

نعم: إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ الجمعة: 9.

فالوسائل أحياناً ينص الشارع على طلبها، فنعلم ذلك بواسطة الشارع، بدليل الشارع: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ.

ونعلم ذلك أيضاً بالقاعدة هذه: أن الوسائل لها حكم المقاصد، فمثلاً المشي إلى صلاة الجمعة واجب، ما الدليل؟

نقول: عندنا دليلان قوله: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ هذا بالنص.

وعندنا بالقاعدة، وهي: "الوسائل لها حكم المقاصد".

إذن هذا في الطاعات وفي المعاصي، والتوابع لها حكم الوسائل، وتوابع المعصية هل هي كذلك؟

توابع المعصية، إنسان سافر لأمر محرم، رجوعه هل هو أيضاً آثم في الرجوع؟

بعض العلماء يقولون: لا.

وما تولد عن فعله المحرم ونشأ عنه، رجل وطأ امرأة بالحرام، فحملت، ثم ولدت، ما يلحقه تبعات اختلاط الأنساب؟ تقذير الفرش؟

يلحقه، فهذه المتولدة عن معصيته يؤاخذ عليها.

رجل بث بدعة، وصار الناس يتناقلونها، ألف كتاباً سيئاً، كتب مقالة سيئة، تهكم في الدين، ويقع في أعراض الصالحين، ويقول: حِلق القرآن مدارس للفتنة، فصار الناس يبعدون أولادهم عن حلق القرآن، فكل من أبعد ولده فهذا الكاتب عليه نصيب من الوزر؛ لأن ذلك نتج عن كتابته، وهكذا.

هناك قاعدة لها تعلق بهذه، وهو أن "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم ترك المحرم إلا بتركه فتركه واجب".

وما به تركُ المحرَّم يَرى *** وجوبَ تركه جميعُ مَن درى

"ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ما لا يترك المحرم إلا به فتركه واجب".

ما معنى: "ما لا يتم الواجب إلا به"؟

العلماء يعبرون: ما لا يتم الواجب.

وتارة يقولون: ما لا يتم الوجوب.

ما لا يتم الوجوب إلا به أنواع:

نوع مقدور للمكلف، ونوع ليس بمقدور للمكلف.

والمقدور للمكلف نوعان:

نوع مطالب به، ونوع ليس بمطالب به، فمثلاً الآن حينما نقول: "ما لا يتم الوجوب إلا به"، نوع ليس بطوق المكلف، لا يتم وجوب الظهر إلا بزوال الشمس، هذا في يدك؟ أنت الذي تجعل الشمس تزول؟

الجواب، لا، فهذا لست مطالباً به.

ونوع داخل تحت مقدور المكلف، لكن لا يطالب به، الزكاة لا تجب إلا ببلوغ النصاب، تقدر أن تجمع نصابًا أو لا؟

تستطيع جمع نصاب، فهل يجب عليك أن تجمع نصابًا حتى تجب عليك الزكاة؟

الجواب: لا.

ونوع داخل تحت قدرتك وأنت مطالب به مثل: الطهارة للصلاة، دخول الوقت شرط، والطهارة شرط، لكن لا يتم الوجوب إلا به.

والعبارة الأدق أن يقال: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، لا نقول: ما لا يتم الوجوب، حتى ما نحتاج هذا التفصيل، "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، الحج واجب، ما يتم إلا بأن تسافر، تشتري تذكرة، تسجل في حملة، أو تخرج تصريحًا، يجب عليك فعل هذه الأشياء، ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

وما لا يمكن ترك المحرم إلا بتركه فتركه واجب، تركه واجب مثلاً إنسان عنده إناءان أحدهم يعلم أنه نجس، ما هي آنية كثيرة، لا، إناءان فقط، واحد نجس، وواحد طاهر، فماذا يصنع؟

نقول: دعهما، ابحث لك عن إناء ثالث؛ لأنه لا يمكن ترك المحرم إلا بتركهما.

عنده ثوبان واحد نجس وواحد طاهر، ماذا يصنع؟ اتركهما والبس الثالث.

امرأتان تزوج امرأة وعندها أختها تشبهها، نسخة طبق الأصل، ولا يفرق بينهما، فوجد هذه لا يدري هي فلانة أو غير فلانة، ماذا يقال له؟

يقال: لا يجوز لك أن تقربها؛ لأنه لا يمكن ترك المحرم إلا بتركها، بخلاف البناء على غلبة الظن الذي تكلمنا عليه في السابق: المرأة تزفها له ولائد، وقد لا يتيقن أن هذه فلانة، هو ما رآها، خطبها ولم يرها، لكن القرائن والزفة وكذا أنها فلانة، فيطأها، ما يقول: أحتاج أن أتيقن، وأرى البصمات، وفحص الجينات، وأنها فعلاً هي فلانة، نقول: ما نحتاج هذا الكلام، هذه القرائن تكفي أنها فلانة.

وهذه الوسائل التي لها حكم المقاصد هل هذه الوسائل نوع واحد؟

الجواب: لا، الوسائل ليست بنوع واحد، الوسائل منها ما هو محرم، حرمه الشارع، ومنها ما هو مكروه، ومنها ما هو مباح، ومنها ما هو مشروع في جنسه، فمثلاً لو جاء إنسان وقال: أنا أريد أن أدعو إلى الله - -، وجذب الناس، كما يُفعل في بعض البلاد، سادن قبر عالم له مؤلفات يقول لي من رآه وهو سادن لقبر يقول: تعرف الأدلة في القبور وعبادة القبور؟

 

الوسائل ليست بنوع واحد، الوسائل منها ما هو محرم، حرمه الشارع، ومنها ما هو مكروه، ومنها ما هو مباح، ومنها ما هو مشروع في جنسه، فمثلاً لو جاء إنسان وقال: أنا أريد أن أدعو إلى الله - -، وجذب الناس، كما يُفعل في بعض البلاد، سادن قبر عالم له مؤلفات يقول لي من رآه وهو سادن لقبر يقول: تعرف الأدلة في القبور وعبادة القبور؟

 

نعم، نعم، نعرف هذا.

طيب كيف تكون سادن قبر؟

يقول: نحن لسنا كبلادكم، الناس هنا لا يأتون المساجد، فنحن نقرّبهم.

تقربهم بماذا؟ تقربهم من الفسق إلى القبور وعبادة القبور والشرك بالله؟! هذا عالم يقول هذا الكلام!، فهنا هل نقول: "الوسائل لها حكم المقاصد" مادام قصده تقريبهم للدين، مثلما فعلوا في الكنيسة، يقيمون الرقص في الكنيسة، ويقولون: والله من أجل جذب الناس للكنيسة.

نقول: لا، ليس الجذب بطريقة محرمة، فالوسيلة إذا كانت محرمة لا نقول: الوسائل لها حكم المقاصد، الوسيلة محظورة، ما يجوز.

واحد يقول: والله أنا قصدي طيب، وقصدي هو التأثير على الناس، فسأختلق قصصًا مؤثرة، وأقولها للناس، أحداثًا صارت وعبرًا تتعظ منها النساء، وتترك التبرج، وكذا؟

نقول: ما يجوز.

قصدي طيب وترقيق، وكذا؟

نقول: ما يجوز، الوسائل لها حكم المقاصد، لكن هذه وسيلة محرمة وهي الكذب إلا ما ورد إباحته فقط في الحالات الثلاث في الكذب.

إنسان يقول: إنسان سيئ ومزعج وكذا، وأنا أريد أن أذكر له رؤيا أكذبها أني رأيت فيه رؤيا أجعله يرتدع، القصد هو موعظة هذا الإنسان؟

نقول له: ما يجوز.

يقول: الوسائل لها حكم المقاصد؟

نقول: الوسيلة محرمة؛ لأن الذي يكذب في الرؤيا يُكلف أن يعقد بين شعيرتين([28]).

فإذن الوسائل لها حكم المقاصد متى؟.

إذا كانت الوسيلة مباحة أو مشروعة.

أما إذا كانت الوسيلة محرمة ممنوعة فإنه لا يجوز اتخاذها وسيلة إلى أمر ولو كان مطلوباً.

الحج مطلوب فإنسان يقول: والله أنا أريد أن أذهب إلى الحج، طيب تذهب إلى الحج بماذا؟

قال: بأموال ربوية.

نقول: الوسيلة هذه حرام، هذا لا يجوز، وهكذا.

فهذه "الوسائل لها حكم المقاصد"، الوسائل في كل شيء لها حكم المقاصد إلا ما ذكرت لكم ضابطه.

هنا مسألة دائماً الناس يسألون عنها: وسائل الدعوة ما حكمها؟

قد يأتي قائل ويقول: وسائل الدعوة توقيفية، والدعوة عبادة، والله لا يعبد إلا بما شرع.

أجل، لماذا تضعون هذه الميكرفونات وتضعون مسجلا؟ أليست هذه وسائل؟.

نقول: وسائل الدعوة لا يقال: إنها توقيفية بإطلاق، ولا يقال: إنها مفتوحة بإطلاق، وإنما هي أنواع، فمنها وسائل توقيفية، وابن القيم -رحمه الله- يقول:

فعليك بالتفصيلِ والتمييزِ فال *** إِطلاقُ والإجمالُ دون بيانِ

قد أفسدا هذا الوجود وخبّطا ال *** أذهانَ والآراء كل زمانِ([29])

تفصّل، لا تطلق حكمًا مجملا، تقول: وسائل الدعوة ليست توقيفية، أو وسائل الدعوة توقيفية، كذا بإطلاق، فيه تفصيل، وسائل الدعوة منها ما هو توقيفي، ما يجوز أن تتصرف فيه، مثل خطبة الجمعة وسيلة دعوية، لو جاء واحد وقال: والله الحقيقة والواقع أن الناس اليوم يسهرون طول الليل، وينامون ولا يكادون يصحون لصلاة الجمعة، فأنا رأيي المتواضع أننا نجعل خطبة الجمعة في فترة الصيف بعد صلاة المغرب؛ لأنهم متيقظون، وبعد ذلك ينتشرون في الأرض كما ترون في البلد.

نقول له: يا أخي، هذه لها وقت محدد حدده الشارع.

قال: طيب عندي رأي آخر؛ بدلا من أن نقطع الخطبة نصفين، وينقطع الموضوع، وترابط الموضوع، فلماذا ما تكون الخطبة سردة واحدة كالمحاضرة ساعة كاملة يلقيها بدون انقطاع؟ لماذا يجلس في النصف؟ الوضع الآن تغير والناس؟

نقول له: أبداً، هذه وسيلة توقيفية.

قال: أنا ألاحظ أن الكثير من الخطباء بيده الخطبة المكتوبة، ويده الثانية يطالع فيها الناس، ويطالع الخطبة، ولا هو متماسك على بعضه، مشدود الأعصاب، لماذا ما نجعله يجلس، نعطيه كرسيًّا مريحًا، ونضع قدامه طاولة، ونضع عنده ماءً -طبعاً ما فيه مانع أن الخطيب يشرب إذا احتاج، لكن أقصد أنه يريد أن يجعلها مثل المحاضرة أو الدرس-، ونجعله يجلس ويتكلم على راحته مع الناس؟ لماذا ما نطور وسائل الدعوة؟

نقول له: لا، هذه الوسيلة توقيفية: خطبتان وهو واقف، وقبل الصلاة.

قال: لماذا ما نجعلها بعد الصلاة حتى نفتح المجال على أساس أنه في يوم الجمعة كثير من الناس عندهم ارتباطات، وبعض الخطباء يطولون، وهذا رجل مرتبط بوليمة، أو بدعوة، أو بكذا؟

نقول له: لا، قبل الصلاة.

إذن صارت الوسائل بهذا الاعتبار توقيفية، هذا نوع من الوسائل.

عندنا وسائل وقّفنا الشارع أو دلنا على أصلها مثل: الموعظة العامة، لكن ما حدد لنا طريقة معينة أو أسلوبًا معينًا، تفاصيل معينة، فهذه لكل حال لَبوس.

وعندنا أشياء مفتوحة؛ العلم كيف نبلغ العلم؟

عن طريق دروس، عن طريق محاضرات، عن طريق جامعات، عن طريق مدارس، المدارس والجامعات ما كانت موجودة في زمن النبي ﷺ والصحابة، احتاج الناس إليها فهي وسيلة صحيحة.

الدعوة إلى الله عن طريق الإنترنت وسيلة جيدة وصحيحة، ولا إشكال فيها، وهكذا.

فعندنا وسائل مفتوحة عن طريق الشريط، عن طريق الكتاب، عن طريق المطوية، عن طريق المخيم، عن طريق المكتبة، نشاط، مركز صيفي، هذه من أعظم وسائل الدعوة، ومن أحسنها وأنفعها، فلا نحتاج إلى دليل خاص في مثل هذه الأشياء.

إذن وسائل الدعوة هل هي توقيفية بإطلاق؟ أو ليست توقيفية بإطلاق؟

أحياناً تجد هوجة، هذا يقول: توقيفية بإطلاق، وهذا يقول: لا، ما هي توقيفية.

هذا خطأ، وهذا خطأ، منها ما هو توقيفي، ومنها ما ليس بتوقيفي، لكن هذه الوسائل لا تشتمل على شيء محرم.

عندنا قاعدة لها تعلق أيضاً بهذه، وهي: "كلما سقط اعتبار المقصد كلما سقط اعتبار الوسيلة" الآن الحج: مطلوب حلق الرأس، لو واحد نسي وجاء ومتمتع وحلق رأسه بالموس، فجاءه صاحبه، وقال له: أين أنت؟ غدا النحر وأنت معتمر يوم تسعة وحالق بالموس؟ وماذا ستحلق غدا؟

ومن الطُّرف أن بعض العوام يقول: حلقت شاربي، وواحد يقول: حلقت إبطي، أراد أن يتحلل يريد أن يحلق شيئاً، فماذا نقول لهذا الإنسان؟

نقول: لا يجزئك حلق الشارب ولا الإبط، لكن ماذا يصنع؟.

نقول له: احلق شعرك، ما عنده شعر هو أصلع خلقة، أو حلق شعره أصلاً، نسي أو اجتهد أو أخطأ، فحلق شعره فماذا نقول له؟

بعض الفقهاء يقول: تمرر الموس على الرأس.

لكن ما الفائدة؟

القاعدة أنه إذا سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة، فهنا هذا الإنسان نقول له: ما عليك حلق، ولا تمرر الموس، ولا شيء؛ لأنه لا قيمة لإمرار الموس، هذه قاعدة تتعلق بهذه.

أيضاً ينبغي أن نفرق بين ما يؤمر به قصداً وما يؤمر به تبعاً، فما يؤمر به قصداً مثل: الصلاة، وما يؤمر به تبعاً مثل: المشي إلى الصلاة.

فهذا إنسان لا تلزمه الجمعة، هل هو مأمور بالسعي إلى الصلاة؟

لا.

لا يلزمه الحج، هل يجب عليه السفر إلى مكة؟

الجواب: لا.

فنفرق بين ما يؤمر به قصداً وهو الحج، وما يؤمر به تبعاً وهو السفر إليه، فإذا سقط ما أمر به قصداً سقط ما أمر به تبعاً.

وعندنا قاعدة لها تعلق بهذا وتشبهها ومفيد أنها تذكر: "الأمر بالشيء أمر بلوازمه، والنهي عن الشيء نهي عن لوازمه"، "الأمر بالشيء أمر بلوازمه" هذا يشبه تماماً "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ما لا يمكن ترك المحرم إلا بتركه فتركه واجب"، الآن الأمر بالشيء أمر بلوازمه مثل: الله أمر بالعفاف، هذا أمر بلوازم العفاف: غض البصر، الحجاب، قرار النساء في البيوت، عدم إظهار الزينة، وما إلى ذلك، أمر بلوازمه.

نهى الله عن الفواحش هو نهي عن كل ما يؤدي إليها، من النظر، والتبرج، السفور، الاختلاط، وما إلى ذلك، أمر بالعفاف هو أمر بالحجاب، أمر بالقرار في البيوت، أمر بلوازم العفاف، وهكذا.

وإذا أمرنا الله بتبليغ دينه فهذا أمر بلوازمه أن نحقق الوسائل التي تنتشر عن طريقها الدعوة، أمرنا أن نبلغ الإسلام هذا أمر باتخاذ الوسائل والتدابير التي يحصل بها هذا المقصود.  

هذه بعض الأمور المتعلقة بهذه القاعدة، والقاعدة ذات شجون كثيرة جدًّا، فيها أشياء وأشياء، وفيها تفاصيل، لكن الكتاب هذا كتاب لطيف ومختصر، فلا نخرجه عن المقصود، وإلا فهذه القاعدة لو أنها شرحت في دورة، وليست هي فقط، القواعد الكبار مثل "الأمور بمقاصدها"، كل واحدة يمكن أن تشرح في دورة بكل بساطة، لكن ينبغي أن يكون عندنا طريقة في التعليم والتعلم ألا نخرج عن المقصود، لا نحول المختصر إلى موسوعة.

هذا، وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه.



[1]- نشر البنود: (1/62)، والمحلي على جمع الجوامع: (1/154).

[2]- أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في قول الرجل: زعموا، برقم (4972)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم (866).

[3]- أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب من لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، برقم (137)، ومسلم، كتاب الحيض، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، برقم (361).

[4]- سبق تخريجه.

[5]- أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة، ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، برقم (362).

[6]- أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم (571).

[7]- أخرجه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة، برقم (5484)، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الصيد بالكلاب المعلمة، برقم (1929)، وهذا لفظ البخاري.

[8]- أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، برقم (401)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم (572). 

[9]- أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب الإشارة في الطلاق والأمور، برقم (5295)، وبرقم (6877)، في كتاب الديات، باب إذا قتل بحجر أو بعصا، ومسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره من المحددات، والمثقلات، وقتل الرجل بالمرأة، برقم (1672).

[10]- أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس، برقم (1959).

[11]- أخرجه الترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في أن الفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون، برقم (697)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم (224).

[12]- أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم (2697)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، برقم (1718).

[13]- أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب في الولي، برقم (2083)، والترمذي، كتاب أبواب النكاح عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، برقم (1102)، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، برقم (1879)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (3131).

-[14]أخرجه مسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، برقم (1934).

[15]- أخرجه ابن ماجه، كتاب الذبائح، باب التسمية عند الذبح، برقم (3174)، والدارمي في سننه، برقم (2019)، وقال محققه حسين سليم أسد الداراني: "إسناده صحيح".

[16]- أخرجه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب صيد المعراض، برقم (5476)، وفي كتاب البيوع، باب تفسير المشبهات، برقم (2054)، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة، برقم (1929).

[17]- أخرجه مسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الصيد بالكلاب المعلمة، برقم (1929).

[18]- أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب الوصل في الشعر، برقم (5937)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، برقم (2124).

[19]- انظر: تخريج الفروع على الأصول (ص: 369)، ومذكرة في أصول الفقه (ص: 192)، والوجيز في أصول الفقه الإسلامي (1/277).

[20]- أخرجه مسلم، كتاب الهبات، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، برقم (1631).

[21]- أخرجه الشهاب القضاعي في مسنده، برقم (394)، والدارمي في سننه، برقم (354).

[22]- أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، برقم (2699).

[23]- أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، برقم (663).

[24]- أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في مسجد السوق، برقم (477)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها، وباب فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة، برقم (649).

[25]- سبق تخريجه.

[26]- أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في فضل القفل في سبيل الله -تعالى-، برقم (2487)، وأحمد في المسند، برقم (6625)، وصحح إسناده الألباني في صحيح أبي داود، برقم (2248).

[27]- أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، برقم (2664).

[28]- أخرجه البخاري، كتاب التعبير، باب من كذب في حلمه، برقم (7042)، بلفظ: (من تحلم بحلم لم يره كُلف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل).

[29]- متن القصيدة النونية، ص: (52).

مواد ذات صلة