الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
(78) قصة ابن عباس رضي الله عنهما في الحديث والشروع في التعليق على الحديث
تاريخ النشر: ٢٩ / صفر / ١٤٣٥
التحميل: 2500
مرات الإستماع: 2287

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

في هذه الليلة -أيّها الأحبة- نتحدَّث عن معاني هذا الذكر والدُّعاء الذي تحدّثنا عن بعض جوانبه في الليلتين الماضيتين، وهو حديث ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-، يقول: "بتُّ ليلةً عند خالتي ميمونة، فقام النبيُّ ﷺ من الليل، فأتى حاجتَه، ثم غسل وجهه ويديه، ثم نام، ثم قام فأتى القِربة، فأطلق شِناقها"، يعني: الخيط الذي يُشدّ به فَمُ القِربة، "ثم توضّأ وضوءًا بين الوضوأين"، يعني: توضّأ وضوءًا حصل فيه الإسباغُ، ولكنَّه ﷺ اكتفى فيه بالغسل مرةً واحدةً مثلاً، بمعنى: أنَّه توضّأ وضوءًا متوسِّطًا، يعني: ليس على التَّمام؛ أن يغسل ثلاثًا مثلاً، وإنما اكتفى بالإسباغ مع الاقتصاد والتَّوسط: "وضوءًا بين الوضوأين"، ولم يُكْثِر، وقد أبلغ، يعني: أسبغ.

"ثم قام فصلَّى، فقمتُ فتمطّيتُ كراهية أن يرى أني كنتُ أنتبه له"، تمطيتُ بمعنى: تمددتُ، يعني: يتمغّط، يُظهر أنَّه قام لتوِّه، وذلك أنَّ العباس كان قد أرسل ابنَه عبدالله ليرمق صلاةَ النبي ﷺ في الليل، فهم يُشاهدون النبيَّ ﷺ في النَّهار، فأراد أن يعرف حالَه، وأن يطَّلع على عبادته في الليل، فما كانوا يتمكَّنون من مُخالطته ليلاً والسّمر معه، ومن ثَمَّ أرسل هذا الغلام الصَّغير؛ لأنَّه يتمكن من المبيت عندهم في ليلة خالته ميمونة.

فابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما- ذهب لما صلَّى مع النبي ﷺ العشاء الآخرة، وخرج الناسُ، تأخَّر، فسأل النبيّ ﷺ: مَن هذا؟ فسأله عن شأنه، فقال: "إنَّ العباسَ قد أمرني أن أبيتَ عندكم الليلة"[1].

فالنبي ﷺ أمره أن يتوجّه إلى بيته، ثم أن يضع الفراشَ، فنام على الوسادة التي ينام عليها النبيُّ ﷺ مع أهله. يعني: أنَّ البعضَ ناموا في طولها، والبعض ناموا في عرضها، لم يكن عندهم كثيرُ فرشٍ، فكان يرمق النبيَّ ﷺ في ليلته، ويتحاشى أن يراه النبيُّ ﷺ، أو أن يشعر به، فلمَّا قام النبيُّ ﷺ في المرة الأولى وذهب إلى حاجته، ثم غسل وجهه ويديه، ثم نام، ابن عباسٍ لم يُحرك ساكنًا، فلمَّا قام ثانيةً وتوضّأ، ووصف ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما- وضوءه، ثم قام فصلَّى، يقول: "فقمتُ فتمطيتُ"، هنا يريد أن يُصلي معه، ويُظهر أنَّه لم يكن مُستيقظًا قبل ذلك.

والسَّبب في هذا أنَّهم عرفوا من حال النبي ﷺ أنَّه لربما ترك بعض العمل بحضرتهم خشية أن يُفْرَض عليهم، يعني: العمل غير الواجب؛ لئلا يُفْرَض على أُمَّته.

فابن عباسٍ -رضي الله عنهما -كان يتظاهر بالنّوم، وهذا لذكائه، وأنَّه غلام صغير، فلمَّا قام بدأ يتمدد، يعني: يتمغط كأنَّه قام لهذه اللَّحظة.

يقول: "فتوضّأتُ، فقام فصلَّى، فقمتُ عن يساره"، وإنما يكون المأمومُ عن يمين الإمام، "فأخذ بيدي فأدارني عن يمينه، فتتامت صلاةُ رسول الله ﷺ من الليل ثلاث عشرة ركعة، ثم اضطجع"، يعني: بعدما أوتر، "فنام حتى نفخ"، وهذا من خصائصه ﷺ: أنَّ عينيه تنامان، لكن قلبَه لا ينام، ومن ثم فما يكون ذلك ناقضًا بالنسبة لرسول الله ﷺ، أمَّا غير النبي ﷺ فمتى فقد الوعي والإدراك فإنَّه يجب عليه إعادة الوضوء.

فهنا يقول: "اضطجع فنام حتى نفخ"، بمعنى: أنَّه نام فعلاً حتى صدر منه الصّوت الذي يصدر عن النَّائم أحيانًا، والنَّفخ: الغطيط، كما جاء في بعض الرِّوايات أنَّه غطَّ ﷺ، وكان إذا نام نفخ.

"فأتاه بلالٌ فآذنه بالصَّلاة" يعني: أعلمه بالصَّلاة، وهذه كانت من عادته، ومن سُنته وهديه ﷺ أنَّ المؤذن يُؤذنه بالصَّلاة، يعني يقول: جاء وقتُ الصَّلاة، جاء وقتُ الإقامة مثلاً، وأمَّا الإمام فإنَّه يخرج للنَّاس وقت الإقامة، يعني: يأتي للناس، يدخل عليهم إذا جاء وقتُ الإقامة.

هكذا كان يفعل النبيُّ ﷺ، لكن إذا كان هذا يُؤدي إلى سوء ظنٍّ به أنَّه لا يأتي دائمًا إلا مُتأخرًا مثلاً، أو الناس لا يتقبَّلون هذا، بعض العامَّة من كبار السنِّ ونحو ذلك لا يفقهون هذا المعنى، وهذه السُّنة، فهنا يأتي مُبكرًا ويجلس مع النَّاس.

فالمقصود أنَّه آذنه بالصَّلاة فقام فصلَّى ولم يتوضّأ، يعني: بعدما غطَّ -عليه الصلاة والسلام-، وهذه نومة خفيفة تكون قبل الفجر.

يقول: "وكان في دُعائه: اللَّهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا.." إلى آخره، فهنا في هذه الرِّواية إلى آخر ما ذُكِر في هذا الدُّعاء، قال بعده: قال كُريب: "وسبعًا في التَّابوت، فلقيتُ بعض ولد العباس فحدَّثني بهنَّ، فذكر: عصبي، ولحمي، ودمي، وشعري، وبشري، وذكر خصلتين"، ويأتي الكلامُ على ذلك كلِّه، إن شاء الله.

قوله: "وكان في دُعائه" يدل على أنَّه دعا بدعاءٍ من جملته هذا، يعني: هناك دُعاءٌ آخر، لكن هذا من دُعائه الذي دعا به ﷺ.

وقوله هنا: اللهم اجعل في قلبي نورًا، بمعنى أنَّ القلبَ هو موضع الهداية، فإذا جُعِل النّور فيه، واستنار القلب؛ استنار سائرُ الجسد، فإنَّ في الجسد مُضغةً إذا صلُحت صلُح الجسدُ كلّه، وهذا النّور الذي يكون في القلب هو ما يحصل به الفهم عن الله -تبارك وتعالى-، ويحصل به العلم، وتحصل به الهداية بجميع أنواعها: هداية الإرشاد، وهداية التَّوفيق، وهذا النّور حينما يتمكّن من القلب يُوجد ويظهر أثرُه على الوجه وسائر الجوارح، ومن هنا تحصل للعبد أنواعُ الخيرات، والهدايات، والفِراسة، وتستنير بصيرته وتُشرق.

فسؤال النّور في القلب ظاهر العلَّة، وقُدِّم القلبُ هنا لأنَّه بمنزلة الملك، بل هو الملك لهذه الجوارح، فهو الأصل والأساس الذي هو مبعث الهداية، ومحور التَّحكم في سائر الأعضاء والأبعاض والحواسّ، فإنَّها تأتمر بأمره.

اجعل في قلبي نورًا، ثم ذكر البصر والسَّمع: في قلبي نورًا، قال بعده: وفي بصري نورًا، فجاء بالبصر لأنَّه المورد الأول لما يحصل للقلب، وما يقع فيه، وما يصل إليه، فعن طريق هذا البصر تنطبع صور هذه المرئيات والمشاهدات في القلب، فتُؤثر فيه سلبًا أو إيجابًا، فإذا صار النورُ في البصر فهذا يعني أنَّه لا يُبصر إلَّا ما يُرضي الله -تبارك وتعالى-، كما في الحديث: وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنَّوافل حتى أُحبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبْصِر به[2]، إلى آخر ما ذُكر في الحديث المشهور، بمعنى: أنَّ هذا البصر يشتغل بالنَّظر إلى محابِّ الله ومراضيه، ولا ينظر إلى شيءٍ آخر مما يكرهه ويسخطه ربّه -تبارك وتعالى.

هذا ما يتعلّق بالبصر، وإذا حصل النّور بهذا البصر فإنَّ ذلك يقتضي أنَّ هذا البصرَ يُوصله إلى أمورٍ من الهدايات؛ النَّظر في آيات الله -تبارك وتعالى- مما يمتلئ معه القلب بالتَّعظيم والإجلال لله ، وما إلى ذلك مما لا يخفى.

فهنا ذكر البصر، وكذلك الدَّلائل التي يقع عليها البصر: الأدلة النَّقلية، الآيات المتلوّة، كل هذا من التَّعبدات التي تتصل بالبصر، وترتبط بالقلب، ثم ذكر السَّمع، فالبصر والسَّمع ميزابان يصبّان في القلب، والسّمع عادةً يُقدَّم على البصر؛ لأنَّه أكمل وأشمل، فالبصر لا يرى الإنسانُ فيه إلا المتشخِّصات، وأمَّا السَّمع فإنَّه يسمع الأشياء التي لا شخوصَ لها، يسمع أصواتَ الرِّياح، كما أنَّ البصرَ لا يرى إلا ما أمامه، وأمَّا السَّمع فيسمع من جميع الجهات، كما أنَّ البصرَ لا يرى إلا ما يُدركه البصرُ بحسب قوَّته وضعفه، يعني: هو له مدى مُعين، لكن السَّمع يسمع ما هو أبعد من ذلك، فنحن نسمع أصوات أشياء بعيدة لا تصل إليها أبصارُنا.

والإنسان أيضًا قد يفقد حاسةَ البصر، فكما هو مُشاهد، وكما يذكر أهلُ العلم: أنَّ ذلك ينعكس على بصيرته؛ فيقوى عنده الإدراك، والحفظ، والضَّبط، والإتقان، وما إلى ذلك، وذلك أنَّ البصرَ يُشوّش القلبَ؛ فيتفرَّق قلبُه مع هذه المشاهدات الكثيرة التي يُشاهدها، فإذا ذهب البصرُ صار القلبُ مُكتنزًا بالمدركات والأمور التي يحفظها ويضبطها ويُتقنها، ليس ثمَّة ما يُشوّشها؛ ولذلك كان الفاقدون لأبصارهم أقدرَ على الحفظ والضَّبط من غيرهم في الغالب، هذا بالإضافة إلى النَّظر إلى المعاصي وما إلى ذلك، فإنَّه يُشتت القلبَ ويُضيعه ويُفسِده؛ ولذلك حتى القوة الجسمانية فإنَّها تكون مُوفرةً أكثر مما يتّصل بالبصر فيما لو أنَّه نظر إلى الحرام؛ ولذلك ذكر بعضُ أهل العلم كالأصمعي[3] -رحمه الله- عن هؤلاء العُميان الذين يفقدون الأبصارَ أنَّهم أقدر الناس، وأقوى الناس فيما يتعلَّق بالمعاشرة، "بخلاف مَن كان فاقدًا لذلك بالكليَّة؛ فإنَّ بصرَه يكون أقوى من غيره"، وتكفي هذه الجُملة لبيان هذا المعنى؛ ولذلك الذين ينظرون كثيرًا للحرام، ينظرون للصّور الـمُحرَّمة، هؤلاء يفقدون كثيرًا من قوى البدن، لا سيما ما يتَّصل بالمعاشرة، فذلك يُضعفهم، ويُنهكهم، وقد يُورثهم عجزًا مُستديمًا كما هو معلومٌ.

ثم سأل بعد ذلك قال: وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، يعني: في الجانبين، في الجهتين، في النَّاحيتين، ويحتمل في الجارحتين: يميني ويساري، يعني: اليد اليمنى، واليد اليُسرى. ذكره بعضُ أهل العلم احتمالاً.

والأظهر -والله أعلم- لما ذكر الفوقَ والتَّحتَ، والأمام والخلف، فاليمين واليسار هي مُكمِّلة لهذه الجهات، فتكون الأنوار عن يمينه وشماله.

وهكذا أيضًا حينما قال: وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، وأمامي نورًا، وخلفي نورًا، فنُلاحظ أنَّه في بعض هذه لن يرد حرفُ الجرِّ، يعني: في بعضها يقول: "وعن يساري"، ما قال: ويساري، قال: "وعن يميني، وعن يساري"، قال: "وفوقي"، ما قال: ومن فوقي، قال: وتحتي وأمامي وخلفي.

فبعض أهل العلم يقولون: إنَّه لن يرد حرفُ الجرِّ في هذه المواضع إشارةً إلى تمام الإنارة واكتمالها؛ إذ الإنسان يقولون: تحوط به الظُّلمات، ولم يتخلّص منها إلا بالأنوار التي يهبها اللهُ -تبارك وتعالى- له؛ ولهذا قال: وعن يميني، وعن يساري، لكن مثل هذه استنباطات قد تُصيب وقد تُخطئ.

وأسأل الله أن ينفعني وإيَّاكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإيَّاكم هُداةً مُهتدين، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (3/617)، برقم (6286)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، والطبراني في المعجم الكبير (10/275)، برقم (10648).
  2. أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب التَّواضع، برقم (6502).
  3. لم أقف عليه.

مواد ذات صلة