الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(1) حديثا الباب
تاريخ النشر: ٢٤ / ذو القعدة / ١٤٣١
التحميل: 94
مرات الإستماع: 245

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ذكر المصنف في كتاب الفضائل: باب الأمر بتعاهد القرآن، والتحذير من تعريضه للنسيان وذكر الحديث التالي:

"عن أبي موسى عن النبي ﷺ قال: تعاهدوا هذا القرآن، فو الذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتًا من الإبل في عقلها[1] متفق عليه".

قوله ﷺ: تعاهدوا هذا القرآن أي: حافظوا على قراءته، وواظبوا على تلاوته، ومراجعة محفوظكم منه، من أجل أن يبقى ويثبت.

فإن تعاهد الشيء هو الرجوع إليه من قريب، وملاحظته ومتابعته دون الغفلة عنه، والإعراض والذهول والترك، أو الاشتغال عنه بغيره.

ثم قال النبي ﷺ مبينًا علة لهذا التعاهد، مع أن ذلك قد يُطلب لغير ما ذُكر، لكن قد يجتمع في الشيء علل متنوعة، فذكر النبي ﷺ علة لهذا الأمر بالتعاهد، فقال: فو الذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتًا من الإبل في عقلها أشد تفلتًا من الإبل، والإبل معلوم أنها تُعقل، فيُوضع فيها رباط في وسط الذراع من يدها، فيضم ذلك إلى العضد، فإذا برك البعير مثلاً رُبط ذلك المحل منه، ثم تُرك، لا يستطيع أن ينهض، لا يستطيع أن يقوم، ولا أن ينطلق وينفلت من صاحبه، فيتركه، ثم يذهب لشأنه بعد ذلك، ولكنها قد يحصل لها انفلات؛ ولذلك تحتاج إلى تعاهد، فلا يُترك هذا البعير مدة طويلة، في غفلة عنه، فإنه قد ينفلت، ثم بعد ذلك ينطلق، فلا يوقف له على أثر، فيتخلص؛ ولهذا قال: فو الذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتًا يعني: تخلصًا، ومن ثم فإن الإنسان ينسى ويذهب محفوظه.

وهذا أمر بالتعاهد، والأصل أن الأمر للوجوب، وقد تكلم أهل العلم على مسألة نسيان المحفوظ من القرآن، وذكره بعضهم في جملة الكبائر التي عددها، ولكن الروايات التي جاء فيها الوعيد لمن وقع له شيء من ذلك لا يصح شيء منها، كل الأحاديث ضعيفة، لكن عندنا الأمر هنا بالتعاهد؛ وذلك حث من الشارع على هذا الأمر، والناس يتفاوتون في هذا، فمن كان نسيانه بسبب الإهمال والغفلة والإعراض، والاشتغال عنه بغيره من أمور الدنيا مثلاً، فهذا لا شك أنه مذموم، وأنه مقصر غاية التقصير، ولكن من كان نسيانه من غير تفريط، هو يتعاهد القرآن لكنه غلبه النسيان، فهذا غير مؤاخذ.

وهكذا من كان نسيانه بسبب اشتغالاً بأمور لا بدّ منها، كالإمام العادل مثلاً، فهو مشتغل بمصالح الناس، وهكذا ربما ينشغل من يقوم على بعض مصالح الناس في علم، أو عمل، أو نحو ذلك، يشغله ذلك عن بعض المراجعة، لا يشغله إشغالاً كليًا، ولكنه قد يشغله بعض الشيء، فيؤثر ذلك على حفظه، فهذا يكون معذورًا، وغير ملوم، وبهذا التفصيل قال الإمام النووي -رحمه الله-، وذكر مثل هذا أيضًا في مدة الختم، وأن الناس يتفاوتون في هذا.

ثم ذكر المصنف الحديث الآخر، والأخير في هذا الباب، فقال:

"وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت[2] متفق عليه".

مثل صاحب القرآن يعني: حافظ القرآن، وقلنا: إن مثل هذه العبارة تدل على مزيد اختصاص، كما جاء في قوله: يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتقِ[3]، وقلنا: الأقرب أنه يحمل على الحافظ، وهنا عبر بصاحب القرآن مثل صاحب القرآن هل المقصود به الذي يقرأ القرآن نظرًا كصاحب الإبل المعقلة؟

الجواب: قطعًا، لا، وإنما المقصود به الحافظ، كصاحب، أو كمثل الإبل المعقلة، يعني: هو مع محفوظه كذاك صاحب الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها، يعني: يتعاهد ذلك من قريب؛ لئلا تنفلت من عقلها، وإن أطلقها ذهبت وهكذا الحفظ، فمن أراد أن يكون حفظه حاضرًا، وأن يضبط هذا الحفظ، فأوصيه بوصية واحدة فقط، ألا يمر عليه عشرة أيام حتى يمر على جميع محفوظه، والسلام، قلّ هذا الحفظ أو كثر، الذي يحفظ القرآن كاملاً لو يراجع كل يوم ثلاثة أجزاء، فإنه يستطيع -بإذن الله- أن يتقن الحفظ بحيث بعد مدة لا يحتاج إلى النظر في المصحف، إذا استمر على هذا، ولم ينقطع، لكن المشكلة أنه يحصل انقطاع بسبب مرض، أو بسبب الانشغال، أو بسبب صوارف، ثم  بعد ذلك يبدأ هذا الحفظ يعلوه طبقة من الضعف، فيبدأ بالتلاشي، فإذا أراد أن يرجع إليه وجد أنه بحاجة إلى جهد، وكلما بعد العهد ازداد هذا الجهد؛ ولذلك انظر إلى السور مثلاً التي تقرأها مثلاً دائمًا، وما يمر عليك عشرة أيام إلا تقرأها، هذه ما يحتاج تراجعها، والإمام مثلاً إذا كان يقرأ يوم الجمعة في صلاة الفجر بالسجدة والدهر، ما يحتاج يراجع، إذا جاء يراجع القرآن، ومر على هاتين السورتين جاوزهما، وإذا كان الإنسان يقرأ سورة الكهف كل جمعة، ما يحتاج يراجعها، خلاص كل جمعة يقرأ عن ظهر قلب، أليس كذلك؟ فبقية القرآن هكذا، فإذا كان الإنسان يكرره، فلا يحتاج أن يتعنى ويفكر في الأسباب التي يقوي فيها المراجعة، والطرق التي تساعد على ذلك، فقط لا يمر عليك عشرة أيام حتى تمر على جميع محفوظك من القرآن، قد لا تستطيع هذا في البداية إن كان الحفظ ضعيفًا، فابدأ بداية تصلح لمثلك، كيف؟ قد يكون بمنزلة من لا يحفظ، نسي عامة ما كان يحفظ، فنقول: ابدأ بحسب قوة الحفظ، إن كنت تسمع كل يوم ربع حزب، سمّع اليوم ربع، وغدًا ربع جديد مع الربع الذي بالأمس، وبعد غد الربع  الجديد مع الربعين اللّذيْن قبله، والذي بعده مع الثلاثة الأرباع التي قبله والذي بعده مع الأربع أرباع، تجد نفسك في النهاية تراجع في نهاية الأسبوع كل ما مضى في الأسبوع، ثم إذا اكتمل الجزء ضعه في يوم من الأسبوع، تراجعه كل سبت مثلاً، هذا الجزء الأول، ثم ابدأ في الأسبوع  الثاني بنفس الطريقة، حتى يجتمع لك جزء بنفس الطريقة، ثم ضعه يوم الأحد،  فيصير يوم السبت تراجع ذاك الجزء الأول، مع نصيب يوم السبت المعتاد الجديد، ويوم الأحد تراجع الجزء الثاني مع نصيب يوم السبت والأحد الجديد، وهكذا في الأسبوع والثالث والرابع، حتى يكون معك سبعة أجزاء، كل يوم جزء مع النصيب الجديد، نصيب أسبوع، الطريقة التي ذكرتها كالأسبوع الأول بنفس الطريقة، كل أسبوع يبدأ من السبت إلى الجمعة، حتى يكتمل له سبعة أجزاء في الأسبوع، ثم يبدأ يضع يوم السبت جزءًا آخر، والأحد في الأسبوع الذي بعده جزءًا آخر، والاثنين جزءًا آخر، حتى يكون عنده في النهاية في كل يوم يراجع جزئين، ثم يمشي بنفس الطريقة، يستمر بالمراجعة، ثم بعد ذلك يكون له ثلاثة أجزاء، في كل يوم، فإذا كان له ثلاثة أجزاء في كل يوم معنى ذلك أنه يستطيع أن يختم كل عشرة أيام بهذه الطريقة: كل يوم عنده أجزاء معينة إذا استمر على هذا الوضع فلا خوف عليه من جهة الحفظ، يستطيع أن يقرأ عن ظهر قلب؛ ولهذا يوجد بعض الناس من لا يحمل مصحف أصلاً، ولا يملك مصحفًا، هو دائمًا يقرأ عن ظهر قلب، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، لكن هذه نصيحتي -أيها الأحبة- لا تتعب إذا أردت أن تضبط بهذه الطريقة، وجرب، ابدأ من الليلة، وسترى أثر هذا -بإذن الله .

فأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا وإياكم فهم كتابه، وحفظه، والعمل به، إنه جواد كريم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأمر بتعهد القرآن، وكراهة قول نسيت آية كذا، وجواز قول أنسيتها برقم (791).
  2. أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب استذكار القرآن وتعاهده برقم (5031) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأمر بتعهد القرآن، وكراهة قول نسيت آية كذا، وجواز قول أنسيتها برقم (789).
  3. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب فضائل القرآن برقم (2914) وأبو داود في باب تفريع أبواب الوتر، باب استحباب الترتيل في القراءة برقم (1464) وأحمد ط الرسالة برقم (6799) وصححه الألباني، وقال محققو المسند: "صحيح لغيره".

مواد ذات صلة