الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(3) حديث عقبة بن عامر وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم
تاريخ النشر: ١٨ / ذو الحجة / ١٤٣١
التحميل: 43
مرات الإستماع: 231

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله

أما بعد:

ففي باب الحث على سور وآيات مخصوصة أورد المصنف -رحمه الله- حديث عقبة بن عامر أن رسول الله ﷺ قال: ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ[1] رواه مسلم.

قوله ﷺ: ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة يعني: ألم تعلم لم ير مثلهن قط يعني: في بابها، في الرقية، والتعوذ، وكان النبي ﷺ يعوذ الحسن والحسين قبل نزول هاتين السورتين بتعويذة من كل شر من كل عين لامة، أو هامة، ومن عين الإنسان[2].

فالشاهد: أن النبي -ﷺ ترك ذلك، وصار يعوذ بهاتين السورتين كما سيأتي في حديث أبي سعيد -رضي الله عنه وأرضاه.

قال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ وذلك لما اشتملت عليه هذه السور العظيمة التي رقى بها جبريل ومعه ميكال رقيا النبي ﷺ بهاتين السورتين لما سحر -عليه الصلاة والسلام- في القصة المعروفة، سحره لبيد بن الأعصم اليهودي، وهاتان السورتان مشتملتان على معان عظيمة في هذا الباب فـ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ يعني ألتجئ إلى رب الفلق، والفلق: هو الصبح، وهو مطلع الأنوار، والإشراق، ويحصل بذلك بث الأرزاق، وفتح البركات، والنبي ﷺ يقول: بورك لأمتي في بكورها، بخلاف الظلام، كما في قوله -تبارك وتعالى-: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ فاستعاذ استعاذة عامة في أولها قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ۝ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ كل ما خلق من شرور الآدميين، شرور الجن، وشرور الدواب، والهوام، وشر كل ذي شر، يدخل فيه جميع أنواع الشرور مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ والله -تبارك وتعالى- خلق الخير، والشر، ولكن الشر لا ينسب إليه؛ تأدبًا معه والشر ليس إليك[3] فهو في مفعولاته، وليس في أفعاله -تبارك وتعالى- لأن أفعال الله كلها خير؛ لأنه لا يفعل إلا لحكمة فحينما توجد مثل هذه الأمور، التي يحصل بسببها الإيلام، والتأذي لدى بعض المخلوقين، فإن ذلك لحكم عظيمة أوجدها الله من أجلها؛ ولهذا كانت أفعال الله كلها خير، لكن من جهة المفعول يقع الشر، فيوجد في مخلوقاته، فوجود الشيطان بالنسبة إلينا شر، ووجود النار بالنسبة إلينا نار جهنم -أعاذنا الله إياكم منها- شر، ووجود الحشرات الضارة بالنسبة إلينا شر، لكن هو بالنسبة لأفعال الله لا يفعل إلا ما فيه الخير والمصلحة، وبضدها تتبين الأشياء، وبهذا تظهر معاني الأسماء الحسنى القوي العزيز الجبار المنتقم العليم الحكيم الخبير الحكم العدل.

مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ثم خص لونًا من الشرور، وهو أعظمها قال: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ سواء قلنا: بأن الغاسق هو القمر، كما قاله جماعة من السلف أو قلنا: بأن الغاسق هو الليل بظلامه، والقمر إنما يظهر ليلاً، فهو آية الليل، والليل، والظلام يكون ذلك محلاً لانتشار الهوام، والسباع، وشياطين الإنس، وشياطين الجن، ولذلك أمر النبي ﷺ بإمساك الصبيان عند المغرب حتى تذهب فحمة العشاء، والسبب أن الشياطين ينتشرون هي فترة انطلاق لهم ينتشرون، فيتخطفون لربما هؤلاء الصبيان، فأمر بكفهم، ثم بعد ذلك يكون انتشارهم بصورة انسيابية، فينتشرون في الظلام، ويكثرون، ولهذا قال: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ القمر هو علامة الليل، والليل يكون به الظلام، وتنتشر هذه الشرور في الليل أكثر من النهار، ولذلك حتى السراق، وأهل الإجرام إنما يتحركون، ويتنقلون ليلاً؛ لأن الليل يسترهم وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ.

ومن الشرور العظيمة التي خصها بعد الاستعاذة من كل شر قال: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ -نسأل الله العافية- النساء السواحر، فالسحر فيهن أكثر، في النساء، وغالبًا ما يكون الضعيف له مخلب، له شيء، ولذلك تجد الضعفاء أحيانًا من هؤلاء الخادمات، أو نحو ذلك هي ضعيفة، مستخدمة، عاملة لربما استطالوا عليها، وظلموها، ولكن لربما يطولهم منها ألوان الشرور التي لا يجدون لها طبًا إلا ما شاء الله من السحر، ونحوه لربما انقلبتم حياتهم، رأسًا على عقب، الضعيفة التي يستضعفونها.

وكم من بيوت خربت، وقلبت حياتهم رأسًا على عقب، وكم من سعادة حولت بسبب هذه الضعيفة التي تعمل عندهم فحسدتهم، أو ظلموها فانتقمت منهم، فتجد مثل هذه الأشياء، تجد حتى الحشرات لها ما يحصل به الدفع، فهذه الدويبة، العقرب الصغيرة تجد أنها في غاية الإيذاء لمن اقترب منها، حتى النباتات، هذا أمر مشاهد.

فالشاهد: أن النساء يكثر فيهن السحر، ولربما كان السحر فيهن أبلغ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ۝ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ذكر هذه الثلاث على سبيل الخصوص، وذلك أن نفس الحسد إذا تشخصت، وتصورت، وتشكلت بصورة ينبعث ذلك منها الأمر الغيبي الذي يصل إلى الإنسان المعيون، فذلك -نسأل الله العافية- حال منتقلة غيبية، لكيفية نفس، خبيثة، يحصل بها التأذي بإذن الله الضرر، فينتقل من هذا العائن إلى المعيون، فيصيبه بإذن الله -تبارك وتعالى-.

ولهذا قيده بهذا القيد من شر حاسد متى؟

يعني: إذا تكيفت نفسه بهذه الصورة التي ينتقل معها الحسد، وامتدت نفسه، وانجذبت لذلك المحسود قال: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ يعني في لحظة الحسد، وهذا أسوأ ما يكون عليه حال الحاسد، هذه تحتاج إلى تأمل، وتحتاج إلى مجالس في الكلام على معانيها العظيمة، لكن المقصود النبي ﷺ هنا لماذا قال -عليه الصلاة والسلام- قال: لم ير مثلهن قط؟[4] لما تشتمل عليه من هذه المعاني.

وكذلك قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ۝ مَلِكِ النَّاسِ ملك الناس، فالملك هو الذي له التصرف المطلق، والرب هو السيد، رب الناس، وهو ملك الناس، وهو إله الناس، فذكر هذه الصفات الثلاث التي هي أجمع الأوصاف الربوبية، والإلهية، والملك، ولا يخرج أحد أبدًا عن إلهيته، وربوبيته، وملكه، فكل الخلق مربوبون لله ما يخرج أحد عن هذا الوصف، وكلهم عبيد له، وهو إلههم، إلهية، وعبودية القهر، وأيضًا كلهم تحت تصرفه، فهو الملك، ولهذا يوم القيامة يقبض السموات، والسموات بيمينه، والأرض بيده الأخرى، ويقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟[5] أين الجبارون؟، وما يجيبه أحد، وحينما يقول: لمن الملك اليوم يقال لله الواحد القهار، وربما يجيب نفسه، وربما يجيبه ملائكته، وربما يجيبه الخلائق.

فهنا ذكر هذه الأوصاف الثلاث التي هي من أجمع الأوصاف لا يخرج عنها المخلوق قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ۝ مَلِكِ النَّاسِ ۝ إِلَهِ النَّاسِ من ماذا؟

مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الذي يخنس، يضعف إذا استعذت منه.

فالشاهد: أن مثل هذه التعويذات، لو أن الإنسان قالها بيقين جازم، فإنها تكسر الحجارة، ولا يثبت شيء أمامها، لو قالها الإنسان بيقين لما ثبت شيء أمامها، وقد ذكرت لكم مرة حالاً شاهدتها، صورت، ولم يسمح صاحبها بنشرها قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فقط، وجلس ينفث على السحرة، ستة معهم ساحر كبير، يأتونه بالحديد، وبالسيوف يسرعون إليه ليضربوه، وهو يقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، وينفخ الواحد منهم؛ فيتدحرج كما تطير الريشة في الهواء في يوم عاصف، كلهم هذه كانت حالهم، بمجرد قوله: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، وينفخ، فيتدحرج الواحد منهم، فكيف بهذه السور العظيمة التي هي من القرآن.

ولهذا أنا أقول: عندنا مثل هذه الكنوز، ثم بعد ذلك نطلب شيئًا آخر من الذهاب إلى السحرة، والمشعوذين، أو أمور هي أشبه بالأوهام، يتطبب بعض الناس بها، وتكون ملهاة لأصحاب البلاء -نسأل الله العافية- وتبتز أموالهم لأمور لا تجدي هذه.

هذه تكسر الحجارة، هذه لا يمكن أن يقف أحد أمامها أبدًا، وأما إذا قرئت عليه سورة البقرة فتلك التي لا يستطيعها البطلة، يقرأ على إنسان سورة البقرة به مس، أو جن، أو سحر، لا يمكن أن يتماسك شيئًا أمامها أبدًا، لكن اليقين، السيف بضاربه.

ولهذا جاء في حديث أبي سعيد الذي بعده قال: "كان رسول الله ﷺ يتعوذ من الجان، وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان، فلما نزلتا أخذ بهما، وترك ما سواهما رواه الترمذي، وقال حديث حسن"[6].

ولهذا يجوز للإنسان أن يتعوذ بالأدعية، والأذكار، وبكلام لا يكون فيه محظور شرعي، كأن يقول الإنسان: أعوذ بالله، وبعزته من شر ما أجد، وأحاذر، أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك سبعًا، اللهم رب الناس أذهب الباس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقمًا.

هذا لا إشكال فيه، وهذا من المأثور، لكن أبلغ ذلك ما يكون بالقرآن، ثم المأثور من كلام رسول الله ﷺ ثم بعد ذلك لا بأس ما يكون من كلام الناس من التعاويذ التي لا تشتمل على محرم، من استعانة بالجن، والشياطين، أو بغير الله من الموتى، أو الأحياء ممن يزعمون أنهم أولياء، فهذا شرك لا يجوز.

أو أن يذكر أسماء أعجمية، أو عبارات غير مفهومة، أو يتكيف عند الرقية بصورة، أو حال غير مفسرة، كأن ينظر إلى النجوم، وهو يقرأ، أو ينظر إلى القمر، وهو يقرأ مثلاً، أو نحو ذلك، أو يرقي بغير العربية فكل ذلك ممنوع.

فإن رقي بكلام مفهوم فيه ذكر الله فلا بأس، فالمقصود أن هذا هو الأبلغ؛ ولهذا قال النبي ﷺ: لم ير مثلهن[7].

ولهذا الإنسان الذي يقول: أنا ما أعرف، نقول له: لا تذهب إلى الرقاة، وتبحث يمين، ويسار، عندك هذه، اقرأها، وإذا زدت عليها الفاتحة النبي ﷺ قال فيها: وما أدراك أنها رقية[8] في الحديث المشهور حديث أبي سعيد في الرجل الذي لدغ، رقوه بعدما لدغ، فقام كأنما نشط من عقال، ما به بأس، ما احتاج لا يربط ساقه، ويجرح رجله، ويسحب الدم، ولا شيء قرأ عليه الفاتحة فقط، قام كأنما نشط من عقال .

كذلك مثل آية الكرسي، وكالآيتين من آخر سورة البقرة، صدر سورة البقرة، وكل مقام بحسبه، ويمكن أن يقرأ بما يناسب المقام، يعني مثلاً إنسان عنده حجارة في الكلى، أو في المثانة، يمكن يقرأ عليه وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وقد أعطيت هذه كتبتها لبعض الناس يشتكي من حجارة، فقلت له: اقرأها على نفسك، وامسح على كلاك، واقرأها بماء، واشربه، ثم أخبرني بعد أيام أن الحصى تفتت، ونزل، تكسر، وكانوا يريدون يعملون له عملية منظار، قلت: لا تستعجل، اقرأها هذين اليومين، فتفتت، فاليقين له أثر لكن واحد يقول: أريد أجرب، أو ما شفنا شيء من هذا القرآن، هذا قد لا يستفيد -كما يقوله بعض العامة-: ما شفنا شيء، ولا يحتاج الإنسان أنه يرقيه زيد، أو عمرو من الناس، يرقي نفسه، يرقي أهله، ومن حوله ممن معه، لا يذهبون بالنساء إلى الرقاة، ليس هناك حاجة لذلك، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة المعوذتين، برقم (814).
  2. انظر: صحيح البخاري (4/147).
  3. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
  4. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة المعوذتين، برقم (814).
  5. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}، برقم (4812)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، برقم (2787).
  6. أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الطب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في الرقية بالمعوذتين، برقم (2058)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم (4901).
  7. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة المعوذتين، برقم (814).
  8. أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب الرقى بفاتحة الكتاب، برقم (5736)، ومسلم، كتاب السلام، باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار، برقم (2201).

مواد ذات صلة