السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(88) التعليق على قوله صلى الله عليه وسلم " سلوا لي الوسيلة " في مسألة طلب الدعاء
تاريخ النشر: ١٢ / ربيع الأوّل / ١٤٣٥
التحميل: 2497
مرات الإستماع: 2778

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: بقي في الكلام على حديث عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- بقية، وذلك فيما يتَّصل بقول النبي ﷺ: ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلةٌ في الجنَّة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمَن سأل لي الوسيلة حلَّت له الشَّفاعة[1].

هنا كون النبي ﷺ يقول لأُمَّته: سلوا لي الوسيلة هذا طلبٌ من النبي ﷺ، يطلب من أُمَّته الدُّعاء، فهل يُشرع أن يطلب المؤمنُ الدعاءَ من غيره؟ يعني: هل نأخذ من هذا أنَّه يُشرع لنا أن نطلب الدُّعاء من غيرنا؟ نقول: يا فلان، ادعُ لي بالهداية، ادع لي بالجنَّة. ونحو ذلك، فهذا طلبٌ من النبي ﷺ، فهل هذا -أعني: قول الإنسان: ادعُ لي- يُقال: إنَّه مشروعٌ بناءً على ذلك، أو لا؟

شيخ الإسلام -رحمه الله- له كلامٌ معروفٌ في هذه المسألة -أعني: مسألة طلب الدُّعاء من الغير- هو لا شكَّ أنَّه جائزٌ، لكن هل هو مشروعٌ؟ بمعنى: قدرٌ زائدٌ على الجواز، بمعنى: أنَّ الشارعَ قد طلبه، يعني: هل هو شيء مُستحبٌّ مثلاً؟ هل شرعه النبيُّ ﷺ لأُمَّته أن يطلب الإنسانُ من غيره أن يدعو له: ادعُ لنا يا فلان، أو أنَّ ذلك خلاف الأولى، مع أنَّه جائزٌ؟

هو بالاتِّفاق لا يلحق الإنسان في هذا حرجٌ، لا إشكالَ، لكن هل الأولى أن يترك ذلك، لا يطلب من أحدٍ أن يدعو له؟

شيخ الإسلام -رحمه الله- يرى أنَّه خلاف الأولى، بأيِّ اعتبارٍ؟ باعتبار أنَّه لا يخلو من نوع افتقارٍ للمخلوق هذا من جهةٍ، والإنسان لا يفتقر إلى المخلوقين في شيءٍ، ولا يطلب حاجته إلا من الله وحده[2]، والنبي ﷺ بايع بعضَ أصحابه على ألا يسألوا أحدًا من الناس شيئًا[3]، لاحظ: ألَّا يسألوا أحدًا من الناس شيئًا، ما بايع الجميعَ، بايع البعض، يعني: هذه منزلةٌ عاليةٌ، فكان بعضُ أصحابه يسقط السّوطُ منه -يعني: هو على راحلته- فلا يقول لصاحبه: ناولنيه. ينزل، وتعرفون أنَّ النزولَ من الراحلة صعبٌ، والركوبَ صعبٌ، يحتاج أن يُنيخ الراحلة، ثم ينزل، ثم بعد ذلك يركب، ثم يستحثّها فتنهض، فلا يقول لصاحبه: ناولنيه. فيكون توجّههم وافتقارهم إلى ربِّهم وخالقهم ، فهذا أكمل في العبودية.

ولهذا شيخ الإسلام يذكر العبارة الجميلة المعبّرة المؤثرة التي ينبغي أن يجعلها المؤمنُ شعارًا له في الحياة: "استَغْنِ عمَّن شئتَ تكن نظيرَه"[4]، ما يكون له فضلٌ عليك، اليد العُليا خيرٌ من اليد السُّفلى، "استَغْنِ عمَّن شئتَ تكن نظيرَه"، تستوي معه، لا يكون أرفع منك، "واحتج إلى مَن شئتَ تكن أسيره"، يأسرك بهذا الإحسان، يُطوِّق به عُنقك، "وأحسن إلى مَن شئتَ تكن أميرَه"، تكن أنت صاحب الفضل عليه، بمنزلة الأمير.

أُعيدها ثانيةً: "استَغْنِ عمَّن شئتَ تكن نظيرَه، واحتج إلى مَن شئتَ تكن أسيره، وأحسن إلى مَن شئتَ تكن أميره".

هذه شعار، فإن استطعتَ ألا تحتاج إلى غير الله فافعل، يكون الفقرُ والحاجة إلى الله وحده، لا تحتج إلى المخلوق: لا أن يُقرضك، ولا أن يُعطيك، ولا أن يُساعدك، ولا أن يخدمك، ولا أن يفعل لك شيئًا من المنافع، إنما إن استطعتَ تكون أنت الذي تبذل، وتنفع، وتُقدِّم للناس، وتُحْسِن إليهم، فإنَّ اليد العُليا خيرٌ من اليد السُّفلى.

نعم الإنسان قد يضطر، والناس خلقهم اللهُ على حالٍ من التَّفاوت، يحتاج بعضُهم إلى بعضٍ، ويُكْمِل بعضُهم بعضًا، لكن نحن نتكلَّم على مراتب عاليةٍ جدًّا؛ ولهذا ذكرتُ في بعض المناسبات أنَّ بعض السَّلف كعائشة -رضي الله عنها- حينما توصل بهديةٍ إلى قومٍ تقول للخادمة: انظري ماذا يُجيبون؟ ماذا يقولون؟ يعني: إن قالوا: جزاكم الله خيرًا، فقولي: بل أنتم جزاكم الله خيرًا؛ من أجل ألا تكون هناك مُكافأة، يكون الإنسانُ يُحْسِن ولا ينتظر من الآخرين شيئًا.

ولذلك قال شيخُ الإسلام -رحمه الله- بأنَّ مَن أحسن وأعطى وانتظر من الناس عائدةً من شُكْرٍ، وتعظيمٍ، وتقديرٍ، ونحو ذلك؛ فإنَّه ليس ممن قال الله: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان:9][5]، لا نريد منكم مُقابل، ولا نُريد منكم كلمةَ شكرٍ، هذا كلّه لله.

طبعًا لو كانت الأُمَّة بهذا المستوى -بأفرادها ومجموعها- لاسترحنا من كثيرٍ من الشَّر فيما بين الأهل في الأسرة الواحدة، والقرابة، والعشيرة، والجماعة، والمحيط، والبيئة، والحيّ، والقبيلة، وعلى مستوى الأُمَّة بكاملها، لا ينتظر الإنسانُ عائدةً من أحدٍ.

فالمقصود هنا أنَّه ينبغي للعبد ألا ينتظر من المخلوقين إحسانًا، ولا نفعًا، ولا بذلاً، ولا عطاءً، وإنما هو الذي يبذل، ويعطي، ويقنع، أين هذا ممن حياتهم من أوَّلها إلى آخرها مُتوقفة على الآخرين؟! كل شيءٍ، حتى الأشياء البسيطة تُقدَّم للجميع، ما يعرف أن يتكلّم إذا جاء إلا ويقول: أنا من طرف فلان. وما الحاجة إلى مثل هذا الكلام يا أخي؟! هذه أمور مبذولة للجميع، والصَّاع واحدٌ، هو يتكلم مع كل أحدٍ، مع مَن يعدل، ومَن لا يعدل، لا بدَّ أن يأتي بمنة أحدٍ، أو تفضُّل أحدٍ عليه، وهو غير مُضطرٍّ؛ يعني: هو غير محتاجٍ، لكن أصبحت عادةً للأسف، ثقافة في المجتمع.

نعم، النبي ﷺ يقول: اشفعوا تُؤجَروا[6]، فالإنسان يُؤجَر على الشَّفاعة، وينبغي ألا يبخل بذلك، وينفع إخوانَه ما استطاع، لكن من الناس مَن تكون حياتُه من أوَّلها إلى آخرها مُتوقفةً على الآخرين؛ فهو لا يدرس إلا بهذا، ولا يتوظَّف إلا بهذا، ولا ينتقل من عملٍ إلى عملٍ إلا بهذا، ولغته هي هذه اللغة الرَّكيكة: أنا أتيتُك من طرف فلانٍ -والله المستعان-.

على كل حالٍ، هذا استطرادٌ دعا إليه مسألةُ المبايعة التي ذكرتُها، حيث بايع النبيُّ ﷺ بعضَ أصحابه ألا يسألوا أحدًا من الناس شيئًا، فشيخ الإسلام -رحمه الله- يرى أنَّ طلبَ الدعاء من الغير فيه نوع افتقارٍ، يجوز، لكن الأولى ألا تطلب منهم حتى الدّعاء، ارفع يديك وادعُ لهم، والملك يقول: ولك بمثلٍ.

وأيضًا فيه نوع تزكيةٍ لهذا الإنسان الذي طلبت منه، لما تقول له: ادعُ لي. هذا نوع تزكيةٍ أنَّه يُرجى أن تكون دعوتُه مُستجابةً؛ لأنَّه قريبٌ من الله ، ففيه نوع تزكيةٍ.

وأمرٌ ثالثٌ: وهو أنَّ العبدَ مأمورٌ بالدُّعاء، وقد تعبَّده الله بذلك، والدُّعاء عبادة جليلة، من أجلِّ العبادات، فيكل ذلك إلى غيره: ادعُ لي.

وهنا ينبغي أن نُربي الأولاد، نعم، نحن نُشعرهم أننا ندعو لهم دائمًا، ومن حقِّهم علينا أن ندعو لهم قائمين وقاعدين، في الليل والنَّهار، نسأل الله أن يُصلح لنا ولكم الذُّرية والنِّية، وأن يرزقنا ويهب لنا من أزواجنا وذُرياتنا قرةَ أعينٍ، وأن يُوفِّقهم، ويُسدِّدهم، ويجعلهم راشدين.

لكن أيضًا ينبغي أن نُعلِّمهم الدُّعاء، أنَّهم يدعون، يعني: قد تجد الولدَ لا يدعو أبدًا، ولا يرفع يديه، لكنَّه دائمًا: ادعُ لي، ادعُ لي.

نعم، دعوة الوالد لولده مُستجابة، لكن أيضًا ينبغي أن يكون الولدُ يدعو الله -تبارك وتعالى-، وأن يتعوَّد على هذا؛ لأنَّ هذه عبادة، ولا بدَّ من الدُّعاء وإظهار الافتقار إلى الله .

شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: هنا قول النبي ﷺ: سلوا لي الوسيلة ليس من هذا القبيل: أنَّه يطلب من أُمَّته الدُّعاء، أو له حاجة إلى المخلوقين. يقول: إنما هو تعليمٌ لأُمَّته ما ينتفعون به في دينهم، وبسبب ذلك التَّعليم والعمل بما علَّمهم يُعْظِم اللهُ أجرَه؛ فإننا إذا صلينا عليه مرةً صلَّى اللهُ علينا عشرًا، وإذا سألنا الله له الوسيلة حلَّت لنا الشَّفاعة يوم القيامة. يقول: وكل ثوابٍ يحصل لنا على أعمالنا فله مثل أجرنا، من غير أن يُنقص من أجرنا شيءٌ[7]؛ فإنَّه ﷺ قال: مَن دعا إلى هدًى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا[8].

فهنا النبيُّ ﷺ هو الذي علَّمنا هذا الخير جميعًا، كل ما نعمله من الخير إنما عرفناه عن طريق النبي ﷺ، فحينما نُصلي، وحينما نصوم، وحينما نقرأ القرآن، وحينما نُضَحِّي، وحينما نتصدَّق النبيُّ ﷺ له مثل هذا الأجر.

وهنا يأتي فضل وأهمية تعليم الناس الخير، الذي يُعلِّم الناسَ الخير، إذا علَّمتَ أحدًا آيةً، أو نحو ذلك؛ يكون لك مثل أجر هذا الإنسان: مَن علَّم آيةً من كتاب الله -عزَّ وجلَّ- كان له ثوابُها ما تُلِيَتْ[9]؛ ولهذا يحسن على الأقلّ أن يحرص الوالدان على تعليم الولد –الطفل- سورةَ الفاتحة، لماذا؟

لأنَّ هذا الطفلَ سيقرأها في كل ركعةٍ طول الحياة، فهي أكثر شيءٍ يقرأه ويُردِّده، فيكون للأبوين أو مَن علَّمه منهما مثل الأجر الذي يحصل له.

هذه القضية أحيانًا أفوتها، وهنا يأتي فضلُ مُعلم القرآن: أن يحتسب ويُريد ما عند الله -تبارك وتعالى- بهذا التَّعليم، ولا يريد عرضًا من الدُّنيا.

فهنا النبي ﷺ يقول: سلوا لي الوسيلة، ليس هذا من باب الافتقار، وإنما هو تعليمٌ للأُمَّة ما ينتفعون به، فصلَّى الله عليه وآله وسلَّم.

بعد ذلك أقول: هذه الجُمَل التي علّمناها النبيُّ ﷺ أن نقول مثلما يقول المؤذّن، يقول: فإنَّه مَن صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى اللهُ عليه بها عشرًا[10]، وهكذا سؤال الوسيلة، وأنَّها منزلةٌ في الجنَّة لا تنبغي إلا لعبدٍ، والنبي ﷺ يرجو أن يكون هذا العبدَ.

فهذا يُؤخذ منه استحباب الصَّلاة على النبي ﷺ، وأنها مُتأكّدة بعد الأذان، بعدما نُردِّد مع المؤذّن.

وكذلك يُستحبّ أن نسأل له الوسيلة، واستحباب إجابة المؤذّن أن نُردِّد معه، وقد مضى الكلامُ على هذا، وأنَّه من الجفاء أن نسمع المؤذّن ثم لا نُجيب، لا نُردِّد معه.

وهكذا أيضًا أن نقول: "وأنا أشهد أن لا إله إلا الله"، ونقول: "وأنا أشهد أنَّ محمدًا رسولُ الله"، وأن نقول: "رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا"، كلّ هذا مما يُستحبُّ.

وهكذا أيضًا النبيُّ ﷺ لما ذكر الصَّلاةَ عليه، ورغَّب الأُمَّة فيه؛ ذكر ما يستحثُّ هممهم، ويُنشط عزائمَهم عليه، وهو: صلَّى اللهُ عليه بها عشرًا.

ولما ذكر الوسيلةَ، وسؤال الوسيلة له -عليه الصلاة والسلام- قال: حلَّت له الشَّفاعة، يعني: مَن سأل الوسيلةَ للنبي ﷺ.

فهنا يُؤخذ منه أنَّ مَن حثَّ غيرَه على عملٍ من أعمال الخير والمعروف أنَّه يحسن أن يذكر له ما يُرغِّبه في ذلك، ويُنشطه لفعله والقيام به.

وهذه الإجابة للمؤذّن، وهذا الدُّعاء الذي يُقال من الصَّلاة على النبي ﷺ وسؤال الوسيلة، هذا يستوي فيه من حيث المطالبة: المتطهّر، ومَن كان عليه الحدث، سواء كان هذا الحدثُ من قبيل الحدث الأكبر: كالجنابة، والحيض، وما يلحق به من النِّفاس، أو كان غير ذلك، فهنا لأنَّ النبي ﷺ خاطب الجميع.

نعم، حينما يذكر الإنسانُ ربَّه وهو مُتطهر، فهذا أكمل وأفضل بلا شكٍّ، لكنَّه يدع الذكرَ إذا كان في الخلاء مثلاً، فإنَّه لا يذكر الله فيه كما ذكرنا سابقًا.

هذا ما يتعلَّق بهذا الحديث.

  1. أخرجه مسلم: كتاب الصَّلاة، باب القول مثل قول المؤذّن لمن سمعه ثم يُصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يسأل له الوسيلة، برقم (384).
  2. انظر: "مجموع الفتاوى" لابن القيم (1/328).
  3. أخرجه مسلم: كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس، برقم (1043).
  4. انظر: "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (5/182).
  5. انظر: "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (5/434).
  6. أخرجه البخاري: كتاب الزكاة، باب التَّحريض على الصَّدقة والشَّفاعة فيها، برقم (1432).
  7. انظر: "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" لابن تيمية (1/285).
  8. أخرجه البخاري: كتاب العلم، باب مَن سنَّ سنةً حسنةً أو سيئةً ومَن دعا إلى هدًى أو ضلالةٍ، برقم (2674).
  9. أخرجه السيوطي في "الجامع الكبير" (9/552)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة المختصرة"، برقم (1335).
  10. أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب الصَّلاة، باب ما يقول إذا سمع المؤذّن، برقم (523)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (657).

مواد ذات صلة