السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(148) الأذكار بعد السلام من الصلاة " سبحان الله والحمد لله والله أكبر ... "‏
تاريخ النشر: ٢٩ / جمادى الآخرة / ١٤٣٥
التحميل: 3170
مرات الإستماع: 2586

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

من الأذكار التي تُقال بعد الصَّلاة: ما جاء في حديث أبي هريرة : أنَّ النبي ﷺ قال: مَن سبَّح الله في دُبر كل صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وكبَّر الله ثلاثًا وثلاثين، فتلك تسعةٌ وتسعون، وقال تمام المئة: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير؛ غُفِرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر[1]. أخرجه الإمامُ مسلم في "صحيحه".

وقوله ﷺ: مَن سبَّح الله في دُبر كلِّ صلاةٍ يعني: بعد السَّلام، فدُبر الصَّلاة هنا المقصود به ما يكون بعد الانصراف منها.

سبَّح الله أي: قال: سبحان الله.

وقوله ﷺ: مَن سبَّح الله في دُبر كل صلاةٍ، "كلّ" هذه صيغة عمومٍ، ولم يرد في هذا الحديث تقييده بالمكتوبة: مَن سبَّح الله، هكذا لفظه: مَن سبَّح الله في دُبر كل صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين، فهذا ظاهره العموم، ولكن حمله أكثرُ أهل العلم على الفرض، فهو وإن لم يرد التَّقييد فيه بهذا الحديث، لكنَّه جاء في غيره؛ كما عند مسلمٍ من حديث كعب بن عُجرة أنَّه قال: مكتوبة[2]، فهذا يُقال خلف الفرائض، والـمُطلق يُحْمَل على الـمُقيّد، والعامّ على الخاصّ.

هنا ذكر النبيُّ ﷺ عددًا مُحدَّدًا: ثلاثًا وثلاثين، هذا في التَّسبيح، وفي التَّحميد أن يقول: "الحمد لله"، وفي التَّكبير ثلاثًا وثلاثين.

وقد ذكرتُ في مقدِّمات هذه المجالس جُملةً من المسائل، وقلتُ حينها: بأننا سنحتاج إلى ذلك في مواضع عند شرح بعض الأحاديث، وهذا منها، فمن المسائل: التَّقيد بالعدد الوارد: هل ذلك مطلوبٌ بحيث لا يزيد على هذا العدد، لا يزيد على هذا المقدار، أو يُقال بأنَّ هذا ذكرٌ، والذكر عبادةٌ، ومن أجلِّ العبادات، وأنَّ الزيادةَ فضلٌ، وبرٌّ، وطاعةٌ؟

فمن أهل العلم مَن يقول: يجب التَّقيد بهذه الأعداد الـمُحددة من قِبَل الشَّارع إذا رُتِّب على ذلك الثَّواب المخصوص، أو الأثر الـمُعين المخصوص، فهذا يُتقيّد به، يقولون: مَن زاد على ذلك فإنَّه لا يحصل له ما رُتِّب عليه؛ لأنَّ هذه الأعداد مقصودة، والله عليمٌ حكيمٌ، والنبي ﷺ لا ينطق عن الهوى، فهذا وحيٌ أوحاه الله إليه، والأدب معه أيضًا أن يُتقيّد بما حُدَّ، فهذه الأعداد إنما ذُكرت لحكمٍ تخفى علينا، وغاياتٍ لا نُحيط بها، والأدب مع الشَّارع يقتضي الوقوف عندها.

وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم-: أن يتقيّد بالعدد، مع أنَّ من أهل العلم مَن خالف في هذا: كالحافظ العراقي[3]، وذكر أنَّه إذا زاد عليه من جنسه؛ لأنَّ الزيادة على نوعين: أن يزيد من جنسه، وأن يزيد من غير جنسه. فإن زاد من جنسه فكيف تُزيل هذه الزِّيادة الأجر الـمُرتّب على ذلك؟! هو طُولب بثلاثٍ وثلاثين، فأكمل ذلك إلى الخمسين، أو إلى الأربعين، فيقول: يحصل الأجرُ والثَّوابُ إذا بلغ هذا الحدّ: ثلاثًا وثلاثين، فكيف يبطل ذلك إذا جاوزه وقد حصل هذا المطلوب؟!

فهذا قال به العراقي وآخرون.

والحافظ ابن حجر[4] -رحمه الله- ذكرنا هنا أنَّه توسّط في هذه المسألة؛ ففرَّق بين مَن قال هذا الذكر الوارد وتقيّد بالعدد المحدد قصدًا ونيَّةً، ثم بعد ذلك لما جاء بالعدد المحدد زاد في الذكر بحيث أنَّه لا يقصد به الذكر المحدد المعين بعد الصَّلاة، وإنما الاستزادة من ذكر الله -تبارك وتعالى-، بمعنى: أنَّه إن نوى عند الانتهاء منه، عند الفراغ، عند بلوغ هذا الحدّ: امتثال الأمر الوارد، ثم جاء بالزيادة، لا على أنَّها من باب تكميل العدد، أو المبالغة فيه، فإنَّ ذلك لا يضرّ، بخلاف مَن نوى الزيادة ابتداءً، يريد أن يقول الأذكارَ بعد الصَّلاة، يقول: أنا سأقول، سأبلغ بذلك الخمسين، فهو لم يكتفِ بِمَ حدَّه الشارعُ، وإنما أراد أن يُبالغ في ذلك، فيقول: هذا يتَّجه فيه قول العراقي.

الإنسان يريد كأنَّه يستدرك على الشَّارع، الشَّارع حدَّ له حدًّا، فأراد أن يزيد على هذا الحدِّ ابتداءً، قال: لا تكفيني. فمثل هذا يُقال فيه ما سبق، لكن إن كانت نيَّته -كما ذكر الحافظ- أنَّه أراد الوقوفَ عند الحدِّ المعين، ثم بعد ذلك زاد، لا من باب أنَّ ذلك من أذكار الصَّلاة مثلًا؛ فهذا لا إشكالَ فيه.

أمَّا القرافي[5] صاحب كتاب "الفروق"، وهو من المالكية، فقد بالغ في ذلك، ورأى أنَّ الزيادةَ عليه تُدخل فاعلها في باب الإحداث في الدِّين والابتداع؛ أنَّ ذلك يكون بدعةً، باعتبار أنَّه زاد على العدد الـمُحدد شرعًا، فإذا زاد فهذه الزِّيادة غير مشروعةٍ، ومن ثم يكون مُسيئًا مُبتدعًا؛ إذ إنَّ الزيادة في المندوبات المحدودة شرعًا استدراكٌ على الشَّارع، ومن شأن العُظماء إذا حدُّوا شيئًا أن يُوقَف عنده، ويُعدّ الخارج عنه مُسيئًا في أدبه معهم. هكذا قالوا.

وهنا قال: سبَّح الله ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين يقول يعني: "الحمد لله"، ومعنى التَّسبيح أنَّه التَّنزيه لله عن كلِّ عيبٍ ونقصٍ في ذاته وأسمائه وأفعاله وصفاته، فهو مُنزَّهٌ عن العيوب والنَّقائص.

وكبَّر الله ثلاثًا وثلاثين يعني قال: "الله أكبر"، وسبق في بعض المناسبات الكلام على التَّكبير، لا سيما عند شرح اسم الله -تبارك وتعالى- في مجالس الأسماء الحسنى، قلنا من أسمائه: المتكبّر، ومن أسمائه أيضًا: الكبير، فحينما نقول: "الله أكبر"، بعض أهل العلم يقولون: المعنى: "الله أكبر" يعني: الله كبير، فجعلوا أفعل التَّفضيل "أكبر" جعلوها لـمُطلق الاتِّصاف، وليست للتَّفضيل، وقد يكون ذلك باعتبار أنَّه لا مُوازنةَ أصلًا بين الخالق والمخلوق، فيُقال: الله أكبر من زيدٍ، الله أكبر من الخلق؛ لأنَّه لا مُناسبةَ بينهما، وإنما المفاضلة بأفعل التَّفضيل لمن اشتركوا في صفةٍ، فزاد أحدُهم على غيره فيها، ولكن ليس هذا محلّ اتِّفاقٍ.

فبعض أهل العلم يقولون: فيه مُضْمَر. يعني: المعنى: "الله أكبر" حملوها على أفعل التَّفضيل، قالوا: الله أكبر كبير، مثلما تقول: أعلم عليم، أقوى قوي، أغنى غني، فقالوا: المعنى: الله أكبر كبير، يعني: أكبر كبير، يعني: أكبر من كل كبيرٍ، يكون فيه إضمارٌ، ولكنَّه حذف لوضوح معناه.

فبعض أهل العلم يقول: الله أكبر من كل شيءٍ، أي: أعظم، أكبر من كل كبيرٍ، الله أكبر من أن يُعرف كُنْه كبريائه وعظمته، كما يقول بعضُ أهل العلم، فالله أكبر من كل كبيرٍ، وأكبر من كل عليمٍ، وأكبر من كل غنيٍّ، إلى غير ذلك مما يمكن أن يُقدّر من الكمالات.

النبي ﷺ يقول: فتلك تسعٌ وتسعون، فإذا قال تمام المئة فهنا في هذا الكتاب الذي بين أيدينا "الحصن الحصين"، جاء به هكذا: "سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ثلاثًا وثلاثين، لا إله إلا الله .." إلى آخره، هو يقول ذلك، هو تابعٌ له أنَّه يقول تمام المئة: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، يقول: "تمام المئة" يعني: ما تتمّ به المئة، ما يُتمم المئة، فيقول: "لا إله إلا الله .." إلى آخره، مرةً واحدة، فيكون المجموع مئة.

وسبق شرح قوله: لا إله إلا الله، ومعناها: لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، وحده هذا تأكيدٌ للوحدانية، مُنفردٌ بالألوهية ، وحدانية، لا شريكَ له في إلهيَّته، وربوبيَّته، وأسمائه، وصفاته.

له الملك، والملك هو التَّصرف الـمُطلق، والملك كلّه له، والتَّقديم: له الملك، وله الحمد يدلّ على الاختصاص والحصر: أنَّ ذلك له، وليس لأحدٍ سواه.

له الحمد والحمد هنا عرفنا معناه، قلنا: إضافة المحامد إلى المحمود، والحمد هنا مصدرٌ، ويمكن أن يُراد به معنى الفاعل أو المفعول، يعني: له الحمد أي: أنَّه هو الحامد الذي ينفع حمده، وكذلك هو المحمود؛ لما له من صفات الكمال، فله الحمد الـمُطلق، وأنَّ "أل" هذه للجنس، الحمد، جنس الحمد، ولا يكون ذلك إلا لمن كان كاملًا من كل وجهٍ.

وهو على كل شيءٍ قدير سبق الكلامُ عن هذه الجملة في حديثٍ آخر.

قوله: غُفِرت خطاياه هذا الذي رُتِّب عليه من الثَّواب، والمراد: الخطايا، الذُّنوب، وهل يدخل في ذلك الكبائر؟

عامَّة أهل العلم يقولون: لا، وإنما تُكفِّرها التَّوبة.

غُفِرت خطاياه وإن كانت –يعني: في الكثرة- مثل زبد البحر، والزَّبد: هي الرّغوة، أو ما يعلو وجه البحر عند هيجانه وتموّجه، يطفو عليه من رغوةٍ يُقال لها: زبد، كما هو معلومٌ، فهذه كثيرةٌ جدًّا، حتى إنَّه يُخيل للنَّاظر أحيانًا لكثرة ذلك إذا نظر عليه من أعلى، حينما يكون في الطَّائرة وينظر إلى المحيط أسفل؛ يجد أنَّ ذلك ممتدًّا بمساحات كبيرة جدًّا، يكون بياضًا في البحر، هذا عند هيجان البحر يكون هذا الزَّبد بهذه الكثرة، يعني: نحن قد لا نرى على الشَّاطئ إلا شيئًا قليلًا، ولكن حينما تذهب إلى وسط البحر فإنَّ ذلك يكثر فيه.

فالمقصود هنا تُغْفَر له، على أنَّ هذا العمل يسيرٌ، قليلٌ، لا يُكلِّف شيئًا، ومع ذلك رُتِّب عليه هذا الثَّواب، وليس هذا فقط فيما يتعلّق بالصَّلاة، وما يسبقها، وما يتبعها، فهي غسلٌ لهذه الذنوب منذ أن يُردد مع المؤذّن إلى أن يأتي، وهو في طريقه تُوضَع عنه الخطايا، وتُرفع الدَّرجات، وتُكْتَب الحسنات إلى أن يدخل فيُصلِّي، فإذا كبَّر ركع وسجد تحاتت خطاياه التي وُضعت على رأسه.

وهكذا في أحاديث كثيرةٍ جاء ما يدلّ على غفران الذّنوب، وتكفير السَّيئات في هذه الصَّلاة وما يحتفّ بها.

هذا الحديث ذكر هذا العدد: "ثلاثًا وثلاثين"، وتمام المئة: "لا إله إلا الله .." إلى آخر ذلك، شيخ الإسلام[6] -رحمه الله- يقول: بأنَّ المأثورَ في هذا ستّة أنواع:

الأول: أن يقول هذه الكلمات عشرًا، عشرًا، يعني يقول: "سبحان الله" عشر مرَّات، "الحمد لله" عشر مرَّات، "الله أكبر" عشر مرَّات، فالمجموع ثلاثون.

الصِّفة الثانية: أن يقول ذلك إحدى عشرة مرّة، فالمجموع ثلاثٌ وثلاثون.

الثالث: مما ورد عن النبي ﷺ أن يقول كما في هذا الحديث، يقول كلّ واحدةٍ ثلاثًا وثلاثين، فإذا زاد "لا إله إلا الله" كان ذلك تمام المئة، هذا هو الرَّابع.

والسادس: أن يقول كلَّ واحدةٍ من هذه الكلمات الأربع خمسًا وعشرين، فالمجموع مئة، يعني: من غير أن يقول: "لا إله إلا الله"، إنما يقول: "لا إله إلا الله" هذا إذا قال ثلاثًا وثلاثين، فيُكمل بها المئة.

وورد غير ما ذكره شيخُ الإسلام -رحمه الله-، فالحافظ ابن حجر في "الفتح" ذكر أشياء أكثر من هذا، وذكر كذلك غيرُه أيضًا، ومما ورد أنَّه يُكبّر الله أربعًا وثلاثين بعدما يقول: "سبحان الله" ثلاثًا وثلاثين، و"الحمد لله" ثلاثًا وثلاثين، فيُكبّر أربعًا وثلاثين؛ فيكون ذلك تمام المئة[7].

فهذه الصيغ الثابتة عن النبي ﷺ لا إشكالَ في أن يتخير الـمُكلَّف ما شاء منها، لكن ما الأكمل؟

الأكمل أن يأتي بالأكمل، الأكمل يعني: الأوفى عددًا، هذا هو الأفضل، لكن قد تكون بعضُ حالات الـمُكلَّف حتى لا يضيع عليه هذا الخير والأجر والثَّواب والمحافظة على الذكر، قد يكون في حالٍ من العجلة، قد يكون الإنسانُ في عملٍ لا يستطيع الانتظار، قد يكون في حالٍ من التَّعب والمرض، أو غير ذلك؛ فخُفِّف عنه، فيقول ذلك عشرًا، عشرًا، أو يقول إحدى عشرة، إحدى عشرة مثلًا، الذي احتاج إلى مثل هذا، الوقت يضيق عليه: كإنسانٍ سيدخل قاعةَ اختبارٍ مثلًا، أو نحو هذا، لا بدَّ أن يقوم بعد الصَّلاة مباشرةً، أو إنسانٌ عنده عملٌ لا بدَّ أن يقوم إليه، فهنا يمكن أن يكتفي بالأقلّ.

وقد ذكر الحافظُ ابن رجب[8] -رحمه الله- أنَّ الأخذَ بكلِّ ما ورد حسنٌ، وله فضلٌ عظيمٌ، لكن ذكر البغوي[9] -رحمه الله- أنَّ ذلك يحتمل أنَّه ورد عن النبي ﷺ في أوقاتٍ ومناسباتٍ مُتعددة، وأن يكون ذلك على سبيل التَّخيير، أو يفترق بافتراق الأحوال.

والأقرب هو ما ذكرتُ -والله تعالى أعلم-.

بقيت ثلاث مسائل سيأتي بيانها، إن شاء الله تعالى.

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا.

  1. أخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب استحباب الذكر بعد الصَّلاة وبيان صفته، برقم (597).
  2. أخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب استحباب الذكر بعد الصَّلاة وبيان صفته، برقم (596).
  3. انظر: "طرح التثريب" الحافظ العراقي (2/75).
  4. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/205).
  5. انظر: "الفروق" للقرافي، ط. عالم الكتب (4/204).
  6. "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (2/217).
  7. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/135).
  8. انظر: "فتح الباري" لابن رجب (7/413).
  9. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/329).

مواد ذات صلة