الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
(132) الدعاء بعد التشهد الأخير قبل السلام "اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً..."
تاريخ النشر: ٠٤ / جمادى الآخرة / ١٤٣٥
التحميل: 2821
مرات الإستماع: 1870

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

لم يزل الحديثُ متَّصلاً -أيّها الأحبّة- في الكلام على الأحاديث التي تتصل بالأدعية الواردة بعد التَّشهد.

مما ذكره المؤلفُ مما يدخل في هذا النوع: حديث أبي بكرٍ : أنَّه قال للنبيِّ ﷺ: علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي. قال: قل: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا -وفي لفظٍ: كبيرًا- ولا يغفر الذنوبَ إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني، إنَّك أنت الغفور الرَّحيم[1].

هذا الحديث مُخرَّجٌ في "الصحيحين"، وليس فيه -كما ترون- التَّصريح بأنَّ ذلك يُقال في التَّشهد، ولكنَّه قال: علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي. فعلَّمه النبيُّ ﷺ هذا.

وقد علمنا أنَّ موضعَ الدُّعاء في الصَّلاة: إمَّا في السُّجود: فاجتهدوا فيه بالدُّعاء، فإنَّه قَمِنٌ أن يُستجاب لكم[2]، كما قال النبي ﷺ: أقرب ما يكون العبدُ من ربِّه وهو ساجِدٌ[3].

والموضع الآخر هو: بعد التَّشهد والصَّلاة على النبي ﷺ، فإنَّ النبي ﷺ قال: ثم يتخير من الدُّعاء أعجبه[4]، فهذا موضعٌ للدُّعاء.

وأبو بكر طلب من النبي ﷺ أن يُعلِّمه دعاءً يدعو به في صلاته، فذكر له هذا.

إذًا، إذا قاله المصلِّي في سجوده فهذا موضع دعاءٍ، ولكنَّه يكون بعد التَّسبيح أو الأذكار الواردة في السُّجود، فيكون من جملة ما يدعو به، وهو من جوامع الكلم، كذلك يقوله بعد التَّشهد والصَّلاة على النبي ﷺ والاستعاذة من الأربع، فيقول هذا الدُّعاء في جملة ما يدعو به، فالأحاديث السَّابقة في الاستعاذة من الأربع أعلق بالتَّشهد، أمَّا هذا فهو أعمّ من ذلك كما هو ظاهر اللَّفظ.

الذي طلب من النبي ﷺ أن يُعلِّمه هذا الدُّعاء هو الصّديق الأكبر ، فماذا علَّمه النبيُّ ﷺ؟

قال: قل: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، هكذا في أكثر الرِّوايات.

وفي بعض روايات مسلم: كبيرًا، والمعنى واضحٌ على الرِّوايتين، فظلم العبد لنفسه ظلمًا كثيرًا هذا واقعٌ، وكذلك ظلمه لنفسه ظلمًا كبيرًا، فماذا يقول المصلِّي؟

يقول: "ظلمًا كثيرًا" باعتبار أنَّ ذلك جاء في أكثر الرِّوايات، أو يقول كما يقول بعضُ أهل العلم: ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا في بعض الأحيان، وفي بعضها يقول: "كبيرًا"، يُنوِّع.

أما قول مَن قال بأنَّه يجمع بينهما يقول: "ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا كبيرًا"، فهذا فيه نظر، هذا غير صحيحٍ؛ لأنَّ النبي ﷺ لم يقل ذلك، وإنما اختلفت الرِّوايةُ عنه فيه؛ ولهذا ذهب جماعةٌ من المحققين -كابن جماعة، وتبعه الزركشي[5]، وبهذا قال ابنُ كثيرٍ- إلى أنَّه يُنوِّع؛ يقول هذا تارةً، وهذا تارةً، فإن أراد أن يُحدد فنقول: يمكن أن يأخذ بما عليه أكثر الرِّوايات، فيقول: "كثيرًا"، مع أنَّ المعنى فيهما واضحٌ وصحيحٌ، كما قاله أهلُ العلم: كابن كثيرٍ، وغيره -رحم الله الجميع.

ولا يغفر الذنوبَ إلا أنت إنَّ غُفران الذُّنوب لا يحصل ولا يتأتَّى إلا من الله -تبارك وتعالى-، فهو المختصّ بذلك، لا يمكن أن يكون هذا الغفرُ من أحدٍ من المخلوقين: لا قسيس، ولا مُعمم، ولا غير ذلك ممن يُروجون لأنفسهم أنهم يعطون صكوك الغفران، أو يُعطون الناس صكوكًا للجنَّة، أو كما يفعله بعضُ الخرافيين الذين يأكلون أموالَ الناس بالباطل، فيأتي الواحدُ كما في بعض البلاد التي ينتشر فيها الجهلُ لا يُصلِّي أبدًا، وقد يأتي ذووه من بعده، من بعد ما يموت، فيجتمع هؤلاء الأكلة لأموال الناس بالباطل، فيُعطي كبيرهم قدرًا من المال، ويقول: أسقط عني. وإن كان يتحدَّث عن غيره؛ عن ميتٍ: أسقط عن فلانٍ صلاته في حياته. فهذا الكبير يقول: قد وضعتُ الصَّلاةَ عن فلانٍ في حياته. ثم يُعطيها للذي بجانبه، فيقول الثاني: وضعتُ عن فلانٍ الصَّلاة في حياته. ثم يُعطيه الثالث، والرابع، والخامس، حتى تدور وترجع إلى الدَّجال الأكبر منهم، ثم بعد ذلك يأخذ المال، ويأخذ نصيبَه منه، ويُعطي كلَّ واحدٍ من هؤلاء قدرًا بهذه الطَّريقة، ويقولون: اذهب، سقطتْ عنك الصَّلاة في حياتك. وإن كان لميتٍ يقول: سقطت عنه، وضعنا عنه الصَّلاة في حياته.

هذا كلّه من الدَّجل والباطل، وللأسف موجودٌ إلى اليوم في بعض البلاد الشَّرقية، ونحو ذلك، يفعلون بالناس هذا.

على كل حالٍ، فلا يغفر الذّنوبَ إلا الله -تبارك وتعالى-، وهذا صريحٌ وواضحٌ في كتاب الله -تبارك وتعالى-، لا يغفر الذُّنوب إلا الله، وفي حديث النبي ﷺ بعد قوله -تبارك وتعالى-: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:135]، فالنبي ﷺ يقول: ربي إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، في هذا الحديث: ولا يغفر الذنوبَ إلا أنت، وفي حديث سيد الاستغفار في آخره: فاغفر لي، فإنَّه لا يغفر الذُّنوبَ إلا أنت[6]، وهذا على سبيل الحصر في جميع هذه المواضع: ومَن يغفر الذُّنوب يعني: لا أحد، فهذا الاستفهام مُضمَّنٌ معنى النَّفي، لا أحدَ يغفر، ومَن يغفر الذُّنوب؟ يعني: لا أحد يغفر، هذا استفهامٌ إنكاري بمعنى: النَّفي، لا أحدَ يغفر الذُّنوبَ إلا الله، جاء بأقوى صيغةٍ من صيغ الحصر: النَّفي، والاستثناء.

كذلك هنا: لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، حديث سيد الاستغفار: فإنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يملك ذلك، فيتوجّه إليه، وليس بين العبد وربِّه وسائط، ولا حجاب، وإنما عليه أن يتوجّه إلى الله بقلبه صدقًا، ويتوب، والله يفرح بتوبته ويقبلها، ويُبدل سيئاته حسنات.

فهنا يقول: ولا يغفر الذنوبَ إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، اغفر لي مغفرةً، التَّنوين هنا يدلّ على التَّعظيم؛ يعني: اغفر لي مغفرةً عظيمةً، لا يكتنه كنهها من عندك.

وهذا الوصف في كون هذه المغفرة من عنده، هذا يدلّ أيضًا على مُبالغةٍ في توصيف هذا المطلوب، هذه المغفرة جاء بها بالتَّنكير؛ ليدلّ على التَّعظيم: مغفرة عظيمة، ومن عنده، فلا يكون من عنده إلا العظيم الذي لا يقدر عليه غيره، كما تقول للعظيم من الناس: أنا أريد أن يكون هذا العطاء من عندك؛ يعني: ليس من غيرك، فإذا كان من عنده فيكون أعظم وأوفى، أريد أن يكون تقديرُ هذا العطاء من عندك؛ يعني: لا تكل ذلك إلى موظفٍ، لا تكل ذلك إلى نائبٍ ينوب عنك، وإنما أريد أن يكون التقديرُ منك؛ ليكون جزلاً، كثيرًا، عظيمًا.

فالله -تبارك وتعالى- له المثل الأعلى: اغفر لي مغفرةً من عندك، فهذا ما كان عند الله -تبارك وتعالى- فإنَّه لا يمكن أن يُحاط به، وأن يصفه واصفٌ، مع أنَّ المعنى يحتمل أيضًا: اغفر لي مغفرةً من عندك يعني: من محض فضلك، لا باستحقاقي، تتفضّل بها عليَّ، تأتي منك، مع أني في غاية التَّقصير، ولا أستحقّ مثل هذا.

فهذا الدعاء -كما ترون- من الجوامع؛ لأنَّ فيه الاعتراف بغاية التَّقصير؛ لأنَّه يعترف أنَّه ظلم نفسَه ظلمًا كثيرًا، وطلب غايةَ الإنعام.

فالمغفرة ستر الذُّنوب ومحوها، كما ذكرنا أنها تدلّ على السَّتر، والتَّجاوز، والوقاية، والرحمة، تدلّ على إيصال الخيرات لهذا المرحوم: ارحمني، ففي الأول طلب المغفرة، طلبٌ للزحزحة عن النار، وفي الثاني طلب إدخال الجنة بالرحمة مع الأبرار: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، فالذنوب من مُوجبات دخول النار، والرَّحمة هي السَّبب الموصِل إلى الجنة، فإنَّ ذلك يتوصّل إليه برحمة الله -تبارك وتعالى-، وإنما الأعمال مجرد سببٍ، فهذا هو الفوز العظيم حينما يحصل للإنسان النَّجاة من النار ودخول الجنة.

ففي هذا الحديث كما يقول الشيخُ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- شيخ الإسلام: وصف العبد لحال نفسه المقتضي لحاجته إلى المغفرة، هو يصف نفسَه أنَّه ظالـمٌ لنفسه ظلمًا كثيرًا، هذا الظَّالم لنفسه يحتاج إلى مغفرةٍ، وفيه وصف ربِّه الذي يُوجب أنَّه لا يقدر على هذا المطلوب سواه؛ لأنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، وفيه التَّصريح بسؤال العبد لمطلوبه: فاغفر لي مغفرةً من عندك، وأيضًا: ارحمني، إنَّك أنت الغفور الرَّحيم، فهو هنا مُتضمّن لبيان المقتضي للإجابة، وهو وصف الربِّ -تبارك وتعالى- بالمغفرة والرحمة: إنَّك أنت الغفور الرَّحيم، فهذا يُعدّ أكمل أنواع الطَّلب، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية[7]: أن يعترف العبدُ بالذنب والتَّقصير، وأن يصف الربَّ بالقُدرة على مطلوبه، وأن يذكر مطلوبَه أيضًا، وأن يذكر المقتضي للإجابة، وهو وصف الربِّ -تبارك وتعالى- بالمغفرة والرحمة، هذه أربعة أشياء.

وقد تكلم على هذا الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- في بعض كتبه، في "جلاء الأفهام" مثلاً وضع النِّقاط على الحروف في كلام شيخ الإسلام، وإن لم يُشر إليه، قال في أوَّله: ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، قال: هذا حال السَّائل. ثم قال: وإنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، هذا حال المسؤول، ثم قال: فاغفر لي هذه الحاجة، وختم الدُّعاء باسمين من الأسماء الحسنى تُناسِب المطلوب وتقتضيه، الذي هو المغفرة والرحمة: الغفور الرحيم[8].

ثم لاحظوا أنَّ هذا الدعاء علَّمه النبيُّ ﷺ الصّديق الأكبر ، وهو أفضل الأُمَّة بعد نبيِّها ﷺ، ومن ثم هو يُخبر بما هو صادقٌ فيه من ظلم نفسه ظلمًا كثيرًا، فما الظنُّ بما سواه؟ كما قال الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-، إذا كان هذا الصّديقُ الأكبر يقول: ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، فما الظنُّ بغيره ممن هو دونه[9]؟

يقول ابنُ القيم: بل إنَّه صار بهذه المنزلة -يعني الصّديق الأكبر- بتوفيته هذا المقام حقَّه الذي يتضمّن معرفة الرب -تبارك وتعالى-، يتضمّن معرفة حقِّه، وعظمته، وجلاله، وما ينبغي له، وما يستحقّه على عبده، ومعرفة تقصيره في ذلك -تقصير العبد-، وأنَّه لم يقم به كما ينبغي، فأقرّ على نفسه إقرارًا هو صادقٌ فيه: أنَّه ظلم نفسَه ظلمًا كثيرًا، وسأل ربَّه أن يغفر له ويرحمه[10].

فهذا من كمال الضَّراعة، ومن كمال الأدب في الدُّعاء: أن يتذلل العبدُ بين يدي ربِّه، وبين يدي الدُّعاء في ذكر ما يدلّ على إخباتٍ واعترافٍ بالتَّقصير والجناية والذَّنب، ما يدعو دُعاء المدلّ على ربِّه -تبارك وتعالى-، كأنَّ هذا الدُّعاء تحلّة قسمٍ: أنَّ الله يُحبّ الدُّعاء، فيدعو لأجل ذلك، وإلا فهو يشعر في قرارة نفسه أنَّه مُسْتَغْنٍ، ليس له حاجة تُذكر، فهذا لا يليق بحال العبد.

وقد ذكر شيخُ الإسلام -رحمه الله- أنَّ الدعاء الذي فيه اعتراف العبد بظلم النَّفس، ليس من خصائص الصّديقين[11]، يعني: هذا فعل الصّديق ، علَّمه النبيُّ ﷺ هذا.

ابن القيم يقول: ما حال مَن دونه[12]؟

شيخ الإسلام يقول: هذا حال مَن هو فوق الصّديق[13] أيضًا، مثل هذا الدُّعاء، حال أكرم الخلق، وأفضل الخلق من الرسل والأنبياء -عليهم الصَّلاة والسلام-؛ فهذا آدم  يقول مع زوجه حواء -رحمها الله-: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا، لاحظ المقدّمة: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، اعترافٌ بالظلم: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا.

وقول موسى : رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص:16]، والخليل يقول: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41]، وقال: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:82]، وقال هو وإسماعيل -عليهما السَّلام-: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۝ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:127-128]، تُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، هذا دعاء الكبار.

خليل الرحمن يقول: وَتُبْ عَلَيْنَا، ويقوله أين؟ في أي مقامٍ؟ في أشرف مقامٍ، يبني الكعبة بأمر الله ويدعو بهذا الدُّعاء، هذا تواضع الأنبياء، وانكسار الأنبياء، وأخلاق الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام-.

وموسى قال: أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ۝ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:155- 156]، هُدنا بمعنى: رجعنا، فالهود بمعنى: الرُّجوع، يا صاحب الذَّنب، هد، هد؛ يعني: ارجع، ارجع. فهذا كلّه من أدب الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام-.

نوح لما دعا ربَّه بنجاة ولده ماذا قال؟

قال: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [هود:47]، ويونس كان يُردد في بطن الحوت: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].

فإذا أردتَ أن تدعو الله -تبارك وتعالى- فقدِّم بين يدي الدُّعاء الاعتراف بالعجز، والتَّقصير، وظُلم النَّفس، فيكون العبدُ مُخبتًا في دُعائه.

فهذا علَّمه النبيُّ ﷺ أشرف الأمة، وأكمل الأُمة بعد نبيِّها ﷺ، وقد سمعتم دعاء الأنبياء.

فإذا دعا الإنسانُ ما يدعو من طرف لسانه، تحلّة قسمٍ، كأنَّه مُسْتَغْنٍ عن ربِّه -تبارك وتعالى-، بل لا بدّ من إخباتٍ حقيقيٍّ، لا بدّ من انكسارٍ، لا بدّ من تذللٍ.

وكثيرٌ من الناس لا تنكسر نفسُه حتى يُساق إليه البلاء؛ فيذلّ ويتضرع إلى الله -تبارك وتعالى-، فيجد لذَّة المناجاة، ومن الناس مَن لا يحصل له هذا مع البلاء، فيبقى غافلاً، ومنهم مَن يتمرد مع البلاء -نسأل الله العافية- ومع العافية.

يعني: من الناس مَن يُبتلى فيسبّ ربَّه، ويسبّ القدر، ويتسخَّط على أقدار الله -تبارك وتعالى-، وأنَّ ذلك لا يجري على وفق الحكمة، ماذا فعلت؟! ماذا صدر مني؟! لماذا أنا؟! هناك ناسٌ أسوأ مني؟! هناك ناسٌ لا يعرفون الله! ولا يُصلون! ولا كذا! ويُمتَّعون في حياتهم! ويضحكون بملء أفواههم! هؤلاء يُستدرجون، يمتعون قليلاً، ثم بعد ذلك يأخذهم ربُّهم -تبارك وتعالى- كيف شاء: أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجلُ على حسب دينِه[14].

فهذا الذي يقول: هناك ناسٌ أسوأ مني، ومع ذلك ما فيهم شيء! هذا سمعتُه وقرأتُه في رسائل لأناسٍ يسألون، يقول الواحدُ منهم: أنا أفضل أهل بيتي، أنا أفضل قراباتي، ويُساق البلاء إليَّ سوقًا، وعندنا من القرابة ومن المحيطين بنا مَن لا يعرفون الله، ولا يعبدونه، ونساء مُتهتكات، لا يتسترن، ولا يحتشمن، ولا يتقين الله، وتجد الواحدة في عافيةٍ!

يُقال: هذا استدراجٌ، أمَّا أنت فالله -تبارك وتعالى- يسوق لك البلاء لأنَّه أحبَّك، وإذا أحبَّ اللهُ قومًا ابتلاهم[15]، فلا يرى منك ما يقبح، إذا ابتلاك دعه يرى منك ما يجمل، ويحسُن، وابتسم، وافرح، قل: اللهم لك الحمد، لك الحمد حتى ترضى يا ربّ، أنت الذي اخترتَ لي هذا، وتعفو عن كثيرٍ. هذا هو اللَّائق، لكن مَن لا يعرف ربَّه -تبارك وتعالى- معرفةً صحيحةً يقول: لماذا؟!

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب الدُّعاء قبل السَّلام، برقم (834)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصَّوت بالذكر، برقم (2705).
  2. أخرجه مسلم: كتاب الصَّلاة، باب النَّهي عن قراءة القرآن في الركوع والسُّجود، برقم (479).
  3. أخرجه مسلم: كتاب الصَّلاة، باب ما يُقال في الركوع والسجود، برقم (482).
  4. أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب ما يتخير من الدُّعاء بعد التَّشهد وليس بواجبٍ، برقم (835).
  5. انظر: "الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية" لابن علان (3/16).
  6. أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب أفضل الاستغفار، برقم (6306).
  7. انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (10/247).
  8. انظر: "جلاء الأفهام" لابن القيم (ص153).
  9. انظر: "مختصر الصَّواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" لابن القيم (ص249).
  10. انظر: المصدر السَّابق (ص249).
  11. انظر: "المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام" لابن تيمية (1/204).
  12. انظر: "مختصر الصَّواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" لابن القيم (ص249).
  13. انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (10/247).
  14. أخرجه الترمذي في "سننه": كتاب أبواب الزهد، باب ما جاء في الصَّبر على البلاء، برقم (2398)، وحسَّنه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (1562).
  15. أخرجه الترمذي في "سننه": كتاب أبواب الزهد، باب ما جاء في الصَّبر على البلاء، برقم (2396)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (282).

مواد ذات صلة