الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
(135) الدعاء بعد التشهد الأخير قبل السلام "اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن..."
تاريخ النشر: ٠٩ / جمادى الآخرة / ١٤٣٥
التحميل: 2933
مرات الإستماع: 2012

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

لم يزل الحديثُ -أيّها الأحبّة- متَّصلًا بما يُقال بعد التَّشهد والصَّلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلَّم- في آخر الصَّلاة، فمن ذلك ما جاء عن مصعب؛ يعني: ابن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه : أنَّه كان يأمر بخمسٍ، ويذكرهنَّ عن النبي ﷺ، يعني: يُضيف ذلك إلى النبي ﷺ، قال أنَّه كان يأمر بهنَّ: اللهم إني أعوذ بك من البُخل، وأعوذ بك من الجُبن، وأعوذ بك أن أُردّ إلى أرذل العُمر، وأعوذ بك من فتنة الدُّنيا، قال: يعني: فتنة الدَّجال، وأعوذ بك من عذاب القبر[1].

فهنا في هذه الألفاظ للحديث، وهو مُخرَّجٌ في "صحيح البخاري"، ليس فيه ما يدلّ على أنَّ ذلك يُقال في آخر الصَّلاة بعد التَّشهد والصَّلاة على النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ولكنَّه جاء في لفظٍ في الصَّحيح في "البخاري" ما هو مُصرّح بذلك؛ يعني: أنَّه قال بعد التَّشهد والصَّلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وذلك ما جاء عن عمرو بن ميمون، قال: كان سعدٌ يُعلِّم بنيه هؤلاء الكلمات، كما يُعلِّم المعلِّم الغلمان الكتابة، ويقول: إنَّ رسولَ الله ﷺ كان يتعوَّذ منهنَّ دُبر الصَّلاة[2]. هذا في البخاري، فهذا صريحٌ في أنَّ ذلك مما يُقال في آخر الصَّلاة، والكلام فيه كما مضى من جهة لفظ: "دُبر الصَّلاة".

وذكرنا في الليلة الماضية القاعدة التي ذكرها الحافظُ ابن القيم في باب الأدعية والأذكار: أنَّ ما جاء من ذلك مما هو من قبيل الأدعية؛ يعني: أنَّه يُقال دُبر الصَّلاة؛ فذلك قبل السَّلام، وما كان من قبيل الأذكار فهو بعد السَّلام[3]، فهذا من قبيل الأدعية، وعليه فهو قبل السَّلام.

وقوله هنا: "عن مصعب" يعني: ابن سعد -رضي الله عن سعدٍ، ورضي عن جميع سلفنا الصَّالح رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم- قال: كان سعدٌ يأمر بخمسٍ؛ يعني: خمسة أشياء، وهي المصرّح بها في هذا الحديث، ويذكرهنَّ عن النبي ﷺ، يعني: ليس ذلك من قبل نفسه، وإنما سمعه من النبي ﷺ أنَّه كان يأمر بهنَّ.

والأصل أنَّ الأمر للوجوب، ولكن الجمهور -عامَّة أهل العلم- حملوا ذلك على الاستحباب، وقاعدة: "أنَّ الأمر للوجوب إلا لصارفٍ"[4] هي قاعدةٌ صحيحةٌ، ولكن القواعد أغلبيَّة؛ بمعنى: أنَّ القواعد الفقهيَّة، والقواعد الأصوليَّة، والقواعد العربيَّة، وما إلى ذلك، كلّ ذلك المراد بكونه قاعدة؛ أي: أنَّه ينتظم أغلب الجزئيَّات، عامَّة الجزئيَّات، غالب الجزئيَّات، فهي قواعد أغلبيَّة، وليست كليَّة؛ بمعنى: الكُليَّة عند أهل المنطق؛ بمعنى: أنها مُحيطة بجميع الأفراد الدَّاخلة تحتها.

وهذا لا شكَّ أنَّه يحلّ إشكالًا، ويُجيب عن سؤالٍ، وهو: أنا نجد أشياء من المأمورات لا يُقال: إنها للوجوب، ولا نعلم لذلك صارفًا.

يكاد العلماء أن يُطبقوا على أنَّ بعض المأمورات ليس للوجوب، فهذا ما حمله؟ أنَّ القواعد أغلبيَّة، الأمر للوجوب؛ يعني: الأصل أنَّه للوجوب، وقد تكون أشياء خارجة عن ذلك، يكفي في القاعدة أن تلمّ شعث أكثر الجزئيَّات؛ ليسهل الحفظ والضَّبط، إلا أنَّ قواعد الحساب هي التي تكون كليَّةً؛ بمعنى الكلي عند أرباب المنطق، وأمَّا الباقي فهو أغلبي، حتى قواعد النَّحو في غالبها.

فعلى كل حالٍ، هنا هذا أمرٌ، ومع ذلك لم يحمله أهلُ العلم على الوجوب.

اللهم إني أعوذ بك من البُخل الاستعاذة هنا من البُخل، والبُخل معروفٌ، هو ألا يكون الإنسانُ باذلًا، وأول ما يتَّجه ذلك إلى المال، فمَن ضنَّ بما في يده، وأمسكه؛ فهو البخيل، فإذا اشتدَّ الحرص فذلك الشَّحيح، على خلافٍ بين أهل العلم في الفرق بين الشُّح والبُخل.

فهذا البُخل بعضُهم يقول: هو الإمساك نفسه، والشُّح ما يكون في القلب. "إمساكٌ عن البذل" هذا هو البُخل، وما يكون في القلب هو الشُّح على قول بعض أهل العلم، وبعضهم يقول: هي مراتب ودرجات، فالبُخل مرتبة، والشُّح أعلى.

فبعضهم يقول: البُخل: أن يُمسِك ما في يده. والشُّح: أن يتطلع إلى ما في أيدي الآخرين، شحيحٌ. وبعضهم يقول غير ذلك مما يتَّصل بالمخرج والممنوع الذي يُمسكه؛ يعني: الذي يُخرج الحقوقَ الواجبة، والذي لا يُخرج الحقوق الواجبة، إلى غير ذلك مما يقولون.

على كل حالٍ، النبي ﷺ استعاذ من البُخل، وهو معروفٌ، فأوَّل ما يتوجّه إلى إمساك المال، فلا يبذله في وجوهه، ويُنفقه كما ينبغي مما يتعلَّق بحقوق الله، وحقوق الخلق، فإن ارتقى مرتبةً فإنَّه يبذل في المكارم من: نفع الناس، والصَّدقات، والضِّيافة، وما إلى ذلك.

ويدخل في البُخل أبوابٌ أخرى: فالذي يبخل بالرأي والمشورة على الآخرين، عنده رأي، وعنده معرفة، وعنده خبرة، فيبخل بذلك؛ فإنَّه يكون بخيلًا، فهذا من البُخل، فبعض الناس قد لا يكون عنده مالٌ، ولا يُطالبه الناس ببذل المال، ولا ينتظرون منه المال؛ لأنَّه لم يُعرف بالغنى، لكن عنده رأي، عنده خبرة في مجالٍ من المجالات، في صناعةٍ من الصِّناعات، حرفة، عنده خبرة في جانبٍ من جوانب الحياة التي يحتاجون إليها: فيما يتعلَّق بالأمور الأُسرية، مشورات في الجوانب القضائيَّة، القانونية، عنده خبرة، فيُمسِك، ولا ينتفع منه أحدٌ بشيءٍ، فإذا طُولب بذلك طالب بالعِوض، بالمقابل، لا ينصح أحدًا.

لو جاءته أرملةٌ مسكينة ضعيفة تحتاج إلى رأيٍ، تحتاج إلى مشورةٍ، تحتاج إلى تسديدٍ؛ ادفع من أجل ذلك، قد يحتاج الناسُ استشارات طبية، يكون عارفًا بالطبِّ؛ فيمتنع إلا بمقابلٍ، فهذا شحيحٌ، الإنسان يبذل ما عنده مما أعطاه الله وفتح عليه.

فبعض الناس يبخل بالعلم أيضًا، فيكون عنده علم، وتعلّم، وحصل الكثير، ولكن لا ينتفع منه حتى جماعة المسجد بكلمةٍ واحدةٍ، يسكن في الحيِّ أكثر من ثلاثين سنةً، ما سمعوه يُلقي كلمةً: عشر دقائق، أو سبع دقائق، ولا شيء، لا ينتفعون منه بشيءٍ، هذا: أعوذ بالله من علمٍ لا ينفع، ما الفائدة إذًا من هذا العلم؟

وكذلك أيضًا قد يكون هذا ممن أُعطي في بابٍ آخر مما يحتاج إليه الناس: الجود يكون بالوقت، يكون بالرأي، يكون بالمال، يكون بالعلم، وغير ذلك مما يحتاج الناسُ إليه: كالعارية -عارية المتاع- ونحو ذلك، يستعير منه إنسانٌ، ما يُعير أحدًا: الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ۝ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:6-7]، الماعون يُقال لما لا يتضرر ببذله، ولو أدنى الأشياء، لو أنَّ أحدًا أراد منه أن يكتب بقلمٍ، يُوقِّع، ما يُعطيه، أراد أن يستعير منه إناءً، أن يستعير منه شيئًا لا يتضرر به: مفتاحًا لعجلات السَّيارة، أو نحو هذا، ما يُعطي، ما يخرج من يده شيءٌ، لا عارية، ولا هِبة.

فإذا كان يمنع الماعون هذا الذي لا يتضرر ببذله، فهل هذا يُظنّ به أنَّه سيُنفق الأموال، ويبذل الصَّدقات، ونحو ذلك؟ أبدًا، هذا أبعد ما يكون عن هذا.

فهنا استعاذ النبيُّ ﷺ من البُخل، والجود إذا كان بالنَّفس فهذه هي الشَّجاعة، ويُقابلها الجبن، والجود يكون بالمال، وهو السَّخاوة، ويُقابله البُخل؛ ولهذا استعاذ النبيُّ ﷺ هنا من الأمرين: من البخل، قال: وأعوذ بك من الجُبْن.

فالسَّخاوة بالمال، والشَّجاعة بالنفس، بذل النُّفوس والإقدام هذا لا شكَّ أنَّه من الكمالات الإنسانية، لا تتجمع الشَّجاعة والسَّخاوة -كما يقول بعضُ أهل العلم- إلا لنفسٍ كاملة، ولا ينعدمان إلا من نفسٍ مرذولةٍ؛ يعني -نسأل الله العافية- لا هذا، ولا هذا؛ يعني: لا إقدام، ولا جفان؛ يعني: لا يُطعم الطَّعام، ولا يُنفق، ولا شجاعة، فهو جبان، بخيل؛ ولهذا قال النبيُّ ﷺ: وأعوذ بك من الجبن، فهو البخل بالنَّفس، البخل فيها يُقال له: جُبن، عدم الجراءة، الإحجام في مواطن الإقدام.

فالنَّفس ركَّب اللهُ فيها الإقدام، والإحجام، وأودع فيها من الخصال والصِّفات ما يجعلها تغلب هذا، أو هذا، فالخوف مثلًا يحجزها، حبّ السَّلامة يُثني عزم صاحبه، فحينما ينثني عزمه عمَّا ينبغي أن يُقدم عليه؛ يكون ذلك من قبيل الجبن في مواطن الإقدام، إذا كان عزمه ينثني؛ فذلك يعني: أنَّه جبانٌ، والناس يتفاوتون في هذا، لكن الإقدام الزائد الذي فيه جراءة في غير موضعها؛ يعني: إقدام في مواضع الإحجام يُقال له: تهور، فمثل هذا أيضًا نقصٌ؛ لأنَّ هذه الأوصاف إذا زادت عن القدر اللائق كانت نقصًا، فالتَّهور مذمومٌ، والجبن يُقابله كذلك، مذمومٌ، لكن الدَّافع على التَّهور غالبًا هو حُسن الظنِّ، وحُسن الفأل، تكون عنده نفسٌ مُتفائلة، لا يُقدّر المفاسد، فلا يراها شيئًا، وهذا الجبان يُقدِّر المفاسد فيما لا تكون فيه غالبًا، أو يُضخِّمها؛ فيُحْجِم، يقول الشَّاعر:

لولا المشقّة ساد الناس كلّهم الجود يُفقر والإقدام قتَّال

الجود لا يُفقر: يا ابن آدم، أنفق؛ أُنفِق عليك[5]، لكن هكذا قال الشَّاعر، وكأنَّه يُصور نظر هؤلاء الذين يُسيئون الظنَّ بربهم -تبارك وتعالى-، يظنّ أنَّه إذا بذل المالَ سيفتقر؛ فيمتنع؛ فيكون بخيلًا، وأنَّه إذا أقدم في موضع الإقدام أنَّه سيموت قبل أجله، والشَّاعر يقول:

لو أنَّ عبدًا مُدرك الفلاحِ -يعني: البقاء في هذا الموضع- لناله ملاعبُ الرِّماحِ[6]

يعني: لو أنَّ أحدًا يُدرك البقاء؛ لحصّله ذاك الذي يُلاعِب الرِّماح، ويركب الأخطار؛ ولهذا خالد بن الوليد كلنا يعلم ما قاله عند موته، وما شهد من المعارك، وما في بدنه من الطُّعون، وضرب السِّلاح، وإصابة السِّهام، ومع ذلك يقول: ها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير[7].

ولهذا يقول الله : قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:16]، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ [الجمعة:8]، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243]، وقال لأولئك الذين قالوا: لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا، قال: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ [آل عمران:156]، وقال أيضًا: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، يعني: هؤلاء الذين ماتوا في أرض المعركة حتى لو بقوا لانبعثوا وخرجوا إلى مضاجعهم يموتون حيث أراد اللهُ لهم أن يموتوا، وحيث كتب: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، لا بدَّ أن يقع ذلك.

فهنا استعاذ النبيُّ ﷺ من هذا، وكذلك قال: وأعوذ بك أن أُردَّ إلى أرذل العُمر[8]، ما المراد به؟

يعني: آخر العمر في حال الكِبر، والعجز، والضَّعف، والخرف، فالأرذل من كل شيءٍ هو الرديء منه.

وهنا هذا لا يُنافي قول النبي ﷺ: خير الناس مَن طال عمره وحسُن عمله[9]، فإنَّ المقصود أن يطول العمر، ويكون الإنسانُ ممتَّعًا بقواه العقلية والبدنية؛ من أجل أن يعمل بـوحَسُنَ عمله، لكن إذا وصل الإنسانُ إلى أرذل العُمر، فتلاشت قواه العقلية، وقواه البدنية؛ يعني: أصابه الخرف، وصار يخلط، فإذا دخلت عليه امرأتُه قال: مَن هذه؟ وإذا دخل عليه ولدُه قال: مَن هذا؟ ويخرج مثل الطفل، يقفلون دونه الأبواب، إذا خرج لا يستطيع الرجوع إلى البيت، ولربما لا يقوم بحاجاته، وبأخصّ حاجاته من الذَّهاب إلى الخلاء -أعزَّكم الله- ونحو ذلك؛ يكون كالطِّفل الصَّغير الذي لا يعقل، بل يكون مثل البهيمة، هذا هو الردّ إلى أرذل العُمر، هذا هو الذي استعاذ منه النبيُّ ﷺ، استعاذ من الهرم، وهنا أرذل العُمر.

فإذا تلاشت قوى الإنسان العقلية والبدنية؛ فالحياة لا خيرَ فيها بعد ذلك؛ لأنَّه لا مجالَ للعمل والتَّزود من الصَّالحات، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ [يس:68]، فهذا هو التَّنكيس في الخلق: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [النحل:70]، هذا هو أرذل العمر، هذا تفسيرٌ له من القرآن: لِكَيْلَا يَعْلَمَ، هذا الذي استعاذ منه النبيُّ ﷺ.

هذا الإنسان الهرم الذي ذهب عقلُه، وذهبت قُدراته وقواه البدنيَّة، لا خيرَ له في العيش، الشَّاعر يقول:

المرء يأمل أن يعي ش وطول عيشٍ قد يضرّه
تفنى بشاشتُه، ويبـ قى بعد حلو العيش مرّه
وتصرم الأيام، حتى لا يرى شيئًا يسرّه[10]

هذا ينبغي أن يُحمل على الهرم، وإلا فالنبي ﷺ يقول: خيركم مَن طال عمره وحسُن عمله، ومن أهل العلم مَن حمل قوله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [التين:5] إلى حال أرذل العمر، هذا قال به طائفةٌ من السَّلف، والقول الآخر المشهور أنَّ المقصودَ بأسفل سافلين: النَّار. وهذا الذي رجَّحه الحافظُ ابن القيم، واحتجَّ له بنحو ثمانية أوجه، وردَّ على القائلين بأنَّه أرذل العُمر؛ يعني: قال: "أسفل سافلين" هو النَّار[11]. لكن من السَّلف طائفةٌ قالوا: إنَّ "أسفل سافلين" هو أرذل العُمر.

وجاء عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- أنَّ مَن قرأ القرآن لم يُردّ إلى أرذل العُمر؛ يعني: لا يُصاب بالخرف، وهذا معروفٌ، ومَن نظر في تراجم القُرَّاء فإنَّه لا يجد من لدن عهد الصَّحابة إلى يومنا هذا، لا يعرف أنَّ أحدًا منهم أُصيب بالخرف، مع أنَّ بعضَهم جاوز المئة، كثيرٌ منهم جاوز التِّسعين، ومع ذلك ما كانوا يُصابون في عقولهم، فالقرآن يُزكِّي العقول.

ومعلومٌ أنَّه حتى الصِّغار والنَّاشئة الذين يتعلمون القرآن ويحفظون؛ يكون عندهم من جودة الأذهان، والقُدرة على الفهم والحفظ معًا ما لا يكون عند غيرهم؛ ولذلك فالإحصاءات التي تصدر في التَّفوق الدِّراسي يجدون أنَّ طلابَ الحِلَق القرآنية وحفظة القرآن أفضل وأكثر تمييزًا في دراستهم في العلوم المختلفة.

فعلى كل حالٍ، قال: وأعوذ بك من فتنة الدُّنيا، هنا فسّر بنفس هذا الحديث، وهذا التَّفسير؛ يعني: أنَّ المقصود به: الدَّجال، هو من قول عبدالملك بن عُمير، أحد رواة الحديث[12]، وفي بعض طُرق هذا الحديث عند البخاري في بعض أسانيده يرويه شعبة بن الحجاج، فشُعبة سأل عبدالملك بن عُمير، أحد رواة الحديث[13]، سأله عن فتنة الدُّنيا، ما المراد بها؟ قال: الدَّجال، بأيِّ اعتبارٍ؟

باعتبار أنَّه أعظم فتنةٍ كائنةٍ في الدُّنيا، وقد مضى الكلامُ على ذلك، وإلا ففتنة الدُّنيا في الواقع أشمل وأوسع من ذلك: كالفتنة بزينتها، وبهرجها، وحطامها الزائل، وكل ما يُفتن به الإنسانُ من هذه في هذه الحياة الدنيا فهو داخلٌ فيه، فهي تتزين للسَّالكين، وتغرّهم، وتُنسيهم الآخرة، فيكون ذلك قاطعًا لهم عن ربِّهم -تبارك وتعالى-.

وعذاب القبر فسّر بمُوجبات العذاب، وقلنا من قبل في مناسبةٍ سابقةٍ: بأنَّ عذابَ القبر هو نفس عذاب القبر، ويدخل في ذلك مُوجبات هذا العذاب؛ لأنَّه إذا استعاذ منه فإنَّ هذا العذابَ له أمورٌ تُوقِع به، وتُوصِل إليه، فاستعاذ من عذاب القبر، فهذا يقتضي الاستعاذة مما يُوصِل إليه.

الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "التُّحفة" -تحفة المودود في أحكام المولود- ذكر المراحلَ العمرية التي من آخرها أرذل العُمر، يقول: فهو أولًا نُطفة، ثم علقة، ثم مُضغة، ثم جنينًا ما دام في البطن، فإذا خرج فهو وليدٌ، فما لم يستتمّ سبعة أيام فهو صديغٌ. قال: لأنَّه لم يشتدّ صدغه، ثم ما دام يرضع فهو رضيعٌ، فإذا قُطِع عنه اللَّبن فهو فطيمٌ، فإذا دبَّ ودرج -يعني: بدأ يمشي- فهو دارجٌ، فإذا بلغ طوله خمسة أشبارٍ فهو خماسي، فإذا سقطت أسنانه فهو مثغورٌ، فإذا نبتت بعد سقوطها فهو مثغر، فإذا بلغ السَّبع وما قاربها فهو مُميزٌ، فإذا بلغ العشر فهو مُترعرع وناشئ، فإذا قارب الحلم فهو يافع، ومُراهق، ومُناهز للحلم، فإذا بلغ فهو بالغ، فإذا اجتمعت قوّته فهو حزور.

حديث جندب: "ونحن فتيان حزاورة عند رسول الله ﷺ"[14]. هذا إذا اجتمعت قوّته فهو حزور؛ يعني: بعد البلوغ، واسمه في جميع ذلك: غُلام؛ يعني: في هذه المراحل السَّابقة يُقال له: غلام، فهو إطلاقٌ واسعٌ، ما لم يخضرّ شاربُه، فإذا اخضرَّ شاربه فهو باقل، ثم هو ما بين ذلك وبين تكامل لحيته فتى وشارخ بحصول شرخ الشَّباب له.

وعلى كل حالٍ، فإذا اجتمعت لحيتُه فهو شابٌّ إلى الأربعين، ثم يأخذ في الكهولة إلى السِّتين.

طبعًا ليس هذا محلّ اتفاقٍ؛ من أهل العلم مَن يقول غير هذا، أشدّ من هذا، ثم يأخذ في الشَّيخوخة؛ يعني: بعد السِّتين، فإذا أخذ شعره في البياض قيل: شابَ، فإذا ازداد قيل: وخطه الشَّيبُ، فإذا زاد قيل: أصابه الشّمط، فإذا غلب شيبُه فهو أغثم، فإذا اشتعل رأسُه ولحيته شيبًا فهو متقعوس، فإذا انحطّت قواه فهو هرم، فإذا تغيرت أحواله، وظهر نقصُه؛ فقد رُدَّ إلى أرذل العُمر، قال ابنُ القيم: فالموت أقرب إليه من اليد إلى الفم[15].

هذه فائدةٌ زائدةٌ، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب التَّعوذ من عذاب القبر، برقم (6365).
  2. أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب ما يتعوّذ من الجبن، برقم (2822).
  3. انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (2/264)، و"الصلاة وحكم تاركها وسياق صلاة النبي من حين كان يُكبر إلى أن يفرغ منها" لابن القيم (ص217).
  4. انظر: "التَّمهيد - شرح مختصر الأصول من علم الأصول" للمنياوي (ص33).
  5. أخرجه مسلم: كتاب الزكاة، باب الحثّ على النَّفقة وتبشير المنفق بالخلف، برقم (993).
  6. انظر: "البديع في نقد الشعر" للشيزري (ص179).
  7. أخرجه الدِّينوري في "المجالسة وجواهر العلم"، برقم (836)، وقال مُحققه: إسناده ضعيفٌ جدًّا، وهو حسنٌ من طريقٍ آخر.
  8. أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسّير، باب ما يتعوّذ من الجبن، برقم (2822).
  9. أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار"، باب بيان مُشكل ما رُوِيَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من تفضيله مَن اعتزل شرور الناس حتى صار بذلك مُنقطعًا عنهم على مَن سواه ممن يُخالط الناس، برقم (5545)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (3295).
  10. انظر: "جمهرة أشعار العرب" لأبي الخطَّاب القُرشي (ص76).
  11. انظر: "التبيان في أقسام القرآن" لابن القيم (ص46).
  12. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/179).
  13. أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب التَّعوذ من البخل، برقم (6370).
  14. أخرجه ابن ماجه في "سننه": بابٌ في الإيمان، برقم (61)، وصححه الوادعي في "الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين"، برقم (273).
  15. انظر: "تحفة المودود بأحكام المولود" لابن القيم (ص301-302).

مواد ذات صلة