السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(98) دعاء الاستفتاح - المعاني والهدايات من قوله (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين)
تاريخ النشر: ٢٦ / ربيع الأوّل / ١٤٣٥
التحميل: 2412
مرات الإستماع: 3880

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فبعد تلك المقدّمات التي ذكرتُها بين يدي هذا الذكر والدُّعاء من أدعية الاستفتاح، وهو قول النبي ﷺ: وجَّهتُ وجهي للذي فطر السَّماوات والأرض حنيفًا، وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين، لا شريكَ له، وبذلك أُمِرْتُ، وأنا من المسلمين[1]، إلى آخر هذا الذكر.

ونشرع اليوم في بيان ما تضمّنه هذا الاستفتاح وهذا الذكر من المعاني والهدايات.

فقوله: وجَّهتُ وجهي يعني: توجَّهتُ بالعبادة، هذا يكون مُتضمنًا للإخلاص بتوجيه وتوجّه القلب إلى ربِّه وخالقه وفاطره -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-.

وبعضهم يُفسِّره بمعنى: صرفتُ وجهي وعملي ونيَّتي، أو أخلصتُ وجهتي وقصدي.

فهذه عبارات لأهل العلم، ولا شكَّ أنَّ ذلك يتضمن الإخلاص وتوجّه القلب لله -تبارك وتعالى.

والحافظ ابن كثير -رحمه الله- فسَّره بـ"أخلصتُ ديني، وأفردتُ عبادتي"[2]، يعني: لله -تبارك وتعالى-، فسَّره بتوحيد الوجهة، وهي وجهة القلب بالقصد والإرادة: أنَّه إنما يتوجّه إلى الله وحده دون مَن سواه، يعني: لا يكون في القلب أدنى التفاتٌ إلى المخلوق بهذه العبادة، وإنما يكون مُوحِّدًا، كما قيل:

فلواحدٍ كن واحدًا في واحدٍ أعني سبيل الحقِّ والإيمانِ[3]

 "فلواحدٍ" أي: الله، "كن واحدًا" في وجهتك، "في واحدٍ": الطَّريق التي رسمها الله لعباده من أجل سلوكها، فلا يذهب يمنةً ولا يسرةً: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ، وهو صراطٌ واحدٌ، وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].

فحينما يقول المصلِّي: وجَّهتُ وجهي تدل على التَّوجيه لعبادة الله ، وإفراده بالعبادة، وهذا كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:29]، بمعنى: الإخلاص والتَّجرد والتَّوحيد لله ربِّ العالمين، يعني: أخلصوا العبادة له في عبادتكم.

والمسجد يحتمل أن يكون ما هو أوسع من المسجد الذي يُصلَّى فيه، فيكون بمعنى: كل موضعٍ يتعبّد لله -تبارك وتعالى- فيه: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18].

ويحتمل أن يكون المرادُ بالمسجد هو الموضع المخصص للصَّلاة، فهذا كلّه يُقال له: مسجد، ويكون المعنى: أخلصوا العبادة لله -تبارك وتعالى-، وأخلصوا عبادتكم وصلاتكم، كما قال الله -تبارك وتعالى-: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا [آل عمران:20]، فإسلام الوجه لله بمعنى: أن يُوحّد ربَّه -تبارك وتعالى-، وأن يكون مُخلصًا، عابدًا لله وحده دون مَن سواه.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [لقمان:22]، مَن يُسلم وجهَه إلى الله، بمعنى: أنَّه يُوحد ربَّه، ويُفرده بالعبادة والطَّاعة والإخلاص والتَّوحيد، فكل ذلك يُفسَّر به، وهو يرجع إلى شيءٍ واحدٍ.

وحينما نقول: وجَّهتُ وجهي فالوجه هنا يحتمل أن يكون المرادُ به: ذاتي، وتوجَّهتُ إليك بكُليتي، باعتبار أنَّه عبَّر بالوجه عن الذَّات على سبيل التَّوسع، فهذا احتمالٌ، ولكنَّه يتضمن توجّه القلب ولا بدّ؛ لأنَّ القلبَ هو الأساس، فإذا توجّه القلبُ إلى الله وحده دون مَن سواه تبعته سائرُ الجوارح؛ ولهذا كان ذلك مُتضمنًا للإخلاص؛ ولذلك فإنَّ بعضَهم فسّر توجّه الوجه وتوجيه الوجه: بتوجيه القلب، فهذا يكون من قبيل التَّفسير له بما يستلزمه، أو بما يتضمنه هذا اللَّفظ، يعني: وجَّهتُ قلبي لعبادة ربي -تبارك وتعالى-.

وشيخ الإسلام -رحمه الله- تحدَّث عن هذه الجملة، وذكر نظائرها في القرآن، ثم بين ما تحتمله من الوجوه، ثم نظم هذه الوجوه في سلكٍ واحدٍ، وجمع بينها على عادته في تفننه -رحمه الله- في تفسير نصوص الكتاب والسُّنة، فهو يجمع المعاني التي يمكن أن يحتملها اللَّفظ، ففسّر توجيه الوجه لله ، فيذكر: أنَّ إسلامَ الوجه لله والإحسان هما أصلا هذه الشَّريعة[4]، ويستدلّ له فيذكر أنَّ ذلك جاء مُقترنًا بالإحسان، مع تنوّع الاستعمال: إسلام الوجه، وتوجيه الوجه، وإقامة الوجه، في نصوصٍ مُتعددةٍ من الكتاب والسُّنة، كقوله -تبارك وتعالى-: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ۝ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:111-112]، فذكر إسلامَ الوجه مع الإحسان، فهذا في سورة البقرة.

ثم ذكر جزاء هؤلاء فقال: فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112]، مَن جمعوا بين إسلام الوجه لله -تبارك وتعالى-، مع الإحسان، فيكون هؤلاء لهم هذا الوعد من الله -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-.

وهكذا في قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ، فذكر هذا وهذا فقال: وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء:125]، يقول: "فقد أنكر أن يكون دينٌ أحسن من هذا الدِّين، وهو إسلام الوجه لله، مع الإحسان"[5]؛ لأنَّ (من) هنا استفهامية مُضمّنة معنى النَّفي: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ يعني: لا أحدَ أحسن دينًا ممن أسلم وجهه له وهو مُحْسِنٌ، لا يُوجد أحدٌ أحسن دينًا من هذا، فهنا جعل إسلامَ الوجه مع الإحسان، هذا أحسن الناس تدينًا واستقامةً وطاعةً.

يقول: "وأخبر أنَّ كلَّ مَن أسلم وجهه لله وهو مُحْسِنٌ: فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112]"[6].

يقول: "وهذان الوصفان -يعني: إسلام الوجه لله مع الإحسان- هما الأصلان المتقدِّمان، وهما: كون العمل خالصًا لله، صوابًا، مُوافقًا للسُّنة والشَّريعة"[7]، إسلام الوجه لله هذا التوحيد والإخلاص؛ ألا يلتفت إلى غير الله في توبته وطاعته وعبادته، وهو مُحسنٌ، لا يكون مُحسِنًا إلا إذا كان على السُّنة، فالعمل يكون صالحًا: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا، العمل الصَّالح هو الذي تابع فيه النبيّ ﷺ، وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، فهذا يتضمّن التوحيد والإخلاص، فهنا ذكر الأمرين: إسلام الوجه لله ، والإحسان.

يقول: "وذلك أنَّ إسلامَ الوجه لله هو مُتضمن للقصد والنّية لله، كما قال بعضُهم:

أستغفرُ الله ذنبًا لستُ مُحصيه ربّ العباد إليه الوجه والعملُ"[8]

"إليه الوجه" يعني: القصد، تتوجه إليه بالإرادة دون مَن سواه، ويُوجّه إليه العمل الذي يتقرّب به دون إشراكٍ.

فهذه الألفاظ: إسلام الوجه، وإقامة الوجه، وتوجيه الوجه، شيخ الإسلام يذكر دلائلَها: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:29]، فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]، "أقم وجهك": وحِّد ربَّك، وأفرده بالطَّاعة، وأخلص له العبادة، توجيه الوجه كقول إبراهيم ﷺ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:79]، وهذا مثل صدر هذا الحديث وهذا الدّعاء الذي نقوله في الاستفتاح: وجَّهتُ وجهي للذي فطر السَّماوات والأرض حنيفًا.

وفي "الصحيحين" من حديث البراء بن عازب -رضي الله تعالى عنه-: أنَّ النبي ﷺ كان مما يقول إذا أوى إلى فراشه: اللهم أسلمتُ نفسي إليك، ووجَّهتُ وجهي إليك[9].

الإخلاص في كل مكانٍ: يفتتح الصَّلاة بالإخلاص والتوحيد، وينام على الإخلاص والتوحيد، فكيف يكون في قلب العبد التفاتٌ إلى ما سوى الله وهو يُكرر هذا ويُردده عند نومه ويقظته، وعند صلاته، وعند طهوره، وفي أحواله كلِّها؟ فكيف يطلب ما عند الناس، ويلتفت إلى غير الله -تبارك وتعالى-، أو يتوجّه إلى ميتٍ يدعوه، أو إلى معبودٍ سوى الله يرجوه، أو يُعظِّمه، أو يخافه، أو نحو ذلك؟

فشيخ الإسلام -رحمه الله- يجمع بين هذه المعاني فيقول: "الوجه يتناول المتوجّه، والمتوجّه إليه"[10]، يقول: أريد هذا الوجه، يعني: هذه الوجهة، وكذلك أيضًا يتناول المتوجّه نحوه، المتوجّه إليه، تقول: مُتوجّه إلى الله، والمتوجّه نحوه، أو مُتوجّه إلى كذا، إلى النَّاحية الفلانية، يعني: أنَّ وجهتَه إلى البلد الفلاني مثلاً.

يقول: "كما يُقال: أيّ وجهٍ تريد؟ أي: أي وجهةٍ وناحيةٍ تقصد؟"[11]، يقول: "وذلك أنَّهما مُتلازمان"[12]، أي: الوجه والوجهة، "فحيث توجَّه الإنسانُ توجَّه وجهُه، ووجهه مُستلزمٌ لتوجّهه"[13]، يعني: حيث أراد الإنسان، حيث قصد؛ فإنَّ وجهه يتوجّه إلى ذلك، وتوجّه الوجه إليه معنى ذلك أنه يقصده، فإنَّ ذلك يقتضي الوجهة.

فيربط بين هذه المعاني، يقول: لا داعي لأن نقول مثلاً بأنَّ تفسير "توجيه الوجه" أنَّه مجرد القلب، بل حتى الوجه والوجهة التي تقصدها، والوجه الذي تُريد ما هو؟ ما عند الله -تبارك وتعالى- والدَّار الآخرة، بحيث يريد بعمله الآخرة، أو يريد بعمله الدنيا: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]، فيكون مُريدًا لما عند الله -تبارك وتعالى- والدَّار الآخرة.

فشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: "حيث توجّه الإنسانُ توجّه وجهُه، ووجهُه مُستلزمٌ لتوجّهه، وهذا في باطنه وظاهره جميعًا"[14]، يعني: أنَّ الظاهر يتوجّه، والباطن يتوجّه، فلا يلتفتُ إلى غير الله ، بل يقصد ما عند الله، وأن يريد طاعته وحده دون مَن سواه، يقول: مَن وجَّه وجهه ناحيةً، فمعنى ذلك أنَّه يُريدها ويقصدها، ومن وجَّه وجهه نحو فلان، فمعنى ذلك أنَّه يقصده ويُريده، فهذا يكون في الباطن والظَّاهر.

يقول: "والباطن هو الأصل، والظَّاهر هو الكمال والشِّعار"[15]، يعني: الآن هو يريد الناحية الفلانية، فهو يتوجّه إليها ويقصدها، فهي وجهته، يقول: "فإذا توجّه قلبُه إلى شيءٍ تبعه وجهه الظَّاهر"[16].

لاحظ: لم يحمله على القلب فقط، يقول: "يتبعه الوجه الظَّاهر، فإذا كان العبدُ قصده ومُراده وتوجّهه إلى الله، فهذا صلاح إرادته وقصده، فإذا كان مع ذلك مُحسنًا فقد اجتمع أن يكون عمله صالحًا"[17]؛ لأنَّ المحسِن -كما سبق- هو الذي عمله على السُّنة: وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا، وفي موضعٍ آخر تكلَّم أيضًا على توجيه الوجه لله -تبارك وتعالى- في قول إبراهيم ﷺ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، قال: "لأنَّ الوجهَ إنما يتوجّه إلى حيث توجّه القلبُ، فهو تابعٌ له، والقلب هو الملك، فإذا توجَّه الوجهُ نحو جهةٍ كان القلبُ مُتوجِّهًا إليها، ولا يمكن للوجه أن يتوجّه بدون القلب، فكان إسلامُ الوجه وإقامته وتوجيهه مُستلزمًا لإسلام القلب وإقامته وتوجيهه"[18]، جعله من باب اللَّازم.

فهذه التَّفسيرات التي يذكرها العلماءُ صحيحةٌ: إقامة الوجه لله -تبارك وتعالى- مَن فسَّره بالإخلاص، وإقامة القلب والذَّات والوجه، كلّ هذا صحيحٌ لا إشكالَ فيه، فالمصلِّي يقول: وجَّهتُ وجهي إليك. فيُعلن بذلك أنَّه مُريدٌ لله -تبارك وتعالى- بعمله، وأنَّه ليس في قلبه أدنى التفات إلى أحدٍ سواه، مَن التفت يُقال: وجهه لكذا.

ولما ذُكِرَ بعضُ مَن اتُّهم بالنِّفاق عند النبي ﷺ، وذكر لهم النبيُّ ﷺ أنَّه يُصلي، فماذا قالوا؟ أما ترى وجهه للمُنافقين؟! باعتبار أنَّه مُصغٍ إليهم، يميل إليهم بتوجّهه وقلبه، فهو كأنَّه منهم.

"وجَّهتُ وجهي" لمن؟ "للذي فطر السَّماوات والأرض"، "فطر" يعني: الذي أوجدهما وخلقهما من غير مثالٍ سبق، فهذا هو الفطر، فأصل هذه المادة: "الفاء والطَّاء والرَّاء" يدلّ على ابتكارٍ وإيجادٍ من غير مثالٍ سبق.

"للذي فطر السَّماوات والأرض": أبدعهما وأوجدهما من غير نظيرٍ، يعني: الآن لو نظرنا إلى أحوال الناس في الدنيا، وفي صناعتهم، يُقال: إنَّ الصين -وهي من أكبر البلاد الصناعية كما هو معروفٌ- يُقلِّدون، ولا يبتكرون، يعني: أعطهم ما شئتَ من الصِّناعات، فإنَّهم يصنعون على غراره، ومثيلاً له، وربما طبق الأصل على مستوى الصِّناعات المتفاوتة عندهم، لكن هل يبتكرون؟ المعروف أنَّهم لا يبتكرون، هذا هو المعروف عنهم، وإنما يُقلِّدون الصِّناعات الأخرى على مستويات، يعني: قد يُقلد على نفس مستوى الصِّناعة، وقد يكون دونها، فتلك الصِّناعات عندهم على مراتب، لكنَّهم ينظرون إلى فعل غيرهم وابتكار الصّناع، ثم بعد ذلك يُحاكونه، فهذا على مثالٍ سابقٍ، لكن مَن ابتكر شيئًا على غير مثالٍ سابقٍ يقال: هو الذي فطره، يُقال: أنا فطرتُ البئر، بمعنى: حفرتها أولاً، لم تكن محفورةً.

ومن هنا: فالله فاطر السَّماوات والأرض، يعني: أنَّه الموجِد لهما على غير مثالٍ سابقٍ، وهو المبتدع لذلك، فخلقهما على هذه الحال، والسَّماوات هنا تشمل هذه الأجرام العلوية العِظام: السَّماوات السَّبع وما تحويه من الأفلاك والنُّجوم، وما إلى ذلك.

فالعبد يقول: أنا توجَّهتُ إلى هذا الخالق المبدع الذي يستحقّ أن يُعبد.

وإذا تتبعت نصوص القرآن تجد القرآن يُقرر أنَّ العبادةَ ينبغي أن تُصرف لمن كان خالقًا، فأول أمرٍ في المصحف: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۝ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21- 22] على اختلاف أقوال المفسّرين في هذا الموضع، لكن منها: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّه هو الخالق وحده؛ لأنَّهم كانوا يُقرُّون بهذا، فكيف تعبدون سواه؟! فالارتباط بين العبادة والخلق هذا ظاهرٌ في القرآن، كثيرٌ، وأنَّ العبادة ينبغي أن تُصرف لمن خلق وأوجد.

فهنا: وجَّهتُ وجهي للذي فطر السَّماوات، فالذي لا يخلق لا يستحقّ أن يُعْبَد، ولا أن يُقْصَد، ولا أن يُتوجّه إليه، فهذا المبدع الخالق الموجِد من العدم حقيقٌ بأن تتوجّه الوجوه إليه، وأن تُقبل القلوبُ عليه، وأن ترتبط به كلّ الارتباط دون مَن سواه، فهذا الذي تُعول عليه القلوب في سائر أحوالها، ولا يصحّ التفاتٌ إلى أحدٍ غيره، ولا يُرجى إلا رضاه، ولا يُخاف إلا من سخطه.

أسأل الله أن ينفعنا وإيَّاكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإيَّاكم هُداةً مُهتدين، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
  2. "تفسير ابن كثير" ت. سلامة (3/291).
  3. لابن القيم: "توضيح المقاصد شرح الكافية الشافية = نونية ابن القيم" (2/258).
  4. "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لابن تيمية (ص58).
  5. "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لابن تيمية (ص58).
  6. "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لابن تيمية (ص58).
  7. "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لابن تيمية (ص58).
  8. "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لابن تيمية (ص58).
  9. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب النوم على الشقِّ الأيمن، برقم (5840)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم (4885).
  10. "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لابن تيمية (ص59).
  11. "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لابن تيمية (ص59).
  12. "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لابن تيمية (ص59).
  13. "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لابن تيمية (ص59).
  14. "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لابن تيمية (ص59).
  15. "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لابن تيمية (ص59).
  16. "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لابن تيمية (ص59).
  17. "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لابن تيمية (ص59).
  18. "النبوات" لابن تيمية (1/351).

مواد ذات صلة