الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
(103) دعاء الاستفتاح " واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت... "
تاريخ النشر: ٠٨ / ربيع الآخر / ١٤٣٥
التحميل: 2028
مرات الإستماع: 2106

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: أيّها الأحبّة، بقيت بقيةٌ من حديثٍ مضى الكلامُ على أوَّله، ونسيتُ أن أتكلم عن آخره، ظننتُ أنَّه قد تمَّ الكلامُ عليه، فنبَّهني بعضُ الإخوان، وهو حديث علي بن أبي طالبٍ ، عن النبي ﷺ: أنَّه كان إذا قام إلى الصَّلاة قال: وجَّهتُ وجهي للذي فطر السَّماوات والأرض حنيفًا، وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين، لا شريكَ له، وبذلك أُمِرْتُ وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي، وأنا عبدك، ظلمتُ نفسي، واعترفتُ بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، إنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، إلى هنا مضى الكلامُ على الحديث، وبقي آخره، قال: واصرف عني سيّئها، لا يصرف عني سيّئها إلا أنت، لبيك، وسعديك، والخير كلّه في يديك، والشَّر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركتَ وتعاليتَ، أستغفرك وأتوب إليك[1]. رواه مسلمٌ.

فقوله: واهدني لأحسن الأخلاق مضى الكلامُ على هذا القدر؛ أي: دُلَّني ووفّقني لأحسن الأخلاق؛ لأكون مُتحققًا بها، مُتخلِّقًا بها، وهذا يدل على أهمية الخلق، فيسأل العبدُ ربَّه ذلك في دُعائه في الاستفتاح للصَّلاة: أن يهديه الله -تبارك وتعالى- لأكملها وأفضلها، فالعبدُ يسعى دائمًا ليكون بمنزلةٍ هي الأعلى في الأخلاق، والناس في ذلك مراتب ودرجات، وأقربهم إلى النبي ﷺ منزلةً يوم القيامة أحاسنهم أخلاقًا، فأهل الأخلاق يتفاوتون، ثم بعد ذلك من نقص عن الحدِّ اللَّائق هؤلاء أيضًا يتفاوتون في الدَّركات.

لا يهدي لأحسنها إلا أنت فإنَّ الله -تبارك وتعالى- هو الهادي إلى هذه الأخلاق والأعمال، فهو الذي يُرشد لأحسنها، وهو الذي يُوفّق للتَّحقق بها، والعمل بمُقتضاها.

واصرف عني سيّئها اصرف يعني: هذا طلبٌ للمُباعدة من سيِّئ الأخلاق، وهذا يدل على شأن الخلق، وأنَّ سُوء الخلق مما ينبغي التَّجافي عنه، وأنه يكون عيبًا ومذَمَّةً، يحتاج العبدُ إلى أن يسأل ربَّه أن يُخلصه منه، وإلا فإنَّ العبدَ إذا تُرِكَ مع حظوظ نفسه، وشهواتها، ومطالبها؛ فإنَّها تشدّه إلى الأسفل، فيهوي، وينسفل، ويترك ما ينبغي، وما يجمل، وما يحسُن من الأقوال والأفعال.

ثم يقول: لبيك مضى الكلامُ عليه في التَّلبية، ما يقوله الملبِّي في الحجِّ، وذكرنا في جملة ما ذكرنا أنَّ من أهل اللغة مَن يرجع أصل ذلك إلى معنى الإقامة بالمكان: ألببتُ بالمكان، يعني: أقمتُ به، فهو هنا حينما يقول: "لبيك" على هذا المعنى، يعني: أنا مُقيمٌ على طاعتك.

وهذا المعنى قال به بعضُ الكبار: كالخليل بن أحمد -رحمه الله-، وبعضهم يُرجع ذلك إلى معنى التَّوجه، "لبيك" مأخوذٌ من قوله: داري تلب دارك، يعني: تُواجهها، فأنا اتّجاهي إليك، لا ألتفت إلى أحدٍ سواك. هناك الإقامة على الطَّاعة، وهنا الإخلاص، توحيد الوجه: توحيد القصد لله -تبارك وتعالى.

وبعضهم يُرجع ذلك إلى معنى المحبَّة، من قولهم: امرأة لبّة، يعني: أنَّها محبّة لولدها، لبّة، فيكون بمعنى: إعلان المحبّة لله -تبارك وتعالى-.

وهذه المعاني يقول بها علماءُ من أهل اللغة؛ مما يدلّ على أنَّ ذلك جميعًا معروفٌ في كلام العرب، فإذا أردنا أن نجمع هذه المعاني فنقول: إنَّ هذا الملبي حينما يقول: "لبيك" فهو يُعلن إخلاصه وتوحيد الوجه، كما يُعلن الإقامة على طاعة مولاه، وأنه محبٌّ له، مع المحبّة، فكل ذلك مُتحققٌ فيه، والله تعالى أعلم.

وحينما يقول: "لبيك" يعني: أنا مُداومٌ على طاعتك دوامًا بعد دوامٍ، مُقيمٌ على عبادتك إقامةً بعد إقامةٍ، أنا محبٌّ لك، وجهتي واحدة؛ هي طلب مرضاتك، فلا يتلفَّت القلبُ يمنةً، ولا يسرةً، فهذا مصدر "لبيك"، مثنى من لبَّى، أو ألبَّ، فأُضيف إلى المخاطب الكاف: "لبيك"، والتَّثنية هنا يُراد بها التَّكرير، يعني: ليس المقصودُ أنَّ ذلك بعدد مرتين، وإنما التَّكرير من غير نهايةٍ، كما قال الله : ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك:4]، ليس المقصودُ أن يُرجعه مرتين، وإنما مرةً بعد مرةٍ، فهو لن يجد خللاً بهذا الخلق، كرةً بعد كرةٍ، مرةً بعد مرةٍ.

تنتشر هذه الأيام رسائل يتداولها بعضُ الناس، ربما يسأل بعضُهم عنها: أنَّ "لبيك" لا تُقال إلا في حقِّ الله .

وهذا الكلام غير صحيحٍ؛ فالإنسان حينما يدعوه داعٍ فيقول له: لبيك، يعني: أنا مُجيبٌ لك إجابةً بعد إجابةٍ، ما الإشكالُ في هذا؟ إذا قال: أنا مُحبٌّ لك، أنا مُتوجِّهٌ إليك، ما الإشكال في هذا؟ لا إشكالَ فيه، ولا أدري هؤلاء من أين يأتون بهذه المعاني التي ينشرونها بين الناس، ويُحذِّرون من إطلاقها؟! خللٌ في العقيدة خطيرٌ يقوله بعضُنا دون أن يشعر، مُغالطات نسمعها، فيسأل الناس عنها، ولا أدري من أين يخترعون هذا؟! هل هناك مَن يتلاعب بالناس، ويُنشئ أشياء من هذا القبيل، فيضحك من عقولهم؟! أم أنَّ هذا هو مُنتهى عقل هذا الإنسان الذي كتبها، وهذا مبلغه من العلم؟! لا تدري، يحتمل هذا، ويحتمل هذا، لكن النَّتيجة هي نشر الجهل والأخطاء.

ولذلك انتبهوا تُنْشَر أشياء أحيانًا: إمَّا أن يكون هذا الذي نشرها أحيانًا، غير هذا المثال، تقول: هذا من أهل التَّصوف، وأحيانًا تقول: هذا من الرَّافضة، أو أنَّ هذا مُوغِلٌ في الجهل، فوجد ذلك في موقعٍ، أو في كتابٍ، أو شيءٍ من هذا القبيل فنشره، النَّتيجة واحدة: نشر الضَّلالات.

فينبغي للإنسان ألا ينشر شيئًا حتى يتحقق أنَّه صحيحٌ، ويسأل، البعض لا يسأل، والبعض يسأل إذا نشر، أو أُنْكِرَ عليه، أو قيل له: اسأل، تحقق، فهذا كله غير صحيحٍ.

لبيك، وسعديك يعني: أسعد أمرك، وأتبعه، يعني: إسعادًا مُتكررًا كما قلنا في التَّثنية، بمعنى: أنَّه يقول: أسعد بإقامتي على طاعتك، وإجابتي لدعوتك سعادةً بعد سعادةٍ، أو إسعادًا بعد إسعادٍ، فهو يُعلن إقامته ومحبَّته وتوحيد وجهته، مع السَّعادة بذلك كلِّه: لبيك، وسعديك، وهذا بخلاف مَن يتثاقل العبادة والطَّاعة لله ، ويرى أنها عبءٌ ثقيلٌ يُثقل كاهلَه.

فهذا الذي يقول: لبيك، وسعديك أنا مقيمٌ على طاعتك، أنا محبٌّ لك، أنا قد وحَّدتُ وجهتي، هل هو كذلك؟ هل هو مُقيمٌ على طاعة الله ؟ هل هو مُوحِّدُ الوجهة؟ هل هو مُحبٌّ لربِّه -تبارك وتعالى-، سعيدٌ بهذه الطَّاعة والعبادة، أو أنَّه مُستثقِلٌ لذلك كلِّه، مُتبرِّمٌ به؟

الله أخبر أنَّ المنافقين: لَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى [التوبة:54]، وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142]، فهؤلاء يستثقلونها، إنما يحضرون حيث يراهم الناس؛ ولذلك كانت أثقل الصَّلاة عليهم هي صلاة العشاء والفجر، ظُلمة، لا يراهم أحدٌ، لماذا يأتون؟ ليس هناك احتسابٌ؟ لم تكن هناك أنوارٌ مثل الآن، فلا يُعرف مَن حضر، ومَن لم يحضر، وإنما قال النبيُّ ﷺ مرةً، سأل: هل شهد فلان؟ هل شهد فلان؟ هل شهد فلان؟.

فهؤلاء -نسأل الله العافية- بهذه المثابة؛ ولذلك الإنسان يخاف على نفسه، وينبغي أن يُربي أولادَه على محبَّة هذه العبادة، والإقبال عليها، والاغتباط بها، ولا يقوم إليها مُتثاقلاً، لا يكاد ينهض من فراشه.

والخير كلّه في يديك الخير كلّه، لاحظ هذا الأدب في الثَّناء على الله -تبارك وتعالى-، تُضاف إليه الكمالات والمحاسن والخير، دون المساوئ كما سيأتي: والشَّر ليس إليك.

فالخير كلّه في يد الله -تبارك وتعالى-، خزائنه عند الله، وهو المانُّ به، المتفضِّل على عباده، ويده سحَّاء بهذا الخير والعطاء والإفضال، فهو يرزق عباده، ويُغدق عليهم الأرزاق، وهو الذي يكلأهم بالليل والنَّهار، فخزائن الرِّزق عنده، ويمينه لا تغيضها نفقة، جميع الخير بيده -تبارك وتعالى-.

إذا كان الأمرُ كذلك -أيّها الأحبّة- فلا يصحّ بحالٍ من الأحوال أن يتحرَّى الخير من المخلوقين، أن يتعلَّق القلبُ بهم لينفعوه، أو ليدفعوا عنه، فالخير كلّه بيد الله .

فينبغي أن نُعظم الرَّغبة إلى الله ، أن تكون القلوبُ مُعلَّقةً بباريها وفاطرها ، إذا علمت أنَّ الخيرَ كلَّه في يديه، إن كان الخيرُ كلّه في يديه فما الذي يبقى عند غيره؟ فمن الخطأ أن يتوجّه إلى غير الله -تبارك وتعالى-.

فالذي يقول هذا الكلام في دعاء الاستفتاح -أيّها الأحبة- وقلبُه مُعلَّقٌ بالمخلوقين هذا يُعلن كذبَه وتناقضَه في ابتداء صلاته، انظر مثل هذه المعاني كيف تُورث اليقين، وتُصحح سلوك العبد على صراط الله القويم؟

والخير كلّه في يديك، وفي هذا إثبات اليدين لله -تبارك وتعالى- على ما يليق بجلاله وعظمته.

والشَّر ليس إليك الشَّر لا يُضاف إلى الله، ولا يُنْسَب إليه: لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فأفعاله كلّها خير، ولكن الشَّر يقع في مفعولاته؛ المطر هذا الذي ينزل هو خيرٌ، لكن قد يحصل بسبب غرق زيدٍ أو عمرو، قد يحصل بسببه خراب دار فلان من الناس، قد يحصل بسببه هلاكٌ لزروع بعض الناس، ولكن يبقى هذا خير، وقُلْ مثل ذلك في أشياء وأمثلة كثيرة جدًّا.

فأفعال الله كلّها خير، ولكن الشَّر يقع في مفعولاته، فهذا الذي غرق في هذا الماء، أو تخرَّبت دارُه، هذا بالنسبة إليه كان ذلك شرًّا لربما، ولكنَّه بالنسبة لأفعال الله لا شكَّ أنَّه خيرٌ.

قُلْ مثل ذلك في وجود إبليس، خلق إبليس، وجود المعاصي، والكفر، والشَّياطين، والحيَّات، والهوامّ، وما إلى ذلك، فهذه بالنسبة إلينا شرٌّ، لكن بالنسبة لأفعال الله هي خيرٌ، خلقها لحِكَمٍ عظيمةٍ، تظهر فيها معاني أسماء الله وصفاته، ويتفاضل الناسُ بوجود الفقر والغنى، هذا الفقر بالنسبة إليه لربما يكون شرًّا، قد يكون كذلك، ولكن بالنسبة لأفعال الله تظهر فيه معاني المعطي والمانع، تظهر فيه معاني الرَّزاق، تظهر فيه معانٍ من حكمته في تدبير أمر هذه الخليقة، والتَّفاوت الواقع بينها.

وهكذا يتميز الناس ويتمايزون في الآخرة: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]، فلا يتميز ويتبين ما لأهل الإيمان من النَّعيم إلا بأضداده، وهكذا في أمثلةٍ كثيرةٍ، مع أنَّ الله خالق الجميع، خالق الخير والشَّر، كل ذلك خلقه ، لكن في الإضافة لا يُقال: الله -تبارك وتعالى- يُضاف إليه الشَّر، وإنما يتأدّب معه في ذلك، وإلا فالله خالق كلِّ شيءٍ، ومن ثَمَّ انظروا إلى هذه الآداب: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]، "مرضتُ" أضاف المرضَ إلى نفسه، والشِّفاء إلى الله -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-.

الخضر لما خرق السَّفينة قال: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79]، فنسب العيبَ إلى نفسه، ما قال: فأراد الله عيبَها، لكن في الغلام أو في الغُلامين اليتيمين قال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا [الكهف:82]، فأضاف ذلك إلى الله -تبارك وتعالى-.

وانظر إلى هذه الآية في سورة الفاتحة: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ، أضاف الإنعامَ إليه: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ، ما قال: الذين غضبتَ عليهم، قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ [الفاتحة:7]، فحذف الفاعل، وبنى ذلك للمفعول، لاحظوا: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ، مع أنَّ الله هو الذي غضبَ عليهم.

وهكذا في أمثلةٍ كثيرةٍ، وقد مضى الكلامُ على شيءٍ من هذا في بعض المناسبات.

ثم يقول: أنا بك يعني: أنا أعوذ، وألوذ، وأعتمد، قيامي بك، فمن غير الله لا يمكن للعبد أن ينهض بنافعةٍ، ولا أن يُحقق نجاحًا، ولا فلاحًا.

ومن هنا يخرج العبدُ من حوله وطوله، يقول: أنا إمكانياتي، قُدراتي، ما تلقيتُه من الدّورات والتَّدريب، ذكائي، عقلي. لا يقول: هذا المال، هذا الغنى: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص:78]، وإنما يقول: أنا بك، كل ما يحصل لي من خيرٍ، ونجاحٍ، وفلاحٍ، وعملي طاعة من الطَّاعات إنما هو بتوفيقك، ما مني شيء، ولا لي شيء.

لو أنَّ العبدَ تجرَّد هذا التَّجرد لأراح واستراح، هو يطمئنّ ويرتاح، ويعرف أنَّه ما منه شيء، ويُريح الآخرين، فلا يحتاج هؤلاء إلى أن يُزاولوا معه ألوان المزاولات من أجل أن يُرضوه؛ فيُعظَّم من أجل أن يرضى، من أجل أن يكفَّ شرَّه، هذه مشكلة موجودة للأسف، ومُتجذرة في بعض النفوس، ويحتاج العبدُ إلى مُعالجة نفسه دائمًا؛ ليخرج من الدّوران حول هذه النَّفس، فيعرف أنَّه ما منه شيء، ولا له شيء.

أنا بك انظر إلى هذه التربية في هذه المعاني التي نُرددها، ولكننا لا نستشعرها، فإذا جاء المتعاظمُ لنفسه وقال:  أنا بك وإليك، فهو كذَّابٌ، يُعلن كذبَه بأول صلاته.

أنا بك وإليك إليك أتوجّه، إليك ألتجئ، إليك أرجع، إليك أتوب، إليك أصير، وهكذا، فهو يُعلن استعانته بربِّه -تبارك وتعالى-، ويُعلن توجّهه إليه، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي أوجده، وأعطاه، وحباه، ووفَّقه، ولولا ذلك لضاع، وكذلك هو إنما يتوجّه إلى الله -تبارك وتعالى-، ويلتجئ إليه، ويُنيب.

تباركتَ تعاظمتَ، تمجّدتَ، تكاثر خيرُك، فهذه كلمة تدلّ على الدَّوام والثَّبات، ثبت خيرك، كثرت بركتُك، عظم مجدُك، وبرُّك، وإحسانك.

وقد ذكرنا أنَّ ذلك لا يُقال إلا لله، ما يُقال: فلان تبارك، تباركتَ علينا يا فلان. وإنما يُقال: تبارك الله، البركة من الله، وليست من المخلوقين.

تباركتَ وتعاليتَ تعاليتَ عن كلِّ نقصٍ وعيبٍ في ذاتك، وأسمائك، وصفاتك، وأفعالك، فهو المتعاظم عن كلِّ نقصٍ، المتعالي عن كلِّ عيبٍ.

أستغفرك السّين والتاء للطَّلب، أطلب مغفرتك، وعرفنا أنَّ العبدَ حينما يطلب المغفرةَ فهو يطلب شيئين: الأول: السَّتر. الثاني: الوقاية؛ لأنَّ كلمة "الغفر" تدلُّ على هذا، مغفر على الرأس يستره، ويقيه ضرب السِّلاح، فإذا قلتَ: يا ربّ، اغفر لي. يعني: استرني في الدنيا والآخرة، وقني تبعة المعصية من المؤاخذة والعقوبة، وما إلى ذلك.

أستغفرك وأتوب إليك أي: أرجع عن فعل الذَّنب، أرجع إلى الله ، يتوب في أول صلاته، فإذا كان يقول هذا وهو مُصِرٌّ على المنكر، يقول هذا وهو ينتظر متى يُسلِّم الإمامُ حتى يرجع إلى تلك المنكرات التي كان مُقيمًا عليها قبل الصَّلاة، وهو يقول: أستغفرك وأتوب إليك، تستغفر من ماذا؟! وتتوب من ماذا؟! فهنا يكون الإنسانُ قد غالط نفسَه، ويقول كلامًا هو كاذبٌ فيه، كلام لا حقيقةَ له، دعوى، لا يوجد ما يُصدِّقها من واقعه، فهل نعي ما نقول؟!

هذه الأذكار -أيّها الأحبّة- لو كنا نعقل لكانت صلاتنا تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولكن يُردد هذا الكلام الذي يلهج، ثم يخرج العبدُ وما يدري ما صلَّى! ولو سُئل في كثيرٍ من الأحيان: ماذا قرأ الإمامُ في الركعة الأولى، أو في الركعة الثانية؟ يقول: ما يدري! الإمام يقرأ لمن؟! ويجهر لمن؟! أين كنتَ؟! ما هذا المهم الذي شغلك؟! ما يدري!

أسأل الله أن يُصلح قلوبَنا وأعمالنا، وأن يتوبَ علينا، وأن يُلهمنا رُشدنا، وأن يقينا شرَّ أنفسنا.

اللهم اجعل القرآنَ العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا.

اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلّمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النَّهار على الوجه الذي يُرضيك عنا، ربنا اغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

 

  1. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).

مواد ذات صلة