الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
نواصل الحديث -أيّها الأحبّة- في هذه الليلة في الكلام على هذا الذكر والدّعاء الذي يُقال في الاستفتاح، وسيكون حديثُنا -إن شاء الله- هو خاتمة الحديث عن هذا الذكر الذي هو آخر ما ذُكِرَ في الاستفتاح؛ وذلك قوله: اللهم لك الحمد، أنت نور السَّماوات والأرض ومَن فيهنَّ، ولك الحمد، أنت قيّم السَّماوات والأرض ومَن فيهنَّ، ولك الحمد، أنت ربّ السَّماوات والأرض ومَن فيهنَّ، ولك الحمد، لك مُلك السَّماوات والأرض ومَن فيهنَّ، ولك الحمد، أنت ملك السَّماوات والأرض، ولك الحمد، أنت الحقُّ، ووعدك الحقُّ، وقولك الحقُّ، ولقاؤك الحقُّ، والجنَّة حقٌّ، والنار حقٌّ، والنَّبيون حقٌّ، ومحمدٌ ﷺ حقٌّ، والسَّاعة حقٌّ، اللهم لك أسلمتُ، وعليك توكلتُ، وبك آمنتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ، فاغفر لي ما قدَّمتُ، وما أخَّرتُ، وما أسررتُ، وما أعلنتُ، أنت المقدِّم، وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت، أنت إلهي، لا إله إلا أنت[1].
فقوله: والجنة حقٌّ أي: هي حقٌّ ثابتٌ، كما أخبر الله -تبارك وتعالى-، فهي دار النَّعيم، ومنزل السُّعداء، وفيها ما لا عينٌ رأت، لو أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلب بشرٍ.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ووالدينا وذُرياتنا وإخواننا المسلمين من أهلها.
الجنة حقٌّ أي: في ذاتها، وهي موجودة، كما أخبر الله -تبارك وتعالى-: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وهي أيضًا بكلِّ ما فيها من النَّعيم، كلّ ذلك ثابتٌ، حقٌّ، لا مريةَ فيه، نُؤمن به، ونُصدِّق بذلك إجمالاً وتفصيلاً فيما جاء به الخبر.
والنار حقٌّ في ذاتها، وهي موجودةٌ، أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وذُرياتنا وإخواننا المسلمين منها ومن حال أهلها، وكذلك ما فيها من العذاب والأغلال، كلّ ذلك حقٌّ ثابتٌ كما جاء به الخبر.
فنؤمن بذلك إجمالاً، ونُؤمن تفصيلاً بما جاء بطريق الوحي، كل هذا نصدِّق به تصديقًا جازمًا لا تردد فيه.
والنَّبيون حقٌّ والأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- هنا أعمّ من الرسل، فيدخل فيهم الرسل -عليهم الصَّلاة والسلام-؛ لأنَّ كلَّ رسولٍ فهو نبيٌّ، فهم حقٌّ، وأنَّ الله اختارهم واصطفاهم على سائر الناس، وأوحى إليهم.
فنُؤمن إجمالاً: أنَّ الله اختار صفوةً من خلقه، وأنزل عليهم وحيَه، ونؤمن تفصيلاً بمَن جاءت تسميته في الكتاب أو السُّنة، فيكون الإيمانُ مجملاً ومُفَصَّلاً.
وقوله: ومحمدٌ ﷺ حقٌّ أي: أنَّه مُرْسَلٌ من عند الله -تبارك وتعالى-، وهو من جملة النَّبيين، بل هو سيدهم وخاتمهم -عليه الصلاة والسلام-، ولكنَّه خُصَّ هنا -والله تعالى أعلم- لأنَّ الإيمانَ يجب أن يكون بعينه، وإلا فإنَّه لا يصحّ لأحدٍ دعوى الإيمان من هذه الأُمَّة، ولكنَّه لا يُؤمن برسول الله ﷺ، يعني: الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من السَّابقين قد يكون بعضُ المسلمين سمع بأنَّ لله أنبياء، فآمن بهم إجمالاً، لكنَّه لم يتتبع ذلك على سبيل التَّفصيل، فيكفيه ذلك: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ [البقرة:285] إيمانًا مُجملاً، ومَن بلغه شيءٌ من ذلك مُفصَّلاً فيجب عليه الإيمانُ به، لكن مَن لم يبلغه يكفيه الإيمانُ المجمل، أمَّا محمد ﷺ فلا بدَّ من الشَّهادة له بالرسالة؛ بأنَّه رسول الله ﷺ.
والسَّاعة حقٌّ وهو اسمٌ من أسماء القيامة، كما هو معلومٌ، فهي واقعةٌ وكائنةٌ وثابتةٌ، لا شكَّ فيها، فهي آتيةٌ لا ريبَ فيها، وكذلك ما فيها من الأهوال والأوجال، وما فيها من الحشر وبعث الناس، وما فيها من الصِّراط والميزان والحوض والحساب، وما إلى ذلك، فكله ثابتٌ حقٌّ، كما أخبر الله، وكما أخبر رسولُه ﷺ.
فهذا كلّه إخبارٌ، يُخبِر العبدُ به عن نفسه، وعن إيمانه: أنَّه يُؤمن بذلك جميعًا، وفي أول الحديث كما رأينا: اللهم لك الحمد، أنت نور السَّماوات والأرض، فهذا كلّه من قبيل الحمد والثَّناء الذي هو أفضل الذكر، ثم بعد ذلك يأتي الإخبارُ؛ يُخبر العبدُ عن إيمانه بربِّه -تبارك وتعالى- وتوحيده، وما إلى ذلك.
ومن هنا يقول: اللهم لك أسلمتُ فهذا في المرتبة الثانية من مراتب الذكر كما عرفنا: اللهم لك أسلمتُ، "أسلمتُ" يعني: أطعتُ، واستسلمتُ، فأسلمتُ قلبي وجوارحي لك، وأسلمتُ لساني، فكلّ ذلك صار مُذعنًا، وإذا ذُكِرَ الإسلامُ وذُكِرَ معه الإيمانُ -كما في هذا الحديث- فإنَّ الإسلامَ يكون إسلام الظَّاهر، والإيمان هو انقياد القلب وإقراره وإذعانه، الإقرار والإذعان: التَّصديق الانقيادي، هذا هو الإيمان، والإسلام إسلام الظَّاهر، فيكون العبدُ في حالٍ من الاستسلام لله -تبارك وتعالى-، فلا يصحّ لأحدٍ أن يقول: "اللهم لك أسلمتُ" وجوارحه تتمرد على الله، وعلى طاعته، ونظره ينظر إلى الحرام، ويخرج من الصَّلاة ويذهب وينظر إلى ما حرَّم الله -تبارك وتعالى-، هذا ما أسلم الإسلام الكامل، وهكذا إذا كان يبطش بيده فيما حرَّم الله -تبارك وتعالى-، فهو يبدأ هذه الصَّلاة بكلامٍ يكذب به نفسه، ويُناقض قوله بفعله: لك أسلمتُ، وهو ليس كذلك.
وبك آمنتُ هنا الإقرار والإذعان والتَّصديق الانقيادي، هذا معنى الإيمان إذا ذُكِرَ مع الإسلام، وإلا يُفَسَّر بمجرد التَّصديق؛ لأنَّ التَّصديق يختلف عن الإيمان في اللغة والشَّرع، وقد ذكر الشيخُ تقي الدين ابن تيمية شيخ الإسلام -رحمه الله- في كتابه "الإيمان الكبير" نحو سبعة فروقات في اللغة بين الإيمان والتَّصديق[2]، وهي مهمّة وجديرة بالمراجعة؛ لأنَّ الكثيرين يُفسِّرون الإيمانَ بالتَّصديق، وهذا قد جاء في كلام كثيرٍ من المتقدمين، ولكن على سبيل التَّوسع، بخلاف مَن يقول ذلك اعتقادًا، كالمرجئة.
يقول: وعليك توكلتُ، وأيضًا: لك أسلمتُ، وأيضًا: بك آمنتُ، تقديم الجار والمجرور، فلم يقل: أسلمتُ لك، أسلمتُ لك. ويمكن أن يُقال: ولغيرك، لكن لما يقدّم الجار والمجرور: لك أسلمتُ يعني: دون سواك، فهذا يُفيد الحصر، لما يقول: وبك آمنتُ آمنتُ بك، ويمكن أن يُقال: وبغيرك، لكن لما يقول: وبك آمنتُ يعني: دون مَن سواك، فأنا مؤمنٌ بك وحدك، وأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، آمنتُ بإلهيَّتك وربوبيَّتك وأسمائك وصفاتك.
وعليك توكلتُ وهذا يُفيد أيضًا الحصر، كما قال الله : وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [الفرقان:58]، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا [المائدة:23]، تُلاحظون في هذه المواضع يُقدَّم المعمولُ على العامل: عَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا، هنا هذا يدل على الحصر؛ ولهذا ذهب طوائفُ من أهل العلم إلى أنَّ التوكل لا يصحّ بحالٍ من الأحوال أن يكون على غير الله ، حتى فيما يقدر عليه المخلوقُ، يعني: هذا يختصّ بالله، فلا تقل: يا فلان، أنا مُتوكِّلٌ عليك في إنهاء المعاملة الفلانية، أو أنا مُتوكِّلٌ عليك في إيصال هذه الأغراض والأمتعة، أو قضاء الحاجة الفلانية. لا، وإنما مُتوكِّلٌ على الله، وهل يقول: مُتوكِّلٌ على الله ثم عليك؟
مَن يقولون: إنَّ ذلك للحصر، ولا يكون التَّوكلُ إلا على الله. يقولون: لا يصحّ، لا تقل: أنا مُتوكِّلٌ على الله ثم عليك. وإنما أنا مُتوكِّلٌ على الله وحده، لكن هل يصحّ أن يقول: أنا وكَّلتُك؟ هذا لا بأسَ به، وهذا ليس محلَّ اتفاقٍ بين أهل العلم؛ فبعض أهل العلم يُصحح التَّوكل على المخلوق فيما يقدر عليه المخلوق، ولكن النصوص -كما رأيتُم- عامَّة، ذلك جاء بصيغةٍ تدل على الحصر، وقد مضى الكلامُ على هذا مُفَصَّلاً في الكلام على الأعمال القلبية، وذكرتُ فيه أقوال العلماء والأدلة في ذلك.
فهنا: وعليك توكلتُ ألجأتُ ظهري، وفوَّضتُ أمري، واعتمدتُ عليك يا ربّ، دون مَن سواك، فالله هو الكفيل وحده بكشف الضُّرِّ، وهو الكفيل وحده برفع البلاء، وهو الكفيل وحده بقضاء الحاجات، وتحقيق الرَّغبات، ودفع المخاوف، وتحقيق ما يرجوه العبدُ ويأمله، كلّ ذلك إنما هو بيد الله ، وليس بيد المخلوق، فالمخلوق لا يستطيع: واعلم أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك، ولو اجتمعوا على أن يضرُّوك بشيءٍ لم يضرُّوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليك[3].
فإذا كان الأمرُ كذلك فتوكّل عليه وحده، دون مَن سواه، فلا يتعلَّق قلبُك بأنَّ الشِّفاء عند فلانٍ، أو قضاء المصلحة الفلانية عند فلانٍ، أو تحقيق المستقبل عند فلانٍ، لا، كلّه عند الله، مالك الملك، ومَن خزائنه مَلْأَ، وهو الذي يصرف الأقدار، فارفع يديك واسأله، وتضرَّع إليه، فإنَّ عنده كلّ ما تُؤمّل.
يقول: وإليك أنبتُ الإنابة هنا بمعنى التوبة، أي: أقبلتُ بهمتي وطاعتي، وأعرضتُ عمَّا سواك، والتوبة التي تكون عبادةً تُغفر بها الذنوب لا تكون إلا لله، بخلاف الذين يتوبون للشيوخ؛ كالصُّوفية، يأتي يتوب بين يدي الشيخ، ولربما حلق شعر رأسه؛ كالنَّصارى الذين يأتون إلى القسيس، ويجلس على كرسي الاعتراف، ويعترف بما فعل تفصيلاً، ثم بعد ذلك يطلب الغفران والتَّوبة، فهذا كلّه لا يجوز، فالتَّوبة تكون عبادةً، وتكون لله وحده، هذه التوبة الشَّرعية، وقد تكلمنا على الإنابة والتَّوبة بكلامٍ طويلٍ مُفصَّلٍ في نحو ثمانية مجالس في الكلام على الأعمال القلبية.
وهنا يقول: وإليك أنبتُ أي: أنا إليك مُنيبٌ يا ربّ.
طيب، هذا الإنسان الذي يُصلي ويقول: إليك أنبتُ، وعليك توكلتُ، وهو مُتوكِّلٌ على غير الله، وقلبه مُعلَّقٌ بغير الله ، وليس بمُنيبٍ ولا تائبٍ، هذا يبدأ صلاتَه بالكذب، ألا يخشى هذا أن تُردّ صلاتُه عليه، وأن يرجع منها بخيبةٍ وخُسرانٍ؟!
لو كنا نعقل -أيّها الأحبّة- هذه المعاني لصحَّت أحوالنا كلّها من أوَّلها إلى آخرها، ولأصبحنا مُنيبين، تائبين، مُتوكِّلين على الله -تبارك وتعالى-، مُستسلمين، مُنقادين، مُذعنين له، فلا يكون العبدُ إلا بحالٍ يرضاها الله .
وانظروا كيف تُؤثِّر هذه الأذكار لو كنا نعقلها؟ وانظروا كم تُؤثر هذه الصَّلاة وتنهى عن الفحشاء والمنكر لو كانت هذه المعاني يعقلها العبدُ؟ ودَعُوا كثيرًا من الكلام الذي قد ينشأ في بيان وجه كون الصَّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ فكثيرٌ من الناس يتكلم بكلامٍ إنشائيٍّ لا طائلَ تحته، لكن إذا عقلت هذه المعاني عرفت كيف تكون هذه الصَّلاة نهاية عن الفحشاء والمنكر، الذي يقول هذا وقلبُه حاضرٌ هذا لا يمكن أنه يجترئ على المنكر، ويستحي من الله أن يقول كلامًا والله يعلم من حاله خلافه، أبدًا، لا يمكن، فما ظنُّكم؟ هل هذا يرجع إلى بيته ويظلم زوجته، أو يظلم جاره، أو يظلم ولده، أو يظلم سائقه، أو الخادم، أو يُقارف مُنكرًا من المنكرات، أو يخرج عند باب المسجد يبيع ويغشّ الناس، وهو يقول: لك أسلمتُ، وبك آمنتُ، وعليك توكلتُ، وإليك أنبتُ؟
وبك خاصمتُ أي: بقوَّتك، ونصرتك إيَّاي، وبتأييدك وعونك خاصمتُ، وبحُجَّتك أيضًا خاصمتُ، فالإنسان لا حولَ له ولا طولَ إلا بإعانة الله له وتأييده، وإلا فهو أضعف من هذا، والإنسان أحيانًا يظنّ أنَّ عنده قوّة وحُجَّة، وينغلق وينحبس لسانُ أفصح البُلغاء والخُطباء، كما هو معروفٌ في التاريخ، يقف على المنبر، وهو الخطيب الفذّ الفحل الذي لا يُجارى ولا يُبارى، يقف أمام الناس ثم ينعقد لسانُه وينحبس، فلا يستطيع أن يتكلم بكلمةٍ واحدةٍ، هذا موجودٌ، وشواهده معروفةٌ، يظهر بها عجز الإنسان وضعفه.
وإذا شاء الله سأُورد لكم -إن شاء الله- في بعض المجالس، غير مجالس الأذكار، مجالس مُتنوعة، فيها عِبَرٌ من التَّاريخ، منها ما يتعلَّق بهذا، تجد الرجل من فحول العلماء ويُخطئ في أبسط الأشياء، وتجد الرجل من فحول القُرَّاء والنُّحاة، كبير مثل الجبل، ويقرأ سورةً من قصار السور ويُخطئ فيها أمام الخليفة، ويُصلي بالناس ويُخطئ، ثم الآخر من الكبار يبتسم، ثم ما يلبث أن يُورد آيةً من قصار السور ويُخطئ فيها، يُريه الله ضعفَه وعجزه.
فمهما بلغ الإنسانُ من الإمكانات والقدرات والعلم والحفظ، فالله يُريه ضعفَه، وهذا شيءٌ مُشاهَدٌ، والإنسان يراه في نفسه صباح مساء، لا يمكن أن يتعاظم.
فهنا: بك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ يعني: رفعتُ أمري لتحكم بيني وبين مَن يُخالفني، فلا يتحاكم إلى غير الله -تبارك وتعالى-، والله يفصل بين العباد، ويقضي بينهم.
فاغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ ما قدَّمتُ من الذنوب، وما أخَّرتُ مما سيكون في المستقبل، أو ما قدَّمتُ في الدنيا، وما أخَّرتُ بعد موتي مما يبقى من عمل الإنسان بعد موته من الأعمال التي تتابع: كمَن يترك سنةً سيئةً، أو نحو ذلك، فالإنسان يطلب المغفرةَ من الله .
وإذا كان هذا يقوله رسولُ الله ﷺ، وهو إمام المهتدين، فماذا يمكن أن يقول بقيةُ الناس؟
وما أسررتُ ما أخفيتُه، وما أعلنتُ من الأقوال والأفعال، وما تنطوي عليه النَّفس من الأمور التي يُؤاخذ الإنسانُ عليها.
وما أنت أعلم به مني هذا أعمّ مما سبق، قد يُدرك الإنسانَ بعضُ التَّقصير والسّيئات والذّنوب والجنايات، ولكن يخفى عليه من ذلك أشياء، وقد ينسى أشياء، وقد يعدّ بعض الأعمال أنها صالحة، وأنها من العدّة التي يُرجِّي ثوابها إذا قدم على ربِّه -تبارك وتعالى-، وقد لا تكون كذلك، قد تكون مدخولةَ النِّيات، فاسدة، فتكون وبالاً على صاحبها، كما جاء في الحديث: إنَّ أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استُشهد، فأُتي به، فعرفه نعمَه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استُشْهِدْتُ. قال: كذبتَ، ولكنَّك قاتلتَ لأن يُقال: جريء، فقد قيل. ثم أمر به فسُحِبَ على وجهه حتى أُلْقِيَ في النار، ورجلٌ تعلَّم العلمَ وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتِيَ به، فعرَّفه نعمَه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العلمَ وعلَّمتُه، وقرأتُ فيك القرآن. قال: كذبتَ، ولكنَّك تعلَّمتَ العلمَ ليُقال: عالم، وقرأتَ القرآن ليُقال: هو قارئ، فقد قيل. ثم أمر به فسُحِبَ على وجهه حتى أُلْقِيَ في النار، ورجلٌ وسَّع اللهُ عليه، وأعطاه من أصناف المال كلّه، فأُتِيَ به، فعرَّفه نعمَه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تُحبّ أن يُنفَق فيها إلا أنفقتُ فيها لك. قال: كذبتَ، ولكنَّك فعلتَ ليُقال: هو جواد، فقد قيل. ثم أمر به فسُحِبَ على وجهه، ثم أُلْقِيَ في النَّار[4].
أنت المقدِّم، وأنت المؤخِّر تُقدِّم مَن تشاء، وتُؤخِّر مَن تشاء، ويدخل تحت هذا أشياء ومعانٍ واحتمالات.
لا إله إلا أنت، لا إله غيرك فأنت الواحد الأحد، وفي روايةٍ عند البُخاري: لا إله إلا أنت، أو لا إله غيرك[5]، يعني: أنَّه قال هذا أو هذا، فيكون ذلك من قبيل الشَّك من الرَّاوي.
وبهذا نعلم -أيّها الأحبّة- أنَّ هذا الحديثَ تضمن ربوبية الله -تبارك وتعالى- لخلقه، وتضمّن ألوهيَّته، وتضمّن أيضًا ذكر السَّاعة والجنَّة والنَّار والنُّبوات، لا سيّما محمد ﷺ، والتوحيد بأنواعه، وطلب المغفرة من الله، وأنَّ الله هو الحقّ، وأنَّ القيومية له، والملك له، وأنه مُستحقٌّ لجميع المحامد، دون مَن سواه، وهذا كلُّه يستلزم جميع صفات الكمال، وأنَّ الله مُستحقٌّ لها؛ لأنَّه المحمود الحمد المطلق الذي لا يكون إلا لمن كان له الكمال المطلق، وهكذا هو مُنَزَّهٌ عن كل نقصٍ.
فهذا الحديث، وهذا الذكر، وهذا الدُّعاء جامعٌ للأنواع الثلاثة التي ذكرناها في الذكر: الحمد لله ، وإخبار العبد عن نفسه: لك أسلمتُ، وبك آمنتُ، والدُّعاء والسُّؤال، فحينما يطلب المغفرة: اغفر لي ما قدَّمتُ، وما أخَّرتُ، وما أسررتُ، وما أعلنتُ هذا سؤال، فتضمّن الأنواع الثلاثة.
وبهذا يكون هذا من أجلِّ هذه الاستفتاحات، وجامع لهذه المعاني العظيمة، وجوامع الكلم، وإذا نظرتَ في مضامين هذه الجمل وما تدل عليه بأنواع الدّلالات، رأيتَ أشياء كثيرةً يطول وصفُها، وأيضًا مما يتَّصل بالنُّبوات والجزاء والثَّواب والعقاب وغير ذلك من الأمور المتَّصلة بالإيمان والاعتقاد.
هذا ما يتعلق بهذا الحديث، وأنا أنصح نفسي، وأنصح الإخوة بأنَّ هذه الأحاديث والأذكار التي نمرّ بها أن نحفظها جميعًا؛ حتى ننتفع، وأن نتعاهدها، وأن نتعاهد نفوسنا: هل نحن نُطبِّق ذلك أو لا؟ يعني: أحيانًا نسمع هذه المعاني، ثم نخرج من باب المسجد فننسى مباشرةً ما نقوله، وتحصل الغفلة والنِّسيان، فيحتاج العبدُ دائمًا أن يتعاهد نفسَه.
اللهم لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرتَه، ولا همًّا إلا فرَّجتَه، ولا مريضًا إلا عافيتَه، ولا دَينًا إلا قضيتَه، ولا ميتًا إلا رحمتَه.
ربنا اغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الجمعة، باب التَّهجد بالليل، برقم (1053)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (1288).
- "الإيمان" لابن تيمية (ص101).
- أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، برقم (2516)، وصححه الألباني.
- أخرجه مسلم: كتاب الإمارة، باب مَن قاتل للرياء والسُّمعة استحقَّ النار، برقم (1905).
- أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب الدُّعاء إذا انتبه بالليل، برقم (6317).