الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
في هذه الليلة -أيّها الأحبّة- نتحدَّث عن ذكرٍ جديدٍ مما يُقال في الركوع؛ وذلك ما ترويه عائشةُ أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها-، عن النبي ﷺ: أنَّه كان يقول في ركوعه وسجوده: سبُّوح، قدُّوس، ربُّ الملائكة والرُّوح[1].
قوله: سبُّوح، قدُّوس هذا الوزن -وزن فعول- يدل على المبالغة، ولم ترد في لغة العرب إلا في ألفاظٍ قليلةٍ محددةٍ، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، بل لا تبلغ ذلك، والمراد بها التَّنزيه.
فهاتان اللَّفظتان تدلان على التَّنزيه إجمالاً، وإن اختلفت عبارات أهل العلم في بيان الفرق بينهما؛ فبعضهم يقول بأنَّ الأولى: سبُّوح لتنزيه الذَّات، قدُّوس لتنزيه الصِّفات.
وبعضهم يقول بأنَّ سبُّوح من التَّسبيح الذي هو التَّنزيه، وقدُّوس من التَّطهير، ونحن نُسبِّح بحمدك، ونُقدِّس لك، ونُنزِّهك مُتلبِّسين بحمدك، ونُقدِّس لك، والمكان المقدَّس: المطهَّر، تقول: هذا شيء مُقدَّسٌ، يعني: مُطَهَّرٌ، لكنَّه مع التَّطهير -والله أعلم- فيه معنى التَّعظيم، فيكون تطهيرٌ مع التَّعظيم، تقول: هذه بُقعة مُقدَّسة مُطَهَّرة مُعَظَّمة، وهذا مسجدٌ مُقدَّسٌ، وما أشبه ذلك مما قد يُقال، فيدل على التَّطهير والتَّعظيم.
فبعض أهل العلم يقول: حينما نقول: سبُّوح، قدُّوس يكون التَّقدير: ركوعي وسجودي لمن هو سبُّوح، قدُّوس، ربّ الملائكة والروح.
فأنت حينما تركع وتقول: سبُّوح، قدُّوس بعضُهم يقول: التَّقدير إذا كنتَ راكعًا: ركوعي لمن هو سبُّوح، قدُّوس. وإذا كنتَ ساجدًا: سجودي لمن هو سبُّوح، قدُّوس، ربّ الملائكة والروح. فهذا قاله بعضُ أهل العلم.
وبعضهم قدَّره: أنت سبُّوح، قدُّوس، ربّ الملائكة والروح. وبعضهم يقول غير هذا من التَّقديرات، لكن كلّ ذلك يدلّ -كما سبق- على التَّنزيه، فهو مُنَزَّهٌ عن كل عيبٍ ونقصٍ في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله -تبارك وتعالى-، فإذا سبَّحت الله فإنَّك تكون قد نزَّهتَه من كل العيوب والنَّقائص، وما لا يليق بجلالته وعظمته.
فإذا فرّقنا بينهما قلنا: التَّسبيح بمعنى: التَّنزيه، والتَّقديس: تطهيرٌ مع التَّعظيم، طاهرٌ من كل عيبٍ، ومُنَزَّهٌ عن كل نقصٍ وما يُستقبح.
وبعضهم يقول: إنَّ "سبُّوح، قدُّوس" يعني: المسبِّح المقدِّس، وكأنَّ سبُّوح، قدُّوس مُسَبِّح، مُقَدِّس، ربّ الملائكة والروح، فجاء بها على وزن (فعول) يعني: مُبالغة: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [الجمعة:1]، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، فكل ما في هذا الكون يُنَزِّه الله عن كلِّ ما لا يليق بجلاله وعظمته من كلِّ ما يكون نقصًا وعيبًا، والله -تبارك وتعالى- يُوصَف بأنَّه سبُّوح، ويُوصَف بأنه قدُّوس.
والسبوح عدَّه جماعةٌ من أهل العلم من أسماء الله ، فإنَّ أكثر الذين تكلَّموا في أسماء الله -تبارك وتعالى- ذكروه في جملة الأسماء الحسنى، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[2]، وقبله ابن منده[3]، والبيهقي[4]، والإمام الأصبهاني صاحب "الحجّة"[5]، وخلق كثير، ومن المتأخّرين الشيخ محمد الصَّالح العثيمين -رحم الله الجميع-[6]، فهؤلاء كلّهم عدُّوا ذلك من جملة الأسماء الحسنى، ولم يرد فيه فيما أعلم إلا هذا الحديث: سبُّوح، قدُّوس، وقد ذكرنا في مُقدمات الأسماء الحسنى ما يُعدّ من جملة الأسماء، وأنَّ بعضَهم اشترط فيه الإطلاق والتَّعريف؛ ولهذا فإنَّ القدُّوس بالاتِّفاق من أسماء الله الحسنى: الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ [الحشر:23] في آخر سورة الحشر، فهذا بالاتِّفاق من أسماء الله ، والعلماء متَّفقون عليه، بخلاف السُّبوح: هل هو من أسماء الله، أو لا؟ لكن الأكثر أثبتوه.
وابن قتيبة -رحمه الله- يقول بأنَّ "القدُّوس" من القدس، والقدس هو الطَّهارة[7]، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: القدُّوس: المستحقّ للتَّنزيه عن السُّوء[8]. كما قلتُ بأنَّ ذلك يرجع إلى معنى التَّنزيه، لكن ما الفرق؟
يقول شيخُ الإسلام: وهو سبحانه سبُّوح، قدُّوس، يُسبِّح له ما في السَّماوات والأرض[9].
وهذا كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- في الكلام على الأسماء الحسنى، وفي الكلام على القدُّوس، السَّلام، فبينهما أيضًا مُشابهة في المعنى؛ ولذلك اختلفت عبارات العلماء في الفرق بين القدُّوس والسَّلام؛ فبعضهم فسَّر القدُّوس: الطَّاهر من كل عيبٍ ونقصٍ، والسَّلام: السَّالم من كل عيبٍ ونقصٍ، والمعنى مُتقارب.
وبعضهم أرجع ذلك إلى التَّنزيه مطلقًا، فجعلوا الأول للتَّنزيه في الماضي، والثاني للتَّنزيه في المستقبل والحاضر.
فعلى كل حالٍ، هنا أيضًا يتقارب القدُّوس مع السبُّوح.
والروح الروح فُسّر بأنَّه ملكٌ من الملائكة، وفُسّر بأنَّه جبريل -عليه الصلاة والسلام-، فعلى هذين التَّفسيرين يكون هذا من قبيل عطف الخاصِّ على العامِّ: ربّ الملائكة والروح، فيكون خصَّ الروحَ لشرفه ومنزلته ومكانته وعظيم قدره، هذا على هذا التَّفسير أنَّه مَلَكٌ، سواء قيل: جبريل أو لا.
وقد مضى الكلامُ في رمضان على ذلك في تفسير: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ [النبأ:38]، وذكرنا أقوال أهل العلم فيه.
فهذا الاسم (الروح) بعضُهم يقول بأنَّه أرواح بني آدم: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ يعني: الأرواح يوم القيامة، وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ، الكل خاضعٌ لعظمة الله في ذلك اليوم.
وبعضهم يقول: الروح هو القرآن؛ لأنَّ الله وصفه بذلك: أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]؛ لأنَّه لا حياةَ للأرواح إلا به: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ، هل معناه: يقوم القرآن؟ هذا فيه بُعْدٌ، وهذا ذُكر في جملة الأقوال في الآية: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ.
وأما هنا: ربّ الملائكة والروح، فإذا فُسّر الروحُ بالقرآن في هذا الحديث؛ فإنَّ "ربّ" يكون بمعنى: صاحب؛ لأنَّ القرآنَ كلامُ الله، وكلامه صفةٌ من صفاته، ليست بمخلوقةٍ، فالربّ يأتي بمعنى صاحب الشَّيء؛ لأنَّ الله هو الذي تكلَّم به، لكن هذا التَّفسير فيه بُعْدٌ -والله تعالى أعلم.
وأبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- لما ذكر هذه الأقوال لم يُرجِّح، فقال: "والصَّواب من القول أن يُقال: إنَّ الله -تعالى ذكره- أخبر أنَّ خَلْقَه لا يملكون منه خطابًا يوم يقوم الرُّوح، والرُّوح خَلْقٌ من خَلْقِه، وجائزٌ أن يكون بعض هذه الأشياء التي ذُكِرَتْ، والله أعلم أيّ ذلك هو، ولا خبر بشيءٍ من ذلك أنَّه المعنيّ به دون غيره يجب التَّسليم له، ولا حُجَّة تدلّ عليه، وغير ضائرٍ الجهل به"[10].
يقول: ما عندنا خبرٌ، ولا نقلٌ، ولا نصٌّ يدل على تخصيص أحد هذه المعاني، لكن ابن كثير -رحمه الله- لما نقل توقف ابن جرير في ترجيح أحد المعاني في الآية، قال: "والأشبه -والله أعلم- أنَّهم بنو آدم"[11]، يعني: أرواح بني آدم؛ لقوله: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ.
هنا في هذا الحديث: ربّ الملائكة والروح، يحتمل أن يكون المرادُ جبريل ﷺ: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا [مريم:17]، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ [النحل:102]؛ لأنَّه يأتي بالوحي الذي به حياة الأرواح، فقيل له: الروح، كما يقول بعضُ أهل العلم، ففسّر: سبُّوح، قدُّوس، ربّ الملائكة والروح بجبريل ﷺ، أو ملك من الملائكة -كما سبق-؛ فيكون من قبيل عطف الخاصِّ -ملك معين- على الملائكة؛ لأنَّه واحدٌ منهم: ربّ الملائكة بما فيهم الروح جبريل ﷺ، لكنَّه ذكره، مثل: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، خصَّها لأهميتها.
ويحتمل أنَّ المراد بـربّ الملائكة والروح الأرواح المخلوقة، وكأنَّ الأقربَ -والله أعلم- أنَّ المقصودَ بالروح هو جبريل -عليه الصلاة والسلام-.
هذا ما يتعلق بهذا الذكر الذي يُقال في الركوع والسُّجود، فهذا لو أنَّ أحدًا استقلَّ به في ركوعه وسجوده، فإنَّه يُجزئه -إن شاء الله-، ولو قاله مع قوله: سبحان ربي العظيم[12] فلا بأس بذلك، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم: كتاب الصَّلاة، باب ما يُقال في الركوع والسجود، برقم (487).
- "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (2/383).
- "كتاب التوحيد" (2/137).
- "الأسماء والصفات" للبيهقي (1/103).
- "التوحيد ومعرفة أسماء الله -عزَّ وجلَّ- وصفاته على الاتفاق والتَّفرد" للأصبهاني (ص136).
- "القواعد المثلى" (ص19).
- "غريب القرآن" لابن قتيبة، ت. أحمد صقر (ص8).
- "جامع الرسائل" لابن تيمية - رشاد سالم (1/129).
- "جامع الرسائل" لابن تيمية - رشاد سالم (1/129).
- "تفسير الطبري = جامع البيان" ت. شاكر (24/177).
- "تفسير ابن كثير" ت. سلامة (8/310).
- أخرجه ابن ماجه: كتاب إقامة الصَّلاة والسُّنة فيها، باب التَّسبيح في الركوع والسجود، برقم (888)، وصححه الألباني، وهو بنحوه في مسلم برقم (772).