الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
في هذه الليلة نشرع في شرح الحديث والذكر الأخير مما يُقال في الركوع؛ وذلك ما جاء من حديث عوف بن مالك قال: قمتُ مع رسول الله ﷺ ليلةً، فلمَّا ركع مكث قدر سورة البقرة يقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة. هذا الحديثُ أخرجه أبو داود([1]، والنَّسائي[2]، وإسناده صحيحٌ.
وفي روايةٍ لأبي داود يقول عوفٌ : "قمتُ مع رسول الله ﷺ ليلةً، فقرأ سورة البقرة، لا يمرّ بآية رحمةٍ إلا وقف فسأل، ولا يمرّ بآية عذابٍ إلا وقف فتعوَّذ، ثم ركع بقدر قيامه"[3]، كذا أيضًا في رواية النَّسائي: "بقدر قيامه"[4]، قام بسورة البقرة، فركع بقدرها يُردد -عليه الصَّلاة والسَّلام- هذا الذكر: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، فحينما يبقى ﷺ هذه المدّة الطَّويلة بقدر سورة البقرة، ومعلومٌ أنَّ سورةَ البقرة تُقرأ في قراءةٍ بحدرٍ قريبٍ من الاعتدال في القراءة، من غير إسراعٍ كثير، ومن غير ترسُّلٍ، تُقرأ فيما يقرب من ساعةٍ إلا عشرًا، في خمسين دقيقة تقريبًا.
فهذا ركوعٌ واحدٌ في حدود ساعةٍ إلا عشرًا، فما مقدار السُّجود الأول والثاني والجلسة بين السَّجدتين؟ وكذلك أيضًا الركوع الثاني؟ وهذه الصَّلاة في ركعتين ما مقدارها؟ كم تبلغ؟ إذا كان الركوعُ بهذه الحدود: ساعة إلا عشرًا تقريبًا، ركوعٌ واحدٌ.
بهذا يُقارن الإنسانُ بين حاله وحال النبي ﷺ، وقد غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، نحن في رمضان وفي غير رمضان ما أطول ركوعٍ ركعتَه؟ يستعيد الإنسانُ ذاكرتَه: هل قارب ذلك، أو قارب عُشْر ذلك؟ فالآخرة تحتاج إلى عملٍ، وكما سمعتُم في قول الله -تبارك وتعالى-: فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى [النازعات:34-36]، فتبقى النَّجاةُ مُترتِّبةً على الإيثار: فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37-41].
فإيثار الآخرة على الدنيا يحتاج إلى صبرٍ ومُجاهدةٍ وعملٍ وسعيٍ للآخرة: إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [النبأ:40].
فهذه عبادة النبي ﷺ، فلنقلب أعمالنا وما نحن عليه في عباداتنا، ونسأل الله أن يرحمنا، وأن يتجاوز عنا، وأن يُعيننا على ذكره وشُكره وحُسن عبادته.
هذا الحديث -أيّها الأحبّة- كما هو ظاهرٌ هو في قيام الليل، ومن ثم فإنَّ هذا الذكر يُشرع في قيام الليل، لكن لو أنَّ أحدًا قاله في الفريضة، فإنَّ ذلك لا يحتاج منه إلى سجود سهوٍ، أو يُقال: إنَّ هذا مما يُؤاخذ عليه الإنسان؛ لأنَّه ذكرٌ يُقال في الركوع، ولكن قاله ﷺ في قيام الليل، فنحن نقوله في صلاة الليل.
فقوله: سبحان ذي الجبروت عرفنا معنى التَّسبيح، وأنَّه بمعنى التَّنزيه، يُسبح الله ويُبرئه ويُنزهه من كل عيبٍ ونقصٍ.
سبحان ذي الجبروت يعني: صاحب الجبروت، والجبروت هذه صفةٌ ثابتةٌ لله -تبارك وتعالى-، دلَّ عليها اسمه الجبار، وقد مضى الكلامُ على هذا الاسم الكريم ضمن الأسماء الحسنى التي نذكرها في مجالس في هذا المسجد.
فهنا كما قال الله -تبارك وتعالى- في آخر سورة الحشر: الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر:23]، وفي حديث عوف بن مالكٍ أيضًا إثباتٌ لهذه الصِّفة، فالاسم "الجبار" ثابتٌ في كتاب الله ، وفي سنة رسوله ﷺ، وهو من الأسماء المجمَع عليها.
ويدلّ على ذلك أيضًا من سنة رسول الله ﷺ حديثُ أبي سعيدٍ الخدري في رؤية الله -تبارك وتعالى- في أرض المحشر، وفيه: فيأتيهم الجبَّار في صورةٍ غير صورته التي رأوه فيها أول مرةٍ، وهو مُخرَّجٌ في "صحيح البخاري"[5].
وهذه الصِّفة (الجبروت) فسَّرها بعضُ أهل العلم بمعنى: التَّعظّم، أنَّ الجبَّار هو العظيم، وفسَّره بعضُهم بغير هذا، وقد ذكرنا أنَّ الجبَّار يدل على صفةٍ، يتضمّن صفةَ الجبروت، وأنَّ هذه الصِّفة تجمع معانٍ، وهذه المعاني صحيحة، وهي ثابتةٌ لله ، وقد جمع الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- ثلاثةً منها، أذكر ذلك تذكيرًا بها؛ لأنَّ هذا مضى في الكلام على اسمه الجبَّار، يقول:
وَكَذَلِكَ الْجَبَّارُ من أَوْصَافِه | والجبر فِي أَوْصَافه قِسْمَانِ[6] |
ثم ذكر الأوَّل:
جبر الضَّعِيف وكلّ قلبٍ قد غَدَا | ذَا كسرةٍ فالجبر مِنْهُ دَانِ[7] |
يعني: الذي يجبر الضَّعيف، ويجبر القلوب المنكسرة، ومن هنا يُقال: جبر الكسر، وتجبير الكسور، فالله يجبر الضَّعيف، ويجبر المصاب؛ ولذلك إذا أردنا أن نُعزي أحدًا، أو نحو ذلك، نقول: جبر اللهُ مُصابَكم، وجبر الله قلوبَكم، ونسأل الله أن يجبركم على هذه المصيبة، هذا معنى الجبر.
والثاني يقول ابنُ القيم:
وَالثَّانِي جبر الْقَهْر بالعزِّ الَّذِي | لَا يَنْبَغِي لسواه من إنسانِ[8] |
وهذا هو المتبادر، وهو أشهر معانيه، الذي هو معنى القهر والعزّ والسُّلطان، يقول:
وَله مُسَمًّى ثَالِثٌ وَهُوَ الْعُلُوّ | فَلَيْسَ يدنو مِنْهُ من إنسانِ |
من قَولهم: جبارَة للنخلة الْـ | عُليا الَّتِي فَاتَت لكل بنانِ[9] |
يقال: نخلة جبارة، يعني: طويلة، عالية، لا تنالها الأيدي.
فالعلو صفةٌ ثابتةٌ لله -تبارك وتعالى-، فالجبَّار يشمل هذا جميعًا: فهو أولاً الذي يجبر ضعف الضُّعفاء، ويجبر القلوبَ المنكسرة، وكذلك أيضًا هو قهَّار، قد دان لعظمته كلُّ شيءٍ، وخضع كلُّ مخلوقٍ لجبروته وقُدرته وقهره وقوّته وعزّته وسُلطانه.
والمعنى الثالث: أنَّه العلي الأعلى بذاته فوق جميع خلقه، له علو الذَّات والقدر والقهر والمنزلة، فجميع أنواع العلو ثابتةٌ لله -تبارك وتعالى-.
وذكر بعضُ أهل العلم -كالشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله- معنًى رابعًا، وهو: "وهو المتكبِّر عن كلِّ سوءٍ ونقصٍ، وعن مُماثلة أحدٍ، وعن أن يكون له كفؤٌ أو ضدٌّ أو سميٌّ أو شريكٌ في خصائصه وحقوقه"[10]، أو نحو ذلك.
والذي يظهر -والله أعلم- أنَّ هذا المعنى يرجع إلى معنى العلو، يعني: أنَّه المتعالي عن كلِّ عيبٍ ونقصٍ.
والملكوت الملكوت هنا من الملك، والملك صفةٌ ثابتةٌ لله -تبارك وتعالى-، ومن أسمائه: الملك، والمليك كذلك: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ [آل عمران:26]، وفي سورة الفاتحة: (ملك يوم الدين) ومَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:55].
وكذلك في قوله -تبارك وتعالى- في آخر سورة الحشر: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ [الحشر:23]، وهو ثابتٌ أيضًا في سنة رسول الله ﷺ، كما في الحديث المشهور؛ حديث أبي هُريرة : يقبض اللهُ الأرضَ، ويطوي السَّماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟، وهو مُخرَّجٌ في "الصَّحيحين"[11]، وهذا الحديث الذي بين أيدينا أيضًا: سبحان ذي الجبروت والملكوت فيه إثبات صفة الملك.
وملك الله -تبارك وتعالى- وملكوته فُسِّر بسُلطانه وعظمته، والملك كما قلنا في مناسبات سابقة: بأنَّه التَّصرف المطلق من غير قيدٍ؛ ولهذا أيضًا فُسّر بالعزِّ والسُّلطان.
وقال ابنُ عباسٍ: "الجبار هو العظيم، وجبروت الله عظمته"[12]، والجبار من أسماء الملوك، والجبر الملك، والجبابرة الملوك، فهذه الأسماء بينها نوع ارتباطٍ.
وهذه التاء الدَّاخلة على هذه الصِّفات: (الجبروت)، (الملكوت) أهل اللغة يقولون: إنها زائدة، وتدلّ أيضًا على المبالغة، (فعلوت) هذا للمُبالغة، فيقولون: رهبوت من الرّهبة، ورغبوت من الرّغبة، ورحموت من الرّحمة، ونحو ذلك، وهي ألفاظ محدودة، معدودة، قليلة عند العرب، قد دخلت عليها التاء، وذلك البناء يدلّ على المبالغة.
والكبرياء الكبر فُسِّر بالعظمة، وقد مضى الكلامُ على اسمه -تبارك وتعالى- المتكبر، وفي الحديث: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري[13]، وهذا الحديث يدلّ على أنَّ العظمةَ غير الكبرياء، وأنَّ الذين فسَّروا الكبرياء بالعظمة فسَّروه بمعنى يُقاربه، ولكنَّه لا يُطابقه، وإنما التَّكبر هو بمعنى التَّرفع والتَّعالي، وهذا يقتضي التَّعاظم والعظمة، فإنَّ ذلك من مُقتضياته ولوازمه -والله تعالى أعلم-.
فالله -تبارك وتعالى- قد تكبَّر وتعالى عن كلِّ عيبٍ ونقصٍ، وعن مُشابهة أو مُماثلة أحدٍ من خلقه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].
فهذا كِبرياؤه -تبارك وتعالى-، بمعنى: أنَّه مُترفِّعٌ، مُتعالٍ، وهذا يقتضي التَّعاظم، فإنَّ الذي يتكبر يكون مُتعاظمًا ولا بدَّ، ومن هنا فسَّره بعضُهم بالعظمة، أو بالتَّعاظم؛ ولذلك جاء في هذا الحديث الآخر: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري.
ذي الجبروت والملكوت والكِبرياء والعظمة يعني: صاحب الجبروت، والملكوت، والكِبرياء، والعظمة، فهو حينما يركع ويحني ظهرَه يُعظِّم الله بهذا الفعل وهذه الهيئة (الركوع)، وأيضًا بالقول الذي يليق بهذا المقام، فهو يقول مُعظِّمًا لربِّه وخالقه ، ويُنزِّهه عن كل عيبٍ ونقصٍ، وعمَّا يصفه به الواصفون مما لا يليق بجلاله وعظمته: سبحان ذي الجبروت الجبَّار، والملكوت صاحب الملك، فالأول الجبَّار قلنا: يدل على العلو والقهر، وجبر القلوب الضَّعيفة، وإن كان الأوفقُ للمعنى هنا في هذا المقام مع ذكر العظمة والملك والكِبرياء أن يكون بمعنى: القهر والعلو.
ذي الجبروت والملكوت والكِبرياء والعظمة فمَن كان متَّصفًا بهذه الأوصاف، فإنَّه حقيقٌ بأن تخضع النفوس والأبدان لعظمته -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-، فمَن كان صاحب جبروتٍ وملكوتٍ وكبرياء وعظمة فهذا الذي تخضع له الرِّقاب، وتنحني له الأعناق، وتخضع له النُّفوس .
هذا ما يتعلَّق بهذا الحديث.
وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإيَّاكم بما سمعنا، وأن يجعلنا هُداةً مُهتدين.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا.
ربنا اغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين.
اللهم أعنَّا على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود: باب تفريع أبواب الركوع والسُّجود، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم (873)، وصححه الألباني.
- أخرجه النَّسائي: كتاب التَّطبيق، نوع آخر من الذكر في الركوع، برقم (1049)، وصححه الألباني.
- أخرجه أبو داود: باب تفريع أبواب الركوع والسُّجود، باب ما يقول الرجلُ في ركوعه وسجوده، برقم (73)، وصححه الألباني.
- أخرجه النَّسائي: كتاب التَّطبيق، برقم (1132)، وصححه الألباني.
- أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23]، برقم (7439).
- "توضيح المقاصد شرح الكافية الشافية = نونية ابن القيم" (2/232).
- "توضيح المقاصد شرح الكافية الشافية = نونية ابن القيم" (2/232).
- "توضيح المقاصد شرح الكافية الشافية = نونية ابن القيم" (2/232).
- "توضيح المقاصد شرح الكافية الشافية = نونية ابن القيم" (2/232).
- "تفسير أسماء الله الحسنى" للسعدي (ص177).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، برقم (4812)، ومسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، برقم (2787).
- "تفسير البغوي" ط. إحياء التراث (5/67).
- أخرجه أبو داود: كتاب اللباس، باب ما جاء في الكبر، برقم (4090)، وابن ماجه: كتاب الزهد، باب البراءة من الكِبر والتَّواضع، برقم (4174)، وأحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (8894)، وصححه الألباني.