بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
فلا زال الحديثُ متَّصلاً بشرح التَّشهد وما يُقال فيه، وقد مضى الكلامُ على قوله: التَّحيات لله، والصَّلوات، والطَّيبات ...، وفي هذه الليلة -إن شاء الله- نتكلم على قوله: السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين[1].
وفي الكلام على دُعاء دخول المسجد أو الذكر الذي يُقال عند دخول المسجد ذكرنا هناك أنَّ السلام على النبي ﷺ ثابتٌ من قوله: "فليُسلِّم على النبي ﷺ"، وأنَّ الصَّلاةَ عليه ﷺ عند الدُّخول إلى المسجد؛ أنَّ ذلك ثابتٌ من فعله، فيُجمع بينهما.
وذكرتُ هناك أنَّ الكلامَ على السلام يأتي مُفصَّلاً -إن شاء الله- في الكلام على التَّشهد، وكان اللائقُ في هذا الموضع أن أُبين المراد بذلك بصورةٍ غير مجملةٍ، لا كما ذكرتُه هناك.
فهذا السَّلام حينما نقول: السَّلام عليك أيّها النبي، وحتى حينما يُسلم المسلمُ على أخيه، يقول: السَّلام عليكم. فهذا ما المراد به؟ هذا يحتمل معنيين -كما سيأتي-، لكن قبل ذلك أصل هذه المادة في كلِّ تصرفاتها تدلّ على السَّلامة، والخلاص، والبراءة، والنَّجاة من الشُّرور، والعيوب، والآفات، والنَّقائص، كل الاستعمالات هذه لمادة: السين، واللام، والميم، في كل استعمالاتها، وهذا بابٌ يطول شرحه، لكن يكفي أن نعرف هذا المقدار.
ومهما أتيت به من لفظ: السّلم، والسّلام، والسّلامة، والمسالمة، وما إلى ذلك؛ فهو يرجع إلى هذا المعنى بوجهٍ أو بآخر.
ومَن شاء أن ينظر في تفاصيل كثيرةٍ، وأمثلةٍ طويلةٍ؛ فلينظر فيما ذكره الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- في "بدائع الفوائد" على سبيل المثال، وإلا فقد تكلّم على هذا أيضًا في كتابه الآخر "أحكام أهل الذّمة".
فإذا أدركنا هذا المعنى الذي ترجع إليه، فإنَّ ذلك يُقال حينما ننظر إلى هذا الاسم الكريم من أسماء الله -تبارك وتعالى-: السلام، فهو أحقّ بهذه المعاني، والله -تبارك وتعالى- سالـمٌ من كل عيبٍ ونقصٍ بذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، كلّ ذلك حقٌّ ثابتٌ، فهو كاملٌ من كل وجهٍ، وهو أحقّ بهذا الاسم؛ يعني: السَّلام[2].
سالـمٌ من الصَّاحبة والولد، سالـمٌ من الشَّريك، سالـمٌ من ظلم العباد، سالـمٌ من الكفؤ، والنَّظير، والمثيل، وقلْ ما شئتَ من هذه الأمور التي تكون عيبًا ونقصًا، فإنَّ الله -تبارك وتعالى- سالـمٌ منها جميعًا، فإذا قال المسلِّمُ: "السلام عليك"، فهذا يحتمل أن يكون المعنى أو المراد؛ يعني: هذا الاسم الكريم من أسماء الله -تبارك وتعالى-، يعني: "السَّلام عليكم"، أنَّك تُلقي هذا الاسم على المسلَّم عليه؛ يعني: نزلت بركةُ اسمه عليكم، حلَّت عليكم، ونحو هذا، واختير هذا الاسمُ من بين سائر الأسماء؛ لكونه يدلّ على السَّلامة.
والنبي ﷺ قال: لا تقولوا: السَّلام على الله؛ فإنَّ الله هو السَّلام، ولكن قولوا: السَّلام عليك أيُّها النبي إلى آخره، السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين[3]، فهذا حينما يُقال "السلام" هو الله، فهذا يُؤيد أنَّ هذا الاسم الكريم هو المقصود بهذه التَّحية، فكيف تقول: "السلام على الله"؟! فالله هو السَّلام، فهذا نظرٌ صحيحٌ، ولكن أيضًا هناك نظرٌ آخر صحيحٌ يأتي بيانه في المعنى الآخر الذي تحتمله هذه التَّحية.
فالله -تبارك وتعالى- هو السَّلام، وحينما يُسلَّم عليه فهو السَّلام، فإذًا هذا لا يصحّ، وكذلك لو قصد به الدُّعاء، فإنَّه هو الذي يُسلِّم غيره، وتُطلب السَّلامة منه، ولا تتحقق إلا من عنده، فكيف تُطلب له السَّلامة، ويُدْعَى بذلك؟!
فالله -تبارك وتعالى- هو المطلوب منه، لا المطلوب له، هو المدعو، لا المدعو له، ومن ثم فلا يصحّ أن يُسلَّم عليه، بل هو المسلِّم على عباده: وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات:181]، وسلامٌ من الله -تبارك وتعالى- كما قال: سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات:109]، سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ [الصافات:79]، وَسَلَامٌ عَلَيْهِ [مريم:15]، قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ [هود:48]، ويُسلِّم عليهم أيضًا يوم القيامة: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ [الأحزاب:44] من المعاني الداخلة تحته، أو يحتمل أنَّ الله -تبارك وتعالى- يُحيِّهم بذلك يوم يلقونه، يُحيِّهم بالسَّلام: سَلَامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58].
وعلى هذا المعنى إذا قال المسلِّم: السَّلام عليكم؛ يعني: كان المعنى اسم: السلام عليكم -عند هؤلاء-، هذا الاسم فيه دلالة على السَّلامة، فكان هو المناسب في هذا المقام.
القول الآخر: أنَّ السَّلام مصدرٌ بمعنى: السَّلامة، وأنه هو المقصود عند التَّحية؛ أنَّك تطلب للمُسلَّم عليه السَّلامة، تدعو له بها.
وهؤلاء حينما يحتجُّون لهذا المعنى يقولون: يدلّ عليه أنَّك تقول: سلامٌ عليكم، وأمَّا الاسم الكريم لله -تبارك وتعالى- فهو بـ(أل): السلام.
ولاحظوا في هذه الآيات السَّابقة: وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ، فدلَّ على أنَّ المقصود المصدر؛ يعني: التَّسليم، فيكون ذلك طلبًا للسَّلامة له، ولو كان المقصودُ الاسم الكريم لدخلت عليه "أل".
ثم يدلّ على ذلك أيضًا -أنَّ المقصودَ السَّلامة- أنَّه عُطفت عليه رحمة الله وبركاته: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فهذا عطف عليه هذه المصادر: الرحمة، والبركات، مصدران؛ فدلَّ على أنَّ ما قبلهما مصدرٌ، فهي ثلاثة مصادر: السلام؛ بمعنى: السَّلامة، والرحمة، والبركات، فهذه قرينةٌ تدلّ على ذلك.
وكذلك أيضًا لو كان هذا، لو كان المرادُ الاسم الكريم لاحتاج ذلك إلى تقديرٍ، حينما يُقال: السَّلام؛ يعني: بركة هذا الاسم، ونحو ذلك مما يُقدِّرونه، والأصل عدم التَّقدير؛ يعني: من المرجّحات أنَّ الكلام إذا احتمل التَّقدير، أو احتاج إلى التَّقدير على وجهٍ، واستغنى عنه على وجهٍ آخر يصحّ، فعدم التَّقدير أولى، فحينما نقول: إنَّ ذلك بمعنى: السَّلامة، هذا لا يحتاج إلى تقديرٍ.
وأيضًا حينما نقول: السَّلام عليكم، ماذا نُريد بإلقاء السَّلام على الآخرين؟
المقصود بذلك الإيذان بالسَّلامة، والإخبار بها؛ يعني: أنت تقول لهذا الذي تلقاه في أول اللِّقاء، وعرفنا أنَّ التَّحية: ما يُقال في أول اللِّقاء، تقول له: السَّلام عليكم، تُلقي عليه السَّلام، فأنت من جهةٍ تُؤمّنه أنَّه لا يصل إليه منك مكروهٌ، وتدعو له بالسَّلامة من الشُّرور والآفات، وما إلى ذلك، فهذا كلّه مقصودٌ ومُرادٌ، بخلاف ما لو قال: السَّلام عليكم؛ يعني: هذا الاسم الكريم. فهذا بعض ما يحتجّ به أصحابُ هذا القول.
وكذلك أيضًا يمكن أن يُقال بأنَّ هذا السَّلام حينما يُلقيه على غيره، ويردّ الآخر: وعليكم السَّلام ورحمة الله، فهذا أمانٌ من الجهتين: يُؤمِّنه، والآخر أيضًا يردّ عليه بالمثل، فهو مصدرٌ بمعنى: السَّلامة، وحُذفت تاؤه: السَّلامة؛ لأنَّ المطلوبَ هذا الجنس، لا المرة الواحدة، ليست سلامةً واحدةً، وإنما سلامٌ دائمٌ ثابتٌ على هذا المسلَّم عليه.
لكن الحافظ ابن القيم -رحمه الله- كما أشرتُ في بعض المناسبات جمع بين القولين، قال: كلا القولين حقٌّ، وأنَّه يلتئم منهما معنًى صحيحٌ. فيجمع بينهما، وأنَّ الصَّوابَ في مجموعهما؛ وذلك أنَّ مَن دعا الله تعالى بأسمائه الحسنى، فإنَّ الأدبَ اللَّائق في هذا المقام أن يسأل في كلِّ مطلوبٍ بما يُناسبه من الأسماء: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، فإذا كنت تُريد الرزقَ تقول: يا رزَّاق، وإن كنت تُريد المغفرة: يا غفور، الرحمة: يا رحيم، وإذا كان يُريد السَّلامة فالمناسِب أن يذكر هذا الاسم الكريم في هذا المقام[4].
وهذا مقام دعاءٍ بالسَّلامة، فالذي يُناسِب معه اسم الله -تبارك وتعالى-: السَّلام، فيتوسّل إليه في هذا المطلوب بهذا الاسم الكريم، ويكون ذلك لائقًا ومُناسبًا للمقام، هذا مقام طلب سلامةٍ، وهذه السَّلامة هي أهمّ ما عند الإنسان، فجاءت بهذه الصِّيغة، صيغة اسمٍ من أسماء الله -تبارك وتعالى-، وهو السَّلام الذي تُطلب منه السَّلامة، فتضمّن لفظ "السلام" معنيين:
الأول: أنَّه ذكرٌ لله -تبارك وتعالى-، ذكر هذا الاسم؛ ولهذا فإنَّ النبي ﷺ عدَّه من الذكر؛ يعني: السَّلام، وكره أن يُذكر الله إلا على طهرٍ.
والمعنى الثاني: وهو طلب السَّلامة، وهو مقصود المسلِّم، فصارت هذه التَّحيةُ مُتضمّنةً للأمرين معًا.
هذا فيما يتعلَّق بالمعنى حينما نقول: السَّلام عليكم[5]، وهذا حاصل ما ذكره الحافظُ ابن القيم في كلامٍ طويلٍ وتفصيلٍ يُرجع إليه في موضعه، وهو أحسن ما وقفتُ عليه في هذا الباب من كلام الشُّراح، وإنما هو شيءٌ يسير مما ذكره وقرَّره -رحمه الله- في شرح هذا المعنى، وأورد فيه أكثر من عشرين سؤالاً، أكثر من عشرين مسألةً تتعلق بالسَّلام في بحثٍ طويلٍ.
ومن ذلك: الحكمة في تسليم الله -تبارك وتعالى- على أنبيائه ورسله، والسَّلام هو طلبٌ ودعاءٌ، فكيف يُتصور من الله -تبارك وتعالى-؟!
نقول: اللهم صلِّ وسلِّم، فإذا سلَّم الله على رسوله سلم، إذا قلنا: هو دعاءٌ بالسَّلامة، طلب السَّلامة، فالله هو السَّلام، وهو الذي يُسلِّم عبادَه، فما وجه الطَّلب هنا؟ الله هو الغني، وكلّ ما سواه فهو فقيرٌ، فهذا الطَّلب كيف يُوجَّه؟
فأجاب عن هذا الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- بأنَّ الطلبَ يتضمن ثلاثة أشياء: يتضمّن الطالب، والمطلوب، والمطلوب منه. وأنَّ حقيقةَ الطلب لا تتمّ إلا بهذا[6]، فإذا قلنا: اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمدٍ، فالعبد طالبٌ، والله مطلوبٌ منه، والسَّلامة أو التَّسليم هو المطلوب.
طيب، حينما يصدر ذلك عن الله -تبارك وتعالى-؛ يُسلِّم على عبده، هنا طلب السَّلامة، ففي هذه الحال ماذا يُقال في المطلوب منه؟
المطلوب منه هو نفسه ؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يُوجِب على نفسه ما شاء، ويكتب على نفسه ما شاء: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12]، إني حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي[7]، لا مُعَقِّبَ لحكمه، ولا رادَّ لقضائه -تبارك وتعالى-، ومن ثم فإنَّ السَّلامة تُطلب من الله -تبارك وتعالى-، وهو يُسلِّم على عباده؛ بمعنى: أنَّ ذلك يصدر عنه لمن شاءه من هؤلاء العباد؛ فتحصل لهم السَّلامة.
ومن ثم فالحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: فكما يعقل أن يكون المريدُ يُريد من نفسه، فكذلك يطلب من نفسه، والمقصود أنَّ طلبَ الحيّ من نفسه أمرٌ معقولٌ، يعلمه كلُّ أحدٍ من نفسه.
وأيضًا فمن المعلوم أنَّ الإنسان يكون آمرًا لنفسه، ناهيًا لنفسه: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40]، ينهى نفسه: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53]، فهي تأمر صاحبها، الإنسان يأمر نفسَه، وينهى نفسَه، هذا بالنِّسبة للمخلوق[8]:
ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها | فإذا انتهَتْ عنه فأنت حكيمُ[9] |
يقول: فإذا كان معقولاً أنَّ الإنسانَ يأمر نفسَه وينهاها، والأمر والنَّهي طلبٌ، مع أنَّ فوقه آمرًا وناهيًا، وهو الله ، فكيف يستحيل ممن لا آمرَ فوقه ولا ناهٍ أن يطلب من نفسه فعل ما يُحبّه، وترك ما يبغضه؟!
يقول: إذا عرف هذا عرف سرَّ سلامه -تبارك وتعالى- على أنبيائه ورسله، وأنَّه طلب من نفسه لهم السَّلامة[10].
أيضًا من المسائل ما يتعلّق بالحكمة في اقتران الرحمة والبركة بالسَّلامة: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإذا جمعنا هذه الأشياء الثلاثة في التَّحية؛ فإنَّها تكون مُستوفاةً، فالإنسان لا سبيلَ له إلى انتفاعه بالحياة إلا بثلاثة أشياء:
الأول: السَّلامة من الشُّرور والآفات؛ يعني: كلّ ما يُضادّ الحياة؛ الأمراض التي تنتابه، وما يعرض له مما يكون نقصًا في حياته، وعارضًا يعرض لها؛ فيُكدّر عليه عيشَه، فيحتاج إلى سلامةٍ من هذا، وإلا لكدِّر عليه العيشُ وتنغَّص.
ثم يحتاج إلى أمرٍ آخر: وهو حصول الخير له.
ثم يحتاج إلى أمرٍ ثالثٍ: وهو دوام هذا الخير وثباته.
بهذه الثلاثة يحصل له كمال الانتفاع بالحياة، فجاءت هذه التَّحية مُتضمنةً للثلاثة، فإذا قلت: سلامٌ عليكم، هذا تضمّن السَّلامة من الشُّرور، والنَّقائص، والآفات. وإذا قلتَ: ورحمة الله، تضمّن حصول الخير له، الرحمة، وإذا قلت: وبركاته، فالبركات تدلّ على الدَّوام والثُّبوت؛ ثبوت هذه الرحمة والخير والبركة له، فإنَّ البركةَ هي كثرة الخير، واستمراره، ودوامه.
فهنا لما كانت هذه الثلاثة مطلوبةً لكل أحدٍ، بل هي مُتضمنة لكلِّ مطالبنا، وكل المطالب فهي دونها، ووسائل إليها، وأسباب لتحصيلها، كما يقول الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-؛ جاء لفظ التَّحية دالاً عليها جميعًا هذه المطالب الثلاثة بالمطابقة[11]، هذا إذا قلناها جميعًا: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذه دلالة بالمطابقة على هذه المطالب الثلاث، فإذا اقتصرنا على بعضها فإنَّ ذلك يكون دالاً عليها: إمَّا بالتَّضمّن، أو اللزوم.
فدلالة اللَّفظ عليها بالمطابقة إذا ذكرت بلفظها جميعًا، ودلالته بالتَّضمن إذا ذُكر السَّلام والرحمة، فإنَّهما يتضمّنان الثالث، وهو البركة؛ لأنَّ ذلك لا يكمل له إلا بالدَّوام، والاستمرار، والثَّبات.
وأمَّا الدّلالة باللزوم: فلو اقتصرنا على السَّلام، قلنا له: السَّلام عليكم، ولم نقل: ورحمة الله وبركاته؛ فيكون دالاً على الاثنين الآخرين بدلالة اللزوم، فإنَّ السلامَ يكون سلامةً بالمطابقة، دلَّ على المطابقة، على السَّلامة من العيوب، والآفات، والنَّقائص، ولكن هذا أيضًا يستلزم حصول الخير وثباته؛ لأنَّه لا تكتمل له مطالبه إلا بهذه السَّلامة وحدها، لا تكون وافيةً بذلك إلا إذا كانت مُطلقةً، السَّلامة المطلقة، فالسَّلامة مُستلزمةٌ لحصول الرَّحمة، ولبقاء هذه المطالب، ودوامها، وإلا فإنَّ ذلك يكون ناقصًا. هذا ما يتعلَّق بالسَّلام.
ابن القيم -رحمه الله- عقَّب تعقيبًا في غاية الفائدة، أذكر طرفًا منه، يقول: بهذا يُعرف فضل هذه التَّحية وكمالها على سائر تحيَّات الأمم؛ ولهذا اختارها اللهُ لعباده، وجعلها تحيَّتهم فيما بينهم في الدنيا، وفي دار السَّلام، وقد بان لك أنها من محاسن الإسلام وكماله، فإذا كان هذا في فرعٍ من فروع الإسلام، وهو التَّحية التي يعرفها الخاصُّ والعامُّ، فما ظنُّك بسائر محاسن الإسلام، وجلالته، وعظمته، وبهجته التي شهدت بها العقول والفِطَر، حتى إنَّها من أكبر الشَّواهد وأظهر البراهين الدَّالة على نبوة محمدٍ ﷺ وكمال دينه، وفضله، وشرفه على جميع الأديان؟ .. إلى آخر ما ذكر، ذكر كلامًا في غاية النَّفاسة، لما بيَّن ما اشتملت عليه هذه التَّحية قال: هذا فرعٌ واحدٌ، في جزئيَّةٍ يعرفها الجميع، فكيف ببقية شرائع الإسلام؟![12].
ثم ذكر أنَّ هذه الشَّريعة هي جنّة، وبهجة، وسعادة، ولذَّة، وما فيها من التَّكاليف والمشقّات إنما ذلك عارضٌ، لا يمكن أن يُقاس بما فيها من الخيرات والمنافع، وذكر كلامًا كثيرًا يحسُن مُراجعته، لا يفي بالمقصود منه ما يُذكر من مضامينه، أو معناه.
ثم بعد ذلك جاء ما يتَّصل بالمصلِّي وإخوانه المؤمنين: السَّلام علينا، علينا مَن؟ معاشر المصلِّين.
قال بعضُ أهل العلم: معشر الحاضرين في المسجد: السلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين، لماذا خصُّوه بالذين في المصلَّى؟
"السَّلام علينا"، قال: وعلى عباد الله الصَّالحين يعني: هذا أعمّ؛ لئلا يكون فيه تكرار، فابتدأ بالسَّلام أولاً على مَن معه، وهو في ضمنهم: سلامٌ علينا، ولو كان يُريد نفسَه لقال: السَّلام عليَّ، وهذا ليس مقامَ تعظيم النَّفس، فيُقال: جاء بما يدلّ على الجمع، صيغة الجمع، نون الجمع للتَّعظيم، لا، السَّلام علينا معشر مَن حضر، وعلى عباد الله الصالحين، هذا يشمل كلَّ صالحٍ كما قال النبيُّ ﷺ: إذا قال ذلك أصاب كلَّ عبدٍ صالحٍ في السَّماء والأرض[13].
هنا الصَّالح فسَّره بعضُهم بالقائم بحقوق الله، وحقوق العباد، وبعضهم فسَّره بالمسلم عمومًا، فهذا يُخرج الكفَّار والمنافقين: السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين، فالذين فسَّروه بهذا التَّفسير الأخصّ الذي هو: مَن قام بحقوق الله، وحقوق الخلق، هؤلاء هم أهل التَّقوى، وليس مجرد المسلم، وإن كان مُقصِّرًا.
وعلى عباد الله الصَّالحين لماذا خصُّوه بهذا؟
قالوا: لأنَّه قيَّده بقوله بهذا الوصف: "الصَّالحين"، مع ما في قوله: "على عباد الله"، فهذا يُشعر بأهل العبودية الخاصَّة: وعلى عباد الله الصَّالحين، وقول النبي ﷺ: أصاب كلَّ عبدٍ صالحٍ، كأنَّه يُشعر بنوعٍ من الاختصاص، فهذا يشمل الملائكة، والأنبياء، والرسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام-، ويشمل غيرهم من أهل الإيمان.
"أشهد أن لا إله إلا الله"، فهو يُقرّ بذلك بقلبه، وينطق لسانُه به، فقلبه مُقرٌّ مُنقادٌ، ولسانه ناطقٌ، شاهدٌ بذلك، "أشهد أن لا إله إلا الله"، لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، "وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله"، قدَّم هنا العبودية، يمكن أن يُقال: دفعًا للغلو؛ لئلا يحصل به الغلو، كما غلت النَّصارى في عيسى -عليه الصَّلاة والسَّلام-، فهو كما قال ﷺ: إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبدالله ورسوله[14] ﷺ، فهو عبدٌ ورسولٌ.
قال: ثم ليتخيّر يعني: يختار من الدُّعاء أعجبه إليه؛ يعني: أحبّ الدُّعاء وأرضاه، أعجبه إليه، بعض أهل العلم قال: الذي يكون أعجب هو الذي يكون مأثورًا، من جوامع الكلم، فهذا هو الأكمل والأعجب، فيدعو به.
ولو قال قائلٌ: بأنَّ ذلك أعمّ من هذا؛ لأنَّه قال: أعجبه إليه؛ يعني: مما يُعجبه من الدُّعاء، يتخيّر من ذلك، ولم يُقيد ذلك بالمأثور، هو يتخيّر من الدَّعوات ما يحتاج إليه، وما هو أعلق بحاله، وأليق بمطلوبه.
ولذلك فإنَّ الراجح من أقوال أهل العلم: أنَّ الدعاء الذي يكون سواء في السُّجود مما يدعو به الإنسانُ لنفسه، أو بعد التَّشهد؛ أنَّه لا يُشترط أن يكون من المأثور، وإنما له أن يختار من الأدعية مما يُنشئه، لكن لا شكَّ أنَّ الدُّعاء بجوامع الكلم أكمل؛ مما ورد في القرآن، أو ورد عن رسول الله ﷺ.
وقوله: فيدعوه يحتمل أن يكون المعنى: فيقرأ الدُّعاء الأعجب، يدعوه؛ يعني: الضَّمير يرجع إلى الدُّعاء.
ويحتمل أن يكون: فيدعوه أي: الله به، يدعو ربَّه به، وهذا لا يُؤثر من حيث الحكم؛ يعني: عود الضَّمير.
هذا ما يتعلّق بهذا الموضع، أو بهذا الحديث.
وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب ما يتخير من الدعاء بعد التَّشهد وليس بواجبٍ، برقم (835).
- انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (2/135).
- أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب ما يتخير من الدُّعاء بعد التَّشهد وليس بواجبٍ، برقم (835).
- انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (2/143).
- انظر: المصدر السَّابق (2/143).
- انظر: المصدر السَّابق (2/160).
- أخرجه مسلم: كتاب البرّ والصِّلة والآداب، باب تحريم الظُّلم، برقم (2577).
- انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (2/161).
- انظر: "البيان والتبيين" للجاحظ (1/173).
- انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (2/189).
- انظر: المصدر السابق (2/178).
- انظر: المصدر السابق (2/178).
- أخرجه البخاري: كتاب الاستئذان، باب: السلام اسمٌ من أسماء الله تعالى، برقم (6230).
- أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} [مريم:16]، برقم (3445).