الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
سنُواصل الحديث عن الأذكار الواردة في الصباح والمساء، ومن ذلك ما جاء من حديث أنس بن مالكٍ : أنَّ رسول الله ﷺ قال: مَن قال حين يُصبح أو يُمسي: اللهم إني أصبحتُ أُشهدك، وأُشهد حملةَ عرشك، وملائكتك، وجميع خلقك، أنَّك أنت الله، لا إله إلا أنت، وأنَّ محمدًا عبدك ورسولك؛ أعتق اللهُ رُبْعَه من النار، فمَن قالها مرتين أعتق اللهُ نصفَه، ومَن قالها ثلاثًا أعتق اللهُ ثلاثةَ أرباعه، فإن قالها أربعًا أعتقه اللهُ من النار[1].
وفي روايةٍ عند أبي داود جاء في آخرها: إلا غفر له ما أصاب في يومه ذلك من ذنبٍ، وإن قالها حين يُمسي غفر له ما أصاب تلك الليلة[2].
هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، والبخاري في "الأدب المفرد"، والنَّسائي في "عمل اليوم والليلة"، وسكت عنه أبو داود، وما سكت عنه فهو صالحٌ للاحتجاج عنده، وقال عنه المنذريُّ: "لا ينزل عن درجة الحسن، وقد يكون على شرط الصَّحيحين أو أحدهما"[3]، وقال النَّووي: "إسناده جيد"[4]، وحسَّنه أيضًا الحافظُ ابن القيّم[5]، والحافظ ابن حجر قال: "حسنٌ"[6]، وفي موضعٍ آخر قال: "حسنٌ غريبٌ"[7]، ومن المعاصرين سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز[8]-رحمه الله-، ولكن أيضًا قال الترمذي عن هذا الحديث: أنَّه غريبٌ.
وقال الطَّبراني في "الأوسط": "لا يُروى هذا الحديثُ عن أنسٍ إلا بهذا الإسناد، تفرَّد به بقيَّة"[9]، يعني: ابن الوليد.
وقال أبو نُعيم في "الحلية": "غريبٌ من حديث مكحولٍ وهشام"[10]، وكذلك أيضًا قال البغوي[11]، وقال الهيثمي في "المجمع": "فيه بقية بن الوليد، وهو مُدلِّس"[12]، والشيخ ناصر الدين الألباني[13] -رحمه الله- ذكر أنَّ في إسناده جهالة، وضعَّف هذا الحديثَ في عددٍ من كُتبه.
ومسائل الحكم على الرِّوايات مما يدخله الاجتهاد، فمَن كان له بصرٌ في هذا الباب فإنَّه ينظر، وما يتوصّل إليه باجتهادٍ فإنَّه يكون بذلك معذورًا، أصاب أم أخطأ، إن كان من أهل هذا الشَّأن، فإنَّ ذلك مما يدخل في عموم ما جاء في الاجتهاد إذا أصاب أو أخطأ، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجرٌ واحدٌ، وإن لم يكن مُؤهَّلاً فإنَّه يُقلِّد مَن يرى أنَّه الأقرب إلى الحذق في هذا الباب ومعرفته من هؤلاء الأئمّة من المتقدمين، أو المعاصرين؛ ولذلك نحرص في هذه المجالس على أن نذكر أحكامَهم على الأحاديث التي قد يُختلف فيها هنا.
قوله: مَن قال حين يُصبح أو يُمسي: اللهم إني أصبحتُ يعني: دخلتُ في الصَّباح.
أُشهدك وأُشهد حملة عرشك، (أُشهدك) يعني: أجعلك شاهدًا على هذا الإقرار بالوحدانية لك؛ لأنَّك أنت الله، فهو إشهادٌ لله -تبارك وتعالى- على هذا التوحيد، وهو إقرارٌ لهذه الشَّهادة، وتأكيدٌ لها، وتجديدٌ لها في كلِّ صباحٍ ومساءٍ، فالمؤمن مع التوحيد: يُردده، ويُقرره حينما يُصبح، وحينما يُمسي، وهذا أمرٌ لا شكَّ أنَّه بالغ الأثر على نفس الإنسان، على نفس الموحِّد، كما أنَّه بالغ الأثر من جهة نتيجته وعائدته على العبد في الثَّواب من العتق من النار، ومن دخول الجنَّة؛ فإنَّ هذا التوحيد هو مفتاح الجنَّة، فيُردد، فيتذكّره المؤمنُ، يذكر به نفسه.
أُشهدك، وأُشهد حملةَ عرشك، وملائكتك فهذا تأكيدٌ، يعني: فهو لا يكتفي أن يقول: (لا إله إلا الله)، بل يُشهد الله على هذا التوحيد، على توحيده، وهذا لا يمكن أن يصدر إلا ممن كان مُتيقِّنًا؛ ومن هنا فإنَّه يطلب حضور القلب حينما يقول الإنسانُ مثل هذا الكلام، لا يقوله من قلبٍ غافلٍ، ثم هو يُشهد الله على إقراره وتوحيده هذا، ويُشهد أيضًا حملة عرشه، وملائكته، فهؤلاء حملة العرش هم من أعظم ملائكة الرحمن الذين يحملون العرش، هؤلاء يحملون عرشَ الله ، الذي هو أعظم المخلوقات، وهو سقفها، وهو أوسعها، وأجلّها، وأحسنها، وأقرب من الله -تبارك وتعالى-.
هؤلاء الملائكة قد وكَّلهم الله بهذه الوظيفة، وهو مُستغنٍ عن العرش، ومُستغنٍ عن حملة العرش، ولا قيامَ لأحدٍ من خلقه: لا من ملائكته، ولا من غيرهم، إلا بإقامته -تبارك وتعالى- لهم، لكن لا شكَّ أنَّ هؤلاء من أكبر الملائكة، وأعظم الملائكة، وأقوى الملائكة، فقد اختارهم الله لحمل عرشه، وقدَّمهم في الذكر: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ [غافر:7]، وفي الحديث أشهد حملة عرشه وملائكته، فهذا كلّه يدلّ على تفضيلهم، وتقريبهم.
والله -تبارك وتعالى- أخبر أنَّ للعرش حملةً يحملونه في الوقت الحاضر: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ، وأخبر أيضًا أنَّ ملائكته يحملون العرش، هذا العرش له حملة، كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر:75]، وقال: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، فهل هؤلاء هم حملة العرش دائمًا، يعني: أنَّ الذين يحملون العرشَ دائمًا ثمانية، أو أنَّ الذين يحملونه يوم القيامة ثمانية؟
فهذا كلّه من علم الغيب، نُؤمن بما جاء عن الله، وما جاء عن رسول الله ﷺ، ونقف فيما لم يبلغنا علمه، فإنَّ ذلك لا مدخلَ للاجتهاد والرأي فيه.
فالله -تبارك وتعالى- أخبرنا أنَّ له ملائكةً تحمل عرشه، وأنَّ له ملائكةً أيضًا تكون حافَّةً بهذا العرش من حوله، وفي موضعٍ ثالثٍ جمع بين هؤلاء وهؤلاء: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ.
وهنا لما ذكر حملةَ العرش عطف عليهم عموم الملائكة فقال: وملائكتك، يعني: أنا أُشهد ملائكتك، فهؤلاء يشمل جميع الملائكة، بما فيهم حملة العرش.
وذكر الخاصّ ثم عطف العام عليه يدلّ -أعني: إفراد الخاصّ بالذكر وتخصيصه- على مزيَّته، وشرفه، ومكانته: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة:98]، هذا عكس المثال الذي بين أيدينا، عطف جبريل وميكال على الملائكة، فهو من قبيل عطف الخاصّ على العام، فالإفراد بالذكر أولاً أو آخرًا مع العامّ؛ فإنَّه يدلّ على تشريفٍ ومزيَّةٍ.
ثم عطف ما هو أعمّ قال: وجميع خلقك، فجميع الخلق يشمل الملائكة، والإنس، والجنّ، وسائر المخلوقات، فهو حينما يقول مثل هذا يشهد عليه المخلوقات في العالم العلوي والعالم السُّفلي، ويخصّ بذلك حملة العرش، وملائكة الرحمن، ثم بعد ذلك جاء بهذا العموم، فهذا يحتاج إلى قلبٍ حاضرٍ يتبصَّر فيما يقوله: بماذا يشهد هؤلاء؟ على أي شيءٍ؟
قال: أنَّك أنت الله، يعني: المألوه، المعبود، الذي تألهه الخلائق، فهو الذي يُعبد وحده دون مَن سواه: أنَّك أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت المعبود، (لا إله) لا معبودَ بحقٍّ سواك: لا إله إلا أنت وحدك، وهذا تأكيدٌ لهذا التوحيد، فأنت المنفرد بإلهيَّتك وربوبيَّتك وأسمائك وصفاتك.
ثم جاء التأكيدُ الآخر: لا شريكَ لك، وهذه الجملة: لا شريكَ لك تأكيدٌ لجانب النَّفي في كلمة التوحيد: (لا إله)، وأنَّ قوله: وحدك تأكيدٌ لجانب الإثبات: (إلا الله)، وهنا: لا إله إلا أنت.
وأيضًا جاء بالشَّهادة الأخرى: وأنَّ محمدًا عبدك ورسولك، فقدَّم هنا العبودية، يمكن أن يُقال -والله تعالى أعلم-: من أجل ألا يحصل الغلو بحقِّه ﷺ، كما يحصل لليهود والنَّصارى، فقد قال الله عنهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30]، والنبي ﷺ قال: لا تطروني كما أطرت النَّصارى عيسى ابن مريم، وإنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبدالله ورسوله ﷺ[14]، إذا قال هذا فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يغفر له، كما جاء في الرِّواية الثانية من الحديث: إلا غفر له ما أصاب في يومه ذلك من ذنبٍ.
العلماء قالوا: يخرج من هذا الكبائر؛ لأنَّها تحتاج إلى توبةٍ، وكذلك أيضًا: إن قالها حين يُمسي غُفِرَ له ما أصاب تلك الليلة أيضًا، يعني: من ذنبٍ، فهذه فضائل تُساق إلينا، وهي سهلة، وميسورة، ولا يعجز عن ذلك إلا عاجزٌ، هذا من الغبن العظيم، حتى مَن يرى أنَّ هذا الحديث قد يكون فيه ما فيه من المقال عند مَن لا يرى تصحيحه، وهناك نظائر لهذا الحديث نفوت كثيرًا منها.
وفي الرِّواية الأخرى: أعتق اللهُ إذا قالها مرةً واحدةً رُبعَه من النار، فمَن قالها مرتين أعتق اللهُ نصفَه، ومَن قالها ثلاثًا أعتق اللهُ ثلاثة أرباعه، ومَن قالها أربعًا أعتقه اللهُ من النار، العتق من النار لا يُعادله شيءٌ، فلو جلس العبدُ يُردد هذا صباح مساء، لا يفتر لسانُه منه؛ لم يكن ذلك قليلاً.
هذا بعض ما يتَّصل بهذا الحديث، وما ذكرتُه من الكلام على حملة العرش وما إلى ذلك هو حاصل ما ذكره شيخُ الإسلام -رحمه الله- في رسالته العرشيّة، والشيخ عبدالرحمن ابن سعدي -رحمه الله- في تفسيره.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود: أبواب النوم، باب ما يقول إذا أصبح، برقم (5069)، وضعَّفه الألباني في "السلسلة الضَّعيفة"، برقم (1041)، وأيضًا في "ضعيف الجامع"، برقم (5731).
- أخرجه أبو داود: أبواب النوم، باب ما يقول إذا أصبح، برقم (5078)، والترمذي: أبواب الدَّعوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (3501)، والنَّسائي في "عمل اليوم والليلة" (ص139)، برقم (10)، والبخاري في "الأدب المفرد" (ص682)، برقم (1201).
- "الترغيب والترهيب" للمنذري، ت. عمارة (1/38)، وانظر أيضًا: (1/451)، برقم (11).
- "الأذكار" للنووي ت. الأرناؤوط (ص79)، برقم (215).
- "زاد المعاد في هدي خير العباد" (2/339).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/130).
- "نتائج الأفكار" (2/375).
- "مجموع فتاوى ابن باز" (26/29-30).
- انظر: "المعجم الأوسط" (7/176)، برقم (7205).
- "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" (5/185).
- "شرح السنة" للبغوي (5/110)، برقم (1323).
- انظر: "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (10/118-119)، برقم (17016).
- انظر: "ضعيف الجامع"، برقم (5729)، و"السلسلة الضعيفة"، برقم (1041).
- أخرجه أحمد في "المسند"، برقم (154)، وقال مُحققوه: "حديثٌ صحيحٌ، رجاله ثقات، رجال الشيخين"، وقال الألباني: "رواه أحمدُ في "المسند" بسندٍ صحيحٍ على شرط مسلمٍ"، كما في أصل "صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-" (3/881).