الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
نواصل الحديث -أيّها الأحبّة- في هذه الليلة في الكلام على الأذكار الواردة في الصباح والمساء، ومن ذلك ما جاء عن أبي هريرة قال: قال أبو بكر : يا رسول الله، مُرني بشيءٍ أقوله إذا أصبحتُ، وإذا أمسيتُ. قال: قل: اللهم عالم الغيب والشَّهادة، فاطر السَّماوات والأرض، ربَّ كل شيءٍ ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شرِّ نفسي، ومن شرِّ الشيطانِ وشِرْكِه، قال: قُلْه إذا أصبحتَ، وإذا أمسيتَ، وإذا أخذتَ مضجعك[1].
وجاء نحوه عند أبي داود من رواية أبي مالكٍ الأشعري أنهم قالوا: يا رسول الله، علِّمنا كلمةً نقولها إذا أصبحنا، وإذا أمسينا، وإذا اضطجعنا. فذكره، وزاد فيه بعد قوله: وشركه، وأن نقترف سوءًا على أنفسنا، أو نجرّه إلى مسلمٍ[2].
هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، وأحمد، وقال عنه الترمذي: حسنٌ صحيحٌ. وصححه جمعٌ من أهل العلم: كابن دقيق العيد[3]، والحافظ ابن القيم[4]، والحافظ ابن حجر، فإنَّه صححه في موضعٍ[5]، وحسَّنه في موضعٍ آخر[6]، وممن صححه أيضًا السيوطي[7]، ومن المعاصرين الشيخ أحمد شاكر[8]، والشيخ ناصر الدِّين الألباني قال في موضعٍ: حسنٌ صحيحٌ[9]. وقال في موضعٍ: صحيحٌ[10]، رحم الله الجميع.
هنا في حديث أبي هريرة: أنَّ أبا بكر سأل النبيَّ ﷺ: مُرني بشيءٍ أقوله إذا أصبحتُ وإذا أمسيتُ. فيكون ما ذُكِرَ معه من أنَّ ذلك أيضًا يُقال إذا أخذ مضجعه، باعتبار أنَّ ذلك جاء في مقاماتٍ مُتعددةٍ، وليس في مقامٍ واحدٍ، في رواية أبي مالكٍ في حديث أبي هريرة، فيكون ذلك مما خرج الجوابُ فيه بالزيادة على سؤال السَّائل، فإنَّه أجابه عمَّا أراد وزاده، وهذا له أمثلة، وهو من الجود في العلم وبذله، والجواب في المسائل والفُتيا.
فالنبي ﷺ لما سُئل عن الوضوء بماء البحر قال: هو الطَّهور ماؤه، الحلُّ ميتته[11]، فهم سألوا عن التَّطهر بماء البحر، فقال: هو الطَّهور ماؤه، وزادهم: الحلُّ ميتته، مع أنَّهم لم يسألوا عن ميتة البحر.
فهنا في حديث أبي مالكٍ الأشعري أنهم سألوا النبيَّ ﷺ، فقد يكون ذلك جميعًا مما حصل في مقامٍ واحدٍ، وأنَّ النبي ﷺ سُئِل، حيث سأله أبو بكرٍ ، فأُضيف السؤال إلى جماعتهم، باعتبار أنَّهم شهود، أو باعتبار أنَّهم تواطؤوا على ذلك، أو باعتبار أنَّهم شاركوا في السؤال، ولربما يكون ذلك في أكثر من مقامٍ، فيكون النبيُّ ﷺ قد زاد فيه: وإذا أخذت مضجعك.
وهنا زيادة أيضًا في حديث أبي مالك: وأن نقترف سوءًا على أنفسنا، أو نجرّه إلى مسلمٍ.
ففي صدر هذا الحديث قال: قل: اللهم عالم الغيب والشَّهادة، والغيب: ما غاب بأنواعه الثلاثة -ما غاب عن الحسِّ-: الغيب الماضي، والحاضر، والمستقبل.
فالغيب الماضي والغيب الحاضر هذا من الغيب النِّسبي، بمعنى: أنَّ بعض الخلق يعلمونه، وبعضهم لا يعلمونه؛ كخبر أصحاب الكهف، فهذا من الغيوب، لكن هناك الذين شاهدوا ذلك، وعاصروه، وعلموه، وهكذا في أمثلةٍ كثيرةٍ مما كان من الغيوب الماضية.
وأمَّا الغيب الحاضر فهذا أيضًا يعلمه مَن شهده، فيكون بالنسبة إليه من قبيل الشَّهادة، فالذي يجري الآن خارج المسجد هو بالنسبة إلينا غيبٌ، لكن مَن شهده يكون من قبيل الشَّهادة.
أمَّا المستقبل فهذا هو الغيب المطلق، الذي لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى-، وقد يُطلع بعضَ خلقه على شيءٍ منه: فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ الآية [الجن:26-27].
فهذه الثلاثة كلّها من الغيوب، فالله عالم الغيب -ما كان من الغيوب الماضية والحاضرة والمستقبلة- والشَّهادة: ما ظهر وبدا، فهو يُقابل الغيب.
فاطر السَّماوات والأرض يا الله، يا عالم الغيب والشَّهادة، فاطر السَّماوات، أي: يا فاطر السَّماوات والأرض. فهذا كلّه حُذفت فيه ياء النِّداء، وعرفنا أنَّ معنى: "اللهم" أي: يا الله، يا فاطر السَّماوات والأرض، هذا هو التَّقدير، فهو مُنادى منصوب.
فاطر السَّماوات والأرض أي: مُخترع السَّماوات والأرض، ومُوجدها على غير مثالٍ سابقٍ. فهذا معنى الفاطر، فالفطر هو: إيجاد الشَّيء من غير سبقٍ، أو من غير مثالٍ سابقٍ.
وابن عباسٍ -رضي الله عنهما- يقول: ما كنتُ أدري ما فاطر، حتى جاء أعرابيَّان يختصمان في بئرٍ، يقول أحدُهما: أنا فطرتها. أي: أنا ابتدأتها[12].
وربّ كل شيءٍ يعني: يا ربّ كل شيءٍ ومليكه، يعني: أنَّ الله -تبارك وتعالى- هو ربّ هذه المخلوقات، بمعنى: أنَّه سيدها، ومالكها، والمتصرّف فيها، وهو المربي خلقه بأنواع النِّعَم الظَّاهرة والباطنة، فكلّ هذا من معاني الربوبية، فهو السيد، المالك، المتصرف، المدبر لشؤونها، فلا يخرج شيءٌ من ربوبيَّته -تبارك وتعالى-.
وهو أيضًا مليكه، ومليك هنا (فعيل) بمعنى (فاعل)، يعني: مالك، فجاء على هذا البناء: (مليك)، وهو للمُبالغة، ومن أسماء الله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54، 55] عند مَن يعُدّ ذلك من قبيل الأسماء، يعني: إن لم يأتِ على سبيل الإطلاق مُعرَّفًا بـ(أل)، كما ذكرنا في مُقدّمات الأسماء الحسنى، فهنا جاء مُنكَّرًا: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، وبعضهم لا يعُدّ مثل هذا من جملة الأسماء الحسنى كما عرفنا.
أشهد أن لا إله إلا أنت فهنا بعد أن أقرّ لله بأنَّه عالم الغيب والشَّهادة، وأنَّه فاطر السَّماوات والأرض، وأنَّه الربّ لكل شيءٍ، وأنَّه المليك المالك لكل شيءٍ؛ ذكر التوحيد: أشهد أن لا إله إلا أنت، لا معبودَ بحقٍّ سواك، وقد تكلّمنا على هذه الجملة في مناسباتٍ سابقةٍ.
أعوذ بك من شرِّ نفسي، فالنفس لها شرورٌ، كما قال النبيُّ ﷺ في خُطبة الحاجة: ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيّئات أعمالنا[13]، فالنفس معلومٌ أنَّ منها النفس الأمَّارة بالسُّوء، التي تأمر صاحبها بالمنكر، وتُغريه بالفحشاء والظلم والمعصية، وما إلى ذلك، فيُوجد في النفس من دواعي الشَّر، مما ركّب فيها من الغرائز والشَّهوات، وما تتطلبه من تحقيق هذه الرَّغبات: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14]، فالنفس تنجذب تجاه هذه الأشياء، فإذا أراد العبدُ أن يفطمها على محبوباتها ومُشتهياتها ومُستلذَّاتها؛ فإنَّه يحتاج إلى مجاهدةٍ كبيرةٍ، والنفس تُزين للإنسان، وتدعوه إلى ما تميل إليه، فيستعيذ من النفس، ومن ثم فإنَّه ليس لأحدٍ أن يُنكر ذلك، أو أن ينسب إلى نفسه أنها مُطمئنة، أو أنَّ هذه النفس نفسٌ طيبةٌ، لا تأمره إلا بالبرِّ والمعروف والتَّقوى.
ومن شرِّ الشَّيطان شرُّ الشيطان يدخل فيه وسوسته، وإغواؤه، وإغراؤه، فهو الذي يُزين المنكر والشَّر والفساد والإفساد، فإذا اجتمع ذلك مع شُرور النَّفس فإنَّ ذلك يقوى معه الدَّاعي؛ لأنَّ هذه الدَّواعي منها ما ينبعث من النفس، ومنها ما يكون من الخارج، ومبدأ ذلك ومنشأه من النَّفس الأمَّارة، ثم بعد ذلك ما يُلقيه الشيطانُ، وما يحصل له من إلمامٍ بالقلب، فيُزين له المنكر، ثم بعد ذلك تأتي الدَّواعي من الخارج، مما يدعونه صراحةً إلى المعصية وإلا عيَّروه بما كان منه قبل توبته.
وكذلك أيضًا هناك مَن يُغري بالمعصية ولو كان صامتًا، فكل مَن يُظهر المنكر فهو داعية إلى المعصية، ولو كان لا يتكلم، كل امرأةٍ مُتبرجة فهي داعية إلى السُّفور؛ ولذلك من الناس مَن يترك الخادمةَ مثلاً سافرةً، وتجد امرأةً في غاية الحجاب، ومعها امرأة قد أظهرت شعرَها، وتتسوّق معها، يُقال: اتَّقِ الله، هذه يجب أن تستر. فيقولون: هذه غير مسلمةٍ، وإذا كانت غير مسلمةٍ يجوز أن تخرج عاريةً؟ فإذا قالوا: لا. يُقال: فما الفرق؟ هي بهيمة أو آدميَّة؟ أليست نفوسُ كثيرٍ من الناس تتطلع إليها؟ أليس هذا السُّفور منكرًا؟ فليس لها أن تخرج عاريةً، وليس لها أن تُخرج شعرها كهذا وتمشي بين الناس، ولو كانت غير مسلمةٍ، وهذا من أعجب الأشياء التي سمعتُ بعضَ الناس يردّ بها على مَن يُنكر عليه، فيقول له: لا يحلّ هذا. فيقول: هذه غير مسلمةٍ!
فهنا هذه كلّها دواعٍ من الدَّاخل، ومن الخارج.
ومن شرِّ الشيطان وشركه ضبطه أكثر أهل العلم بكسر أوَّله، وسكون ثانيه: (شِرْكه)، وهذا هو الأشهر، وهو الأقرب في المعنى -والله تعالى أعلم-، وهو المتبادر، والمقصود بذلك ما يدعوه إليه من الإشراك بالله -تبارك وتعالى-.
وبعضهم ضبطه بفتحتين: (وشَرَكه) يعني: مصائد الشَّيطان وحبائله التي يفتن بها الناسَ ويُضلّهم، واحدها: شَرَكَة، فهذا في لفظ الحديث في روايته الأولى.
وفي الزيادة الأخرى: وأن نقترف سُوءًا على أنفسنا، أو نجرّه إلى مسلمٍ وهذا يقوله في الصَّباح والمساء، فهو يسأل ربَّه -تبارك وتعالى-، ويستعيذ به من أن يجرّ على نفسه سوءًا، بأي اعتبارٍ؟ بأي لونٍ من المقارفات، أو إبداء الرّغبات، أو المزاولات، أو نحو ذلك مما يصدر من الإنسان، أو ما يستتبعه من غوائل أفعاله، فيقع في أمورٍ تسوؤه، فيكون هو الذي جرَّ على نفسه هذا السُّوء.
وهذا يدخل فيه أنواع وأحوال؛ فمن ذلك مثلاً: هذا الإنسان الذي يبحث عن الفساد والشَّر والفواحش، فهذا يجرّ إلى نفسه هذه الأمور، وهذا الإنسان الذي يقول: أنا أنظر وأُجرِّب وأتعرَّف، وما إلى ذلك مما قد يقوله بعضُ القائلين، ثم بعد ذلك يقع في أمورٍ ما كان يحسب لها حسابًا، مَن جرّ على نفسه سوءًا، فبعض الفتيات تقول: أمزح، وأقضي الوقت، فتُكلّم بعضَ الشَّباب وتُراسلهم، وتدخل معهم في وسائل الاتِّصال والإعلام الجديد في مُحادثات، وما إلى ذلك، ثم تقع في مغبَّة ذلك، ويقودها هذا إلى أمورٍ تُبْتَزّ بها، ويحصل لها بسبب ذلك فضيحة، ولربما نُشرت صورها، إلى غير ذلك من الأمور الـمُدمية، فهذه جرَّت على نفسها السُّوء بفعلها هذا.
وكذلك أيضًا ما قد يحصل للإنسان أحيانًا من عللٍ وأوصابٍ وأمراضٍ بسبب مُقارفات، فهذا الإنسان الذي يفجر، ثم يُصاب بعلَّةٍ وداءٍ عُضالٍ، مَن الذي جرَّه على نفسه؟! وهذا الإنسان الذي يُدخن ويُصاب بسرطانٍ في الرئة، أو نحو ذلك، هو الذي جرَّ على نفسه هذا السُّوء.
أو نجرّه إلى مسلمٍ يجرّه إلى مسلمٍ بأي طريقٍ كان؛ يُؤذيه بالقول وبالوشاية، ويُوصل إليه الشَّر بالكلام الذي يُضيفه إليه مما لا حقيقةَ له، مما يكتبه في هذه الوسائل، ممن لا يتَّقي الله في عباد الله، فينسب إليهم أمورًا يُشينهم فيها، ويسبّهم، ويشتمهم، ويُدخل عليهم أنواع الأذى، فهذا كله جرَّ سوءًا إلى مسلمٍ.
ومن الأنواع الخفيَّة التي يجهلها كثيرٌ من الناس للأسف الشَّديد: أنَّك تجد في هذه المجموعات و(الجروبات) نحو هذا، ومن الناس مَن ليس له شغلٌ إلا الأخبار السَّيئة، يتصيَّدها، ويبحث عنها، ثم من غير رويَّةٍ يُرسلها، فيُصبِّحهم على غمٍّ، ويُمسِّيهم على غمٍّ، حتى يتراءى للواحد منهم إذا رأى هذا الاسم مُباشرةً أنَّه غمٌّ جديدٌ يُصبّ عليه، فما الحاجة لهذا؟! وما الفائدة من هذا الذي تنقله؟! وتبحث عن هذه الأشياء والغموم الموجودة في أرجاء المعمورة، ثم بعد ذلك تُرسلها، هذا إنسانٌ كتب كتابةً سيئةً، فلماذا تُرسل هذه الكتابة؟! وهذا إنسانٌ عمل شيئًا مُنكرًا؛ لماذا تُرسل وتنشر؟! ما الفائدة؟!
إذا كنت تريد الاحتساب عليه، أو نحو ذلك، فهذا له طرقٌ، أمَّا هكذا مجرد الخبر، فالخبر السَّيئ غمٌّ يتجدد ويتكرر، ثم بعد ذلك هؤلاء يتجرَّعون هذه الغموم، ثم يُصابون بشيءٍ من الإحباط، أو الاكتئاب، وضيق الصَّدر، وتُنغّص عليهم حياتهم، وتتكدّر عليهم عافيتهم، وهذا من الجهل وسُوء التَّدبير، وقد يكون عادةً لبعض الناس، وسجيَّةً لهم -للأسف- من غير رويَّةٍ، ومن غير تفكيرٍ، فهذا المقطع الذي أرسلتَه هو مُنكرٌ وسيئةٌ، يسوء كلّ مسلمٍ؛ لماذا أرسلتَه؟! وهل فكرتَ قبل إرساله؟! وما المطلوب؟!
تجد أنَّ الإنسان يُرسِل أحيانًا للإرسال فقط، ويقف عند هذا، ولا يتغير، ولا يتحول، واليوم أحد الأشخاص يسأل عن منكرٍ من المنكرات عمله شخصٌ واحدٌ عاملٌ في مؤسسةٍ، أو عاملٌ في مكانٍ ما، ولم يشعر به أحدٌ إلا هذا الذي عُمِل له هذا المنكر، وتفتح له (هاشتاج)، ويُنشر، ويقرأه مَن بأرجاء المعمورة، ثم بعد ذلك صاحب هذا المحل يتبرأ ويقول: هذا خطأٌ من عاملٍ، ونحن أدَّبناه وعاقبناه، وما إلى ذلك، ثم يبدأ جدلٌ جديدٌ وطويلٌ: ما الموقف؟ وهل تُقبل توبة صاحب المحلّ، أو لا بدَّ من تعزيرات وتأديب من أجل أن يرعوي؟ قبل هذا: نشر هذا على هذا النِّطاق الواسع، هل هذا صحيحٌ؟!
وحينما ترقق نفوس الناس تجاه المنكر بكثرة ما يرد عليهم؛ كمُنكر ما شاهده إلا واحدٌ، وما حصل إلا مع شخصٍ واحدٍ، ثم بعد ذلك جعلنا الملايين يتحدَّثون عنه، هل هذه الطَّريقة صحيحة؟!
تستطيع أن تُقيم على هذا دعوى في المحكمة، ويُعاقب، دون أن يقرأ هذا ملايين الناس، ويكون حديثَ الصِّغار والكبار، فهل هذا من الحكمة: أننا نُرقق هذه القضايا في نفوس الناس بكثرة ما يسمعون، ثم بعد ذلك يتبلد الإحساس، أو أننا نتجرع في كل لحظةٍ همًّا وغمًّا وأسًى جديدًا؟! ألسنا نعقل؟! ألا يُفكر الإنسانُ قبل أن يُرسل؟!
يحتاج الإنسانُ أن يتبصَّر فيما يأتي وما يذر، أمَّا أن يكون الإرسالُ للإرسال هكذا، وأصبحت هذه المجموعات هي مأوى لكل آفةٍ في أقصى الشرق والغرب، فهذا غير صحيحٍ، ومَن لا يستطيع أن يتعامل مع مثل هذه الأشياء إلا بمثل هذا الدَّاء، فأنا أقترح عليه أن يستريح من الغمِّ كلّه، وأن يحذف هذا الواتس آب، والتويتر، ويرتاح، وسيجد راحةً، وسيجد أيام العافية القديمة التي كان يجدها في صلاته وعبادته وقراءته للقرآن والأذكار، وما إلى ذلك، بدلاً من هذا الشّغل الشَّاغل إلى ساعات مُتأخرة في الليل؛ رسائل تأتيه الساعة الواحدة والنصف، والثانية، والثانية والنصف، ولا ينامون، أدنى خبرٍ هنا أو هناك يُرسل بهذه الطريقة.
وأنا أرى أن يُقال لهؤلاء صراحةً: يا أخي، لا تُرسل لنا هذا الغمّ. وإذا كنت تعرف مَن يستطيع أن يُغيره فأرسل إليه، وضع له رقم صاحب المنكر، وقل له: انصح هذا الإنسان. أمَّا هكذا مجرد خبرٍ ينتشر ويُرسله آلاف مُؤلَّفة -ولربما ملايين- لمجرد الإرسال، فهذا غير صحيحٍ، فلسنا بحاجةٍ إلى ثقافةٍ في المنكر والشَّر والفساد والمعاصي، فإنَّ هذه تُؤثر على القلب؛ فلا يكون للقلب تلك الشَّفافية تجاه المنكر، والناس بحاجةٍ إلى تبشيرٍ وتصبيرٍ ورفع معنويات.
وهكذا أخبار أخرى: فلانٌ صار له حادثٌ شنيعٌ، وفلان مات، وفلان أُصيب بمرضٍ عُضالٍ، وفلان كذا، ثم ماذا؟ وأحيانًا لمجرد الخبر، وقد لا يعرف هذا الشَّخص، وتُوضع صور لحوادث وأشياء، وتجد حادثًا يقع في مكانٍ ما، وتجد العالم يتجمهر، ويقفون في الطَّريق يُصورون الناس في الحادث، ثم بعد ذلك يتسابقون: مَن الذي له سبقٌ في نشر هذا الخبر! هذا غلطٌ، وغير صحيحٍ، والله المستعان.
فهذا الحديث تضمّن هذا المعنى: وأن أقترف على نفسي سوءًا، أو أجرّه إلى مسلمٍ، فهل يعي هذا الذي يكتب ويُؤذي الناس ويُسيئ إليهم بأي نوعٍ من أنواع الإساءة، ويجرّ إليهم هذا السُّوء؟ هل يعي هذا؟ يستعيذ صباح مساء، وفعله يُكذِّب قولَه واستعاذته!
لو كنا نعمل بهذه الأذكار ونُطبِّقها ونعقلها لأصبح الإنسانُ لا يُؤذي الذَّر، فضلاً عن الناس، ولكن من الناس -نسأل الله العافية، والله المستعان-.
فهذا الحديثُ قد تضمَّن الاستعاذة من الشَّر، ومن أسبابه وغايته أيضًا، فالشَّر جميعه: إمَّا أن يصدر من النَّفس، أو من الشَّيطان: أعوذ بك من شرِّ نفسي، ومن شرِّ الشَّيطان، وأمَّا غاية الشَّر فهي: إمَّا أن تعود على العامل، وإمَّا أن تعود على أخيه المسلم.
فتضمّن الحديث مصدري الشَّر اللذين يصدر عنهما، وغايتيه اللَّتين يصل إليهما: من أذيّة النفس، أو أذيّة الناس.
نسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود: كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، برقم (4405)، والترمذي: كتاب الدَّعوات، برقم (3314)، وأحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (7961)، وصححه الألباني.
- أخرجه أبو داود: كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، برقم (4420)، وضعفه الألباني.
- "الاقتراح في بيان الاصطلاح" (ص128).
- "زاد المعاد في هدي خير العباد" (2/338).
- "نتائج الأفكار" لابن حجر (2/363).
- "نتائج الأفكار" لابن حجر (2/365).
- "الجامع الصغير من حديث البشير النذير" (2/148).
- في تحقيقه على "مسند أحمد" ت. شاكر (1/191).
- "الكلم الطيب" ط. المكتب الإسلامي (ص70).
- "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (2/811).
- أخرجه أبو داود: كتاب الطَّهارة، باب الوضوء بماء البحر، برقم (76)، وابن ماجه: كتاب الطَّهارة وسننها، باب الوضوء بماء البحر، برقم (380)، والترمذي: كتاب الطَّهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنَّه طهورٌ، برقم (64)، وصححه الألباني.
- "تفسير الطبري = جامع البيان" ت. شاكر (11/283).
- أخرجه الترمذي: أبواب النكاح، باب ما جاء في خطبة النكاح، برقم (1105)، وصححه الألباني.