الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
نواصل الحديث في هذه الليلة عن الأذكار التي تُقال في الصَّباح والمساء، ومن ذلك ما جاء عن أبي عيَّاش الزرقي : أنَّ رسول الله ﷺ قال: مَن قال إذا أصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، كان له عِدْلُ رقبةٍ -أو عَدْل رقبةٍ- من ولد إسماعيل، وكُتِبَ له عشر حسنات، وحُطَّ عنه عشر سيئات، ورُفِعَ له عشر درجات، وكان في حرزٍ من الشَّيطان حتى يُمسي، وإن قالها إذا أمسى كان له مثل ذلك حتى يُصبح.
هذا الحديث أخرجه أبو داود[1]، والنَّسائي[2]، وابن ماجه[3]، وجوَّد إسناده النَّووي[4]، كما صحح إسناده الحافظُ ابن حجر[5]، والألباني[6] -رحم الله الجميع.
وهذا الحديث قد مضى ضمن الكلام على أحاديث سابقةٍ، ومن ذلك ما ذكرتُه في الليلة الماضية في المقارنة بين التَّسبيح والتَّهليل، وهكذا الجُمل التي تضمّنها هذا الذكر، فإنَّه قد مضى الكلامُ على جملةٍ منها.
والنبي ﷺ هنا يقول: مَن قال إذا أصبح يعني: إذا دخل في الصَّباح، وعرفنا أنَّ الدُّخول في الصباح يكون بطلوع الفجر الصَّادق، فإذا قاله الفجر، أو قاله بعد طلوع الشَّمس، أو قاله في الضُّحى؛ فكل ذلك صباح إلى ما قبل انتصاف النَّهار، وما قبل صيرورة الشَّمس في كبد السَّماء.
مَن قال إذا أصبح: لا إله إلا الله المعنى: لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، وتكلَّمنا على شرح هذه الكلمة -كلمة التوحيد-، وحده لا شريكَ له، وأنَّ قوله: وحده هو تأكيدٌ للشقِّ الثاني من هذه الكلمة: إلا الله، إثبات الوحدانية لله ، ولا شريكَ له تأكيدٌ للشقِّ الأول: لا إله، نفيٌ لكل معبودٍ سوى الله -تبارك وتعالى-.
كما مضى الكلامُ على قوله: له الملك، فالملك كلّه لله -تبارك وتعالى-، وأصل الملك يُقال للتَّصرف المطلق، وله الحمد، وعرفنا المراد بالحمد، فالحمد كلّه لله، وأنَّ مَن لازم ذلك أن يكون كاملاً من كل وجهٍ؛ لأنَّه لا يُحمد الحمد المطلق إلا مَن كان كاملاً من كل الوجوه: في إلهيَّته، وربوبيَّته، وأسمائه، وصفاته.
وهو على كل شيءٍ قدير فالله هو الواحد الذي لا شريكَ له، وهو الملك الذي لا مُنازعَ له في الملك، وله الحمد المطلق الكامل، يُحمد على السَّراء والضَّراء: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:120]، لا يُعجزه شيءٌ، ولا يتعاظمه شيءٌ.
كان له عدل رقبةٍ يعني: ما يُعادل رقبةً، مثل عتق رقبةٍ. والعِدْل يُقال بالفتح والكسر، فبعض أهل العلم يقولون: إنَّه بالفتح والكسر سواء، ويُفسِّرونه بمعنى المثل، يعني: مثل رقبةٍ، ما يُعادل رقبةً.
وبعضهم يُفرِّق فيقول: إنَّه بالفتح بمعنى: المثل من غير الجنس، عدل رقبةٍ، وأنَّه بالكسر من الجنس.
وبعضهم يقول بالعكس، من الجنس، ومن غير الجنس، الآن الرَّقبة من الجنس، يُقال: فلان عدل فلانٍ، عند مَن يقول: إنها بالفتح لما يكون من الجنس، وإذا كان من غير الجنس: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95]، "أو عِدل ذلك صيامًا"، عند مَن يقولون: بالكسر لما يكون من غير الجنس، مَن يُفرِّقون بينهما، ومَن يعكس يقول: إنَّه بالفتح لما يُعادله من غير جنسه، تقول: عَدل ذلك طعام مساكين، فالصَّيد الذي لا يحلّ صيده، سواء كان ذلك لكون الصَّائد مُحْرِمًا، أو لكونه قد صاده في الحرم، والله يقول: لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ [المائدة:95]، ثم ذكر ما يُعادل ذلك: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا، فالصِّيام في مُقابل الصيد، وهذا ليس من جنسه.
فمَن صاد ظبيًا أو نعامةً، فيصوم، أو يُخرج طعامًا يُعادل ذلك، فهذا ليس من الجنس، حينما يُخرج آصُعًا من البرِّ، أو نحو هذا، هذا ليس من جنس الصَّيد، فيكون بالفتح عند مَن يقول: إنَّه بالفتح لما يكون من غير الجنس.
لكن حينما تقول: زيدٌ عِدل عمرٍو، هذا من جنسه، وتقول: هذا الصَّاع من البرِّ عِدل هذا الصَّاع من البرِّ، وهذا الصَّاع من التمر من هذا النوع -مثلاً البرني- عِدل هذا الصَّاع من العجوة، فالتَّمر جنسٌ، وهذه أنواع، فتقول: هذا عِدل هذا، يعني: يعدله إذا كان من جنسه بالكسر عند مَن يقول ذلك، وإذا كان من غير جنسه تقول: هذا الصَّاع من التَّمر عَدْل هذا الصَّاع من البرِّ، يعني: أنَّه يُعادله، نعم، عند مَن يُفرِّق هذا التَّفريق.
وعلى كل حالٍ، المقصود ما يُعادل هذه المذكورات.
فالنبي ﷺ أخبر أنَّ ذلك يكون عدل رقبةٍ من ولد إسماعيل، والرقبة قد تكون من ولد إسماعيل، وقد تكون من غيره -وهو الغالب-، لكنَّه هنا ذكر الأشرف في الرِّقاب؛ فإنَّ ولد إسماعيل هم العرب، أو بعض العرب، وهم الأشرف، فأشرف الرِّقاب ما كان من ولد إسماعيل، بصرف النَّظر عمَّا أخذه بعضُ الفقهاء من هذه الجملة: من كون الرِّق يقع على العرب، فليس في الحديث ما يدلّ على أنَّ ذلك هو المراد، وإنما المقصود أنَّ ذلك يكون بمنزلة كأنَّه أعتق رقبةً شريفةً في نسبها وأصلها، فهي من ولد إسماعيل، يعني: أشرف ما يكون من عتق الرِّقاب، أو أشرف ما يكون من الرِّقاب، فهم أشرف من سُبي، والنبي ﷺ لما قال عن الجارية التي هي من تميم: أعتقيها؛ فإنها من ولد إسماعيل[7]، فأثبت لها هذا النَّسب، وأثبت هذا الرّق، وإلا لم يصحّ العتق.
وقوله: كُتِبَ له عشر حسنات، وحُطَّ عنه عشر سيئات يعني: وُضع عنه ومُحي عنه عشر سيئات، ورُفِعَ له عشر درجات من درجات الجنَّة.
وكان في حرزٍ يعني: في حفظٍ ومنعةٍ وحصنٍ من الشَّيطان، ولم يقل: من وساوسه فقط، وإنما من إغوائه وتسلُّطه وهمزه ونفخه ونفثه، وكل لونٍ مما يُوصل الشَّيطانُ فيه المكروه إلى الإنسان، فقد يكون ذلك بالوسوسة في العبادة، وقد يكون ذلك بأمورٍ أخرى مما يُدخل عليه فيها أو بسببها الحزن والضِّيق، سواء كان ذلك ضيقة بالأفكار والخواطر السَّيئة، أو في المنام بالرُّؤى السَّيئة، فهذا كلّه من الشَّيطان.
بالإضافة إلى ما يحصل من الإغواء والإغراء بين الناس، والتَّحريش بينهم، فهذا يكون في حرزٍ منه، وكثيرٌ من الشُّرور التي تقع للناس إنما هي بسبب الشَّيطان: إمَّا بإغوائهم بالمنكر والمعصية، وما إلى ذلك، فينتج من جرَّائه من الأمور المكروهة في العاجل والآجل، وإمَّا أن يكون ذلك بأن يستفزّهم؛ فيحصل بينهم من الجرائم والعداوات والعدوان، وما إلى ذلك مما يكون داعيه الغضب أو الشَّهوة، فإذا سلم من هذين -الغضب والشَّهوة-، وهما -كما هو معلومٌ- من تزيين الشَّيطان وإغوائه ودفعه؛ فإنَّ الإنسان يكون سالـمًا من كثيرٍ من البلاء والشَّر.
ونُلاحظ هنا أنَّ هذا الذكر لم يُقيد بعددٍ، وإنما إذا قاله مرةً واحدةً في الصباح، أو في المساء، بمعنى أنَّه لو زاد فقاله مرتين كان ذلك بمنزلة عتق رقبتين من ولد إسماعيل، ويُكتب له عشرون حسنةً، وتُحطّ عنه عشرون سيئةً، وتُرفع له عشرون درجة، فهذا إذا أكثر منه فيكثر الأجر، وهذا من فضل الله -تبارك وتعالى- على عباده أن يسَّر لهم هذه الأسباب التي يتوصَّلون بها إلى الأجور، وحطّ الخطايا والسَّيئات والأوزار، ورفع الدَّرجات، هذا بالإضافة إلى الحفظ من هذا الشَّيطان الذي هو عدوهم، وقد توعدهم وتوعد أباهم قبل ذلك.
وقول النبي ﷺ بأنَّ ذلك يعدل عتق رقبةٍ، فإنَّ هذا من جهة الفضل والأجر، لا من جهة الإجزاء، كما أشرتُ إلى ذلك في مناسبةٍ سابقةٍ، يعني: لو كان على أحدٍ عتقُ رقبةٍ في كفَّارةٍ من الكفَّارات؛ كمَن جامع امرأته مثلاً في نهار رمضان، فعليه عتق رقبةٍ، أو ظاهر من امرأته، فعليه عتق رقبةٍ، أو قتل مسلمًا بالخطأ، فأول ما يجب عليه هو عتق الرَّقبة، فلا يقل أحدٌ هنا: إني أقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له) في الصَّباح ... إلى آخر هذا الذكر، وهذه رقبةٌ قد أجزأت عني، وصارت كفَّارةً عن هذا الفعل.
فيُقال له: لا، هذا في الفضل والأجر، وليس في الإجزاء، كما يُقال أيضًا في الأعمال التي جاء من جزائها: أنَّ ذلك بمنزلة عُمرةٍ: مَن تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباءٍ، فصلَّى فيه صلاةً؛ كان له كأجر عُمرةٍ[8]، لا يُقال هنا: إنَّه يسقط عنه العُمرة الواجبة؛ لأنَّ الراجحَ أنَّ العُمرة واجبةٌ في العُمر مرةً.
وهكذا لو كان عليه نذر عُمرةٍ، فإنَّه لا يذهب يُصلي ركعتين في مسجد قباء، ويقول: أنا الآن قد وقع لي عُمرة. وكذلك مَن يُحسن الحديث: مَن صلَّى الغداةَ في جماعةٍ، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشَّمس، ثم صلَّى ركعتين؛ كان له كأجر حجَّةٍ وعُمرةٍ تامَّةٍ، تامَّةٍ، تامَّةٍ[9]، فيقول: أنا لا أذهب إلى الحجِّ، ويكفي أن أجلس هذا المقدار. نقول: هذا في الأجر والثَّواب.
وكذلك قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلثَ القرآن[10]، فإذا قرأها ثلاث مرات، فهذا لا يكون بمنزلة ذاك الذي قرأ القرآنَ من أوَّله إلى آخره، من جهة التَّدبر والانتفاع، ومَن نذر مثلاً أن يقرأ القرآنَ كاملاً، أو فيما يتعلّق بموضوع الهجر، وأنَّه لا يأتي عليه شهرٌ، أو يأتي عليه أربعون إلا وقد قرأ القرآنَ كاملاً، فيقول هذا: أنا أختم في كل ساعةٍ؛ وذلك بقراءة سورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص] ثلاث مرات، فهذا يكفي. نقول له: هذا ما يكفي.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود: أبواب النوم، باب ما يقول إذا أصبح، برقم (5077)، وصححه الألباني.
- أخرجه النَّسائي في "الكبرى" برقم (9852).
- أخرجه ابنُ ماجه: كتاب الدُّعاء، باب ما يدعو به الرجلُ إذا أصبح وإذا أمسى، برقم (3867)، وصححه الألباني.
- "الأذكار" للنووي، ت: الأرناؤوط (ص80).
- "نتائج الأفكار" لابن حجر (2/386).
- "صحيح الجامع" (2/1095) (6418).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب العتق، باب مَن ملك من العرب رقيقًا، فوهب وباع وجامع وفدى وسبى الذُّرية، برقم (2543)، ومسلم: كتاب فضائل الصَّحابة، باب من فضائل غِفار وأسلم، برقم (2525).
- أخرجه ابن ماجه: كتاب إقامة الصَّلاة والسُّنة فيها، باب ما جاء في الصَّلاة في مسجد قباء، برقم (1412)، وصححه الألباني.
- أخرجه الترمذي: أبواب السَّفر، باب ذكر ما يُستحبّ من الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، برقم (586)، وحسَّنه الألباني.
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب فضل {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، برقم (5015)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، برقم (811).