السبت 19 / جمادى الآخرة / 1446 - 21 / ديسمبر 2024
(186) أذكار النوم آيتا البقرة " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه..." "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"
تاريخ النشر: ٠٥ / شوّال / ١٤٣٥
التحميل: 1969
مرات الإستماع: 2467

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

فيما يتعلّق بالأذكار التي تُقال عند النوم أورد المؤلفُ -حفظه الله- آيةَ الكرسي، وقد مضى الكلامُ عليها في الكلام على أذكار الصَّباح والمساء، وأنها مما يُقال هناك، وتكلمتُ على ما تضمنته من الهدايات والمعاني، وما في ضمنها من الأسماء الحسنى والصِّفات.

وقد ذكر بعضُ أهل العلم ما اشتملت عليه من ذكر اسم الله -تبارك وتعالى- صراحةً، أو تضمنًا، إلى غير ذلك من دلالتها على التوحيد بأنواعه الثلاثة، وذكرتُ هناك الرِّوايات الواردة التي تتصل بهذا الحديث الذي جاء في الأذكار التي تُقال عند النوم، وهو حديث أبي هريرة وغيره، وقرنتُ بين هذه الرِّوايات: لما جاء الشيطانُ يحثو، إلى أن قال النبيُّ ﷺ: صدقك، وهو كذوبٌ[1]، حينما قال له: إذا أويتَ إلى فراشك فاقرأ آيةَ الكرسي، فإنَّه لن يزال عليك من الله حافظٌ، ولا يقربك شيطانٌ حتى تُصبح، وذكرنا هناك أنَّ هذا الحفظَ يكون بإطلاقٍ، كما جاء في الحديث، حافظٌ يحفظك من المكاره والمخاوف، من شياطين الإنس والجنّ، والهوامّ، والدَّوابّ، وما إلى ذلك.

ولا يقربك شيطانٌ وهذا خاصٌّ، فهو يحفظ من الشَّياطين، ومن غيرها: حتى تُصبح، ولا حاجةَ لإعادة الكلام في هذا، فقد ذكرتُه مع شيءٍ من الاستيفاء عند المقارنة بين الألفاظ عن جمعٍ من الصَّحابة .

ولهذا ننتقل هذه الليلة لما بعده من الأذكار، وهو قراءة الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ إلى قوله: فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:285، 286].

فقد جاء من حديث أبي مسعودٍ البدري قال: قال رسولُ الله ﷺ: الآيتان من آخر سورة البقرة مَن قرأ بهما في ليلةٍ كفتاه[2]، وهو مُخرَّجٌ في "الصَّحيحين".

فقوله: الآيتان من آخر سورة البقرة يعني: الكائنتان في آخر هذه السُّورة.

مَن قرأ بهما يعني: قرأهما، وبعض أهل العلم يقول: إنَّ الباء هنا صِلة، يعني: زائدة إعرابًا، والمراد: قرأهما، وقد جاء هذا في بعض رواياته في الصَّحيح: مَن قرأهما[3]، من غير الباء، وكذا عند مسلمٍ أيضًا[4]، وفي روايةٍ أخرى للبُخاري: مَن قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة[5].

وبعض أهل العلم يقول: الباء هذه صِلة، والمراد: مَن قرأهما، وبعضهم يقول: إنَّ ذلك على سبيل تضمين الفعل (قرأ) معنى فعل آخر يصحّ أن يُعدَّى بالباء، فإنَّ التَّعديةَ بالحرف تدلّ على معنى الفعل، وتُعرَف معاني الأفعال -هذه قاعدة- على ضوء ما تتعدَّى به من الحروف، ونحن عرفنا التَّضمين في مناسباتٍ سابقةٍ: بأنَّ الفعل وما يقوم مقامه يكون في ضمنه معنى فعل آخر يصحّ أن يُعدَّى بهذا الحرف، أنت تقول: قرأتُ الآيةَ، ولا تقول: قرأتُ بالآية، فعُدِّي بالباء.

فهنا قال: قرأ بهما قالوا: (قرأ) مُضمن معنى فعل آخر، وهو التَّبرك، تبرك بكذا، فيكون فيه معنى القراءة والتَّبرك.

هكذا قال بعضُ أهل العلم، وعلى هذا لا تكون الباءُ هذه صِلة، ولا تكون زائدةً، قالوا: مثل قوله: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [الإنسان:6]، هنا يَشْرَبُ بِهَا، والأصل أن يُقال: يشرب منها، فالتَّعدية بالباء هنا، قالوا: لأنَّ الفعل (يشرب) مُضمّن معنى (يرتوي)، فإنَّ الارتواء يتعدَّى بالباء: يرتوي بها، أو يلتذّ بها، فصار المعنى فيه زيادة، فهو يدلّ على الشُّرب + الارتواء، أو الالتذاذ، وهذا له أمثلة ونظائر ذكرتُ شيئًا منها في مناسباتٍ سابقةٍ.

وعلى كل حالٍ، فقوله هنا: مَن قرأ بهما أي: قرأهما، متى يقرأ ذلك؟

قال: في ليلةٍ كفتاه، إذًا هذا من أذكار الليلة، في آية الكرسي قال: إذا أويتَ إلى فراشك، وهنا: مَن قرأ بهما في ليلةٍ كفتاه، والليل يبدأ متى؟ من بعد غروب الشَّمس.

والحافظ ابن حجر -رحمه الله- أورد روايةً ليست في "الصحيحين"، ولا في السنن، وإنما أخرجها عليُّ بن سعيد العسكري في "ثواب القرآن"، بلفظ: مَن قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه، آمَنَ الرَّسُولُ ... إلى آخره[6]، والحافظ حينما ذكر هذه الرِّواية لم يعقّب عليها، ومن عادته أنَّ ما سكت عنه في "فتح الباري" فإنَّ ذلك يدلّ على أنَّه صالحٌ للاحتجاج، وأنَّه ليس بضعيفٍ عنده، مع أنَّه من رواية عاصم بن بهدلة.

فإذا صحَّت هذه الرواية بهذا التَّقييد: من قرأهما بعد العشاء، إذًا يكون ذلك بعد العشاء، وليست من أذكار الصَّلاة، ولكن يقرأ بهما بعد العشاء، في أي وقتٍ شاء، لكنَّه بحاجة إلى الحفظ، فلا يُؤخّر ذلك إلى السَّاعة الثانية عشرة مثلاً، أو الواحدة، كونه لا ينام إلا مُتأخِّرًا، وعلى هذا لا يختصّ ذلك بالنوم، وهذا يصلح أن يكون مثالاً على أذكار الليلة، يعني: ليست أذكار الصَّباح والمساء، وليست الأذكار المختصّة بالنوم، وإنما من الأذكار التي تُقال في الليلة.

وبعض الناس يقول: ما هي أذكار الليلة؟ عندنا أذكار صباح ومساء، وعندنا أذكار نوم، وأذكار استيقاظ، يُقال: هناك أشياء قليلة إذا ما قُورنت بغيرها من الأذكار الواردة في الصَّباح والمساء، أو عند النوم، أو عند الاستيقاظ، أو نحو ذلك من أذكار الصَّلوات، يمكن أن يُقال عنها: بأنها أذكار الليلة: مَن قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه على هذه الرِّواية، والرِّواية التي عندنا في "الصحيحين": في ليلةٍ أيّ ليلةٍ، وهذا يتطلب أن يقرأ كلَّ ليلةٍ من أجل أن يُحْفَظ تلك الليلة.

وقوله: كفتاه، كفتاه من ماذا؟

الحافظ ابن حجر -رحمه الله- يميل إلى أنَّ المراد: كفتاه عن قيام الليل بالقرآن[7]، وسيأتي وجه: لماذا يُرجح هذا القول مع أنَّه ليس بمُتبادرٍ؟

وبعض أهل العلم يقول: كفتاه بمعنى: أجزأتا عنه قراءة القرآن مُطلقًا، سواء داخل الصَّلاة، أو خارج الصَّلاة، الذي يقرأهما في ليلةٍ كفتاه؛ لما تضمّنته -كما سيأتي- من معاني التوحيد؛ ولهذا قال بعضُ أهل العلم: كفتاه: أجزأته فيما يتعلّق بالاعتقاد؛ لما اشتملتا عليه من الإيمان والأعمال إجمالاً.

وبعضهم يقول: كفتاه من كل سوءٍ، وهذا هو المتبادر، وبعضُهم يخصّ ذلك بالشَّيطان -وسيأتي توجيهه- يقول: كفتاه من شرِّ الشَّيطان. وبعضهم يقول: دفعتا عنه شرَّ الإنس والجنّ. وبعضهم يقول: كفتاه يعني: بسبب ما حصل له من قراءتهما من الثَّواب والأجر، يعني: حصل على شيءٍ عظيمٍ كثيرٍ يكفيه من أن يطلب شيئًا آخر بعملٍ يعمله.

والحافظ ابن حجر -رحمه الله- يحتجّ لقوله من أنَّ ذلك يكفيه عن قيام الليل، يقول: لما ورد صريحًا من طريق عاصم، عن علقمة، عن أبي مسعودٍ رفعه إلى النبي ﷺ: مَن قرأ خاتمةَ البقرة أجزأت عنه قيام ليلةٍ[8].

وذكره الحافظُ أيضًا، ولم يتعقّبه، فدلَّ على أنَّه مما يصحّ الاحتجاجُ به عنده، فقوله: أجزأتا عنه قيام ليلةٍ هذا الذي جعله يُرجح هذا القول، مع أنَّه ليس بمُتبادرٍ، هذا إذا تطلب المقام التَّرجيح، فالحافظ ابن حجر يُرجح هذا القول.

ومَن قال: بأنَّ المراد كفتاه يعني: من شرِّ الشَّيطان. فهؤلاء يحتجُّون بما جاء عن النُّعمان بن بشير مرفوعًا إلى النبي ﷺ: إنَّ الله كتب كتابًا، وأنزل منه آيتين ختم بهما سورةَ البقرة، لا يُقرآن في دارٍ فيقربها شيطانٌ ثلاث ليالٍ[9]، هذا مما يحصل من ناتج قراءتهما، وأثر هذه القراءة، لكن تقييد ذلك في ليلةٍ، قال: كفتاه، ولم يُقيد ذلك بالشَّيطان، فيكون هذا مما يدخل في جُملته.

ولاحظ أنَّه في هذا الحديث -حديث النُّعمان- ذكر أنَّ قراءةَ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة: لا يقرب هذا الدار شيطانٌ ثلاث ليالٍ، والحديث المشهور: أنَّ البيتَ الذي تُقرأ فيه سورة البقرة كاملةً، وليس الآيتين الأخيرتين.

والحافظ ابن حجر -رحمه الله- أورد هذا، ولم يتعقّبه أيضًا، قال: أخرجه الحاكم وصححه[10]. وكذلك حديث معاذٍ، وهي إحدى الرِّوايات التي أوردها في المقارنة في قصّة مجيء الشَّيطان يحثو من الطَّعام، أو من تمر الصَّدقة، فلمَّا أمسكه معاذٌ ، والرِّواية المشهورة حديث أبي هريرة ، قال: وآية ذلك نفس حديث معاذ: لا يقرأ أحدٌ منكم خاتمةَ سورة البقرة، فيدخل أحدٌ منها بيتَه تلك الليلة يعني: من الشَّياطين. هذا أخرجه الحاكم[11]، وفضل الله واسعٌ، يمكن أن تكون سورةُ البقرة تطرد الشَّياطين ثلاثة أيام، وكذلك آخر آيتين من سورة البقرة يحصل لها هذا الأثر.

والحافظ ابن حجر -رحمه الله- حينما رجَّح بأنَّ ذلك يُحمل على الكفاية من قيام الليل، لا يمنع من أنَّ هذه المعاني جميعًا صحيحة ومُرادة؛ وذلك أنَّه قال: "وعلى هذا فأقول: يجوز أن يُراد جميع ما تقدَّم"[12]، يعني: لما ذكر حديثَ النُّعمان، وذكر حديث معاذ، يقول: هذه جميعًا مُحتملة. فهذا له دليلٌ، وهذا له دليلٌ، وهذا له دليلٌ.

والشَّوكاني -رحمه الله- كذلك قال: "ولا مانع من إرادة هذه الأمور جميعها، ويُؤيد ذلك ما تقرر في علم المعاني والبيان من أنَّ حذفَ المتعلّق مُشعرٌ بالتَّعميم، فكأنَّه قال: كفتاه من كل شرٍّ، أو من كلِّ ما يخاف، وفضل الله واسعٌ"[13]، واحتجَّ بالقاعدة التي نذكرها عادةً: وهي أنَّ حذفَ المتعلّق يُفيد العموم النِّسبي، فهنا لم يقل: كفتاه من الشَّيطان، أو كفتاه من الإنس والجنِّ، أو كفتاه من الهوامّ: الحيَّات والعقارب، أو كفتاه من قيام الليل، ونحو ذلك، وإنما قال: كفتاه، فحذف المتعلّق يُفيد هذا المعنى، وهو العموم النِّسبي، والمتعلّق يعني: المقدّر المحذوف، فهنا حينما لم يُقيد ذلك بشيءٍ خاصٍّ، فإنَّه يمكن أن يُحْمَل على العموم: كفتاه من كل شرٍّ، ومن كلِّ ما يخاف، ومن كلِّ ما يُحاذر، إلى غير ذلك من المعاني، ثم بعد ذلك يأتي الكلامُ على ما تضمّنته هاتان الآيتان من الهدايات والمعاني على سبيل الإيجاز، وهذا لا يتأتى في هذا المجلس.

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم (3033).
  2. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب مَن لم يرَ بأسًا أن يقول: سورة البقرة، وسورة كذا وكذا، برقم (5040)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، برقم (807).
  3. أخرجه البخاري: كتاب المغازي، برقم (4008).
  4. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، برقم (807).
  5. أخرجه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة، برقم (4624).
  6. "فتح الباري" لابن حجر (9/56).
  7. "فتح الباري" لابن حجر (9/56).
  8. "فتح الباري" لابن حجر (9/56).
  9. أخرجه الحاكم في "المستدرك" برقم (2065)، وقال: "هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد، ولم يُخرجاه".
  10. "فتح الباري" لابن حجر (9/56).
  11. أخرجه الحاكم في "المستدرك" برقم (2068)، وقال: "هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد، ولم يُخرجاه".
  12. "فتح الباري" لابن حجر (9/56).
  13. "تحفة الذاكرين بعدّة الحصن الحصين" (ص123).

مواد ذات صلة