الثلاثاء 03 / جمادى الأولى / 1446 - 05 / نوفمبر 2024
(208) دعاء قنوت الوتر "اللهم إ ياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ..."
تاريخ النشر: ٢٤ / ذو القعدة / ١٤٣٥
التحميل: 2251
مرات الإستماع: 1792

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فالذكر الثالث مما أورده المؤلفُ فيما يُقال في قنوت الوتر: هو ما يرويه عبيدُ بن عُمير قال: "صليتُ خلف عمر بن الخطاب صلاةَ الغداة، فقنتَ فيها بعد الركوع، وقال في قنوته: اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ونُثني عليك الخيرَ كلّه، ونشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك مَن يفجرك، اللهم إياك نعبد، ولك نُصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتَك، ونخشى عذابك، إنَّ عذابَك بالكفَّار مُلحق"، يقول بعضُ رواته -وهو الخزاعي-: "ونُثني عليك ولا نكفرك، ونخشى عذابَك الجدّ"، هكذا في رواياته.

هذا الحديث أخرجه ابنُ خزيمة[1]، والبيهقي في "السُّنن الكبرى"[2]، وفي "الدَّعوات الكبير"[3]، كذلك أخرجه أبو داود في كتابه "المراسيل"[4]، والبيهقي قال عنه في "السُّنن الكبرى"، وفي "الدَّعوات الكبير": "أنَّه مُرسل".

والمرسَل هو: ما يرفعه التَّابعيُّ إلى النبي ﷺ.

وقال البيهقي في "السنن الكبرى" في موضعٍ آخر: "إسناده صحيحٌ"[5]، وقال في موضعٍ ثالثٍ: "صحيحٌ موصولٌ"[6]، والذَّهبي يقول: "فيه عبدالقاهر يُجْهَل"[7]، وقال ابنُ الملقن: "صحيحٌ، أو حسنٌ، رُوِيَ بعضُه مرفوعًا مُرسلاً"[8]، وقال في "البدر المنير": "مُرسل"[9]، ومرةً قال: "رُوِيَ بعضُه مرفوعًا، وهو مُرسل"[10].

وقال الحافظُ ابن حجر -رحمه الله-: "موقوفٌ صحيحٌ"[11]، صحح الموقوف، وقال العيني: "فيه محمد بن عبدالرحمن ابن أبي ليلى، فيه مقال"[12].

الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- قال: "إسناده صحيحٌ"[13]، وقال في موضعٍ آخر: "إسناده رجاله كلّهم ثقات، رجال الشَّيخين، لولا عنعنة ابن جُريج لكان حريًّا بالصحة"[14]، ومرةً قال: "إسناده صحيحٌ من الطريق الأولى، والأخرى فيها ابن أبي ليلى؛ سيئ الحفظ"[15].

هاتان سورتان مما نُسخ من القرآن؛ نُسِخَ لفظه، وبقي حكمُه، يُقال لهما: سورتا الخلع، والحفد.

"اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ونُثني عليك الخير كلّه، ونشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك مَن يفجرك"، هذه واحدة.

الثانية: "اللهم إياك نعبد، ولك نُصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتَك، ونخشى عذابك، إنَّ عذابك بالكفار مُلحق".

فهذا مما نُسخ لفظه، ومن القرآن ما هو منسوخ اللَّفظ دون الحكم، ومنه ما نُسخ لفظُه وحكمه، ومنه ما نُسخ حكمه دون لفظه.

معنى هذا الدُّعاء: "اللهم" يا الله -كما عرفنا في مناسباتٍ سابقةٍ- إنا نطلب منك العونَ على الطَّاعة، هذا معنى الاستعانة، قبل ذلك قدَّم العبادة: "إياك نعبد" أي: نعبدك وحدك دون ما سواك، ومعلومٌ أنَّ تقديم المعمول على عامله يدلّ على الحصر، أو الاختصاص، أي: أنَّ العبادة لله -تبارك وتعالى- وحده.

"ولك نُصلي ونسجد"، أيضًا قدَّم هنا الجار والمجرور، فدلّ أيضًا على الحصر؛ أنَّ هذه الصَّلاة لك: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، فهذا كلّه يدلّ على الإخلاص؛ إخلاص العبادة لله -تبارك وتعالى-.

"وإليك نسعى ونحفد"، وهو يقول: يا الله، نطلب منك، "إليك نسعى ونحفد" هو يُخبر عن نفسه؛ "نسعى" يعني: نجدّ ونزرع، أي: السَّعي هو الإسراع في المشي، والمقصود به هنا الإسراع في طاعة الله -تبارك وتعالى- ومرضاته.

ومعنى الحفد: "نحفد" أي: نُسرع، والمعنى: نعمل بطاعتك، ونجدّ ونجتهد في التَّقرب إليك، فالذي يكون بهذه المثابة تقول: "حفد فلانٌ" بمعنى: خفَّ في العمل وأسرع الخدمة، فالمقصود بذلك المسارعة.

وأبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله- يقول: "أصل الحفد الخدمة والعمل"[16]، يعني: نعمل بطاعتك، نُبادر، نُسرع في التَّقرب إليك وطلب مرضاتك.

"نرجو رحمتَك، ونخشى عذابك"، هكذا يكون المؤمنُ؛ يدور بين الخوف والرَّجاء، فهما كالجناحين للطَّائر، وقد مضى الكلامُ على هذين العملين القلبيين مُفصلاً في الأعمال القلبية، وأيضًا في مناسباتٍ في شرح الأذكار وغيرها، وما ذكره أهلُ العلم من استوائهما في حال القوة والصّحة، أو تغليب جانب الخوف.

وكذلك ما ذكروه عند الاحتضار من تغليب جانب الرَّجاء، أو أن يكون ذلك على حالٍ سواء.

فهنا يقول: "نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إنَّ عذابَك بالكافرين مُلحق"، في بعض الألفاظ: "بالكفَّار مُلحِق"، هكذا على المشهور بالكسر: "ملحِق" يعني: أنَّه لاحقٌ بهم، وبعضهم ضبطه بالفتح: "ملحَق"، ابن الأثير[17] -رحمه الله- يقول بأنَّ الرِّواية بكسر الحاء، أي: مَن نزل به عذابُك ألحقه بالكفَّار، وقيل: هو بمعنى لاحق، يعني: أنَّه يتبعهم ويلحق بهم ويُدركهم.

وبعضهم ضبطه بالفتح، أي: أنَّ عذابك مُلحق بالكفَّار، ويُصابون به.

"اللهم إنا نستعينك ونستغفرك" هذه هي السورة الثانية التي يُقال لها: "سورة الخلع"، والأولى يُقال لها: سورة الحفد.

"اللهم إنا نستعينك"، يعني: يا الله، إنا نطلب منك العون على الطَّاعة وترك المعصية، نطلب منك المغفرة للذُّنوب.

"ونُثني عليك الخير كلّه"، والثَّناء هو إعادة المدح ثانيًا، بدليل الحديث المشهور في الفاتحة: إذا قال العبدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، قال: أثنى عليَّ عبدي[18]، فإعادته ثانيًا هو الثَّناء.

فهنا "نُثني عليك الخير"، وقال: "نُثني عليك الخيرَ ولا نكفرك، ونُؤمن بك، ونخضع لك، ونخلع مَن يكفرك" أي: نترك مَن يكفرك. وفي بعض ألفاظه: "نخلع مَن يفجرك" يعني: يعصيك ويخرج عن طاعتك. وبعضهم قال: يلحد في أسمائك. كلّ هذا داخلٌ فيه -والله تعالى أعلم.

وهنا هاتان السُّورتان السُّيوطي في كتابه "الدر المنثور"، وهو موسوعة ضخمة كما هو معلومٌ -خزانة التفسير- ذكر ذلك من طرقٍ متعددةٍ، بألفاظٍ مختلفةٍ، لكنَّه –للأسف- مُختصر من كتابه الكبير "ترجمان القرآن"، وقد حذف أسانيده، وذكر أنَّ ما ورد في هاتين السُّورتين ذكر الرِّوايات والألفاظ، ونقل عن سفيان الثوري -رحمه الله- قال: "كانوا يستحبُّون أن يجعلوا في قنوت الوتر هاتين السُّورتين"[19].

والحافظ ابن عبدالبرّ -رحمه الله- في كتابه "الاستذكار"[20] ذكر خلافَ أهل العلم فيما يُقنت به من الدُّعاء، ونقل عن الكوفيين –يعني: أصحاب أبي حنيفة- وعن الإمام مالك -رحمه الله- أنَّه ليس في القنوت دعاءٌ مُحدَّدٌ، ولكنَّهم يستحبون ألا يقنت إلا بقوله: "اللهم إنا نستعينك ..." إلى آخره، يعني: بهاتين السُّورتين.

ومثل هذا عمر -رضي الله تعالى عنه-، سمعه عبيدُ بن عمير يقول ذلك في صلاة الغداة؛ يعني: القنوت في الفريضة، وكان عمر يقنت في النَّازلة.

والقنوت في النَّازلة -كما هو معلومٌ- لا يختصّ بالفجر، بل يكون في الفرائض كلِّها.

وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: "كان في الفجر، ولم يكن يُداوم على القنوت: لا في الفجر، ولا غيرها.

وقد ثبت في "الصحيحين" عن أنسٍ أنَّه قال: "لم يقنت بعد الركوع إلا شهرًا"[21]، يقول: فيُشرع أن يقنت عند النَّوازل؛ يدعو للمؤمنين، ويدعو على الكفَّار، في الفجر، وفي غيرها من الصَّلوات، وهكذا كان عمرُ يقنت لما حارب النَّصارى بدُعائه الذي فيه: "اللهم العن الكفرة"، أو "العن كفرةَ أهل الكتاب"[22]، إلى آخره.

والنَّووي -رحمه الله- ذكر الاستحبابَ؛ استحباب الجمع بين قنوت عمر هذا وما مضى أيضًا مما أورده المؤلفُ، مثلما جاء في دُعاء الحسن ، ويقول: "إنْ جمعَ بينهما فالأصحّ تأخير قنوت عمر، وإن اقتصر –يعني: إن كان سيقتصر على واحدٍ- فليقتصر على الأول: اللهم اهدنا فيمَن هديتَ"، قال: "وإنما يُستحبّ الجمع بينهما إذا كان مُنفردًا، أو إمام محصورين يرضون بالتَّطويل"[23]، يعني: كأنَّه يتحدث عن القنوت  في الفريضة.

فعلى كل حالٍ، هاتان السُّورتان يُقال لهما ذلك، ويُقال لهما أيضًا: سورتا أُبي ؛ لأنَّهما كانتا في مُصحفه؛ في مُصحف أُبي بن كعب -رضي الله عنه وأرضاه-.

وهاتان السُّورتان في مضامينهما بينهما شبه مع سورة الفاتحة، سورة الفاتحة كما نرى هنا؛ فهاتان السُّورتان افتتحتا بالاستعانة، شيخ الإسلام يقول: "التي هي نصف العبد"[24]، يعني: كما قال الله : قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، وفي السُّورة الثانية: "اللهم إياك نعبد، ولك نُصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد"، إلى آخره، فهذا مُفتتح بالعبادة التي هي النصف للرب، كما في الفاتحة، يقول: "ففي سورتي القنوت مناسبة لفاتحة الكتاب، وفيهما جميعًا مناسبة أيضًا لخطبة الحاجة: إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا... إلى آخره"، يقول: "وذلك جميعه من فواتح الكلم، وجوامعه، وخواتمه"[25]. هذا ما ذكره شيخُ الإسلام -رحمه الله-.

هذا، والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

 

  1. "صحيح ابن خزيمة" (2/155)، برقم (1100).
  2. "السنن الكبرى" للبيهقي (2/298)، برقم (3142).
  3. "الدَّعوات الكبير" (1/558)، برقم (432).
  4. "المراسيل" لأبي داود (ص118)، برقم (89).
  5. "السنن الكبرى" للبيهقي (2/299)، برقم (3144).
  6. "السنن الكبرى" للبيهقي (2/298)، برقم (3142)، قال: "وقد رُوِيَ عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- صحيحًا موصولًا".
  7. "المهذب في اختصار السنن الكبير" (2/650-651)، برقم (2793).
  8. لم أقف عليه.
  9. "البدر المنير" (4/371).
  10. "البدر المنير" (4/371).
  11. لم أقف عليه.
  12. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (10/33).
  13. "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" (2/171).
  14. "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" (2/170)، برقم (428).
  15. "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" (2/165).
  16. "غريب الحديث" للقاسم بن سلام (3/374).
  17. "النهاية في غريب الحديث والأثر" (4/238).
  18. أخرجه مسلم: كتاب الصَّلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعةٍ، وإنَّه إذا لم يُحسن الفاتحة، ولا أمكنه تعلّمها؛ قرأ ما تيسر له من غيرها، برقم (395).
  19. "الدر المنثور في التفسير بالمأثور" (8/697).
  20. انظر: "الاستذكار" (2/295).
  21. متفق عليه: أخرجه البخاري: أبواب الوتر، باب القنوت قبل الركوع وبعده، برقم (1002)، وكتاب الجزية، باب دعاء الإمام على مَن نكث عهدًا، برقم (3170)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصَّلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، برقم (677).
  22. انظر: "مجموع الفتاوى" (22/270).
  23. "المجموع شرح المهذب" (3/499).
  24. "مجموع الفتاوى" (18/288).
  25. "مجموع الفتاوى" (18/288).

مواد ذات صلة