الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
ابتدأنا في الليلة الماضية في الكلام على ما تضمّنه هذا الحديث العظيم في دُعاء الهمِّ والحزن، وهو قوله: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك[1].
فكان الكلامُ على هذه الجُمَل، وهي مُقدِّمات يتوسّل العبدُ بها بين يدي سؤاله ودُعائه، مُنطرحًا بين يدي ربِّه، مُظهرًا للذلِّ والافتقار والمسكنة، مُعترفًا بالعبودية، وأنَّ حكم الله -تبارك وتعالى- نافذٌ فيه، وأنَّ قضاءه عدلٌ فيه، لا جورَ، ولا ظلمَ بحالٍ من الأحوال، فكل أقضية الربِّ -تبارك وتعالى- في عبده عدلٌ؛ ولهذا قيل -كما يقول شيخُ الإسلام رحمه الله-: بأنَّ كلَّ نعمةٍ منه فضل، وأنَّ كلَّ نعمةٍ منه عدل[2]؛ ولهذا يقولون: أطعتُك بفضلك، والمنّة لك، وعصيتُك بعلمك، أو بعدلك، والحجّة لك، فأسألك بوجوب حُجَّتك عليَّ، وانقطاع حُجَّتي، إلا ما غفرتَ لي[3]. هذا ذكره شيخُ الإسلام -رحمه الله-، وهذا من التَّوسل بمثل هذا الذي جاء في هذا الحديث.
والمقصود أنَّ هذا الحكم -كما سبق- يتناول الكوني والأمري، وكذلك القضاء؛ فإنَّه يتناول ما كان باختيار العبد، وما كان بغير اختياره، يعني: مما يأتيه العبدُ مختارًا مُنقادًا، وما يقع عليه من غير اختيارٍ، فإنَّه لا يمضِ في هذا الكون، ولا يقع شيءٌ، قلَّ أو كثر، إلا بحكم الله الكوني وإرادته ومشيئته -تبارك وتعالى.
والمقصود أنَّ كلَّ واحدٍ من الحكمين: الأمري والكوني، يمضي ولا بدَّ في العباد، وكل واحدٍ من القضاءين عدلٌ، لا ظلمَ فيه، هذا ذكره أهلُ العلم، كالحافظ ابن القيم -رحمه الله-[4].
ثم بعدما أظهر التَّذلل والعبودية، يتوسّل بأسمائه الحسنى: أسألك بكل اسمٍ هو لك، سميتَ به نفسك، الله -تبارك وتعالى- هو الذي يُسمِّي نفسه، ولا يُسميه خلقُه، ومن الأدب مع الأسماء الحسنى، ومع المسمّى بها، وهو الله -تبارك وتعالى-: ألا يُسمَّى إلا بما سمَّى به نفسَه، وما سمَّاه به رسولُه ﷺ، فالواقع أنَّ ذلك بوحيٍ أوحاه الله إليه: أنَّ ذلك من أسماء الله ، ومن الإلحاد في أسماء الله -تبارك وتعالى- أن يُسمَّى بغير ما سمَّى به نفسَه.
وإذا كان المخلوقُ الضَّعيفُ العاجزُ يأنف من أن يُدْعَى بغير الاسم الذي سمَّاه به أهلُه، فكيف بالله -تبارك وتعالى- العظيم الأعظم حينما يُدْعَى باسمٍ لم يُسمِّ به نفسَه؟!
فلو خاطبك أحدٌ وناداك باسمٍ غير الاسم الذي سُمِّيت به، فإنَّك لا ترضى هذا، وتُصحح له هذا الخطأ، وتذكر له الاسم الذي ينبغي أن يدعوك به.
وأيضًا لم يقل: خلقتَه لنفسك، وإنما قال: سمَّيتَ به نفسَك، ولا قال: سمَّاك به خلقُك، فأخذ منه بعضُ أهل العلم -كالحافظ ابن القيم رحمه الله-: أنَّ الله -تبارك وتعالى- تكلّم بذلك الاسم، حيث سمَّى به نفسَه، كما سمَّى نفسَه في كتبه التي تكلّم بها حقيقةً بأسمائه، ومن ثم فإنَّ ابن القيم -رحمه الله- يقول: إنَّ هذه الأسماء غير مخلوقةٍ[5].
أو أنزلتَه في كتابك يحتمل أن يكون جنس الكتب المنزلة، فإنَّ "كتاب" مفرد مُضاف إلى معرفةٍ، وهي كاف الخطاب، وهذا يُفيد العموم.
ويحتمل أن يكون المقصودُ الكتاب الذي أنزله على محمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم-.
والواقع أنَّ الأمر أعمُّ من ذلك، يعني: أعمّ مما يختصّ بكتابنا الذي أنزله الله ، وهو هذا القرآن، وإنما المقصود ما أنزله اللهُ في الكتب التي أوحى بها إلى الرسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام-، فكلّ ذلك داخلٌ فيه.
أو علَّمته أحدًا من خلقك يعني: مثل الرُّسل والأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام.
وقال بعده: أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك يعني: تفردتَ به، واحتفظتَ به في مكنون الغيب، ولم تُطلع عليه أحدًا من خلقك، ولم تُنزله في كتابٍ، ولم يطَّلع عليه لا ملكٌ مُقرَّبٌ، ولا نبيٌّ مُرسَلٌ، فهذا يدلّ على أنَّ أسماء الله -تبارك وتعالى- لا تنحصر بتسعةٍ وتسعين اسمًا، وهذا الذي عليه عامَّة أهل العلم، وقد نقل عليه بعضُهم الإجماع، كما قال النَّووي في حديث: إنَّ لله تسعةً وتسعين اسمًا[6]: "واتَّفق العلماءُ على أنَّ هذا الحديثَ ليس فيه حصرٌ لأسمائه ، فليس معناه: أنَّه ليس له أسماء غير هذه التِّسعة والتِّسعين، وإنما مقصود الحديث: أنَّ هذه التسعة والتِّسعين مَن أحصاها دخل الجنةَ، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها، لا الإخبار بحصر الأسماء"[7].
والواقع أنَّه لا إجماعَ في هذا؛ لأنَّ ابن حزم -رحمه الله- خصَّ الأسماء بهذا العدد، حيث قال: "وصحَّ أنَّ أسماءه لا تزيد على تسعةٍ وتسعين شيئًا؛ لقوله : مئة إلا واحدًا[8]، فنفى الزيادة وأبطلها، لكن يُخبر عنه بما يفعل -تعالى"[9].
وحديث: إنَّ لله تسعةً وتسعين اسمًا، مئة إلا واحدًا، مَن أحصاها دخل الجنَّة[10]، ليس المقصودُ به الحصر، وإنما المقصود أنَّ لله من الأسماء ما له هذه المزيّة، وهو أنَّ مَن أحصاها دخل الجنة يعني: الكلام متَّصل، إنَّ لله تسعةً وتسعين اسمًا من جملة أسمائه لها مزيّة وخاصيّة، وهي أنَّ مَن أحصاها دخل الجنة، فالأسماء المذكورة في الكتاب والسُّنة عند التتبع والاستقراء أكثر من تسعةٍ وتسعين اسمًا، وقد تكلّمنا على هذا مُفصلاً في مُقدّمات الأسماء الحسنى، فهي لا تنحصر بهذا العدد.
وشيخ الإسلام[11]، وابن القيم[12]، والقُرطبي[13]، وغيرهم قالوا: كما لو قال الإنسانُ: عندي مئة درهم أعددتها للصَّدقة، هل هذا يُفهم منه أنَّه لا يملك إلا مئة درهم؟ لا، وإنما عنده مئة درهم لها هذه الخاصية، وهو أنَّه أعدها للصَّدقة، وإلا فذلك لا ينفي أنَّه يملك غيرها.
إذًا أسماء الله -تبارك وتعالى- أكثر من تسعةٍ وتسعين اسمًا، وأسماؤه لا يُحصيها إلا هو، بدليل أنَّه قال هنا: أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك.
وفي قوله: أسألك بكل اسمٍ هو لك، سميتَ به نفسك لاحظ الآن: الذي سمَّى به نفسه قد يكون أنزله في كتابه، أو علَّمه أحدًا من خلقه، يعني: بغير ما نزل في الكتب، بوحيٍ أوحاه الله إليه، أو يكون ذلك مما استأثر به في علم الغيب عنده، فكل ذلك مما سمَّى به نفسه.
فالسؤال هنا: كيف جعل ما سمَّى به نفسه قسيمًا لهذه الأنواع، والواقع أنَّها من جُملته؟
بمعنى: أنَّه لم يقل: أسألك بكل اسمٍ هو لك، سميتَ به نفسك، فأنزلتَه في كتابك، أو علَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك. ما قال هذا، وإنما قال: سميتَ به نفسك، أو أنزلتَه في كتابك، فالذي أنزله في كتابه أليس هو من جملة ما سمَّى به نفسه؟
كذلك أو علَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك، أليس هذا كلّه من جملة ما سمَّى به نفسه؟
فهذه الأنواع داخلة فيما سمَّى به نفسَه، فكل ذلك لا يخرج عنه، وهنا جعله قسيمًا لذلك: سمَّيتَ به نفسَك، ولم يقل أيضًا: فأنزلته في كتابك، أو علَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك.
واضحٌ السؤال؟ فهذا موضع إشكالٍ؟
وقد أجاب عنه الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والتنزيل" فقال: "إن كانت الرِّواية محفوظة هكذا -يعني: لا يُوجد فيها تصرُّف من الراوي- ففيها إشكال"، وذكر هذا السُّؤال، فقال: "ومعلومٌ أنَّ هذا تقسيم وتفصيل لما سمَّى به نفسَه"، ثم ذكر وجه الكلام كما ذكرتُ آنفًا، فقال: "وجواب هذا الإشكال: أنَّ (أو) حرف عطفٍ، والمعطوف بها أخصّ مما قبله، فيكون من باب عطف الخاصِّ على العامِّ؛ فإنَّ ما سمَّى به نفسَه يتناول جميع الأنواع المذكورة بعده، فيكون عطف كلّ جملةٍ منها من باب عطف الخاصِّ على العامِّ"[14].
يعني: يكون المعنى هكذا: أسألك بكلِّ اسمٍ هو لك، سميتَ به نفسَك هذا العامّ، (أو) بمعنى (الواو)؛ لأنَّ (أو) حرف عطفٍ، و(الواو) حرف عطفٍ، فـ(أو) هنا ليست للتَّقسيم، ولا للتَّأخير، فيكون هكذا: أسألك بكلِّ اسمٍ هو لك، سميتَ به نفسَك، وأنزلتَه في كتابك، وعلَّمته أحدًا من خلقك، واستأثرتَ به، أو استأثرتَ به، فيكون سمَّيتَ به نفسَك، أو أنزلتَه في كتابك، (أو) تكون عاطفةً، يعني: أنَّ ذلك لا يخرج عمَّا سبق مما سمَّى به نفسَه، أو أنزلتَه في كتابك، أو علَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك، هذا كلّه داخلٌ في قوله: سميتَ به نفسَك، فهو من قبيل عطف الخاصِّ على العامِّ.
ثم قال: أن تجعل القرآنَ ربيع قلبي، لاحظ: توسّل إليه بأسمائه التي اطَّلع عليها العبادُ، أو لم يطَّلعوا عليها، يعني: توسّل بجميع الأسماء الحسنى، بما فيها الاسم الأعظم: أن تجعل القرآنَ ربيع قلبي يعني: راحة قلبي، وهذا فيه إشارة إلى الفرح؛ لأنَّ الإنسان يرتاح قلبُه في الربيع، ويميل إليه، ويطلبه، ويبتهج، ويُسرّ برؤيته، هذا بالإضافة إلى كون الرَّبيع سببًا لظهور آثار رحمة الله -تبارك وتعالى-؛ بإحياء الأرض بعد موتها، وكذلك القرآن؛ فإنَّه سببٌ لظهور آثاره من الألطاف الربانية، والإيمان، والمعارف، والهدايات، وزوال أضداد ذلك: من ظُلمات الكفر، والجهل، والهوى، والغيّ، وما إلى ذلك.
فهنا القرآن هو ربيع القلوب: أن تجعل القرآنَ ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همِّي، فهو يسأل ربَّه -تبارك وتعالى- أن يجعل هذا القرآن شفاءً لهمِّه، والله قال: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، فإنَّ (من) هنا قيل: تبعيضية، يعني: يوجد من القرآن ما هو شفاء، فيُستشفى به من العِلل والأدواء الحسيَّة والمعنويَّة على حدٍّ سواء.
ويحتمل أن تكون (من) في: نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ بيانيَّة، وهذا هو الراجح؛ فكل القرآن شفاء، فإنَّه يُستشفى به من عِلل وأمراض القلوب والأبدان، فسأل ربَّه أن يجعل القرآنَ شفاءً لهمِّه، والقرآن أبلغ ما يكون في شفاء الصُّدور؛ مَن قرأه بتدبرٍ أزال عِلله، ولا يحتاج الإنسانُ أن يُجرِّب على نفسه، إذا أصابَك غمٌّ وهمٌّ، ونحو ذلك؛ فاقرأ سورةَ البقرة على سبيل المثال بصوتٍ تسمعه أذنك، بتدبُّرٍ، وأنا ضامنٌ لك أنَّك لا تقوم إلا في حالٍ من الانشراح والسُّرور والحبور والفرح، ويتلاشى عنك مثل السُّحب.
فإذا قرأ الإنسانُ ذلك بشيءٍ من التَّدبر، فالقرآن كلّه شفاء، ومن أعظم القرآن سورة البقرة، وآل عمران، كذلك فاتحة الكتاب، والمعوذات، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص]، وآية الكرسي، وصدر سورة البقرة، وأواخر سورة البقرة؛ آخر آيتين منها، فيكون القرآنُ بمنزلة الدَّواء الذي يستأصل الدَّاء، ويُعيد النفسَ والبدنَ إلى حال الصحّة والاعتدال.
ويسأله أن يجعل القرآنَ لحزنه كالجلاء الذي يجلو الطُّبوع والأصدية، وما يعلق بالنُّفوس، فيحصل بسببه الكدرُ والألمُ والحزنُ.
يقول ابنُ القيم -رحمه الله-: "فأحرى بهذا العلاج إذا صدق العليلُ في استعماله أن يُزيل عنه داءه، وأن يعقبه شفاء تامّ وصحة وعافية"[15].
ولاحظ: هو الآن يذكر المقصودَ من هذا التَّوسل بالتَّذلل بالعبودية أولاً، ثم بالأسماء الحسنى ثانيًا؛ بأن يجعل القرآنَ ربيع قلبه، ونور صدره، وجلاء حُزنه، فهذا التَّوسل بهذه الطَّريقة، وبهذا المتوسّل به، قلَّ أن يتخلَّف معه، بل لا يتخلَّف معه المطلوب، وهذا من أعظم أنواع التَّوسل.
وقد ذكر الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- في كتابه الآخر "زاد المعاد": أنَّ هذا الحديثَ فيه من المعارف الإلهية وأسرار العبودية ما لا يتَّسع له كتابٌ؛ فإنَّه يتضمن الاعتراف بعبوديته، وعبودية آبائه وأمّهاته، وأنَّ ناصيتَه بيده، يصرفها كيف يشاء، فلا يملك العبدُ دونه لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا، ولا حياةً، ولا نشورًا؛ لأنَّ مَن ناصيته بيد غيره فليس إليه شيء من أمره، بل هو عانٍ -يعني: أسير- في قبضته، ذليلٌ تحت سُلطان قهره[16].
فتأمّل في هذه المضامين تجد أنَّ مَن كان بهذه المثابة، ويُوقن قلبُه بما يقول، ويعقل بحضور قلبٍ، فحينما يقول بلسان المقال مع حضور قلبه: يا ربّ، أنا عبدك، أنا في غاية الذل والضَّعف والمسكنة، ما يجري عليَّ من أحكامك فهو عدلٌ، لا جورَ فيه، وأسألك يا ربّ سؤال المتضرع الذَّليل، بكل اسمٍ هو لك. والله يقول: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، هذا توسّل بهذه الأسماء: بكلِّ اسمٍ هو لك ... أن تجعل القرآن ربيع قلبي.
لكن لاحظوا -أيّها الأحبّة- الذي لا يقرأ القرآن، وليس له وردٌ من القرآن أصلاً، كيف يكون القرآنُ ربيعًا لقلبه؟!
هنا مُشكلة، وأنا لا أتحدَّث عن المحلِّ القابل، أو عن المصدر المؤثر لهذه الآثار من الفرح والسُّرور وزوال الهمِّ والحزن ... إلى آخره، لكن هذا المؤثر غير موجودٍ عند هذا الإنسان، فهو لا يقرأ القرآن، فنفسه مُوحشة، مستوحشة، ولا يذكر الله إلا قليلاً، ثم بعد ذلك يُعاني، ويقول: أشعر بضيقٍ، وأشعر بوحشةٍ. ويذهب لهذا الطَّبيب، وهذا الطَّبيب، وهذا يصف له دواءً، وهذا يُعطيه تعليمات معينة، ويقول له: اتَّبع هذه التَّعليمات، ونحو ذلك.
هذا أمرٌ طبيعي -أيّها الأحبّة-: أنَّ الإنسان ينعصر قلبُه، ويستوحش في هذا المكان الواسع، لو ذهب إلى أماكن جميلة وأماكن نُزَهٍ، وذهب إلى البرية، وذهب إلى أجمل البقاع في الدنيا، لا يزال القلبُ مُنقبضًا.
فهناك فرقٌ -أيّها الأحبّة- بين لذَّات البدن، ولذَّات النفس والروح؛ الروح تلتذّ بذكر الله، والقُرب منه، وعبادته؛ فيحصل للإنسان انشراحٌ، ولو كان في أضيق مكانٍ في الدنيا، والثاني يعيش في القصور، وبين الرَّياحين والزهور، ومع ذلك تضيق به الأرضُ بما رحبت.
فهي هذه النَّفس -أيّها الأحبّة-، وهذا القلب، فإذا كان متَّصلاً بالله -تبارك وتعالى-، ومتَّصلاً بهذا القرآن، وعلى علاقة متينةٍ ووثيقةٍ؛ فهذا ممن لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، وإنما يجد طُمأنينةً وراحةً وسعادةً وفرحًا وحُبورًا.
ثم أقول: إذا تبيّن هذا المعنى، إذًا لا بدَّ أن يكون لنا وردٌ من القرآن كل يومٍ، فاحرص أن يكون لك وردٌ مجزئٌ كلَّ يومٍ، أجزاء تقرأها في كل يومٍ، ولا يمكن لمن قال هذا الحديث، ولمن قال هذا الذكر أن يتخلَّف عنه هذا الأثر، لكن المشكلة أنَّ الإنسان قد يقول هذا، والواقع أنَّه ما يقرأ القرآن، فكيف يكون القرآنُ ربيعَ قلبه؟!
هو يدعو بهذا الدُّعاء، ويكون مُتَّصلاً بالقرآن، ومُرتبطًا به، ويقرأ بتدبُّرٍ، فيحصل له الأثر، وإلا فلاحظوا قوله ﷺ: ما أصاب أحدًا قط همٌّ ولا حزنٌ، فقال: اللهم إني عبدك ... إلخ، قال: إلا أذهب اللهُ همَّه وحُزنه، وأبدله مكانه فرحًا[17]، فلاحظ: جاء بها بأقوى صيغةٍ من صيغ الحصر، وهي: النَّفي، والاستثناء التي جاءت بها كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، أقوى صيغ الحصر عند الأصوليين واللُّغويين هي هذه الصِّيغة، وصيغ الحصر مُتعددة، وهذه أقواها: ما أصاب أحدًا قط.
وقوله: أحدًا نكرة في سياق النَّفي؛ وذلك من صيغ العموم، كذلك في سياق الشَّرط والنَّهي والاستفهام، أربعة مواضع: إلا أذهب اللهُ همَّه وحُزنه.
إذًا فلنتعلم هذا، ونُعلِّم مَن حولنا هذا، وقبل هذا نرتبط بالقرآن، فيكون لنا وردٌ من القرآن كل يومٍ، وهذه القضية -قراءة وردٍ يوميٍّ من القرآن- قد تكون شاقَّةً في البداية، لكن تذكّر في رمضان حينما كنتَ تقرأ في أواخر الشَّهر، هل كان ذلك شاقًّا؟
الجواب: لا؛ لأنَّك اعتدتَ عليه، وهكذا مَن اعتاد؛ ولذلك أنا أعجب من كثرة الأسئلة في الواتس أب مثلاً، يقول: نزل صفحةً من المصحف من أجل المجموعة؛ يقرؤون وجهًا من القرآن. عجيب، يعني: هؤلاء لا يعرفون القرآن، يحتاجون بتلطُّفٍ أن يقرأ الواحدُ منهم وجهًا من القرآن في اليوم، إلى هذا الحدِّ وصل بهم الإهمال والتَّضييع والتَّفريط! ثم بعد ذلك يقول أحدُهم: أنا أشعر بضيقٍ، وأنا أشعر بانقباضٍ، وأنا أشعر بهمٍّ، وأشعر بحزنٍ، لا أدري ما سببه؟!
ويبقى هذا الإنسانُ في حالٍ من البُؤس، ولربما يبكي كما يبكي الطفلُ -نسأل الله العافية للجميع-، أو المرأة تبكي، أو نحو ذلك، والعلاج بين يديه، وأقرب إليه من اليد للفم، ومع ذلك يترك هذا، فعندنا علاجٌ لهذا الهمِّ والغمِّ والحزن طويل المدى.
فالارتباط بالقرآن، وقراءته بالتَّدبر، والصِّلة بالله ، وترك الذُّنوب والمعاصي، والإيمان بالقضاء والقدر، والتَّوكل على الله، واليقين، ومعرفة الله بأسمائه الحُسنى، والعبادات، والطَّاعات، والإحسان إلى الناس، كلّ هذه الأشياء تُسبب انشراحًا، فإذا ضاق بك الصدرُ اذهب وابحث عن أحدٍ محتاجٍ، وأعطه بنفسك، فتحسّ بانشراحٍ وسعادةٍ.
هذه أشياء وقتية سريعة، لكن هناك أشياء طويلة المدى، وقل ذلك في مثل هذا الدُّعاء، احفظه وتجد الأثر، بشرط أن يكون الإنسانُ على صلةٍ مع القرآن؛ حتى يكون القرآنُ ربيعَ قلبه.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
اللهم اجعل القرآنَ العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا.
اللهم ذكِّرنا منه ما نسينا، وعلِّمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوتَه آناء الليل، وأطراف النَّهار، على الوجه الذي يُرضيك عنا.
ربنا اغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين.
والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (3712)، وقال مُحققو "المسند": "إسناده ضعيفٌ كما قال الدَّارقطني في "العلل" (5/201)".
- "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (1/78).
- "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (1/78).
- "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل"، ت: النعساني (ص278).
- "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل" (ص276).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الشروط، باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا في الإقرار والشروط التي يتعارفها الناس بينهم، برقم (2736)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، بابٌ في أسماء الله تعالى وفضل مَن أحصاها، برقم (4836).
- "شرح النووي على مسلم" (17/5).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الشروط، باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا في الإقرار والشروط التي يتعارفها الناس بينهم، برقم (2531)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، بابٌ في أسماء الله تعالى وفضل مَن أحصاها، برقم (4836).
- "المحلى بالآثار" (6/282).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الشروط، باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا في الإقرار والشروط التي يتعارفها الناس بينهم، برقم (2531)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، بابٌ في أسماء الله تعالى وفضل مَن أحصاها، برقم (4836).
- "مجموع الفتاوى" (22/486).
- "بدائع الفوائد" (1/167)، وعبارته: "وهذا لا ينفي أن يكون له أسماء غيرها، وهذا كما تقول: لفلان مئة مملوك، وقد أعدَّهم للجهاد، فلا ينفي هذا أن يكون له مماليك سواهم مُعدُّون لغير الجهاد، وهذا لا خلافَ بين العلماء فيه".
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (22/77).
- "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل" (ص276).
- "الطب النبوي" لابن القيم (ص154).
- "زاد المعاد في هدي خير العباد" (4/189).
- أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (3712)، وقال مُحققو "المسند": "إسناده ضعيفٌ كما قال الدَّارقطني في "العلل" (5/201)".