الثلاثاء 03 / جمادى الأولى / 1446 - 05 / نوفمبر 2024
(213) دعاء الكرب " لا إله إلا الله العظيم الحليم " إلى نهاية الحديث
تاريخ النشر: ٣٠ / ذو القعدة / ١٤٣٥
التحميل: 2579
مرات الإستماع: 1814

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

نشرع اليوم في الكلام على دعاء الكرب، كما بوَّب المؤلفُ، وذكر فيه أحاديث:

الأول منها: ما جاء عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-: أنَّ رسول الله ﷺ كان يقول عند الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ السَّماوات، وربّ الأرض، وربّ العرش الكريم[1]. هذا الحديث أخرجه الشَّيخان.

وقوله: "أنَّ رسول الله ﷺ كان يقول عند الكرب" عرفنا أنَّ هذه الصِّيغة تدلّ على التَّكرار والمداومة، فهو أمرٌ يتكرر.

"كان يقول عند الكرب" هذا يدلّ على أنَّ ذلك من الأدعية أو الأذكار التي تُقال في تلك الحال.

والكرب كما فسَّره أئمةُ اللغة -كالجوهري رحمه الله-: هو الغمُّ الذي يأخذ بالنَّفس[2]، يُقال: كربه الغمُّ، ويُقال: فلانٌ مكروبُ النَّفس، والاسم الكُربة، يُقال: فرج كُربة، وهي هذه الحالة من الغمِّ الشَّديد الذي يقع للإنسان، يقال: فلانٌ كريب ومكروب: مَن فرَّج عن مسلمٍ كُربةً فرَّج الله عنه كربةً من كُربات يوم القيامة[3].

ونحن عرفنا الحزن والهمَّ، وهذا هو الكرب، فهو بهذه المثابة؛ لقوَّته وشدَّته، فالغمّ الشَّديد يكون كربًا، ويُقال له: الكرب، فهو أشدّ الغمِّ، فهو ما يدهم المرء مما يأخذ بنفسه فيغمّه ويُحزنه، فهو غمٌّ شديدٌ، فإذا تعاظم ذلك قيل له: الكرب.

يقول: لا إله إلا الله العظيم الحليم عرفنا أنَّ هذه الكلمة كلمة التوحيد، وأنها مُتضمنة للنَّفي والإثبات، لا إله إلا الله أي: لا معبودَ بحقٍّ إلا الله.

وعرفنا في مناسباتٍ سابقةٍ: أنَّ الإله هو المعبود الذي تألهه القلوب، وتذلّ له، وتُحبّه وتُعظّمه، وتخافه وترجوه، فهو الذي يُقصد بالعبادة، ويُؤله ويُخاف ويُرجى، مع الذلِّ والتَّعظيم والمحبَّة، فهذا هو الإله، هكذا فسَّره أهلُ العلم؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وغيره -رحم الله الجميع-[4].

فقوله: لا إله إلا الله يعني: إذا تقرر أنَّ معناه: لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، فأنا إذًا لا أتوجه بالعبادة إلى أحدٍ سواه، ولا أخاف ولا أرجو إلا الله، ولا أخضع ولا أتذلل إلا لله وحده، فهو إلهي ومعبودي الذي يملك نفعي وضرِّي، وبإخلاص العبادة له -تبارك وتعالى- يحصل كمال الحياة، وتحصل به سعادتي، وفي ترك ذلك والإعراض عنه يحصل الشَّقاء والعناء والبُؤس، فلا راحةَ ولا لذَّةَ ولا سعادةَ إلا بالقُرب منه، وعبادته -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه.

والعبد كما يقول شيخُ الإسلام -رحمه الله-: "والعبد كلَّما كان أذلّ لله، وأعظم افتقارًا إليه، وخضوعًا له: كان أقربَ إليه، وأعزَّ له، وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبوديةً لله، وأمَّا المخلوق فكما قيل: احتج إلى مَن شئتَ تكن أسيره، واستغنِ عمَّن شئتَ تكن نظيره، وأحسن إلى مَن شئتَ تكن أميره"[5]، فالافتقار يكون لله ، وإذا افتقرتَ إلى مخلوقٍ فهذا يعني: أنَّك تكون أسيرًا له، يأسرك بهذا الإحسان والفضل والمعروف.

يقول: لا إله إلا الله العظيم العظيم في ذاته، والعظيم في صفاته، والعظيم في أسمائه، والعظيم في أفعاله -تبارك وتعالى-، وهذا العظيم لا يتعاظم عليه أمرٌ، ولا تتعاظم عليه مسألةٌ، والمخلوق قد يتعاظم عليه المطلوب، وقد تطلب من أحدٍ شيئًا، فيقول لك: هذا أمرٌ لا أستطيعه، وهذا أمرٌ فوق طاقتي، وفوق قُدرتي. وأمَّا الله -تبارك وتعالى- فهو العظيم الأعظم.

والحليم هو الذي لا يُعاجل بالعقوبة، فلم يُعاجل الخلقَ بنقمةٍ بسبب تقصيرهم في حقِّه -تبارك وتعالى-، أو إساءتهم، بل يكشف الضرَّ عنهم برحمته -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه-، مع تقصير العباد، وذنوبهم، وتفريطهم، وإساءاتهم، إلا أنَّ الله حليمٌ، لا يُعاجلهم بالعقوبة، وهو كما قال الله -تبارك وتعالى- في الذين يُشركون به: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً ۝ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ۝ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:42-44]، كل شيءٍ خاضعٌ لله ، وهؤلاء من الآدميين هم الذين تقع منهم الإساءة، والإشراك، والتَّعدي والتَّجاوز، وفعل ما لا يليق، ونسبة ما لا يليق إلى الله -تبارك وتعالى-، ومع ذلك لاحظ ختم الآية: إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا.

وكثيرًا ما يأتي الحلمُ مقرونًا بالمغفرة في كتاب الله -تبارك وتعالى-، وفي سُنة رسول الله ﷺ، فالحلم عدم المعاجلة بالعقوبة لمن استحقَّها، ومع ذلك فالله يغفر ويصفح ويعفو عن كثيرٍ، ولو يُؤاخذنا الله -تبارك وتعالى- بذنوبنا وإساءتنا ومعاصينا، كما قال: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر:45]، فهذا من حلمه -تبارك وتعالى-.

والمخلوق حينما يرى إجرامًا، أو إساءةً، أو ظلمًا، أو تعدِّيًا لا يصبر، ولو كان بيده أنواع العقوبات والمثلات لأنزلها بهذا الجاني، ولكن الله يرزقهم ويُعافيهم ويُمهلهم، وهم ينسبون له الصَّحابة والولد، ويقولون عليه الزور، وما لا يليق.

ومن ثم -أيّها الأحبّة- فإنَّ تخصيصَ الحلم بالذكر هنا لأنَّ ما يقع للمؤمن من الكرب غالبًا إنما يكون بسبب تقصيره وتفريطه، أو إساءته وجناياته، أو غفلته عن ذكر ربِّه -تبارك وتعالى-، فهذا إنما يترحل عنه إذا حُطَّت عنه الأوزار؛ ولهذا تكلّمنا في مناسباتٍ سابقةٍ على قوله -تبارك وتعالى-: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ۝ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ۝ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح:1-3]، هذه ثلاثة أشياء امتنَّ الله بها على نبيِّه ﷺ، وقابلها بثلاثة أشياء: الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ۝ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ۝ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ۝ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:3-8]، فلمَّا ذكر: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ذكر معه أمرين: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ۝ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ، فهذان مُترابطان: انشراح الصَّدر مع حطِّ الأوزار؛ لأنَّ الذنوبَ والأوزار -أيّها الأحبّة- سببٌ لضيق الصَّدر، قلَّ ذلك أو كثر، ورفعة الذكر إنما تكون بطاعة الله وعبادته، فإذا حُطَّت الأوزارُ كانت رفعة الذكر في الدنيا والآخرة، ووُضِع له القبول في الأرض: إنَّ الله إذا أحبَّ عبدًا دعا جبريل، فقال: إني أُحبُّ فلانًا فأحبّه، قال: فيُحبّه جبريل، ثم يُنادي في السَّماء فيقول: إنَّ الله يُحبّ فلانًا فأحبّوه، فيُحبّه أهلُ السَّماء، قال: ثم يُوضَع له القبول في الأرض[6]؛ ولهذا قال النبيُّ ﷺ: أنتم شُهداء الله في الأرض[7].

فهنا ذكر هذه الصِّفة أو هذا الاسم الذي يتضمن صفةَ الحلم والحليم، فهذا الكرب الذي يقع لنا إنما هو بسبب غفلتنا وتقصيرنا وذنوبنا، فإذا كان الأمرُ كذلك، فهنا نتوسّل إليه -تبارك وتعالى- بتوحيدنا، ونتوسّل إليه بهذه الأسماء الحسنى: العظيم، الحليم، وعرفنا أنَّ العظيم لا يتعاظمه شيء، إذًا هو القادر على رفع هذا الكرب وإن عظم، وإن اشتدَّ.

فهذه الجملة الأولى: لا إله إلا الله العظيم الحليم اشتملت على التوحيد، وعلى العظمة، وهذه العظمة تدلّ على قُدرة عظيمة، وأيضًا اشتملت على الحلم، فالله لا يُعاجل بالعقوبة، ومن ثم فإنَّ التَّوجه إليه لرفع الكرب والشّدة لا شكَّ أنَّه هو الطريق الوحيد الذي تُعالج به مثل هذه الأوصاب التي تقع للإنسان.

ثم ذكر الجملة الثانية: لا إله إلا الله ربّ العرش العظيم كرر التَّوسل إليه بإلهيَّته: لا إله إلا الله، فذكر كلمة التوحيد، وهي أعظم وأجلّ وأشرف كلمةٍ، فالعبد يُعلن التَّوحيد؛ ليكون ذلك جلاءً لما في قلبه من الغمِّ الشَّديد الذي صار كربًا، وتبرأ من كلِّ ما سواه من المعبودات.

لا إله إلا الله إخلاص العبادة، والتَّوجه إليه بالصِّدق والرَّغبة والرَّهبة، وبهذا يفزع الخلائق، والمشركون كانوا إذا ركبوا في الفلك، وحصلت لهم المخاوف، وأوشكوا على الغرق: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [يونس:22]، فكانوا يعرفون هذا جيدًا، وأنَّه لا يُنجي من كربات البرِّ والبحر إلا الله -تبارك وتعالى-، فكانوا يُخلصون له في التوحيد والعبادة، فهذا هو مفزع الخلائق، فمفزعهم إنما يكون بتوحيدهم لربهم وباريهم في الشَّدائد، وفي الرَّخاء، وفي الأحوال كلِّها.

ربّ العرشِ العظيمِ هنا ذكر ربوبيَّته -تبارك وتعالى-، وربّ العرشِ العظيمِ يحتمل أن يكون العظيم صفة للعرش، ويحتمل أن يكون ذلك من صفة الربِّ -تبارك وتعالى-: ربّ العرشِ العظيمُ يعني: الله، وكلّ ذلك صحيحٌ، فالله هو العظيم، والعرش أيضًا موصوفٌ بالعظمة، وقد جاء ذلك في بعض القراءات القرآنية المتواترة، فالعظمة تكون من نعت الربِّ، وكذلك من نعت العرش، لكن الجمهور ضبطه بالجرِّ؛ ليكون نعتًا للعرش: ربّ العرشِ العظيمِ، فوصفه بالعظمة؛ لأنَّه أعظم وأكبر المخلوقات، وأضاف ذلك إليه في الربوبية، وهو ربّ الخلائق جميعًا، ولكن إذا كان هو ربّ العرش العظيم فما دونه من باب أولى.

فالإنسان قد يتوجّه إلى مخلوقٍ؛ لأنَّه مدير، أو رئيس، أو لأنَّه أمير، أو لأنَّه ملكٌ يحكم بقعةً من الأرض، ولكن هذا المخلوق قد لا يستطيع أن يُلبي حاجته، ولو جاء إلى مخلوقٍ وقال: أريد أن ترفع عني هذا الكرب الذي في نفسي والغمّ، هل يستطيع؟ ولو جاء إلى مخلوقٍ وقال له: أريد منك أن تكشف عني الضّر، وتُعافيني من المرض والعلّة، هل يستطيع؟

المخلوق يمرض ويموت، إذًا وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الأنعام:17]، فهذا الكرب أحيانًا يكون بسبب مرضٍ يقع له، وأحيانًا يقع لغيره ممن يُحبّه من ولدٍ، أو والدٍ، أو زوجةٍ، أو لقريبٍ: من أخٍ، أو أختٍ، أو نحو ذلك، فيحصل له الكرب، ويشتدّ عليه الأمر، وأحيانًا يكون لغير ذلك، فلا يكشف الكربَ العظيم إلا الربّ العظيم -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه-.

ولاحظوا هنا استعمال اسم (الربّ): ربّ العرشِ العظيمِ، فالربّ هو الذي يُدبّر الخلائق، وهو الذي يُعطي ويمنع، ويدفع ويرفع، وهو الذي يُربي خلقَه بالنِّعَم الظَّاهرة والباطنة، فمَن الذي يتصرف فيه؟ ومَن الذي يُزيل ما به من ضرٍّ؟ ومَن الذي يُصلح حاله؟ إنما هو الربّ، فإنَّ من معاني الربّ: المصلح للشَّيء، والقائم عليه، الذي يقوم عليه بتربيته؛ التربية بنوعيها: تربية الأرواح، وتربية الأبدان.

فهنا صدر هذا الثَّناء بذكر الربِّ ليُناسِب كشف الكرب؛ لأنَّه من مُقتضيات التربية: التربيب، فإنَّ التربية من معانيها الإصلاح، وربوبية الله -تبارك وتعالى- نوعان -كما هو معلومٌ-: ربوبية عامَّة، وربوبية خاصَّة، فالله ربّ كل شيءٍ ومليكه، المتصرف فيه كيف يشاء، وهو القائم على جميع المخاليق: برزقهم، وآجالهم، وأعمالهم، وما يُصلحهم، فهو الذي يغذوهم ويُطعمهم، وهو الذي يُميتهم ويُحييهم: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50].

فهنا جمع النَّوعين في هذا الحديث؛ فتوسل بأنه ربٌّ، فهو يقول: لا إله إلا الله ربّ العرش العظيم، فهذه ربوبية خاصَّة للعرش، ثم الجملة الثالثة: لا إله إلا الله، كرر التوحيد: ربّ السَّماوات، وربّ الأرض، وربّ العرش الكريم، فذكر ربوبيته العامَّة للسَّماوات والأرض، وما فيهما من المخلوقات، والعرش فوق السَّماوات السَّبع.

وهذا يكون من قبيل ذكر هذه المخلوقات العظيمة، فإذا كان هو ربّها وخالقها والمتصرف فيها، فهو قادرٌ على أن يرفع ما بك من كربٍ وضرٍّ وبُؤسٍ، وما إلى ذلك، فما عليك إلا أن تُصلح العلاقةَ معه، أصلح علاقتك وصلتك بالله ، وتضرع إليه، وأقبل عليه، وتُبْ إليه من الذنوب، فهي سببٌ لمثل هذه البلايا والرَّزايا والمصائب.

فلاحظوا التَّوسل بمثل هذا التوحيد، وبمثل هذه الأسماء الحسنى، فوصف نفسَه بأنَّه حليمٌ عظيمٌ، وكذلك أيضًا كريم.

ويحتمل أن يكون بعض ذلك من أوصاف العرش: لا إله إلا الله ربّ العرش العظيمِ، وكذلك أيضًا: وربّ الأرض، وربّ العرشِ الكريمِ كما ضبطه الجمهور.

وكون الكريم من صفة الله ؛ ذكرنا في الكلام على الأسماء الحسنى: أنَّه الذي يُعطي، وهو الجواد، وهو الذي يهب ويتفضّل.

وكذلك إذا قيل: إنَّه من صفة العرش، فإنَّ العرشَ كريم، وعرفنا أنَّ من معاني الكريم هو الشَّيء النَّفيس، والشَّيء الذي لا نظيرَ له، والذي تكون له منزلة، وتكون له صفات رفيعة، يُقال: هذا حجرٌ كريمٌ، وهذا بناءٌ كريمٌ، وهذا مركبٌ كريمٌ، ونحو ذلك مما تكون له منزلة ومرتبة ليس كغيره.

وخصَّ العرش بهذه الأوصاف، وخصَّه بالذكر أيضًا، وخصَّ السَّماوات والأرض، فهذه من أعظم المخلوقات، وكرر ذكر هذا الاسم (الربّ) من بين سائر الأسماء الحسنى؛ وذلك -كما سبق- لأنَّه المناسب للمطلوب؛ كشف الضرّ والكرب الذي هو من مُقتضى الربوبية والتربية.

وعرفنا من قبل في مناسباتٍ سابقةٍ: أنَّ أكثر دعاء الأنبياء الذي ذكره الله في القرآن كان باسم (الربّ): رَبَّنَا [البقرة:127]، (ربي)، فإنَّ العطاء والمنع كلّ ذلك من معاني ربوبيَّته -تبارك وتعالى-.

فالمقصود أنَّ هذا الذكر -أيّها الأحبّة- اشتمل على التوحيد، وكلمة التوحيد، والعظمة، والحلم، والكرم، واشتمل على توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية، واشتمل على جملةٍ من الأسماء المتضمنة لأوصاف الله -تبارك وتعالى-.

وقد يقول قائلٌ: بأنَّ هذا الذكر ليس فيه دعاءٌ، فكيف يُسمَّى بدُعاء الكرب؟

نقول: أولاً كما ذكرنا في المقدّمات في الكلام على الأذكار: بأنَّ الذكرَ يُقال له: دعاء، النبي ﷺ قال: خير الدُّعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنَّبيون من قبلي: لا إله إلا الله، وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير[8] إلى آخره.

فلاحظ هنا لا يوجد دعاء، هو ذكر، ومع هذا سمَّاه: دعاء، فالذكر يُقال له: دعاء، وذكرنا وجه ذلك، وقلنا: باعتبار أنَّ هذا الذَّاكر لله هو لماذا يذكر؟ لأنَّه يطلب.

حينما تقول هذه الأيام في هذه العشر المباركة: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد"، هذا ذكرٌ، ماذا تُريد حينما تقول هذا؟ تريد الأجر، وتُريد الثوابَ من الله ، فأنت سائلٌ بذكرك هذا.

وحينما تقرأ القرآنَ ماذا تُريد؟ تريد ما عند الله، وحينما تصوم، وحينما تتصدَّق، فأنت سائلٌ بفعلك.

فالدُّعاء تارةً يكون بالسؤال الصَّريح: ربّ اغفر لي، ربّ ارزقني. وتارةً يكون بلسان الحال، يتصدَّق ويصوم ويقرأ القرآن ويذكر الله ، فهو سائلٌ، هو لماذا يفعل هذا؟

والإنسان لا يفعل شيئًا إلا لشيءٍ، فهو يفعل هذه العبادات والطَّاعات رجاء ما عند الله، إلا مَن فسدت نيَّته؛ فهو يُريد بذلك المحمدة والرِّياء والسُّمعة، نسأل الله العافية للجميع.

وقد ذكر بعضُ أهل العلم احتمال، كالإمام النَّووي -رحمه الله-: "فإن قيل: هذا ذكرٌ، وليس فيه دعاءٌ، فجوابه من وجهين مشهورين:

أحدهما: أنَّ هذا الذكر يستفتح به الدّعاء، ثم يدعو بما شاء.

والثاني: جواب سفيان بن عُيينة، فقال: أما علمتَ قوله تعالى: "مَن شغله ذكري عن مسألتي أعطيتُه أفضل ما أُعطي السَّائلين"[9]، والذي يظهر أنَّه ليس كذلك -والله أعلم.

هذا ما يتعلق بهذا الذكر العظيم، فاحفظوه، وردِّدوه دائمًا.

ونسأل الله أن يكشف الكربَ عن المكروبين من المسلمين.

اللهم اجعل القرآنَ العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا.

اللهم ذكِّرنا منه ما نسينا، وعلِّمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوتَه آناء الليل، وأطراف النَّهار، على الوجه الذي يُرضيك عنا.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب الدُّعاء عند الكرب، برقم (5870)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب دعاء الكرب، برقم (4909).
  2. "الصحاح" للجوهري (2/231).
  3. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلمُ المسلمَ ولا يُسلمه، برقم (2262)، ومسلم: كتاب البر والصِّلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (4677).
  4. "المستدرك على مجموع الفتاوى" (1/15).
  5. "مجموع الفتاوى" (1/39).
  6. أخرجه مسلم: كتاب البر والصِّلة والآداب، باب إذا أحبَّ الله عبدًا حبَّبه إلى عباده، برقم (4772).
  7. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب ثناء الناس على الميت، برقم (1278)، ومسلم: كتاب الجنائز، باب فيمَن يُثنى عليه خير أو شرّ من الموتى، برقم (1578).
  8. أخرجه الترمذي: أبواب الدَّعوات، برقم (3585)، وحسَّنه الألباني.
  9. "شرح النووي على مسلم" (17/47-48).

مواد ذات صلة