الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
نواصل الكلام على الأحاديث التي أوردها المؤلفُ تحت باب: دُعاء الكرب.
فمن ذلك: ما جاء عن سعد بن أبي وقَّاص قال: قال رسولُ الله ﷺ: دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظَّالمين، فإنَّه لم يدع بها رجلٌ مسلمٌ في شيءٍ قطّ إلا استجاب اللهُ له.
هذا الحديث أخرجه الترمذي[1]، والحاكم، وقال: صحيحُ الإسناد ولم يُخرجاه[2].
وقال عنه المنذري: إسناده صحيحٌ، أو حسنٌ، أو ما قاربهما[3].
وقال الهيثمي: رجاله رجال الصَّحيح، غير إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، وهو ثقة[4].
وصححه جمعٌ من أهل العلم أيضًا: كالسيوطي[5]، والشيخ أحمد شاكر[6]، والشيخ ناصر الدين الألباني[7]، وحسَّنه الحافظ ابن حجر[8].
قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: دعوة ذي النون يعني: دعاء يونس -صلى الله عليه وسلم-، فإنَّه قيل له ذلك لما هو معلومٌ من أنَّ الحوتَ قد التقمه، إذ دعا يعني: دعا ربَّه -تبارك وتعالى-، وهو في بطن الحوت هذه حالة فريدة، ولا شكَّ أنَّ هذا من أعظم الكرب؛ في بطن حوتٍ، وأيضًا في لجّة البحر، فأي كربٍ أشدّ وأعظم من هذا؟!
فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ، فظُلمة البحر، وظُلمة بطن الحوت: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].
وتكلّمنا عن هذه الكلمة الشَّريفة: لا إله إلا أنت، فالله هو الإله الذي يستحقّ أن يكون مألوهًا ومعبودًا وحده دون ما سواه؛ وذلك أنَّه الذي خلق، ورزق، وأوجد، وأحيا، وأمات، وهو الذي يملك النَّفع والضّر، ويرحم، وما له من صفات الكمال التي تقتضي أن يكون هو المحبوب وحده، والمألوه وحده، والمرجو وحده، والمخضوع له وحده -تبارك وتعالى-.
وعرفنا أنَّ العبادةَ تتضمن غايةَ الحبِّ في غاية الذُّل؛ ولهذا قال النبي ﷺ: لا ينبغي لعبدٍ أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى[9]، هو صاحب الحوت .
فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يربط هذا المعنى بمعنى العبادة وتحقيقها، وما يقع من العبد من التَّقصير ولا بدَّ، وأنَّ ذلك لا يسلم منه أحدٌ، ومن هنا يقول شيخُ الإسلام: فليس لأحدٍ من العباد أن يُبرئ نفسَه عن هذا الوصف الذي هو الظُّلم: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، لا سيّما في مقام مُناجاة الله -تبارك وتعالى-، يقول: "فمَن ظنَّ أنه خيرٌ من يونس؛ بحيث يعلم أنَّه ليس عليه أن يعترف بظلم نفسه، فهو كاذبٌ؛ ولهذا كان سادات الخلائق لا يُفضِّلون أنفسَهم على يونس في هذا المقام، بل يقولون كما قال أبوهم آدم، وخاتمهم محمد"[10].
لا إله إلا أنت سبحانك هنا يتوسّل بالتوحيد، وقلنا: إنَّه أعظم وسيلةٍ يُتوسّل بها، لا حاجةَ إلى أن يتوسّل العبدُ بعمل فلانٍ أو بفلانٍ: أتوسّل إليك بالولي الفلاني. وإنما يتوسّل بالتوحيد، فإنَّ التوسّل بالعمل الصَّالح والإيمان والتوحيد لا شكَّ أنَّه من التوسل المشروع.
ثم ذكر بعده التَّنزيه: سبحانك، فهذا تنزيهٌ يتضمن التَّعظيم لله -تبارك وتعالى-، فهو مُنزَّهٌ عن الظلم والعقوبة بغير ذنبٍ، يقول: أنت مُقدَّسٌ، مُنزَّهٌ عن ظلمي وعقوبتي بغير إجرامٍ مني، بل أنا الظالم الذي ظلمتُ نفسي، فهو يعترف بهذا: سبحانك.
فكانت دعوةُ ذي النون -عليه الصَّلاة والسَّلام- تتناول نوعي الدُّعاء اللَّذين لطالما ذكرناهما؛ فقوله: لا إله إلا أنت اعترافٌ بتوحيد الإلهية، وتوحيد الإلهية يتضمّن أحد نوعي الدُّعاء؛ فإنَّ الإله هو المستحقّ أن يُدْعَى دُعاء عبادةٍ ودُعاء مسألةٍ: أن يُعبد، وهذا الذي يعبده هو سائلٌ في الواقع؛ لأنَّه يطلب الثوابَ والأجر، وقلنا: بأنَّ العابد والمصلِّي هو سائلٌ بفعله، كمَن يسأل بمقاله حينما يقول: اللهم اغفر لي. فهذا النوع الآخر من الدُّعاء، وهو السؤال بالقول صراحةً.
يقول: إني كنتُ من الظَّالمين هنا يعترف بالذَّنب، وهذا يتضمن طلب المغفرة، كما يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[11]، فالطَّلب أيضًا تارةً يكون بصيغة الطَّلب: اغفر لي. وتارةً يكون بصيغة الإخبار: إني كنتُ من الظَّالمين؛ بأن يصف حاله، فهو يذكر تقصيره وعجزه وضعفه وتفريطه، ونحو ذلك؛ ولهذا قال النبي ﷺ: أفضل ما قلتُ أنا والنَّبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له ...[12]؛ لما ذكر دُعاء يوم عرفة، فسمَّاه: دعاء، وهو ذكرٌ، قد مضى الكلامُ على هذا.
إذًا الذكر أو الدُّعاء منه ما يكون دعاءَ عبادةٍ، ومنه ما يكون دعاء مسألةٍ، وقلنا: بأنَّ الذكر يشمل هذا وهذا.
وقد سُئل سُفيان بن عُيينة -رحمه الله- عن أفضل الدُّعاء، فذكر هذا الحديث: أفضل ما قلتُ أنا والنَّبيون من قبلي، وذكر قول أمية ابن أبي الصَّلت يمدح ابن جدعان:
أَأَذْكُرُ حاجتي أمْ قد كَفَاني | حَيَاؤُكَ إِنَّ شِيمَتَكَ الحياءُ |
إذا أَثنى عليكَ المرءُ يومًا | كفاه من تعرُّضِهِ الثَّناءُ[13] |
يعني: ما يحتاج إلى أن يقول: أعطني، وإنما يكفي الثَّناء، فيكون ذلك منزلاً منزلة السُّؤال والطَّلب.
يقول شيخُ الإسلام: لكن صاحب الحوت يعني: أنَّ مقامه مقام اعترافٍ، فناسب حاله صيغة الوصف[14]: سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فهنا كأنَّه يقول: ما أصابني الشَّر إلا بسبب ذنبي، والمقصود دفع الضَّرر، والاستغفار جاء بالقصد الثاني، فلم يذكر صيغةَ الطَّلب لاستشعاره أنه مُسيئٌ ظالمٌ، وأنَّه هو الذي أدخل الضَّرر على نفسه، فذكر ما يرفعه من الاعتراف بظُلمه.
هكذا قال شيخُ الإسلام ابن تيمية، يعني: هو يُعلل هذه الصِّيغة؛ لأنَّه ليس فيها سؤالٌ صريحٌ، يقول: ربّ اغفر لي، ظلمتُ نفسي، فاغفر لي. وإنما يقول: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، أي: أنا من الظَّالمين بخروجي من بين قومي قبل أن تأذن لي بذلك، فاستجاب الله له؛ فألقاه الحوتُ، وحصل له ما حصل مما قصَّ الله -تبارك وتعالى- من خبره.
فهذا الدُّعاء -أيّها الأحبّة- يتضمن معانٍ عظيمة في التوحيد؛ ففيه من كمال التوحيد والتَّنزيه للربِّ -تبارك وتعالى-، كما يقول الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-: واعتراف العبد بظُلمه وذنبه ما هو أبلغ أدوية الكرب والهمِّ والحزن والغمِّ، وأبلغ الوسائل إلى الله تعالى في قضاء الحوائج؛ فإنَّ التوحيد والتَّنزيه يتضمّنان إثبات كل كمالٍ لله، وسلب كل نقصٍ وعيبٍ وتمثيلٍ عنه، والاعتراف بالظُّلم يتضمّن إيمان العبد بالشَّرع والثَّواب والعقاب؛ لأنَّ هذا الظلم هو خروج عن الشَّرع والثواب والعقاب؛ فإنَّ الظلم يكون سببًا للعقوبة[15].
يقول: ويُوجِب انكساره ورجوعه إلى الله، واستقالة العثرة، والاعتراف بالعبودية، والافتقار إلى المعبود .
يقول: فهنا أربعة أمورٍ قد وقع التَّوسل بها: التوحيد، والتَّنزيه، والعبودية، والاعتراف[16].
دعوة ذي النون، فالله -تبارك وتعالى- يُنجي أولياءه من كُربات الدنيا والآخرة، وشدائد الدنيا والآخرة؛ ولهذا فزع إليه يونس ﷺ في هذه الحال التي لا يتوقع فيها النَّجاة، مَن وقع في حالٍ كهذه فإنَّه يكون قد أيس من النَّجاة والسَّلامة، واستيقن العطب والهلاك، ومع ذلك دعا ربَّه بهذه الطَّريقة، والتَّذلل، والتَّضرع، فزع إلى الله؛ فنجَّاه الله من تلك الظُّلمات، ففزع إلى الله -تبارك وتعالى- أتباعُ الرسل، فنجوا به مما وقع لأقوامهم في الدنيا، وما يقع لهم في الآخرة من العذاب، لكن لما فزع إليه فرعونُ عند مُعاينة الهلاك وإدراك الغرق لم ينفعه ذلك؛ لأنَّ الإيمانَ -كما هو معلومٌ- عند المعاينة لا يُقبل، فهذه سُنَّة الله في عباده.
يقول ابنُ القيم: فما دفعتْ شدائدُ الدنيا بمثل التوحيد؛ ولذلك كان دعاءُ الكرب بالتَّوحيد، ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروبٌ إلا فرَّج الله كربَه بالتوحيد، فلا يُلقي في الكروب العِظام إلا الشِّرك، ولا يُنجي منها إلا التوحيد، فهو مفزع الخليقة، وملجأها، وحصنها، وغياثها[17]. إلى آخر ما قال.
ففي هذا -أيّها الأحبّة- بيان أعظم العلاج للكروب: أن يُجدد الإنسان الإيمان؛ أن يلهج بالتوحيد، ويتوسّل به، كلمة: "لا إله إلا الله"، فلا تزول الشَّدائد إلا بمثل إخلاص الدين لله -تبارك وتعالى-، وتحقيق العبادة التي خُلق العبدُ من أجلها، فالقلب عندما يعمر بهذا التوحيد والإخلاص فإنَّه يكون في حالٍ من السَّلامة، ويكون ذلك سبيلاً إلى السَّلامة في الدنيا والآخرة؛ فتنقشع عنه تلك الأوهام والسُّحب من الشَّدائد والكروب التي تغشى القلوب.
ومن هنا فما أحوجنا -أيّها الأحبّة- إلى أن نُردد ذلك، وأن نعنى به، وأن نصلح هذه القلوب، وأن نُقيمها على التوحيد الخالص لله -تبارك وتعالى-.
وانظر إلى حال أولئك الذين يتيهون ويضيعون -نسأل الله العافية- حينما تقع بهم الشَّدائد يذهبون إلى القبور والأضرحة، ويستغيثون بغير الله ، ويطلبون السَّلامة ممن لا يملك السَّلامة لنفسه ولا لغيره!
وقد سُئِل الحسنُ عن الاسم الأعظم الذي إذا دُعِيَ الله به أجاب، وإذا سُئِلَ أعطى، قال: يا ابن أخي، أما تقرأ القرآن؟ قول الله: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا إلى قوله: الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87-88]، يا ابن أخي، هذا الاسم الأعظم الذي إذا دُعِيَ به أجاب، وإذا سُئِلَ به أعطى[18]. هكذا قال الحسن.
وقد تكلّمنا على الاسم الأعظم كثيرًا في مناسباتٍ، وفي مُقدّمات الأسماء الحسنى، وفي شرح اسم الله -تبارك وتعالى- الله، وكذلك الحيّ القيوم، وقلنا: بأنَّ أشهر الأقوال: أنَّ الاسم الأعظم هو لفظ الجلالة (الله)، ويلي ذلك: الحيّ القيّوم، والواحد الأحد، والحنان المنان. فالإنسان يجمع هذه جميعًا، ويسأل ربَّه، والله لا يُخيب مَن رجاه.
نسأل الله أن يُصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يجعل القرآنَ ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا.
اللهم ذكِّرنا منه ما نسينا، وعلِّمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوتَه آناء الليل وأطراف النَّهار على الوجه الذي يُرضيك عنا.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي: كتاب الدَّعوات، باب ما جاء في عقد التَّسبيح باليد، برقم (3427)، وصححه الألباني.
- أخرجه الحاكم في "المستدرك على الصَّحيحين" برقم (1862).
- "الترغيب والترهيب" (2/395).
- "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (7/68).
- "الجامع الصغير من حديث البشير النذير"، برقم (4203).
- في تعليقه على "مسند أحمد" ت: شاكر (2/217).
- "صحيح الجامع"، برقم (5695).
- "نتائج الأفكار" لابن حجر (4/93).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [طه:9]، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، برقم (3395)، ومسلم: كتاب الفضائل، بابٌ في ذكر يونس -عليه السَّلام-، برقم (2377).
- "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (5/230).
- "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (5/223).
- أخرجه الترمذي: أبواب الدَّعوات، برقم (3585)، وحسَّنه الألباني.
- "نهاية الأرب في فنون الأدب" (5/38)، و"لباب الآداب" للثَّعالبي (ص122).
- "دقائق التفسير" (2/363).
- "الطب النبوي" لابن القيم (ص154).
- "الطب النبوي" لابن القيم (ص154).
- "الفوائد" لابن القيم (ص53).
- "تفسير ابن كثير" ت: سلامة (5/369).