الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فهذا بابٌ جديدٌ: (باب دعاء لقاء العدو وذي السُّلطان)، وذكر فيه ثلاثة أحاديث:
أولها: حديث أبي موسى : أنَّ النبي ﷺ كان إذا خاف قومًا قال: اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شُرورهم. أخرجه أبو داود[1]، وسكت عنه.
وعرفنا أنَّ ما سكت عنه فهو صالحٌ للاحتجاج عنده، وقال عنه النَّووي: إسناده صحيحٌ[2]. وقال المناوي: صالحٌ[3]. وقال الحافظُ ابن حجر: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ[4]. وقال في موضعٍ آخر: غريب، ورجاله رجال الصَّحيح، لكن قتادة مُدلِّس[5]. وقال في موضعٍ ثالثٍ: مرسل[6]. وصححه السيوطي[7]، والشيخ ناصر الدِّين الألباني[8] -رحم الله الجميع.
قوله: "كان إذا خاف قومًا" هذا عامٌّ، فلا يختصّ بما ذكره المؤلف في ترجمة هذا الباب: (دعاء لقاء العدو وذي السُّلطان)، فيُحمل على هذا العموم.
"كان إذا خاف قومًا" أي: شرَّ قومٍ، قال: اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شُرورهم بمعنى: تدفعهم عنا، وتمنعنا منهم. والنَّحر معروفٌ، وهو أعلى الصَّدر، يُقال: جعلتُ فلانًا في نحر العدو، أي: قبالته وحذاءه، وخصّ النَّحر لأنَّ العدو إنما يستقبل بنحره عند القتال.
وبعضهم قال: يحتمل أن يكون ذلك للتَّفاؤل بنحر الأعداء.
ولكن الأول أقرب؛ لأنَّه المتبادر: أجعلك في نحورهم، وإنما خصّ النَّحر -والله تعالى أعلم- لأنَّه أسرع وأقوى في الدَّفع، والتَّمكن من المدفوع.
ونعوذ بك من شُرورهم يعني: أنت تسأل الله -تبارك وتعالى- أن يكفيك وأن يعصمك من شُرورهم، ونسألك أن تصدّ صدورهم، وتدفع شُرورهم، ونجعلك في نحورهم، فإذا كان كذلك فأنت تدفع صدورهم وشُرورهم، وبهذا تُكفى ما تخاف وما تُحاذر، فيُحال بينك وبين هذا العدو الذي تخافه.
وقريبٌ من هذا ما ذكره بعضُ أهل العلم في تفسيره؛ قالوا: المعنى: نجعلك في إزاء أعدائنا حتى تدفعهم عنا، فإنَّه لا حولَ ولا قوةَ لنا، يعني: يا ربّ، نستعين بك في دفع هؤلاء الأعداء. فهذا فيه التَّحصن والاعتصام بالله -تبارك وتعالى-، والعوذ واللُّجؤ إليه مما يخافه الإنسانُ ويُحاذره.
وفي هذا الحديث أنَّ مَن اعتصم بالله -تبارك وتعالى-، ولجأ إليه؛ كفاه ما يخاف من الأعداء، والله يقول: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137].
الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في "الوابل الصيب من الكلم الطيب" جعل هذا الحديثَ تحت ترجمةٍ قال فيها: "في الذكر عند لقاء العدو، ومَن يخاف سلطانًا وغيره"[9]، وكأنَّ المؤلف أخذه من الحافظ ابن القيم -رحمه الله-.
الحديث الثاني: وهو حديث أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- قال: كان رسولُ الله ﷺ إذا غزا قال: اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أُقاتل.
هذا الحديث أخرجه أبو داود[10]، والترمذي وقال: حسنٌ غريبٌ[11]. وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله-[12].
اللهم أنت عضدي هذا يقوله إذا غزا، يعني: مُعتمدي، فلا أعتمد على غيرك.
فالعضد -كما ذكر أهلُ العلم- كناية عمَّا يعتمد عليه ويثق به المرء، ويركن إليه من القوة، وأصل العضد هو: العضو المعروف الذي يكون بين المنكب والمرفق، أو ما بين الكتف والمرفق، فيُستعار ويُستعمل ذلك للقوة؛ لأنَّ هذا موضع قوةٍ؛ ولذلك فإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أصحابه في عمرة القضاء أن يضطبعوا، بمعنى: أنَّه يُخرج الرداء من تحت الإبط الأيمن؛ ليظهر العضد، فيكون ذلك إظهارًا للقوة؛ لأنَّ المشركين قالوا: أتاكم قومٌ قد وهنتهم حُمَّى يثرب[13]. فأراد النبيُّ ﷺ أن يُظهر لهم خلاف ذلك، والناس يقولون: "فلان عضدي" لهذا المعنى؛ ولهذا قال الخليلُ بن أحمد -رحمه الله-: "العضد: المعونة"[14]، يُقال: عضدتُ فلانًا، أي: أعنته، قال الله تعالى: وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51]، فصار يُستعمل في هذا المعنى؛ في القوّة.
ويقول ابنُ الأعرابي -رحمه الله-: عضد الرجل: قومه وعشيرته[15]؛ لأنَّه يتقوَّى بهم، تقول: هؤلاء عضد فلان، وأعضاد فلان، وهم ناصروه ومُؤيّدوه.
ونصيري يعني: مُعيني ومُغيثي، بك أحول يعني: بحولك وقوّتك وعونك ونصرك وتأييدك، أحول يعني: أصرف كيد العدو، أو أحتال لدفع مكرهم.
وبعض أهل العلم جمع بين المعنيين: أصرف كيد العدو، وأحتال لدفع مكرهم، وأصل الحول هو الحركة، تقول: حال الشَّخص إذا تحرَّك، فهو من التَّحول من حالٍ إلى حالٍ، نحن نقول: لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، ولا حركةَ ولا استطاعةَ ولا تحول ولا انتقالَ من حالٍ إلى حالٍ إلا بإعانة الله -تبارك وتعالى-.
ويُقال: الحول أيضًا للحيلة، وبهذا فسَّره بعضُ أهل العلم، إلا أنَّ الأول أشهر: بك أحول، يعني: أتصرَّف وأتحرك في دفع ما أخافه وأُحاذره من هؤلاء الأعداء وكيدهم، يعني: أدفع وأمنع، وحال بين الشَّيئين إذا منع أحدهما من الآخر.
وبك أصول يعني: أحمل على العدو حتى أغلبه وأستأصله، منه الصّولة، بمعنى: الحملة، تقول: فلانٌ له صولة على القلوب، أو تقول: صال على العدو، أو يُقال: العدو الصَّائل، يعني: الذي يحمل، يُقال: "دفع الصَّائل" هو الذي يكون منه عدوانٌ على الآخرين من إنسانٍ، أو حيوانٍ، أو غير ذلك: بك أصول، وبك أُقاتل، يعني: أُقاتل أعداءك.
وفي هذا الحديث: خروج العبد من حوله وطوله وقوّته، والاعتماد على الله -تبارك وتعالى- وحده؛ ولذلك لاحظوا أنَّه قدَّم الجار والمجرور: اللهم أنت عضدي، وأنت نصيري، بك أحول، ولم يقل: أحول بك، وبك أصول، ولم يقل: أصول بك، وبك أُقاتل، ولم يقل: أُقاتل بك، فتقديم ما حقّه التَّأخير يُشعر بالحصر أو الاختصاص، يعني: لا أحول إلا بك، ولا أصول إلا بك، ولا أُقاتل إلا بك، فيكون قد خرج عن الالتفات إلى نفسه، فلا ينظر إلى قوّته، وإمكاناته، وما أُوتي من القدر، ونحو ذلك.
وهكذا ينبغي أن يكون المؤمنُ في كل أحواله: في دفع شياطين الإنس، وشياطين الجنّ، ومَن يكون بإزاء العدو يُقاتلهم فهو أحوج إلى أن يخرج من حوله وقوّته، ولا يغترّ بقوته وإمكاناته وخُططه العسكرية، وما إلى ذلك مما يملكه من قوى وأجناد وسلاح، ونحو ذلك، وإنما ينخلع من ذلك جميعًا، ويُظهر الافتقار إلى الله -تبارك وتعالى-؛ لأنَّ الكثرة وحدها لا تكفي، فكثرة السلاح وقوّته وحدها لا تكفي، والله -تبارك وتعالى- ذكّر أهلَ الإيمان في موقفين:
الأول: في بدرٍ، وهم قلّة: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ [الأنفال:26]، فهؤلاء فئة قليلة.
وكذلك ما وقع لبني إسرائيل في القصّة التي ذكرها الله في سورة البقرة: إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246]، إلى أن قال الله في ذكر قول أهل الإيمان منهم، أو أهل الصَّبر والاستعانة: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249]، فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:251].
أمَّا الكثرة فكما وقع في يوم حنين: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25]، فالكثرة ليست هي المعول في النَّصر، ولا العتاد والعدّة، وإنما يكون ذلك بتأييد الله -تبارك وتعالى- ونصره.
وهكذا المؤمن في كل أحواله؛ يكون عظيم الافتقار إلى الله، كثير التَّضرع إليه، مُظهر المسكنة لربِّه وخالقه ، فهذا الذي يُؤيده الله وينصره، ولا يغترّ بما عنده.
والله تعالى أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود: باب تفريع أبواب الوتر، باب ما يقول الرجلُ إذا خاف قومًا، برقم (1537)، وصححه الألباني.
- "الأذكار" للنووي ت: الأرناؤوط (ص123).
- "كشف المناهج والتَّناقيح في تخريج أحاديث المصابيح" (2/329).
- "نتائج الأفكار" لابن حجر (4/104).
- "نتائج الأفكار" لابن حجر (4/104).
- "إتحاف المهرة" لابن حجر (10/92).
- "الجامع الصغير من حديث البشير النذير"، برقم (6646).
- "صحيح سنن أبي داود"، برقم (1537).
- "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص114).
- أخرجه أبو داود: كتاب الجهاد، باب ما يُدْعَى عند اللقاء، برقم (2632)، وصححه الألباني.
- أخرجه الترمذي: أبواب الدَّعوات، برقم (3584)، وصححه الألباني.
- "صحيح سنن أبي داود"، برقم (2632)، و"صحيح سنن الترمذي"، برقم (3584).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب كيف كان بدء الرمل، برقم (1499)، ومسلم: كتاب الحج، باب استحباب الرمل في الطَّواف والعُمرة وفي الطَّواف الأول من الحجِّ، برقم (2220).
- "العين" (1/269).
- "مقاييس اللغة" (4/348).