الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
(218) دعاء لقاء العدو وذي السلطان " حسبنا الله ونعم الوكيل "
تاريخ النشر: ١٧ / ذو الحجة / ١٤٣٥
التحميل: 1729
مرات الإستماع: 1910

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فالذكر الأخير -وهو الثالث- مما أورده المؤلفُ تحت هذا الباب: "باب دعاء لقاء العدو وذي السُّلطان"، وهو ما جاء عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيمُ -عليه الصَّلاة والسَّلام- حين أُلقي في النار، وقالها محمدٌ ﷺ حين قالوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]"[1]. أخرجه الإمامُ البخاري -رحمه الله- في "صحيحه".

"حسبنا الله ونعم الوكيل"، "حسبنا" أي: كافينا: فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ [الأنفال:62]، أي: كافيك الله، والحسب بمعنى: الكفاية، فإذا قال العبدُ: حسبي الله، أي: أنَّ الله كافيّ، فالله -تبارك وتعالى- يقول: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]؛ لأنَّ المتوكّل إنما يريد الكفاية؛ فيكل أمرَه إلى الله -تبارك وتعالى- ويركن إليه، فذكر له الجزاء مُباشرةً من نوع مطلوبه ومقصوده، وهو الكفاية، قال: فَهُوَ حَسْبُهُ، أي: كافيه.

"ونِعم الوكيل"، "نِعم" هذه كلمة تُستعمل للمدح، قالوا: تجمع المدح كلّه "نِعم"، وهي تُقال بإزاء "بئس"، يعني: تُقابلها، فبئس للذَّم، ونِعم للمدح.

"نِعم الوكيل"، أي: الموكول إليه، المفوّض إليه، الذي يُركن إليه، وهو الله -تبارك وتعالى-؛ لأنَّ أزمّةَ الأمور بيده، ونواصي الخلق في قبضته، وتحت تصرُّفه، وهو الذي يملك الكفاية، فهو القوي، العزيز، القدير، الغني، مَن توكّل عليه كفاه مما يخاف ويُحاذر.

"حسبي الله"، كافيّ الله، الله يكفيني، ونِعم الموكول إليه، المفوّض إليه، الموثوق به، المتوكل عليه.

"قالها إبراهيمُ حين أُلقي في النار"، لما وضعوا المنجنيق: قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات:97]، أرادوا أن يُلقوه في نارٍ عظيمةٍ، فجاء في روايات من الإسرائيليات وغيرها: أنَّه عرض عليه الملائكةُ؛ أتاه خازنُ الماء –يقولون: وهو في الهواء- فقال: يا إبراهيم، إن أردتَ أخمدتُ النار بالماء؟ فقال: لا حاجةَ لي فيك. فأتاه ملكُ الريح فقال: لو شئتَ طيرتُ النار؟ فقال: لا، ثم رفع رأسَه إلى السَّماء وقال: "اللهم أنت الواحد في السَّماء، وأنا الواحد في الأرض"[2]، يعني: من المؤمنين، "ليس أحدٌ يعبدك من المؤمنين". هكذا في روايات.

وهذه الرِّوايات لا يثبت شيءٌ منها عن النبي ﷺ، لكن لا شكَّ أنَّه فوَّض أمره إلى الله -تبارك وتعالى- وحده، فقال: "حسبي الله ونِعم الوكيل"، وهذا لا شكَّ أنه غاية التَّوكل والثِّقة بالله -تبارك وتعالى-، وهذا يدلّ على علو منصبه -عليه الصَّلاة والسَّلام-، ورفيع مرتبته في الإيمان، وسمو مقامه، فهو لم يتوجّه قلبُه إلى شيءٍ سوى الله -تبارك وتعالى- من المخلوقين يركن إليه، يطلب منه المدد، والنَّصر، والتَّأييد، والكفاية، والدَّفع، وما إلى ذلك، بل أعرض عن جميع هذه الأمور، وضرب عنها صفحًا، واغتنى بمُسببها؛ وهو الله -تبارك وتعالى-، الكافي، الحسيب، والله -تبارك وتعالى- يكفي مَن توكّل عليه وركن إليه، وهذا إنما يعلمه أهلُ الإيمان؛ لما عرفوا من صفة المعبود ، وكماله، وقُدرته، وقوّته، وعزّته.

فينبغي على العبد أن يستشعر العجز والضَّعف والحاجة والافتقار إلى الله -تبارك وتعالى-، فهو مُسبب الأسباب، فهذه نارٌ تحرق، من طبيعتها الإحراق، هذه الطَّبيعة أودعها الله بها، لكن لما شاء الله -تبارك وتعالى- سلب منها هذه الخاصية.

هنا إبراهيم كان وحده، لم يكن هناك مَن ينصره من البشر، لم يكن هناك أتباع، لم يكن هناك قوة تمنعه من هؤلاء الكفَّار، أو هذا الملك الجبَّار، فما الذي حصل؟

الذي حصل أنَّ الله قال للنار: كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فكانت كذلك؛ لأنَّ الله -تبارك وتعالى- هو الذي خلقها، وهو الذي أودع فيها خاصية الإحراق، فهو قادرٌ على سلبها، فالذي يفعل ذلك ويخرق العادةَ قادرٌ على أن يكفيك المخاوف، وأن يُنجيك من كلِّ ما تخشى وتتَّقي وتُحاذر، لكن يحتاج العبدُ مع هذا إلى صلةٍ مع الله ؛ أن يتعرَّف إلى الله في الرَّخاء؛ من أجل أن يعرفه الله -تبارك وتعالى- في الشّدة: احفظ الله يحفظك.

فلا يكون العبدُ مُضيِّعًا لحقوق الله -تبارك وتعالى-، فإذا جاءت الشَّدائد قال: يا ربّ، وإنما يكون على صلةٍ وثيقةٍ بربِّه -تبارك وتعالى-، فإذا دعاه أجابه، وإذا التجأ إليه، وتوكّل عليه، وفوّض أمره إليه؛ كفاه من كلِّ ما يخاف ويُحاذر.

وقد ذكر الرازي صاحب التفسير -الفخر المعروف- ذكر كلامًا حاصله أنَّه يقول: قد بلغ السابعة والخمسين، يقول: "الذي جربتُه"، هذا خلاصة كلام الرازي، يقول: "الذي جربتُه في حياتي من أوَّلها إلى آخرها، والذي خرجتُ فيه هو أنَّ مَن توجّه بحاجته وفقره إلى غير الله خذل، ومَن توجّه إلى الله -تبارك وتعالى- كُفي"[3]، هذا خُلاصة كلامٍ للرازي، هذا حاصله، وهذا الكلام صحيحٌ، وعبارات العُلماء في هذا كثيرةٌ، يجدها مَن تطلبها في مظانها، والله المستعان.

وكذلك أيضًا النبي ﷺ حينما قالوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران:173]، فهذا كان بعد غزوة أحدٍ، بعد الهزيمة والقتل الذي استحرَّ بأصحاب النبي ﷺ؛ فقد قُتل سبعون، وجُرح كثيرون، ثم بعد ذلك يأتي الخبرُ بأنَّ هؤلاء المشركين قد تهيَّأوا واستعدُّوا لكرَّةٍ على المدينة؛ ليستأصلوا النبيَّ ﷺ ومَن معه، فقال أهلُ الإيمان: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].

هذا جاء في السِّير: أنَّ أبا سفيان رجع بقريشٍ بعد أن توجَّهوا من أُحدٍ، فلقيه معبد الخزاعي، فأخبره أنَّه رأى النبيَّ ﷺ في جمعٍ كثيرٍ، وقد اجتمع معه مَن كان تخلَّف عن أُحدٍ، وندموا، فثنى ذلك أبا سفيان وأصحابَه فرجعوا، يعني: انصرفوا عن المدينة.

وأرسل أبو سفيان ناسًا أخبروا النبيَّ ﷺ: أنَّ أبا سفيان وأصحابَه يقصدونهم، فقال: حسبنا الله ونِعم الوكيل: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ الناس يعني: أبا سفيان ومَن معه، قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، هذا التَّخويف وهذا الجمع لم يفت في أعضادهم، ولم يكن سببًا للخوف والضَّعف والتَّراجع والهزيمة، وإنما قَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وأيضًا زادهم إيمانًا.

كذلك أيضًا ما ذكره الله في سورة الأحزاب: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ [الأحزاب:22]، أحزاب تجمَّعوا من كل ناحيةٍ وأحاطوا بالمدينة، وجاءوا لهدفٍ محددٍ؛ وهو استئصال النبي ﷺ ومَن معه، ماذا قال أهلُ الإيمان حينما رأوا الأحزابَ؟

قالوا ما أخبر اللهُ عنهم: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]، فهم ماذا رأوا؟

رأوا الابتلاء، رأوا الأحزاب، فقالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وأحسن ما قيل في ذلك -والله أعلم- مما ذكره المفسّرون فيما يرجع إليه الإشارة بقوله: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، ما قاله ابنُ كثيرٍ؛ حيث جمع بين القولين؛ بين قولي المفسّرين، وهو: أنهم رأوا الابتلاء؛ لأنَّ بعضهم يقول: هذا –يعني: الابتلاء- هو الذي وعدنا الله ورسوله، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا [التوبة:16]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [البقرة:214]، وأشباه ذلك من النصوص التي وعد اللهُ فيها بالابتلاء: قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ. والقول الآخر: أنَّه النَّصر.

ابن كثير جمع بينهما بعبارةٍ مُوجزةٍ فقال: "أي هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب"[4]، فإنَّ النَّصر لا يحصل إلا بعد الابتلاء في هذا الوقت؛ وقت الشّدة مباشرةً: قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أمَّا أهل النِّفاق فقالوا: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]، كلامٌ ووعودٌ لا حقيقةَ لها، فظهرت مُخبّآت النفوس في ذلك اليوم، وزلزل المؤمنون زلزالاً شديدًا.

فهنا أهل الإيمان ثقتهم بالله -تبارك وتعالى- عظيمة؛ فزادهم إيمانًا، وثباتًا، ورسوخًا في الطَّريق، وكذلك أيضًا في أُحدٍ قالوا: "حسبنا الله ونِعم الوكيل"، فالتَّوكل هو نصف الدِّين، كما قال الحافظُ ابن القيم[5] -رحمه الله-، والنصف الثاني هو الإنابة، فالدِّين: استعانة، وعبادة. فالتَّوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة، وقد تكلَّمتُ على التوكل بكلامٍ مُفصَّلٍ طويلٍ.

هذا ما يتعلَّق بهذا الحديث.

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.

اللهم أصلح لنا شأننا كلّه، وأعنَّا على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك.

ربنا اغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المؤمنين.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

 

  1. أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} الآية [آل عمران:173]، برقم (4563).
  2. "تاريخ الطبري" (1/242)، و"زاد المسير في علم التفسير" (3/200)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/399).
  3. لم أقف عليه.
  4. "تفسير ابن كثير" ت: سلامة (6/392).
  5. انظر: "مدارج السالكين" (2/113).

مواد ذات صلة