الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
(231) الدعاء للمريض في عيادته " لا بأس طهور إن شاء الله "
تاريخ النشر: ٠٣ / محرّم / ١٤٣٦
التحميل: 1908
مرات الإستماع: 1641

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فهذا باب (الدُّعاء للمريض في عيادته)، وأورد فيه المؤلفُ حديثين، أتحدّث عن الأول منهما في هذه الليلة، وهو ما جاء عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-: أنَّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- دخل على أعرابيٍّ يعوده، وكان النبيُّ-صلى الله عليه وآله وسلم-إذا دخل على مريضٍ يعوده يقول: لا بأس، طهورٌ إن شاء الله، فقال الأعرابيُّ: قلتَ: طهورٌ! كلا، بل هي حمى تفور-أو تثور- على شيخٍ كبيرٍ، تُزيره القبور. فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: فنعم إذًا[1].هذا الحديثُ أخرجه البخاري في "صحيحه".

قوله:"دخل على أعرابيٍّ"، الأعرابي معروفٌ، وهو مَن سكن البادية، وهذا الأعرابي ذكر الحافظُ ابن حجر -رحمه الله- أنَّه رُوِيَ أنَّ اسمه: قيس، وهذا -على كل حالٍ- لا حاجةَ إليه.

"يعوده" عيادة المريض بمعنى زيارة المريض، وفيها معنى العود؛ لأنَّذلك يتكرر، وهذا من كمال تواضعه -عليه الصلاة والسلام- ورحمته بأُمَّته، وحرصه على الصَّلاة والسَّلام على أتباعه، وعلى تعليمهم ما ينفعهم، فكان-صلى الله عليه وآله وسلم-من عادته أن يقول لمن عاده: لا بأس، طهورٌ.

لا بأس يحتمل أن يكون المعنى المراد باعتبار أنَّ المرضَ يُكفِّر الخطايا، فإن حصلت العافيةُ فقد حصل الأمران، أو الفائدتان: تطهير الذنوب والسّيئات، وأيضًا العافية، وإلا حصل التَّكفير للذُّنوب، لا بأس، فهذه للمؤمن كما قال الله -تبارك وتعالى-:قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا[التوبة:51]، فكما قالالنبيُّ-صلى الله عليه وآله وسلم-:عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كلَّه له خير، إن أصابته سرَّاء شكر؛ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر؛ فكان خيرًا له[2].

قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَاما قال: كتب علينا؛لأنَّذلك للمؤمن فيما يقع له من المصائب، والأمراض، والعِلل، والأوصاب، أو فيما يقع له من النِّعَم، هذا لا يكون إلا للمؤمن.

فالنبي-صلى الله عليه وآله وسلم- قال له: لا بأسَ، طهورٌيعني: لا مشقَّةَ، ولا تعبَ عليك من هذا المرض؛ لأنَّه يُطهِّرك من الذُّنوب.

"طهور" كلمة تدلّ على المبالغة؛ ولذلك قالوا في الحمّى: جاء أنها كيرُ المؤمن،كما صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-،والكِير معروفٌ؛ حيث إنَّ ذلك يحصل به تنقية المعادن مما يشوبها، فهي كير المؤمن؛ ولذلك كان الرجلُ إذا خرج من الحمَّى يُقال: ليهنك الطّهر، يعني: هنيئًا لك بالطُّهر، يعني: من الذنوب، وكانوا يرون في حمَّى ليلةٍ كفَّارة لما مضى من الذنوب.

فالحاصل أنَّه يُقال له:"طهور"، هذا طهورٌ لك من ذنوبك، هذه الحمَّى تُطهرك، تُنقيك -إن شاء الله.

قوله: لا بأس، طهورٌ إن شاء الله يحتمل أن يكون ذلك من قبيل الخبر، النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-يُخبر عن الحمَّى أنها طهورٌ، قال: إن شاء الله، فيكون ذلك مُعلَّقًا على المشيئة إذا تحققت الشُّروط، وانتفت الموانع، يعني: لابدَّ أن يكون صابرًا، غير جزعٍ، ولا مُتسخِّطٍ، ولا مُتشكٍّ عند عُوَّاده؛ لأنَّه جاءفي الحديث الآخر القدسي: أنَّ الله -تبارك وتعالى- يأمر ملائكتَه أن ينظروا فيمَ يقول لعُوَّاده[3]: هل يشكر ويحمدالله ، أو يتسخَّط؟ إن شكر كان ذلك تطهيرًا له من الذُّنوب، وأُجري له ما كان من العمل.

فقوله: إن شاء الله هنا إذا كان ذلك من قبيل الخبر؛ أنَّ الجملة خبريَّة، يُخبر النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- أنَّ الحمَّى طهورٌ -إن شاء الله- إذا تحقق الشَّرط، وانتفى المانع، فمن الناس مَن لا يكون له كذلك.

ويحتمل أنَّ ذلك يُراد به الدُّعاء، يُدْعَى له بصيغة خبريَّة، والدُّعاء يرد بالصيغ الخبرية لأغراضٍ: منها: أنَّ ذلك -كما قال بعضُ أهل العلم- للتَّفاؤل بتحققه، يعني: تحقق الإجابة، لا بأسَ، طهورٌ كأنَّه يقول: جعله الله طهورًا، لا بأس، طهورٌ إن شاء الله، لكن إذا كان ذلك من قبيل الدُّعاء، فكيف عُلِّق بالمشيئة؟!

هنا بعضُ أهل العلم قال: إنَّ ذلك للتَّبرك، فلا بأس أن يقول الإنسانُ في الدُّعاء:"إن شاء الله" إذا قصد التَّبرك، أي: أنَّ ذلك تحقيقًا، لا تعليقًا؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-نهى عن الاستثناء في المسألة، لا يقول: "ربي، اغفر لي إن شئتَ"، فإنَّ الله لا مُكْرِهَ له، وإنما ليعزم المسألة [4]،لكن الاستثناء قد يكون مُرادًا به التَّحقيق، لا التَّعليق، كما في قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ [الفتح:27]، فهذاوعدٌ ثابتٌ، وقد علم اللهُ أنَّهم داخلوه قطعًا، وقد دخلوه، وجرى ذلك في قضائه وقدره، لكن الله قال ذلك من باب التَّحقيق.

وكما في زيارة المقابر؛ حيث ثبت عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-أنَّه قال فيما يُقال: السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون[5]،ونحن لاحقون بهم قطعًا، فيكون ذلك على سبيل التَّحقيق، فهذا لا إشكالَ فيه.

فهنا إن كانت هذه الصِّيغةالمقصود بها الدُّعاء؛ فيكون ذلك من قبيل التَّعليق، باعتبار أنَّ المراد التَّحقيق، أو التَّبرك بذكر اسم الله -تبارك وتعالى-، مع أنَّ الحافظ ابن حجر -رحمه الله- ذكر أنَّ قوله: إن شاء الله يدلّ على أنَّ قوله: طهورٌأنَّه دُعاء، لا خبر، وهذا لا يخلو من إشكالٍ -والله أعلم[6].

الشاهد أنَّ الأعرابي هذا قال: "كلا"، يستنكر على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنَّه قال: طهورٌ،"قلتَ: طهور! كلا"، يعني: ليس الأمر كما قلتَ، "بل حمَّى تفور" يعني: تغلي في بدن هذا الأعرابي المريض كغلي القدور، "أو تثور" شكٌّ من الراوي، يعني: هل قال: تفور، أو تثور؟ والمعنى واحدٌ: حمى تثور، أو تفور.

"على شيخٍ كبيرٍ"، والشيخ المقصود به هنا كبير السنّ، وقوله:"كبير" يكون من قبيل الصِّفة الكاشفة، يعني: أنها تكشف عن حقيقةٍ في الموصوف، لا تزيد قيدًا، مثلما يُقال: رأيت رجلاً ذكرًا، لا تُقيده، بخلاف ما لو قلتَ: رأيت رجلاً طويلاً، رأيت رجلاً دَمِثًا، خلوقًا. هذا قيدٌ، فما كلّ الرجال كذلك، لكن حينما تقول: رأيت رجلاً ذكرًا، رأيت امرأةً أنثى.

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، يقولون: الصِّراط في اللغة أصلاً لا بدَّ فيه من أوصافٍ، ذكروا منها الاستقامة، كلمة "صراط" في اللغة، فيكون "المستقيم" صفة كاشفة بهذا الاعتبار.

على كل حالٍ، فهذا يقول: "على شيخٍ كبيرٍ"، الشيخ هو كبير، يعني: مثل هذا شيخٌ كبيرٌ، اللهم إلا إذا نظرنا إلى كلمة "شيخ" أنها تُقال لمن تقدَّم غيرَه في أمرٍ من الأمور: في علمٍ، أو في صنعةٍ، أو في مالٍ، أو في جاهٍ، أو في سنٍّ.

فهنا أراد أن يُبين، يُقيد،"شيخ" هذا ما المراد به؟ عالم، أو تاجر، أو وجيه، فقال:"شيخ كبير"، فتكون بهذا الاعتبار صفة مُقيّدة.

"تُزيره القبور" يعني: هذه الحمّة تحمل على زيارة القبور، بمعنى: أنها تُفضي به إلى الموت والهلكة، فيكون من أصحاب القبور، "تُزيره" تحمله من غير اختياره، تُورده المقابر، هذا المراد.

فقال النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-: فنعم إذًا يعني: إذًا هذا المرض ليس بمطهرٍ لك كما قلت، يحتمل أن يكون المرادُ هذا: فنعم إذًا يعني: لا يكون طهورًا لما استنكر وقال:"قلتَ: طهور! بل حمى تفور".

ويحتمل أنَّهقصد من ذلك: أنَّه يحصل لك ما قلتَ؛ أنها ليست بطهورٍ، وأنها تُوردك أيضًا القبور، وأنها حمَّى تفور؛ لكُفرانه النِّعَم، وردّه ما قاله النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم-، وسوء ظنِّه بربِّه -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه.

فقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: فنعم إذًا الفاء هذه تدلّ على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، ما الذي كان قبلها؟

بعض أهل العلم يقول: هي مُرتبة على محذوفٍ، قوله: فنعم يكون تقريرًا؛ لما قال -يعني: أُرشدك بقولي-: لا بأسَ عليك، إلا أنَّ الحمَّى –يعني- باعتبار أنها تُطهرك من الذنوب، فاصبر، فأبيتَ إلا اليأس والكُفران، فكان كما زعمتَ: فنعم إذًا فليكن كما قلتَ.

ويحتمل أن يكون ذلك من قبيل الدُّعاء عليه، ويحتمل أن يكون خبرًا عمَّا يؤول إليه أمره من الموت والهلكة.

وقد ذكر الحافظُ ابن حجر -رحمه الله- أنَّه جاء عند الطَّبراني: أنَّ هذه الأعرابي أصبح ميتًا[7].

فالذي يظهر -والله أعلم- من السياق أنَّ قول النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-: فنعم إذًا يعني: هو كما قلتَ؛ أنها ليست بطهورٍ، وأنها تُوردك القبور. هذا الذي يظهر -والله أعلم.

فهذا الحديث يدلّ على معانٍ وفوائد ينبغي للمؤمن أن يتبصَّرها: الكبير لا غضاضةَ عليه في زيارة مَن دونه، فإنَّ ذلك يدلّ على تواضعه وكماله، ولو كان ذلك الذي قد قُصِدَ بالزيارةأعرابيًّا جافيًا، وهكذا العالم في عيادة الجاهل ليُعلِّمه، ليُذكِّره بما ينفعه، ليأمره بالصَّبر؛ لئلا يتسخّط على أقدار الله -تبارك وتعالى-؛ فيقع عليه السَّخط، يزوره من أجل أن يُسليه مما نزل به؛ لئلا ييأس ويقنط؛ فيتسلَّط عليه الشيطانُ.

والإنسان في حال المرض يضعف كثيرًا، ومَن حوله قد يضعفون؛ فيحتاجون إلى مَن يُقوِّيهم، إلى مَن يُثبتهم، إلى مَن يُصبرهم.

وشتان بين سماع الإنسان لكلامٍ كهذا الذي تسمعون -نسأل الله لنا ولكم العافية جميعًا-، وبين سماع المبتلى له، فإنَّه أحوج ما يكون إليه.

وهذا الحديث أيضًا يدل على جواز الإخبار بالمرض، إذا كان ذلك ليس على سبيل التَّشكِّي والتَّسخط، أو التَّضجر والتَّبرم.

وفيه أيضًا هنا: لا بأس، طهورٌ إن شاءاللهإذا كان هذا من قبيل الدُّعاء له، فيكون هذا من جملة الأدعية التي يُدعا بها للمريض.

على كل حالٍ، ذلك يُقال للمريض سواء قصد به الإخبار، أو قصد به الدُّعاء، فهذا مما يُشرع قوله.

ثم أيضًا انظر إلى ردِّ هذا الأعرابي، وما أفضى به إليه -نسأل الله العافية-؛ ولهذا قالوا: بأنَّ البلاء مُوكَّلٌ بالمنطق. وقد ذكر الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- هذا المعنى، وأورد هذا الحديثَ في جملةما أورده، وذكر قول الشَّاعر المؤمل الذي كان يعشق امرأةً في الحيرة يُقال لها: هند، فقال قصيدةً، وجاء فيها:

شفّ المؤمل يوم الحيرة النظر ليت المؤمل لم يُخلق له البصر[8]

يُقال: فلم يلبث أن عمي.

وكذلك أيضًا مجنون بني عامر، يذكر بعضُ أهل العلم-وهذا تجدونه في عددٍ من المصنّفات في الأدب وفي غيره-يذكرون نظائر لهذا، فهذا يقول:

........... قضاها لغيري وابتلاني بحبِّها

يتكلّم عن محبوبته:

قضاها لغيري وابتلاني بحبِّها فهلا بشيءٍ غير ليلى ابتلانيا[9]

يُقال: فذهب بصره، نسأل الله العافية.

وجاء أيضًا أنَّه لما قال هذا البيت يُقال: إنَّه ضربه البرص. وبعضُهم ذكر أنَّه أُصيب بالعمى والصَّمم.

وهكذا أيضًا ذكروا عن غير هؤلاء.

ومن الفوائد التي تُؤخذ من هذا الحديث: أنَّ المريض، والمبتلى، ونحو ذلك بحاجةٍ إلى ما يُفرج عنه، ويبعثه على الانشراح، فإنَّ هذا لا شكَّ أنَّ له أثرًا قويًّا في مُدافعة المرض، أحيانًا تجد اثنين ربما في غرفةٍ واحدةٍ في المستشفى، نفس المرض، ونفس مراحل المرض -نسأل الله العافية للجميع-؛ ورم، أو نحو ذلك، هذا في غاية الضَّعف، والخور، والانكسار، وهذا في غاية القوة، والثَّبات، والصَّبر، تجد أنَّ حالة الأول تتدهور سريعًا، تتراجع عافيته، والثاني يبقى مُتماسكًا، ثابتًا، ولربما شُفِيَ.

فهذا الجانب: الناحية النَّفسية، قوة القلب، والثَّبات، وحُسن الظنِّ بالله -تبارك وتعالى- له أثرٌ كبيرٌ على مُدافعة المرض، إذا كان مجرد الوهم، يتوهم أنَّ به عِلَّة؛ فيكون الإنسانُ في حالٍ من الضَّعف، ويكون في غاية الانكسار، وليس به بأسٌ، لا يستطيع أن ينتفع في عمل دنيا، ولا آخرة، فكيف إن كانت به عِلَّة حقيقية؟

وهذا فضل الله يُؤتيه مَن يشاء، لكن الناس بحاجةٍ إلى مَن يبعث الأمل في نفوسهم، ويُقوي قلوبهم، وإلا حينما تذهب إلى المرضى -نسأل الله أن يُعافي جميع مرضى المسلمين- تنظر في أحوالهم، ترى عجبًا من قوة صبر بعضهم، وثباتهم، وتماسُكهم، وتأتي إليه من أجل أن تُسليه، وأن تُصبره، ثم ما تلبث إذا رأيتَه بمجرد ما تراه؛ فترى عنده من الثَّبات، وتسمع كلامه؛ فتحتفظ بما أردتَ أن تقول لنفسك.

هذا الأسبوع الذي نحن فيه -في أوله- زرتُ اثنين في ليلةٍ في هذا المستشفى -نسأل الله العافية للجميع-، كلاهما يُعاني ورمًا، ولكن كنتُ أريد أن أتحدث، وأن أبعث الأملَ في نفوسهما، ونحو ذلك؛ فرأيتُ من الصبر:

أمَّا الأول فقلتُ له: المرض لا علاقةَ له بالأجل، إنما هو تكفير سيئات، ورفعة درجات، فانعم بما يسَّر الله وقدَّر، لا تبتئس، لا علاقةَ له بالأجل، لو كنت أعظم الناس عافيةً. قال: أنا أصلاً مُستعدٌّ للموت-ولله الحمد-، ولا أبتئس من هذا، ولا أقلق خوفًا من الموت، أنا مستعدٌّ له.

وأما الثانيفقال: الحمد لله، الحمد لله، ليس بي بأسٌكما ترى، وأيام العافية طويلة وكثيرة، والنبي-صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: أعمار أُمَّتي ما بين الستين والسَّبعين[10]، وأنا جاوزتُ السَّبعين، فأنا في الفضلة من العمر.

سمعتُ هذا الكلام؛ فرأيتُ أنَّ هذاما يحتاج إلى...

بينما تجد آخر ينكسر، ويضعف، ويتراجع، وأهله في بُؤسٍ، وحسرات، وحزن، وبكاء، ويتعطلون من أعمالهم وأشغالهم ومصالحهم بسبب هذا الاعتلال -نسأل الله العافية-، انهيار حينما يقول له الطَّبيبُ: الحالة تستدعي مُسارعةً في فحوصات.

وتذهب إلى مُستشفى آخر كبير، أو نحو ذلك، فتجد البكاء والجزع أمام الناس في العيادة -نسأل الله أن يُعافي الجميع.

على كل حالٍ، أيضًا النبي-صلى الله عليه وآله وسلم- قال: لا بأس، طهورٌ، الطَّهور الذي يطهر الإنسان من الذنوب، وقد جاءت النصوصُ بأنَّ المصائب والأمراض والعِلل كفَّارات، وهذا ورد فيه من الأحاديث ما هو مشهور ومعروف، وأكثر الأحاديث جاء التَّصريحُ فيها بأنَّ المرضَ كفَّارة، وهذا هو المشهور عند أهل العلم: أنَّ الأمراض والعِلل والمصائب والهموم كفَّارات، ولا يرتّب عليها الأجر، لكن كفَّارة للذنوب؛ أخذًامن هذه النُّصوص الكثيرة.

ولكن الذي يظهر -والله أعلم- أنها كفَّارة، وأنها أيضًا يُؤجر الإنسانُ عليها، وتكون رفعةً له في درجاته، وهذا يدلّ عليه أحاديث متنوعة؛ من ذلك حديث أبي سعيدٍ لما دخلعلى النبي-صلى الله عليه وآله وسلم- وهو موعوكٌ، عليه قطيفةٌ، فوضع يدَه فوق القطيفة، فقال: ما أشدّ حمَّاك يا رسول الله! قال: إنا كذلك يُشدد علينا البلاء، ويُضاعف لنا الأجر[11].هذا صريحٌ في الأجر على المرض.

وكذلك قول النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-: إنَّ عِظم الجزاء مع عِظم البلاء، وإنَّ الله تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم[12]،إلى آخر الحديث.

كذلك أيضًا حديث أبي هريرة إنَّ الرجلَ ليكون له عند الله المنزلة، فما يبلغها بعملٍ، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يُبلغه إياها، رفعة درجات[13]،يعني: له منزلة عند الله عالية، أعماله لا تُسعف للوصول إليها، فيسوق إليه الابتلاء؛ من أجل أن يكون هذا الابتلاءُ رافعًا إلى هذه الدَّرجة، فلماذا يجزع العبدُ، فهذه رفعة في الدَّرجات، وليس مجرد تكفير السَّيئات؟

كذلك أيضًا حديث عائشة -رضي الله عنها-: أنَّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال:  ما من مُصيبةٍ تُصيب المسلم إلا كفَّر اللهُ عنه بها، حتى الشّوكة يُشاكّها. أخرجه الشيخان[14]،وفي لفظٍ لمسلم: لا يُصيب المؤمنَ شوكةٌ فما فوقها إلا قصَّ الله بها من خطيئته[15]،وفي روايةٍ أخرى: إلا رفعه الله بها درجة، وحطَّ عنه بها خطيئة[16].هذا صريحٌ: رفعه الله بها درجة، وحطَّ عنه بها خطيئة.

كذلك في روايةٍ أخرى: أنَّ شبابًا من قريشٍ دخلوا على عائشةَ -رضي الله عنها- وهي بمنى، وهم يضحكون، فقالت: ما يُضحككم؟ قالوا: فلان-يعني: من زُملائهم، من أصحابهم- خرَّ على طنب فسطاطٍ. يعني: طنب الخيمة تعثر به فسقط. قالوا: فكادت عُنقه أو عينه أن تذهب. يضحكون على صاحبهم تعثَّر بطنب الخيمة فسقط، فقالت: لا تضحكوا؛ فإني سمعتُ رسولَ الله-صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ما من مسلمٍ يُشاكُّ شوكةً فما فوقها إلا كُتبت له بها درجة، ومُحيت عنه بها خطيئة.

كذلك حديث ابن عباسٍ لما قال لعطاء بن أبي رباح: ألا أُريك امرأةً من أهل الجنة؟ قلتُ: بلى. قال: هذه المرأة السَّوداء، أتيت النبيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- فقالت: إني أُصرع، وإني أتكشَّف، فادعُ الله لي. قال: إن شئتِ صبرتِ ولك الجنَّة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يُعافيك، فقالت: أصبر[17].

لاحظ:الجزاء: لك الجنَّة،ليس فقط تكفير الخطايا.

كذلك أيضًا الحديث الآخر: إذا مرض العبدُ بعث اللهُ ملكين، فقال: انظرا ما يقول لعُوَّاده، فإن هو إذا جاءوه حمد الله، وأثنى عليه، لاحظ: هذا يُقابل الحديث الذي نحن فيه، قال: رفع ذلك إلى الله، وهو أعلم، فيقول: لعبدي عليَّ إن توفيتُه أن أُدخله الجنَّة، هذا جزاء، ليس مجرد تكفير سيئات، قال: وإن أنا شفيتُه أن أُبدله لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، وأن أُكفِّر عنه سيئاته[18]،فذكر تكفير السّيئات.

وهكذا أيضًا جاء في ألفاظٍ أخرى مُقاربة.

وفي حديث أبي بن كعب أنَّه قال: يا رسول الله، ما جزاء الحمَّى؟ قال: يجزي الحسنات على صاحبها، هكذا "يجزي"، ولعله يجري الحسنات على صاحبها، ما اختلج عليه قدمٌ، أو ضرب عليه عرقٌ[19]، ما اختلج عليه قدمٌ، أو ضرب عليه عرقٌ يجري الحسنات.

وكذلك أيضًا حديث أنسٍ مرفوعًا: إنَّ الله قال: إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه يعني: بعينيه، يُصاب بالعمى،فصبر؛ عوَّضتُه منهما الجنَّة[20]،هذا ليس مجرد تكفير السّيئات.

وفي لفظٍ: إذا أخذتُ كريمتي عبدي في الدنيا لم يكن له جزاءٌ إلا الجنة[21]،أو كما قال -عليه الصَّلاة والسلام-.

فهذا كلّه يدلّ على أنَّ المرض ليس مجرد كفَّارةٍ، بل كفَّارات، ورفع درجات، وإجراء حسنات، ويجري له عملُه الذي كان يعمله حينما كان صحيحًا، والله تعالى أعلم.

 

 

  1. أخرجه البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم (3616).
  2. أخرجه مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كلّه خير، برقم (2999).
  3. أخرجه مالك في "الموطأ":باب ما جاء في أجر المريض، برقم (3465)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"، برقم (273).
  4. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب ليعزم المسألة، فإنَّه لا مُكْرِهَ له، برقم (6338)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب العزم بالدُّعاء، ولا يقل: إن شئتَ، برقم (2679).
  5. أخرجه مسلم: كتاب الطَّهارة، باب استحباب إطالة الغُرَّة والتَّحجيل في الوضوء، برقم (249).
  6. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/119).
  7. انظر: المصدر السابق.
  8. انظر:"روضة المحبين ونزهة المشتاقين" لابن القيم(ص143).
  9. انظر:"نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة" للتنوخي (5/118).
  10. أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب الدعوات، برقم (3550)، وابن ماجة في "سننه": كتاب الزهد، باب الأمل والأجل، برقم (4336)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (1073)، عن أنس -رضي الله عنه-.
  11. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد": باب هل يكون قول المريض:"إني وجع" شكاية؟، برقم (395)، وصححه الألباني في نفس الكتاب.
  12. أخرجه الترمذي في "سننه": كتاب أبواب الزهد، باب ما جاء في الصَّبر على البلاء، برقم (2396)، وحسَّنه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (1566).
  13. أخرجه الموصلي في "مسنده"، برقم (6095)، وقال محققه: إسناده صحيحٌ. وحسَّنه الألباني في "مختصر السلسلة الصحيحة"، برقم (1599).
  14. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب المرضى، باب ما جاء في كفَّارة المرض، برقم (5640)، ومسلم: كتاب البرّ والصِّلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يُصيبه من مرضٍ، أو حزنٍ، أو نحو ذلك، حتى الشّوكة يُشاكّها، برقم (2572).
  15. أخرجه مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يُصيبه من مرضٍ، أو حزنٍ، أو نحو ذلك، حتى الشّوكة يُشاكها، برقم (2572).
  16. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب فضل صلاة الجماعة، وكان الأسود إذا فاتته الجماعةُ ذهب إلى مسجدٍ آخر، وجاء أنس بن مالكٍ إلى مسجدٍ قد صُلِّي فيه، فأذَّن وأقام وصلَّى جماعةً، برقم (647)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة، برقم (272).
  17. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب المرضى، باب فضل مَن يُصرع من الريح، برقم (5652)، ومسلم: كتاب البرّ والصِّلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يُصيبه من مرضٍ، أو حزنٍ، أو نحو ذلك، حتى الشّوكة يُشاكها، برقم (2576).
  18. أخرجه مالك في "الموطأ"، باب ما جاء في أجر المريض، برقم (3465)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"، برقم (273).
  19. أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (445)، وضعَّفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"، برقم (3387).
  20. أخرجه البخاري: كتاب المرضى، باب فضل مَن ذهب بصره، برقم (5653).
  21. أخرجه الترمذي في "سننه": كتاب أبواب الزهد، باب ما جاء في ذهاب البصر، برقم (2400)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (1900).

مواد ذات صلة