الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
(240) الدعاء للفرط في الصلاة عليه " اللهم اعذه من عذاب القبر " إلى حديث " اللهم اجعله لنا فرطا وسلفا وأجراً "
تاريخ النشر: ١٤ / محرّم / ١٤٣٦
التحميل: 1695
مرات الإستماع: 1781

الحمد لله، والصَّلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: فهذا باب (الدُّعاء للفرط في الصَّلاة عليه)، وأورد فيه المؤلفُ بعضَ الأدعية من المأثور وغيره، فمن ذلك: ما جاء عن سعيد بن المسيب أنَّه قال: صليتُ وراء أبي هريرة على صبيٍّ لم يعمل خطيئةً قط، فسمعتُه يقول: "اللهم أعذه من عذاب القبر".

هذا أخرجه الإمامُ مالك في "الموطأ"[1]،وابن أبي شيبة[2]،والبيهقي[3]، وصحح إسناده العيني، وقال:"على شرط الشيخين"[4].كما صحح إسناده الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله-[5].

يقول: "صليتُ وراء أبي هريرة على صبيٍّ لم يعمل خطيئةً قطّ"؛ لأنَّه مات قبل البلوغ، والصَّبي يُقال لمن هو دون البلوغ، والنبي-صلى الله عليه وآله وسلم-أخبر أنَّ القلمَ قد رُفِعَ عن ثلاثةٍ، وذكر منهم: الصَّبي حتى يبلغ، أو حتى يحتلم[6].

وقوله هنا:"لم يعمل خطيئةً قط" هذه صفة كاشفة، وعرفنا فيما مضى من المناسبات أنَّ الصِّفة الكاشفة غير مُقيدة؛ لأنَّها تكشف عن حقيقة الحال، لا أنها تُضيف وصفًا مُقيدًا للمذكور قبلها؛ لأنَّالصَّبي لا يجري عليه القلم، ومن ثم فإنَّه ليس عليه خطيئة.

كما قلنا: إذا قال الإنسانُ: رأيتُ رجلاً ذكرًا؛ فإنَّ الرجلَ لا يكون إلا كذلك، وهكذا إذا قيل: إنَّ معنى "الصراط" في اللغة لا يُقال ذلك إلا لما كان مُستقيمًا، فإذا قيل:"الصراط المستقيم"، فالمستقيم تكون صفةً كاشفةً؛ لأنَّه لا يوجد صراطٌ غير مستقيمٍ في اللغة، لا يُقال "صراط" إلا لما كان على استقامةٍ.

"صلَّى على صبيٍّ لم يعمل خطيئةً قطّ"، الصَّلاة على الصَّبي مشروعة، ومثل هذا على كل حالٍ مما أمر به الشَّارع، وشرعه لعباده.

وقد نقل جمعٌ من أهل العلم الاتِّفاق على وجوب الصَّلاة عليه، فالصَّلاة ليست بالضَّرورة أن تكونالصَّلاة على الجنازة -على الميت- ليست بالضَّرورة أن تكون سببًا في غفران الذُّنوب، أو الدّعاء بمغفرة الذنوب، وإنما هي قُربة وطاعة، كما أنها أيضًا تكون سببًا للشَّفاعة لهذا الذي يُصلَّى عليه، كما أنها تكون سببًا لتكفير السَّيئات، إضافةً إلى رفع منازله ودرجاته، مع وقايته مما يخاف ويُحاذر من عذاب القبر وفتنته، ونحو ذلك.

فهنا قال أبو هريرة :"اللهم أعذه من عذاب القبر"، والإعاذة عرفنا أنها بمعنى الوقاية والإجارة من عذاب القبر.

عذاب القبر غير فتنة القبر؛ فتنة القبر تكون بسؤال الملكين، وأمَّا عذاب القبر فكما قال الحافظُ ابن عبدالبرّ -رحمه الله-: بأنَّ ذلك يكون بما يحصل لهذا المقبور الميت من الألم، وما يجده من عذابٍ يصل إليه في قبره، أيًّا كان هذا العذاب.

وهذا الألم الذي يحصل له قد لا يكون بالضَّرورة مما يُوقعه غيره عليه: كضرب الملائكة، أو ما يصل إليه من منزله في النار؛ من حرِّ النار، ونحو ذلك، أو يمثل له عمله بشُجاعٍ أقرع، أو نحو هذا مما جاء في النصوص، لكن يوجد أيضًا هناك الوحشة التي تكون في القبر.

وكذلك ذكر الحافظُ ابن عبدالبرّ، أو غيره، ذكروا أشياءأخرى: الضَّغطة مثلاً التي تكون في القبر، الهمّ، الغمّ، وما إلى ذلك، فهذا كلّه يدخل في عذاب القبر.

فحينما يُقال في حقِّ هذا الصَّغير الذي لم تقع منه خطيئة، أو لا تُكتب عليه خطيئة:"اللهم أعذه من عذاب القبر"، يمكن أن يكون ذلك بهذا الاعتبار، ليس المقصود العذاب الذي يناله من منزله في النار، أو بتعذيب الملائكة له؛ فإنَّ هذا لا تكليفَ عليه، ولكن القبر فيه من الوحشة، وفيه من الضِّيق، وما أشبه ذلك، فتكون هذه الصلاة سببًا للتَّوسعة، وإنارة هذا القبر؛ فتزول ظُلمته، ويكون ذلك سببًا لكون هذا القبرفسيحًا، يكون سببًا للانشراح.

ويحتمل أنَّ أباهريرة ربما سمع شيئًا في ذلك مما يقع للصَّغير.

وقال بعضُ أهل العلم: يحتمل أنَّه قال ذلك على العادة في الصَّلاة على الكبير، يعني: دعا بما يُدْعَى به في صلاة الجنازة.

ويحتمل أنَّه ظنَّ أنه كبيرٌ، يعني: لم يعلم أنَّه صبيٌّ، فقال ذلك، فسمع منه.

ويحتمل أن يكون قال ذلك، كما نقول:"اللهم صلِّ على محمدٍ"، وقد صلَّى الله عليه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ[الأحزاب:56]، نقول:"آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة"، وقد كتب اللهُ له ذلك، فيكون من أسباب نيل هذه الدَّرجات والمراتب دعاء المؤمنين، فهذا تحصيل حاصلٍ، لكن الله قد تعبَّدنا به.

هذه احتمالات ذكرها جمعٌ من أهل العلم،والله تعالى أعلم.

وجاء أيضًاعن الحسن -رحمه الله- أنَّه قرأ على الطفل بفاتحة الكتاب، ويقول:"اللهم اجعله لنا فرطًا، وسلفًا، وأجرًا"[7].

وجاء ما يُوضح ذلك بهذه القراءة،وهذا القول:"كان إذا صلَّى على الصبي" يعني: الحسن، قال: "اللهم اجعله لنا فرطًا، وسلفًا، وأجرًا"،يعني: أنَّه كان يقرأ في الصَّلاة، وليس خارج الصَّلاة.

ولا تُشرع قراءة القرآن على الميت: لا قبل الدَّفن، ولا بعد الدَّفن، وإن ورد بعضُ ذلك عن بعض السَّلف، لكنَّه لا يُشرع.

فهنا الحسن كان يقرأ الفاتحةَ في الصَّلاة، يعني: بعد التَّكبيرة الأولى، ويدعو بالدُّعاء للميت، يعني: بعد التَّكبيرة الثالثة.

هذا الأثر عن الحسن أخرجه عبدالرزاق[8]،وابن أبي شيبة[9]،والطَّبراني في "الدعاء"[10]، وعلَّقه البخاري في كتاب "الجنائز" قال: "باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة"[11].

وهذا الأثر عن الحسن حسَّنه الشيخُ ناصر الدين الألباني -رحمه الله-،لكنَّه من كلام الحسن، أو من قول الحسن، وليس ذلك عن النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-[12].

يقول: "اللهم اجعله -يعني: هذا الصَّبي- فرطًا، وسلفًا، وأجرًا"،"اجعله فرطًا"، الفرط هو الذي يتقدَّم غيره ليرد الماء، ويُهيّئ المنزل، يعني: أنَّ المسافرين يتقدَّمهممَن يُهيئ لهم الماء؛ فيملأ القِرَب والدِّلاء، ويُهيِّئ لهم المنزل، حتى إذا وصلوا وجدوا ذلك مُهيَّئً، هكذا كان من عادة الناس.

فهنا "اجعله لنا فرطًا"، يعني: في الجنة، يعني: أنَّه يكون سابقًا لهم في الجنة، أو إلى الجنة؛ ولهذا قال: "اجعله لنا فرطًا، وسلفًا، وأجرًا"، يعني: بعض أهل العلم يقول: "وسلفًا" من سلف المال، كأنَّه قد أسلفه وجعله ثمنًا للأجر الذي يكون جزاء على الصَّبر.

وأحسن من هذا ما ذكره غيره، قالوا: بأنَّ سلفَ الإنسان مَن يموت قبله، مَن يتقدّم عليه بالوفاة: من آبائه، وذويه، وقرابته، ونحو ذلك،"اجعله لنا سلفًا"،الصَّدر الأول يُقال لهم: السَّلف الصَّالح -رضي الله تعالى عنهم-،اجعله لنا مُتقدمًا إلى الجنة، يسبقنا إلى الجنة.

"وأجرًا"، أي: ثوابًا جزيلاً، كما ذكرنا:"اللهم لا تحرمنا أجره" في الدعاء للميت، "لا تحرمنا أجره": أجر الاحتساب، أجر تغسيل الميت، وتكفين الميت، واتِّباع الجنازة، مع الصَّلاة عليها، والدَّفن، وما إلى ذلك، فهذا كلّه مع أجر الاحتساب.

هذه آثار منقولة فيما يُقال في الدعاء للصَّبي.

وذكر المؤلفُ هنا دعاءً أيضًا نقله عن بعض أهل العلم، يقول: وإن قال: "اللهم اجعله فرطًا وذُخرًالوالديه، وشفيعًا مُجابًا"، يعني: يشفع فيهم، فالذي يشفع قد تُقبل شفاعته، وقد لا تُقبل شفاعته، فقيّد هنا بالإجابة:"شفيعًا مجابًا".

والذّخر ما يدّخرون في آخرتهم، قال: "ثقّل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم"، باعتبار أنَّ الصبيان يكونون في كفالته، كما صحَّ بذلك الحديث[13].

"وقه برحمتك عذابَ الجحيم، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلاً خيرًا من أهله، اللهم اغفر لأسلافنا، وأفراطنا، ومَن سبقنا بالإيمان"، يقول: إن قال هذافحسنٌ.

ذكر صاحب "المغني" وغيره، والفقهاء -رحمهم الله- يذكرون في مثل هذا الموضع أدعيةً متنوعةً يستحسنونها، وكأنَّ الأمر عندهم على السَّعة، وأنَّ ذلك لا يتقيّد بما جاء عن النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-خاصةً، لا سيّما أنه لم يُنقل عن النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-حديثٌ مرفوعٌ-فيما نعلم- فيما يتعلّق بالدُّعاء لهذا الصَّبي بخصوصه.

فعلى كل حالٍ، إن قالشيئًا من ذلك، أو دعا بالأدعية الواردة عن النبي ﷺ عمومًا، فهذا فيه سعة،والله تعالى أعلم.

هذا ما يتعلق بهذا الباب، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكمهُداةً مُهتدين.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وآله وصحبه.

 

 

  1. أخرجه مالك في "الموطأ": كتاب الجنائز، باب ما يقول المصلي على الجنازة، برقم (776).
  2. أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": كتاب الجنائز، باب ما قالوا في السّقط، مَن قال: يُصلَّى عليه، برقم (11587).
  3. أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى": كتاب الجنائز، باب السّقط يُغسل ويُكفّن ويُصلَّى عليه إن استهلَّ أو عُرفت له حياة، برقم (6793).
  4. "نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار" (7/430).
  5. صححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (1689).
  6. أخرجه أبو داودفي "سننه": كتابالحدود، بابٌ في المجنون يسرق أو يُصيب حدًّا، برقم (4398)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (3287).
  7. انظر: "عون المعبود شرح سنن أبي داود" لأبي الطيب آبادي (8/522).
  8. أخرجه عبدالرزاق في "مصنفه": كتاب الجنائز، باب الدعاء على الطفل، برقم (6588).
  9. أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": كتاب الدعاء، بابٌفي السقط والمولود وما يُدْعَى لهما به، برقم (29838).
  10. أخرجه الطبراني في "الدعاء": بابٌ في الدعاء في الصَّلاة على الصغير، برقم (1203).
  11. انظر: "صحيح البخاري"(2/89).
  12. انظر: "أحكام الجنائز" للألباني (1/126).
  13. أخرجه أحمد في "مسنده"، برقم (8324)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان"، برقم (7403).

مواد ذات صلة