الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(251) الدعاء عند إفطار الصائم " ذهب الظمأ وابتلت العروق..." " اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء..."
تاريخ النشر: ٠٧ / صفر / ١٤٣٦
التحميل: 2375
مرات الإستماع: 1566

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فهذا باب "الدُّعاء عند إفطار الصَّائم"، أورد فيه حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كان رسولُ الله ﷺ إذا أفطر قال: ذهب الظَّمأ، وابتلَّت العروق، وثبت الأجرُ إن شاء الله.

أخرجه أبو داود[1]، والنَّسائي في "السُّنن الكبرى"[2]، وقد سكت عنه أبو داود، وحسَّن إسناده الدَّارقطني[3]، والحافظ ابن حجر[4]، ومن المعاصرين: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز[5]، والشيخ ناصر الدين الألباني[6] -رحم الله الجميع-، وصحح إسناده السُّيوطي[7].

يقول: كان رسولُ الله ﷺ إذا أفطر قال: ذهب الظَّمأ.

"كان إذا أفطر" مثل هذا التركيب يدلّ على المداومة والتَّكرار، فيتكرر بتكرر سببه.

"كان إذا أفطر قال: ذهب الظَّمأ" الظَّمأ معروفٌ، وهو العطش، ومثل هذا يقوله الصائمُ مطلقًا، سواء كان ذلك في صيام رمضان، أو في صيام غيره، كذلك أيضًا يقوله ولم يكن ثمَّة ظمأ؛ كأن يكون قد صام في الشِّتاء مثلاً، فإنَّ ذلك مشروعٌ؛ لأنَّ الأصلَ أنَّ الصومَ مظنّة للظّمأ.

ذهب الظَّمأ، وابتلَّت العروق، وثبت الأجرُ إن شاء الله تعالى، "ابتلَّت العروق" يعني: بسبب العطش، فقلّة السَّوائل في الجسم يحصل معها ما يُعرف عند الأطباء بالجفاف، فإذا شرب فإنَّ ذلك يكون سببًا لابتلال العروق التي هي مجاري الدَّم، والدَّم هو الذي يمتصّ الغذاء من الأمعاء.

"وثبت الأجر" أي: زال التَّعب، وحصل الثَّواب، ومثل هذا الثَّبات عُلِّق بالمشيئة، بعض العلماء يقول: التَّعليق هنا بالمشيئة للتَّبرك، مثل: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27]، وهم داخلوه قطعًا، وكما ذكرنا في السَّلام على القبور: وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، مع أنَّه يعلم أنَّه يلحق بهم قطعًا، فهذا يكون التَّعليق فيه من باب التَّحقيق.

ومثل هذا يقع في بعض المواضع كما مثلتُ، لكن هل هو في هذا الموضع كذلك؟ من أهل العلم مَن حمله على هذا المحمل، ولكن الأولى -والله تبارك وتعالى أعلم- أن يكون ذلك بسبب عدم الجزم بثبوت الأجر؛ لأنَّ ذلك يتوقف على تحقق الشُّروط، وانتفاء الموانع؛ فقد لا يحصل له الأجرُ لسببٍ من الأسباب، قد يذهب أجرُه: رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش[8]، مَن لم يدع قولَ الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامَه وشرابَه[9]؛ ولذلك قال النبيُّ ﷺ: الصِّيام جُنَّة[10]، وفي روايةٍ: ما لم يخرقه يعني: بالغيبة [11].

هذا فضلاً عن التفات القلب إلى ما لا يحلّ من الرياء والسُّمعة، فإنَّ ذلك يُذهب الأجر، ويبقى معه الوزر، يرجع بالوزر، مع أنَّ العلماء يقولون: إنَّ الصومَ لا يدخله الرِّياء؛ لأنَّه لا يُرى، لا يُشاهد، والصَّحيح أنَّه يدخله التَّسميع، ويمكن أن يدخله الرِّياء بوجهٍ خفيٍّ؛ كأن يظهر الشُّحوب والذُّبول والجفاف بشفتيه، ونحو ذلك مما يدل على الصوم، ويذهب حيث يراه الناسُ يُفطر؛ قصدًا ليُعلمهم أنَّه صائم، وهكذا يغشاهم من غير حاجةٍ في مواطن الطَّعام والشَّراب، في أكلهم وشُربهم ونحو ذلك؛ من أجل أن يعرف هؤلاء أنَّه صائم، فهو لا يأكل ولا يشرب، و إنما الأعمال بالنِّيات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى[12]، فقد يُرائي بالصِّيام بهذه الطَّريقة، وقد يسمع به؛ كأن يذكر ذلك أنَّه صائم، وأنه يصوم الاثنين والخميس، أو يصوم يومًا ويُفطر يومًا، أو نحو هذا، فيكون من قبيل التَّسميع.

والإنسان الصَّائم لا يدري: هل حصل له الأجرُ أو لا؟

ولذلك كان ابنُ عمر يقول: "لو أعلم أنَّه قُبلت مني سجدة لم أُبالِ؛ لأنَّ الله قال: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]"[13].

فهذا الذي قُبلت منه سجدة تحقق فيه هذا الوصف، وهو التَّقوى، وإذا تحقق هذا الوصفُ فإنَّ الإنسانَ يكون ناجيًا، يكون من السُّعداء عند الله -تبارك وتعالى-.

ومن ثم فهذا التَّعليق يكون على المشيئة باعتبار أنَّه قد يحصل له الأجر، وقد لا يحصل له الأجر، لكن المؤمن يُحسن الظنَّ بربه -تبارك وتعالى-، ويُرجِّي خيرًا، ويحفظ العبادةَ مما يُبطلها ويُفسدها.

ثم أيضًا هذا الحديث: ذهب الظَّمأ، وابتلَّت العروق، وثبت الأجرُ إن شاء الله فيه تسلية، وتعزية، وحفز للعمل الصَّالح؛ فإنَّ الإنسان حينما يصوم يتعب، الصوم عبادة شاقَّة تحتاج إلى مُجاهدةٍ، فإذا أفطر ذهب عنه ما كان يجد من الجوع والعطش.

والحياة من أوَّلها إلى آخرها بما فيها من الكبد والمشاقّ بسبب العبادة والطَّاعة، أو بغير ذلك؛ إنما هي بهذه المثابة كالسَّحاب يمرّ من فوق رأسك، ثم بعد ذلك يجتاز، فإذا أفطر الإنسانُ لم يبقَ شيءٌ من التَّعب، وإذا قام الليل وأصبح لم يجد شيئًا من التَّعب.

نحن الآن في شهر صفر، في أوَّله، مَن صام شهر محرم -وهو أفضل الصِّيام بعد رمضان- هل يجد من تعبه الآن شيئًا؟

لا يجد من تعبه شيئًا.

مَن صام يوم الخميس هل يجد من تعبه هذا اليوم -يوم الأحد- هل يجد شيئًا من هذا التَّعب والعطش والجوع؟

الجواب: لا.

مَن حجَّ هذا العام هل يجد من تعب الحجِّ الآن شيئًا؟

لا يجد شيئًا، هكذا الطَّاعات تحتاج النفسُ إلى مُجاهدةٍ، فإذا تجاوزها التَّعب يذهب، والأجر يبقى.

أمَّا اللَّذات والشَّهوات فإن كانت مُحرمةً فاللَّذة تذهب، وتنقضي سريعًا أيًّا كان نوعها: الطَّعام والشَّراب تذهب لذَّتُه بعد مضغه، فهو لا يجد هذه اللَّذة بعد أن يصل الطعامُ إلى جوفه، كما لا يجد هذه اللَّذة قبل أن يتناول هذا الطَّعام، فما أكل الإنسان من الطَّيبات في أول هذا اليوم، أو قبل ساعةٍ، أو قبل عشر دقائق، هل يجد الآن لذَّة هذا الطَّعام؟

الجواب: لا، إنما اللَّذة في حال أكله، فهي لذَّة سريعة مُنقضية، فتذهب هذه اللَّذة، اللَّذات المحرّمة تذهب ويبقى الوزر:

تفنى اللَّذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الإثمُ والعارُ
تبقى عواقبُ سوءٍ من مغبَّتها لا خيرَ في لذَّةٍ من بعدها النار[14]

اللَّذات المحرّمة تبقى أرصدةً، تذهب اللَّذةُ التي كانت تجذبه إلى هذه المعصية، وتبقى المغبّة.

هذا الإنسانُ الذي يُشاهد مشاهد سيئة، ويتلذذ بالنَّظر إليها، هل يتلذذ الآن بالنَّظر إليها؟! هل يتلذذ الآن بعد أن فارقها؟!

الجواب: لا، لكن ما الذي بقي؟

بقي الوزر، وظُلمة القلب، ونكتة سوداء في قلبه لما عُرضت عليه هذه الفتنة، وهكذا حتى يسودّ القلب.

ومن ثم فإنَّ مثل هذا: ذهب الظَّمأ، وابتلَّت العروق، الحياة من أوَّلها إلى آخرها بهذه الطَّريقة، إذا رجعت من الحجّ، مع أنَّ هذا ليس من الذكر الذي يُقال هناك، وفي تلك المواطن، لكن هذا يذكر بهذا، هذا الحجّ الذي تعب الإنسانُ فيه، وذهب الزِّحام وانتهى، يمكن أن يُقال، ليس من باب الذكر الذي يُقال بعد الحجِّ، لكن من باب أن الشَّيء بالشَّيء يُذكر: "ذهب الظَّمأ، وابتلَّت العروق، وثبت الأجرُ إن شاء الله"، ذهب التَّعب، وذهب الزِّحام، وبقي الأجرُ إن شاء الله.

إذا أصاب الإنسانَ المرضُ فرضي وصبر، يُقال له بعد ذلك: "ذهب الظَّمأ"، لا أقصد أنَّ هذا من الأذكار التي تُقال له، لكن نقول بلسان الحال: "ذهب الظَّمأ، وابتلَّت العروق، وثبت الأجرُ إن شاء الله تعالى".

فلا ينبغي للإنسان أن يجزع، وإذا أصابه المرضُ أن يتأفف، وقل مثل ذلك فيما يُصيبه من أنواع البلاء، عليه أن يصبر، ثم بعد ذلك تمضي الأمور، المصيبة إذا وقعت هي ساعة عند الصَّدمة الأولى، إذا صبر بعد ذلك، حتى لو مات هذا المريضُ؛ فهذا المرض كفَّارة، ويصير إلى روحٍ وراحةٍ إن شاء الله.

فلسان الحال: "ذهب الظَّمأ، وابتلَّت العروق، وثبت الأجرُ إن شاء الله"، رُفعت عنه هذه الأجهزة، رُفعت عنه هذه الآلات التي كان يُعاني منها، وقد تنفط وتنفخت وتورمت كفَّاه وذراعاه بسبب هذه الإبر ونحوها، والتي ربما يأتيه من طريقها الدَّواء، أو الغذاء، أو غير ذلك، كلّ هذا ذهب، ويصير العبدُ إلى جوار ربِّه -تبارك وتعالى- إن كان من أهل الإيمان، ويستريح من هذا العناء كلّه، ويجد الأجر، فهكذا في كل شأنٍ، لكن هذا يُقال فيما يتَّصل بالصيام: "وثبت الأجرُ إن شاء الله".

الحديث الذي بعده هو حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسولُ الله ﷺ: إنَّ للصَّائم دعوةً عند فطره[15]، وفي لفظٍ: لدعوة ما تردّ.

قال ابنُ أبي مُليكة: "سمعتُ عبدالله بن عمر يقول إذا أفطر: "اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كلَّ شيءٍ أن تغفر لي"[16].

هذا ليس بحديثٍ عن رسول الله ﷺ، وإنما جاء عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.

أمَّا حديث: إنَّ للصَّائم دعوةً عند فطره، فإنَّ هذا القيدَ لا يصحّ، فذلك لا يُقيد حال الفطر، لا يصح شيءٌ عن النبي ﷺ أنَّ للصائم دعوةً عند الفطر، وإنما الصَّحيح الثَّابت: للصَّائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربِّه[17]، يفرح بالأجر والثَّواب، وما يكون للصَّائمين: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، فهي فرحةٌ، وليست دعوةً.

أمَّا ما ورد من تقييد ذلك بالدَّعوة عند الفطر فإنَّه لا يصح؛ ولذلك لا حاجةَ لتحري الدُّعاء عند الفطر، وإنما الصَّحيح أنَّ للصائم دعوةً مُستجابةً في أي وقتٍ حال صومه، فيتحرى مع ذلك أوقات الإجابة الأخرى، فيكون الصائمُ يدعو مثلاً بين الأذان والإقامة، وحال نزول المطر، ونحو ذلك مما أخبر النبيُّ ﷺ أنَّه يكون مظنّةً للإجابة: كالمسافر، ودعوة الوالد لولده، فيجتهد أكثر حال الصِّيام.

يقول: إنَّ للصائم دعوةً عند فطره، وفي لفظٍ كما سبق: لدعوة ما تردّ، وهل هذا للإفراد، على سبيل الإفراد؟ يعني: دعوة، يعني: واحدة، هكذا فهم بعضُ أهل العلم.

ولو قيل: إنَّ الدَّعوة هنا جنسٌ، فتصدق على القليل والكثير، فيدعو بما شاء، فإنَّ الصائمَ حال الصَّوم يكون مُستجاب الدَّعوة، هذا يحتمل، والله أعلم.

العلماء عللوا هذا بتعليلات قد لا يظهر وجهها -والله تعالى أعلم-، كقول مَن يقول: بأنَّ ذلك بسبب أنَّه لما حصل له خلو الجوف، حصل له إشراقُ النفس وصفاءٌ، فصار بذلك في حالٍ من التَّجرد وحضور القلب؛ فاستُجيبت دعوته.

قد لا يكون الصَّائمُ بهذه المثابة، هنا للصَّائم دعوة مُستجابة، ما قيَّده بهذا القيد، فقد يكون الصَّائم لا يحصل له مثل هذا الصَّفاء؛ ولذلك لما ذكر النبيُّ ﷺ: يا معشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومَن لم يستطع فعليه بالصَّوم فإنَّه له وجاء[18].

هذا كما قال الحافظُ ابن حجر: "إنَّ الإنسان قد يصوم وشهواته تتوقد، وغرائزه تتوقد"[19].

وجاء عن ابن عمر أنَّه ربما أفطر على الجماع[20]، والسَّبب في ذلك ليس أنَّه وقع خلفٌ في خبر النبي ﷺ، وإنما ذلك كما قال بعضُ أهل العلم كالحافظ ابن حجر[21]: أنَّ ذلك لا يحصل إلا مع إدمان الصَّوم، فتكسر به سورةُ النفس والغريزة، فتضعف هذه الشَّهوة أمام إدمان الصوم.

أمَّا الذي يصوم يومًا في الأسبوع، أو ثلاثة أيام من كل شهرٍ، أو نحو ذلك، أو لا يقوم إلا في رمضان فقط، مع كثرة الأكل والشُّرب، فيما نُشاهد أهل الحسبة -كما هو معروفٌ- يشكون من زيادة المنكرات في رمضان، والخلوات المحرمة تزيد، لا سيما مع بقايا السَّهر في أول الصبح.

وأمَّا الذين لا يلجؤون إلى الحرام، فإنهم يقعون في الحرام من وجهٍ آخر؛ فكثيرٌ من الأسئلة ترد عن الجماع في نهار رمضان، والسَّبب أنهم يسهرون طيلةَ ليالي الشهر، ولا يرجعون إلى بيوتهم إلا بعد الفجر، فيبقى شهرًا كاملاً لا يبقى في بيته، ولا يأتي إلا بعد الفجر، فمثل هؤلاء مع كثرة الأكل والشُّرب، والخلطة، والذَّهاب هنا وهناك، فإنَّه يقع فيما حرَّم الله ، فينتهك حُرمة الصَّوم.

فهنا يُقال: للصَّائم هذه الدَّعوة، ولا يُربط هذا ولا يُقيد بما يحصل بسبب الصَّوم من صفاءٍ للنفس، أو لكون هذا الإنسانُ قد صان جوارحه، وامتنع من شهواته مع هذا الصوم، فصارت له طهارةٌ في النَّفس، فصارت دعوته مُستجابةً، لا يُقيد بهذا -والله تعالى أعلم-، وإنما كما أخبر النبيُّ ﷺ، والله أعلم بذلك، كأنها مُكافأة له على هذا العمل؛ لشرفه ومنزلته، ومبناه على الصَّبر.

وقوله هنا فيما جاء عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كلَّ شيءٍ"، "اللهم" يعني: يا الله، "إني أسألك برحمتك" يتوسّل برحمة الله ، ويجوز التَّوسل بأسماء الله وصفاته، بل إنَّ هذا من التَّوسل المشروع.

"أسألك برحمتك التي وسعت كلَّ شيءٍ أن تغفر لي"، والله يقول: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]، يعني: من العالم العلوي والسُّفلي، وسعت البرَّ والفاجر، المؤمن والكافر، وسعت جميع المخلوقات مما يعقل، وما لا يعقل منها، والكل مغمورٌ بإحسان الله وفضله ورحمته، ولكن هذه الرحمة العامَّة.

وأمَّا الرحمة الخاصَّة التي تكون لأهل الإيمان، لأوليائه، فهذه التي تكون لهم في الدنيا والآخرة، والله يقول: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر:7] في دُعاء الملائكة للذين تابوا واتَّبعوا سبيله، فيدعون لهم، ويستغفرون لهم، الذين يحملون العرشَ ومَن حولهم يدعون لهم بهذا الدُّعاء: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا، يعني: أنَّ رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم، مع إحاطة علمك بجميع أحوالهم وأعمالهم، فرحمته -تبارك وتعالى- واسعة، وهذه الرحمة الواسعة تتسع لمغفرته لعباده من أهل الإيمان والطَّاعات.

فهذا صائمٌ بعد هذه العبادة الشَّريفة يدعو بمثل هذا الدُّعاء، ويتوسل إلى الله -تبارك وتعالى- برحمته: "اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كلَّ شيءٍ أن تغفر لي"، وبعد الصَّوم يقول مثل هذا الكلام.

إذن ماذا يقول المذنبُ بعد هذه العبادة الشَّريفة؟

كان النبي ﷺ إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا، ويستغفرون: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [آل عمران:17] بعد قيام ليلٍ طويلٍ، يقضي السَّحر في الاستغفار، وفي المناسك: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200].

فهذه مواطن للذكر والاستغفار، فهذا بعدما صام وأفطر يتوسّل إلى الله -تبارك وتعالى- برحمته التي وسعت كلَّ شيءٍ أن يغفر له.

وهنا ما توسّل بهذا الصيام، مع أنَّه يجوز التَّوسل بالعمل الصَّالح، ولم يقل: أتوسّل إليك بهذه العبادة الشَّريفة، أتوسّل إليك بهذا الصوم، الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصَّخرة توسّلوا بالعمل الصَّالح ففرج عنهم، ولكن التوسّل بأسمائه وصفاته أبلغ وأعلى مرتبةً، ولا يكون معه أدنى التفات إلى العمل الذي صدر عن العبد، وهذا أبلغ في حال سؤال الرحمة والمغفرة والانكسار والتَّواضع والإخبات لله -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه-، والله أعلم.

فيما يتعلق بهذا الأثر: أنَّ له دعوةً مُستجابةً. هذا صحح إسناده البُوصيري[22]، يُقال: له شاهد، وضعَّفه كثيرٌ من أهل العلم، ومن المعاصرين: الشيخ ناصر الدِّين الألباني[23] رحم الله الجميع.

 

  1. أخرجه أبو داود: كتاب الصوم، باب القول عند الإفطار، برقم (2357).
  2. أخرجه النَّسائي في "السنن الكبرى"، برقم (3315).
  3. أخرجه الدَّارقطني في "سننه" (3/156)، برقم (2279).
  4. "إتحاف المهرة" لابن حجر (8/677)، برقم (10221).
  5. حاشية "بلوغ المرام" (407).
  6. "صحيح أبي داود"، برقم (2041)، و"صحيح الجامع"، برقم (4678).
  7. "التنوير شرح الجامع الصغير" (8/343)، برقم (6571).
  8. أخرجه ابن ماجه: أبواب الصيام، باب ما جاء في الغيبة والرَّفث للصائم، برقم (1690)، والقُضاعي في "مسنده"، برقم (1426)، واللَّفظ له، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (3490).
  9. أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب مَن لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم، برقم (1903).
  10. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب فضل الصوم، برقم (1894)، ومسلم: كتاب الصيام، باب حفظ اللِّسان للصَّائم، وباب فضل الصيام، برقم (1151).
  11. أخرجه الدَّارمي في "سننه"، برقم (1773)، وحسَّنه محققه.
  12. متفق عليه: أخرجه البخاري: باب بدء الوحي، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟، برقم (1)، ومسلم: كتاب الإمارة، باب قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما الأعمال بالنية))، وأنَّه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، برقم (1907).
  13. انظر: "الدر المنثور في التفسير بالمأثور" (3/57)، و"الهداية إلى بلوغ النِّهاية" (10/6758).
  14. "الموشى = الظرف والظرفاء" (ص55).
  15. أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"، برقم (14343)، وضعَّفه الألباني في "ضعيف الجامع"، برقم (1965).
  16. أخرجه ابنُ ماجه: أبواب الصِّيام، بابٌ في الصَّائم لا تُردّ دعوته، برقم (1753)، وضعَّفه الألباني في "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" (4/41)، برقم (921).
  17. أخرجه مسلم: كتاب الصِّيام، باب فضل الصِّيام، برقم (1151).
  18. أخرجه مسلم: كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسُه إليه، ووجد مُؤنَه، واشتغال مَن عجز عن المؤن بالصوم، برقم (1400).
  19. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/119).
  20. ذكره العيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (11/66)، وقال: "رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ من رِوَايَة مُحَمَّد بن سِيرِين عَنهُ، وَإِسْنَاده حسنٌ".
  21. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/110).
  22. "مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه" (2/81).
  23. "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" (4/41)، برقم (921).

مواد ذات صلة