الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
(253) الدعاء قبل الطعام " من أطعمه الله الطعام فليقل اللهم بارك لنا فيه... "
تاريخ النشر: ٠٩ / صفر / ١٤٣٦
التحميل: 1766
مرات الإستماع: 1698

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: الحديث الآخر من الأذكار التي أوردها المؤلفُ في باب "الدعاء قبل الطَّعام": ما جاء عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: "دخلتُ مع رسول الله ﷺ أنا وخالد بن الوليد على ميمونة، فجاءتنا بإناءٍ من لبنٍ، فشرب رسولُ الله ﷺ، وأنا على يمينه، وخالد على شماله، فقال لي: الشَّربة لك، فإن شئتَ آثرتَ بها خالدًا، فقلتُ: ما كنتُ أُوثر على سُؤرك أحدًا، ثم قال رسولُ الله ﷺ: مَن أطعمه اللهُ الطَّعامَ فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وأطعمنا خيرًا منه، ومَن سقاه اللهُ لبنًا فليقل: الله بارك لنا فيه، وزدنا منه، وقال رسولُ الله ﷺ: ليس شيءٌ يجزي مكان الطَّعام والشَّراب غير اللَّبن".

أخرجه الترمذي[1]، وقال: "حسنٌ"، وكذا حسَّنه الشيخ ناصر الدين الألباني[2] -رحمه الله-، وصحح إسنادَه الشيخُ أحمد شاكر[3]، كما حسَّنه الحافظُ ابن حجر[4].

قول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "دخلتُ مع رسول الله ﷺ أنا وخالد بن الوليد على ميمونة"، وهي خالته، أمّ المؤمنين -رضي الله تعالى عنها وأرضاها-، "فجاءتنا بإناءٍ من لبنٍ، فشرب رسولُ الله ﷺ وأنا على يمينه، وخالد على شماله"، هذه هي السُّنة: أن يُؤتى بالطَّعام أو الشَّراب إلى الكبير، فيُؤتى به للعالم، أو الوالد، أو نحو ذلك، الكبير الذي في المجلس يُؤتى به إليه أولاً، ثم بعد ذلك يُدار هذا الإناء إلى ناحية اليمين، يمين المعطَى، وليس يمين المعطِي، يعني: الذي يدور بالإناء على هؤلاء لا يتَّجه إلى ناحية اليمين بالنسبة إليه، إلى المضيف، لا، وإنما إلى الجلوس الأضياف، أو مَن هم في المجلس، فإذا أعطى المقدّم فيهم الكبير، فإنَّه يُديره بعد ذلك إلى مَن يكون عن يمين الكبير، يعني: إلى يسار المعطِي، هذه هي السُّنة.

فإنَّ النبي ﷺ لما كان ابنُ عباسٍ وهو صغير عن يمينه، وخالد عن شماله، قال لابن عباسٍ: الشَّربة لك، فإن شئتَ آثرتَ بها خالدًا، باعتبار أنَّه أكبر، فإذا أذن صاحبُ الحقِّ فلا بأس، وإلا فهو أحقّ بذلك، سواء كان المعطَى من قبيل الطَّعام أو الشَّراب، أو كان ذلك من قبيل الطِّيب، ونحو ذلك.

فيقول: الشَّربة لك، أي: أنت مُستحقٌّ لها؛ لأنَّك على جهة اليمين، فإن شئتَ آثرتَ بها خالدًا، يعني: آثرته بالشَّربة على نفسك.

فقال ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما- مع صغر سنِّه: "ما كنتُ أُوثر على سُؤرك أحدًا"، السُّؤر هو البقية والفضلة التي تبقى من الشَّراب، أو من الطَّعام، يعني: ما كنتُ لأختار على نفسي بفضلٍ منك أحدًا، فإنَّ الإيثار يكون بتقديم الغير على النفس في حظوظها الدُّنيوية، هذا الإيثار المحمود: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، فإن اشتدّت الحاجةُ -حاجة المؤثر- كان ذلك أرفع في منزلته.

أمَّا الحظوظ التي تتعلق بالآخرة -الأمور الأُخروية- فإنَّه لا يُؤثر بها، فلا يُؤثر غيره في التَّقدم إلى الصفِّ الأول، أو في الدُّخول إلى المسجد، أو في المصحف، كأن لا يوجد إلا مصحف واحد، أو نحو ذلك، يُؤثر غيره؟! لا، هذه لا يتأتى فيها الإيثار، ولكن من أهل العلم مَن استثنى في ذلك الوالد، وكذلك العالم، والإمام العادل، ونحو هؤلاء؛ لأنَّ الإيثار في مثل هذه الأمور الأخروية مُؤذنٌ بالزهد بما عند الله -تبارك وتعالى-؛ ولذلك لما ذكر النبيُّ ﷺ الصفَّ الأول، وذكر الأذانَ، ذكر الاستهام؛ أنَّ الناس لو لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا[5]، يعني: بالقرعة، تحصل المشاحّة في مثل هذا، الكلّ لا يتنازل عن حقِّه، والقرعة إنما تكون في الحقوق المستوية، إذا استوت الحقوقُ أُعملت القرعة.

فهنا هذا الأمر ليس لمجرد كونه من قبيل الطَّعام أو الشَّراب، هذا اللبن، وإنما لأنَّه سُؤر رسول الله ﷺ، ولا شكَّ أنَّ مثل هذا مما يُتبرك به؛ بقية الطَّعام والشَّراب من رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام-؛ ولذلك كان الصحابةُ -رضي الله تعالى عنهم- لما كان يوم الحديبية، فإذا توضّأ ﷺ كادوا أن يقتتلوا على وضوئه[6]، يعني: ما يفضل منه، ولم يكن ذلك من عادته ﷺ، ولا من عادتهم، ولكن فعلوا ذلك يوم الحُديبية ليرى الكفَّار حبَّهم لرسول الله ﷺ، فما بصق ﷺ إلا وقع بيد أحدهم، فهذا كلّه مما يُتبرك به.

وكذلك أيضًا لما حلق ﷺ شعرَه في النُّسك، فإنَّ النبي ﷺ قسمَه بينهم، فكلّ ذلك مما يُتبرك به، لكنَّه لم يبقَ شيءٌ من آثار رسول الله ﷺ اليوم: لا من شعره، ولا من ثيابه، ولا من آنيته، ولا غير ذلك، لا يثبت شيءٌ من هذا، وكلّ ما يُقال من ذلك في بعض المتاحف فإنَّه لا يثبت، ما يُقال أنَّ هذه شعرة من شعر النبي ﷺ، أو هذا نعل النبي ﷺ، أو هذا ثوبه، أو هذا سيفه، كلّ هذا لا يثبت.

فهنا ابن عباسٍ هذا يدلّ على حِذْقِه، وعلو همَّته، وعلى حرصه، وذكائه، وفِطْنته: "ما كنتُ أوثر على سُؤرك أحدًا"، فلم يتنازل عن حقِّه، وذلك تبرُّكًا.

وهذا الاستئذان؛ استئذان النبي ﷺ لابن عباسٍ مع صغره يدلّ على التَّأدب مع الكبير، وهو خالد بن الوليد؛ بحيث يكون الشربُ له بعد النبي ﷺ، فلو أذن الذي على اليمين وهو صغير لتحوّل الإناءُ له، فإن لم يحصل هذا الإذنُ فمَن كان على اليمين فهو أحقّ.

ويُؤخذ من هذا أنَّ مَن سبق إلى المكان الشَّريف فهو أحقّ به، وأنَّ مَن كان على يمين الشَّارب، أو الآكل، أو مَن يكون بيده شيءٌ يُديره على غيره -كالطِّيب ونحو ذلك-، أنَّ مَن كان على يمينه فهو أحقّ، قد يسبق إلى العالم أو الكبير بعضُ مَن لا يكون بكبيرٍ في السن، أو بكبيرٍ في القدر والعلم، لربما جلس الأعرابيُّ إلى يمين رسول الله ﷺ، ولربما جلس الفتى الصَّغير، وبقي الكبير بمعزلٍ، فمَن سبق إلى مكانٍ فهو أحقّ به؛ فالنبي ﷺ لم يُقم ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- من هذا المكان عن يمينه، حيث إنَّه سبق إليه، فمَن سبق إلى موضعٍ فإنَّه يكون أحقَّ به.

وهذا في الأماكن التي يستوي فيها الناسُ: كالمساجد، والمدارس، ونحو ذلك، وهل يدخل في ذلك إذا جاء الصَّبي الصَّغير خلف الإمام، والنبي ﷺ قال: ليليني منكم أولو الأحلام والنُّهَى[7]؟

بعضُ أهل العلم فهم منه هذا؛ أنَّه لا يصحّ أن يُبعد هذا الصَّغير إلى ناحيةٍ أخرى؛ لأنَّه قد سبق، وأنَّ قول النبي ﷺ: ليليني منكم أولو الأحلام والنُّهَى خطابٌ للكبار، فلمَّا تخلَّفوا وتأخَّروا وسبق هذا الغلامُ الصَّغير فإنَّه أحقّ بهذا المكان، فلا يُبعد منه باعتبار أنَّه سبق إلى مكانٍ عامٍّ، فتكون له الأحقية فيه.

ولكنَّه قد يُقال غير ذلك؛ لما جاء عن أُبي بن كعب -رضي الله تعالى عنه-، حيث أخذ بعاتق غلامٍ صغيرٍ جاء خلف الإمام فأخَّره، وقال: "يا ابن أخي، هكذا أمرنا رسولُ الله ﷺ"[8]، أو كلمة نحوها، وفعل الصَّحابي وقول الصَّحابي قد يُبين الإجمال، بل قد يُخصص العموم، ويُقيد الإطلاق، كما قال الإمامُ أحمد -رحمه الله-.

وإلى هذا ذهب جمعٌ من أهل العلم، ومنهم الحافظ ابن القيم[9] -رحمه الله-، كما ذكر ذلك في بعض كتبه؛ كـ"إعلام الموقعين".

ففعل أبي بن كعب يُبين لنا: ليليني منكم أولو الأحلام والنُّهَى، فإذا جاء هذا الصَّبي في المكان الذي يُطلب فيه وجود مَن تصحّ نيابته عن الإمام لو حصل شيءٌ، لو نابه شيءٌ، فإنَّ هذا الصَّغير قد لا يُحسن التَّصرف، فلو تأخَّر الإمام، أو قطع صلاته، أو نحو ذلك، فإنَّ الذي يليه هو الذي يتقدّم، فإذا كان هؤلاء الصِّغار يسبقون خلف الإمام فمَن الذي سينوب عنه؟!

فيُقال: هذا الموضع ليس لهم، ومن هنا يمكن للإمام أن يُنَحِّي هؤلاء الصِّغار ناحيةً، والأصل أنَّ الصبيانَ يكونون في الصفِّ المؤخّر، هذا الأصل.

ثم قال رسولُ الله ﷺ: مَن أطعمه اللهُ الطَّعامَ فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وأطعمنا خيرًا منه، هذا متى يُقال؟

يحتمل أنَّه يقول هذا طلبًا للبركة في أوَّله: اللهم بارك لنا فيه.

ويحتمل أن يكون ذلك إذا فرغ منه، فيكون ذلك من الأدعية التي تُقال بعد الفراغ من الطَّعام إذا أكل، فإنَّ قوله: مَن أطعمه اللهُ الطَّعامَ فليقل، "أطعمه الطَّعام" فإنَّه قد يُفهم منه أنَّه إذا طعمه، أكله.

اللهم بارك لنا فيه، وأطعمنا خيرًا منه، "اللهم بارك لنا فيه" كيف تحصل البركةُ بعدما فرغ فيما أكل؟

وأمَّا إذا قيل: إنَّه يقوله بين يدي طعامه، فتكون البركةُ في تكثيره ونفعه، ونحو ذلك.

وأطعمنا خيرًا منه إذا كان يقول ذلك بين يدي الطَّعام، يعني: قبل أن يأكل: أطعمنا خيرًا منه، فإنَّ ذلك يعني في المستقبل.

وكذلك قد يكون ذلك من قبيل القرينة على أنَّه يقوله إذا فرغ من الطَّعام، وكأنَّ هذا هو الأقرب -والله أعلم-؛ أن يكون هذا من الأدعية التي تُقال بعد الفراغ من الطَّعام: اللهم بارك لنا فيه، وأطعمنا خيرًا منه، والبركة هي الزِّيادة في الخير، والنَّماء فيه مع الدَّوام.

وأطعمنا خيرًا منه، بعضُ أهل العلم حمل ذلك على الجنة: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25]، بعض أهل العلم: قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ فسَّره باعتبار أنهم رُزقوا بذلك في الدنيا، أنهم قصدوا في الدنيا: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا يعني: مع ما في الدُّنيا.

والقول الآخر: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ يعني: في الجنَّة، فيما يُطاف عليهم بالصِّحاف والآنية من ألوان المطعوم، فهو مُتشابه في صورته، ولكنَّه مُختلفٌ في طعومه: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا، وكأنَّ هذا -والله أعلم- هو الأقرب.

فبعض أهل العلم قالوا: وأطعمنا خيرًا منه أنَّ ذلك مُفسّر بقوله: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا، أطعمنا خيرًا منه يعني: من طعام الجنَّة، وهذا لا يختصّ بما يتَّصل بالجنة، وإنما أطعمنا خيرًا منه في الدنيا أيضًا، فإنَّ فضلَ الله لا رغبةَ عنه: لا في الدنيا، ولا في الآخرة.

قال: ومَن سقاه الله لبنًا فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وزدنا منه، "زدنا منه" زدنا يعني: من جنسه، بعضُهم قال: لبن الجنَّة زدنا منه، "بارك لنا فيه، وزدنا منه" من لبن الجنَّة، ولكن لما كان اللبنُ بتلك المنزلة فهو من أشرف الطَّعام، طلبت الزيادة فيه مع البركة، ولا يختصّ ذلك في هذا السؤال أن يكون المطلوبُ من لبن الجنَّة.

ثم قال ﷺ مُعللاً لمثل هذا الدُّعاء والمغايرة بينه وبين سائر الطَّعام: اللهم بارك لنا فيه، وزدنا منه، ولم يقل: "وارزقنا خيرًا منه" كما في سائر الأطعمة، قال: "فإنَّه ليس يجزي" يعني: من الطعام، بدل الطعام، يجزي من الطَّعام، كقوله: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة:38]، يعني: بدل الآخرة، يعني: يُقال: يكفي عنه، يُغني عنه، ما يكون به الغناء من الطَّعام إلا اللَّبن.

قال: مكان الطَّعام والشَّراب غير اللَّبن يعني: لا يحصل به دفع الجوع، لا يحصل بشيءٍ دفع الجوع ودفع العطش معًا إلا في اللَّبن، الماء يدفع العطش، وهو أبلغ ما يدفع به العطش، لكنَّه لا يحصل به دفع الجوع بحالٍ من الأحوال، والخمر على شدّة تعلّق العرب بها في الجاهلية إلا أنها تزيد العطش؛ ولذلك فإنَّ الفقهاء حينما يتحدَّثون عن الاضطرار لشرب الخمر يُفصّلون، يقولون: إن كان لدفع غصّةٍ فله أن يشرب شربةً يدفع بها الغصّة، بمعنى: إن لم يجد شيئًا يدفع به الغصّة إلا الخمر، فهذه حالة ضرورة، يشرب بقدر ذلك، لكن إن كان ذلك لدفع العطش قالوا: لا يشرب، ولو أشرف على الهلكة؛ لأنَّ الخمر لا يزيده إلا عطشًا، فلا تندفع به حرارةُ العطش، فاللَّبن يندفع به العطش، ويندفع به الجوع.

وقالوا: لأنَّه مُركَّبٌ من أصل الخلقة تركيبًا طبيعيًّا، وفيه من الدُّسومة ما قد يُغني من الطَّعام. وتحدَّث العلماءُ في المفاضلة بينه وبين العسل مثلاً.

وبعض العلماء ألَّف في ذلك مُؤلَّفًا، فبعضهم فضَّل العسل، وبعضهم فضَّل اللَّبن، وبعضهم فصَّل في ذلك فقال: من جهة التَّغذية والرّي فاللبن أفضل، ومن ناحية الحلاوة وعموم المنافع فإنَّ العسل أفضل.

ولو قيل: بأنَّ اللبن أفضل من جهة التَّغذية، وأعلق بالفطرة، وأنَّ العسل أفضل من جهة التَّداوي؛ لكان هذا له وجهٌ -والله تعالى أعلم-.

وكذلك تحدَّثوا في المفاضلة بين اللَّبن واللَّحم، وهذا الحديث يدلّ على أنَّ اللبن أفضل مُطلقًا من اللحم، ومن غيره؛ لأنَّه هو الوحيد الذي يُقال فيه: وزدنا منه، فدلّ على أنَّه لو شرب عسلاً فإنَّه لا يقول: "وزدنا منه"، وإنما يقول: "وارزقنا خيرًا منه".

وهذا وغيره مما ذكره أهلُ العلم فيه فوائد كثيرة، وما يدلّ على فضل اللَّبن؛ ولذلك جعل هذا اللَّبن غذاءً للصَّبي في أول الفطرة، مع ما فيه من عجائب قُدرة الله : نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ [النحل:66]، لكن لا يصحّ أن يذهب الذِّهنُ حينما نسمع اللَّبن إلى اصطلاحٍ حادثٍ؛ فإنَّ نصوص القرآن والسُّنة ينبغي حملها على معهود المخاطبين، والمخاطبون كما تدلّ عليه لغةُ العرب اللَّبن عندهم هو ما نُسميه نحن اليوم بالحليب، يعني: أول ما يُحلب فهذا يُقال له: لبن.

نحن الآن في عُرفنا هنا نقول لذلك: حليب، ونقول للذي راب وعُولج نقول له: لبن، لكن هنا حينما يُذكر اللَّبن ينبغي أن يُحمل على معهودهم؛ اللَّبن هذا الذي حُلِبَ، الذي نُسميه نحن: الحليب، يُقال له: "لبن" في لغة العرب.

والشَّارع ليس له اصطلاحٌ خاصٌّ في اللَّبن، يعني: ليس له معنى شرعيّ، فيُرجع إلى عُرف المخاطبين، فإن لم يكن لهم عُرفٌ رجع إلى لغة العرب.

أمَّا الاصطلاحات الحادثة فلا عبرةَ بها، فإذا قيل: اللَّبن، واللَّبن مُوافقٌ للفطرة: وزدنا منه، ونحو ذلك، وأنَّه ليس يقوم، ليس المقصودُ به بالضَّرورة اللَّبن الذي قد راب، لكن هل يدخل ذلك فيه؟

الجواب: نعم، هذا الذي قد عُولج حتى صار بهذه المثابة رائبًا، فإنَّه يُقال: وزدنا منه، ولا يُقال: "وارزقنا خيرًا منه"؛ لأنَّ ذلك جميعًا يُقال له، يصدق عليه أنَّه لبنٌ، يعني: مَن شرب الحليب يقول: "وزدنا منه"، ومَن شرب ما نُسميه نحن اليوم: باللبن، فكلّ ذلك يُقال له: لبن.

فكان النبيُّ ﷺ من هديه -كما قال الحافظُ ابن القيم[10] رحمه الله- أن يشرب اللَّبن تارةً خالصًا، يعني: من غير مزجٍ، وتارةً يشربه مشوبًا بالماء.

وذكر أنَّ شرب اللبن الحلو في تلك البلاد الحارَّة خالصًا ومشوبًا -بلاد الحجاز وما يُتاخمها من جزيرة العرب-، يقول: هذا فيه نفعٌ عظيمٌ في حفظ الصحة وترطيب البدن، وما يحصل من الرّي للكبد. يقول: لا سيّما اللبن الذي ترعى دوابّه الشِّيح والقيصوم والخزامى، وما أشبهها، وهذه نباتات معروفة إلى اليوم بأسمائها، هذه في الصَّحراء، يقول: فإنَّ لبنها غذاءٌ مع الأغذية، وشرابٌ مع الأشربة، ودواءٌ مع الأدوية، يعني: هو في جملة الأغذية، معدودٌ من الأغذية، وفي جملة الأشربة، معدودٌ من الأشربة، وفي جملة الأدوية، فهو أيضًا دواءٌ من الأدوية.

يقول: وأجود ما يكون اللبنُ حين يُحلب. يعني: مباشرةً، وهذا يدلّ على أنَّ هذا الذي بقي مدّةً وعُولج، ومن يدٍ إلى يدٍ حتى يُشرب؛ أنَّ هذا يكون أقلَّ نفعًا.

يقول: ثم لا يزال تنقص جودته على مرِّ السَّاعات، فيكون حين يُحلب أقلّ برودةً، وأكثر رطوبةً، والحامض بالعكس. يعني: أنَّه يضرّ.

ولذلك الشيخ محمد الأمين الشَّنقيطي -رحمه الله- كان إذا رأى مع أحدٍ من أولاده لبنًا حامضًا نزعه نزعًا شديدًا منه، قد ذكر العُلماء أنَّ الحوامض: التفاح الحامض، واللبن الحامض يُسبب النِّسيان، يضرّ الذاكرة.

فالحافظ ابن القيم[11] -رحمه الله- يذكر هذا المعنى، يقول: ويختار اللبن بعد الولادة بأربعين يومًا، يعني: الدَّابة أول ما يخرج منها في الأيام الأولى ما يُسمَّى: باللبئ، وهو معروفٌ، إذا وُضع على النار وغُلي ينعقد، يضرب لونُه إلى شيءٍ من الصُّفرة، يُقال له: اللبأ، معروفٌ، يُشبه لونه لون الزهرة، النبات المعروف، إذا وُضِعَ على النار بعد الولادة مباشرةً، إذا حُلبت الدَّابة، الشَّاة، ثم بعد ذلك غُلي، فهذا يُؤكل، وهذا بعد الولادة.

الحافظ ابن القيم[12] يقول: يختار اللبن بعد الولادة بأربعين يومًا، وأجوده ما اشتدّ بياضه، وطاب ريحه، ولذَّ طعمه، وكانت فيه حلاوة يسيرة. يعني: ليست حلاوةً كثيرةً، بعض الناس يُحبون ما ازدادت حلاوته، وهذا يتأثر بطبيعة الحال بحسب المرعى.

وكذلك يذكر ما كانت فيه دُسومة مُعتدلة، واعتدل قوامه في الرِّقة والغِلَظ، يعني: ليس بثقيلٍ، ولا بخفيفٍ كالماء.

يقول: "وحُلِبَ من حيوانٍ فتيٍّ، صحيحٍ، مُعتدل اللَّحم، محمود المرعى والمشرب"[13]، شرابه جيد، وكذلك مرعاه جيد، ويكون فتيًّا، ليس بكبيرٍ في السن، وكذلك أيضًا يكون مُعتدل اللَّحم، ليس بالبدين، ولا بالضَّعيف الهزيل، فإذا اجتمعت هذه الأوصاف جميعًا فهذا أنفع ما يكون من اللَّبن.

وهذا يدلّ على فضيلة اللَّبن، وعلى كثرة ما فيه من المنافع، حتى قال بعضُ أهل العلم: هو أنفع مشروبٍ للآدمي؛ لموافقته للفطرة الأصلية، فالإنسان إذا خرج إلى هذه الدنيا درَّ ثديُ أمه، فيكون أول ما يبدأ به هو اللَّبن.

في الحديث جبريلُ لما جاء إلى النبي ﷺ بخمرٍ ولبنٍ، فاختار ﷺ اللبن، قال: اخترتَ الفطرة[14]، وتجتمع فيه التَّغذية وغيرها كما سبق، والله ذكره من ضمن الشَّراب في الجنة: وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ [محمد:15]، اللَّبن في الدنيا يتغير طعمه بأمورٍ لا تخفى: إمَّا بسبب المرعى، أو يتغير طعمُه بسبب مرضٍ في الدَّابة، أو يتغير طعمُه بسبب كثرة المكثِ، أو يتغير طعمُه بسبب أمرٍ يُلابسه الحالب، أو يتغير طعمه بسبب الإناء، أو يتغير طعمُه بسبب ما قد يقع فيه مما يحصل عادةً من القذى والأذى  الذي يتساقط من البهيمة التي تُحلب.

وهذا يدلّ على أنَّ اللبنَ أرفع مرتبةً، وأعلى درجةً من الطَّعام، وغير ذلك من الفوائد.

هذا ما يتَّصل بهذا الحديث، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود: كتاب الأشربة، باب ما يقول إذا شرب اللَّبن، برقم (3730)، والترمذي -واللفظ له-: أبواب الدَّعوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما يقول إذا أكل طعامًا، برقم (3455).
  2. "صحيح الجامع"، برقم (6045).
  3. "مسند أحمد"، برقم (1978)، وقال الشيخ أحمد شاكر: "إسناده صحيحٌ".
  4. "الفتاوى الحديثية" لابن حجر الهيتمي (ص132).
  5. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب الاستهام في الأذان، برقم (615)، ومسلم: كتاب الصَّلاة، باب فضل النِّداء والصفّ الأول والتَّكبير وصلاة العتمة والصُّبح، برقم (437).
  6. أخرجه البخاري: كتاب الشُّروط، باب الشُّروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشُّروط، برقم (2731).
  7. أخرجه الترمذي: أبواب الصَّلاة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء: ((ليليني منكم أولو الأحلام والنُّهَى))، برقم (228)، والنَّسائي: كتاب الإمامة، مَن يلي الإمام ثم الذي يليه، برقم (807)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (5476).
  8. انظر: "نيل الأوطار" (3/215).
  9. انظر: "إعلام الموقعين عن ربِّ العالمين" ت: مشهور (1/67).
  10. "زاد المعاد في هدي خير العباد" (4/216)، و"الطب النبوي" لابن القيم (ص176).
  11. "زاد المعاد في هدي خير العباد" (4/353)، و"الطب النبوي" لابن القيم (ص292).
  12. المصدر السابق.
  13. المصدر السابق.
  14. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} [مريم:16]، برقم (3437)، وكتاب الأشربة، باب شُرب اللبن، برقم (5610)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السَّماوات وفرض الصَّلوات، برقم (162).

مواد ذات صلة