الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فهذا باب "دعاء الخوف من الشرك"، وذكر فيه المؤلفُ حديثَ معقل بن يسار -رضي الله تعالى عنه- قال: انطلقتُ مع أبي بكر الصّديق إلى النبي ﷺ، فقال:يا أبا بكر، لَشِّرك فيكم أخفى من دبيب النَّمل، فقال أبو بكر: وهل الشِّرك إلا مَن جعل مع الله إلهًا آخر؟ فقال النبي ﷺ:والذي نفسي بيده، لَشِّرك أخفى من دبيب النَّمل، ألا أدلُّك على شيءٍ إذا قلتَه ذهب عنك قليلُه وكثيره؟، قال:قل: اللهم إني أعوذ بكأن أُشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم.
هذا الحديث أخرجه الإمامُ أحمد في "مسنده"[1]، والبخاري في "الأدب المفرد"[2]، وقد صححه الشيخُ ناصر الدين الألباني-رحمه الله[3]-.
وقد جاء نحوه عن جماعةٍ من الصَّحابة -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم-؛ جاء من حديث أبي بكرٍ، وعائشة، وأبي موسى الأشعري[4]، وأبي سعيدٍ الخدري، وغيرهم، ولا تخلو تلك الأحاديث من ضعفٍ.
لكن حديث معقل بن يسار -رضي الله تعالى عنه- كما ذكرتُ صححه الشيخُ الألباني، وهذه المرويات عن الصَّحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم- يُقوِّي بعضُها بعضًا.
يقول معقلُ بن يسار:"انطلقتُ مع أبيبكرٍ الصّديق إلى النبي ﷺ، فقال:يا أبا بكر، لَشِّرك فيكميعني: أيّها الأُمَّة أخفى من دبيب النَّمل،ودبيب النَّمل لا شكَّ أنَّه في غاية الخفاء.
فأبو بكرٍ -رضي الله تعالى عنه- سأل النبيَّ ﷺ:وهل الشِّرك إلا مَن جعل مع الله إلهًا آخر؟
فأبو بكر كان يفهم أنَّ الشركَ هو الشرك الأكبر؛ بأن يتَّخذ معبودًا مع الله -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-، وهذا لا شكَّ أنَّه الشِّرك الأكبر الذي يُخلّد صاحبه في النار، وهو أعظم الذُّنوب والآثام، والله -تبارك وتعالى- أخبر أنه: لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فهذا يدخل فيه الشِّرك الأكبر قطعًا.
واختلف العلماءُ: هل يدخل فيه الشِّرك الخفي والشِّرك الأصغر في هذا العموم في قوله: لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ؟
لأنَّ قوله: أَنْ يُشْرَكَ في تأويل مصدر مُنكر، يعني: لا يغفر إشراكًا به، والنَّكرة في سياق النَّفي تُفيد العموم: لا يغفر إشراكًا به، يعني: لا يغفر الإشراكَ القليل ولا الكثير، الخفي ولا الجلي.
هكذا قد يفهم بمُقتضى الصِّناعة الأصولية، بما تدلّ عليه هذه القاعدة: أنَّ النَّكرة في سياق النَّفي تدلّ على العموم.
ومن هنا ذهب جمعٌمن أهل العلم إلى أنَّ الشِّرك الأصغر والخفي لا يُغفر، ولكن ليس معنى ذلك: أنَّ صاحبَه يخلد في النار، وإنما لا يكون مغفورًا بما يكون به الغفر من قوله ﷺ: الصَّلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مُكفِّرات ما بينهنَّ إذا اجتنب الكبائر[5]، وما إلى ذلك، وإنما يحتاج إلى توبةٍ، فإن لم يتب، وبقي على هذا حتى مات، فهل معنى ذلك أنَّه يخلد في النار؟
الجواب: لا، ولكن قد يكون له من الحسنات الكثيرة التي ينغمر معها هذا الإشراك، أو يعذّببه حتى يُمحّص،ثم بعد ذلك يدخل الجنة، لكنه لا يخلد في النار إلا إذا كان في أصل الإيمانيُرائي،فحينما دخل في الإسلام كان مُرائيًا في ذلك،فإذا دخل الرِّياء في أصل الإيمان، يعني: عند دخوله في الإسلام دخل رياءً، فهذا لا يكون إيمانُه صحيحًا ولا مقبولًا؛ لأنَّ الرياء إذا دخل في العمل أبطله وأفسده، إن دخل في أوله أبطله، وإن دخل في أثنائه: فإن كان عارضًا ودفعه؛ لم يبطل العمل على القول الراجح، فإن استرسل معه أبطل العمل، هذا في العمل المعين: في الصلاة المعينة،وفي قراءة القرآن، ونحو ذلك، لكن إذا دخل الرياءُ في أصل الإيمان؛ حينما دخل هذا الإنسانُ في الإسلام، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، وهو يُرائي بهذا، فهذا لا يكون إيمانه صحيحًا، ولا مقبولًا.
فالمقصود أنَّ العلماء مُختلفون في الشِّرك الأصغر والشِّرك الخفي: هل يُغفر، أو لا يُغفر من غير توبةٍ؟ لكن لم يقل أحدٌ منهم: بأنَّ صاحبه يخلد في النار، فنُفرّق بين هذا وهذا.
والشِّرك على كل حالٍ منه ما يكون أكبر، ومنه ما يكون أصغر، ومنه ما يكون خفيًّا، منه الجليل، ومنه الدَّقيق، ومنه الظَّاهر، ومنه الخفيّ،ومنه ما ينقل عن الملّة، ومنه ما لا ينقل عن الملّة، والذي ينقل عن الملّة هو الشِّرك الأكبر، وأمَّا الأصغر فهو شرك العمل: كالرياء، ونحو ذلك، فهذا لا ينقل عن الملّة.
والله -تبارك وتعالى- يقول في الشِّرك الأكبر الذي هو أعظم الجرائم: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ[المائدة:72]، ويقول: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ[الحج:31]، ويقول في شرك الرِّياء: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، يعمل عملًا صالحًا يكون صوابًا، ويُوافق فيه المشروع، ويكون أيضًا خالصًا لله -تبارك وتعالى-.
وكذلك في قوله: وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا هذا يدخل فيه الأصلُ الكبير، وهو التوحيد الذي هو الشَّرط الثالث من شروط قبول الأعمال، ويدخل فيه أيضًا الإخلاص؛ إذ إنَّ شروط قبول العمل ثلاثة: الإيمان والتَّوحيد، والمتابعة للنبي ﷺ، والإخلاص.
والله -تبارك وتعالى- يقول في أول سورة الكهف: وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ[الكهف:2]، فذكر الإيمان، وذكر العمل الصَّالح، ولا يكون عملًا صالحًا إلا إذا كان خالصًا صوابًا، يعني: تابع فيه النبي ﷺ.
وهكذا يقول في آخرها، كما في هذه الآية: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا، ومن هذا أيضًا الشِّرك الأصغر، كما قال النبي ﷺ: مَن حلف بغير الله فقد أشرك[6]، هذا الشِّرك الأصغر، إلا إذا اعتقد في المحلوف من التَّعظيم ما لا يصلح إلا لله -تبارك وتعالى-؛ فيكون هذا الحلفُ بغير الله من قبيل الشِّرك الأكبر.
أمَّا إذا كان ذلك يجري على الألسن من غير أن يقوم في القلب من تعظيم هذا المحلوف به تعظيمًا لا يصلح إلا لله -تبارك وتعالى-؛ فعند ذلك يكون من قبيل الشِّرك الأصغر، كأن يقول مثلًا: والنبي، وحياتك، والكعبة، ونحو هذا، فهذا كلّه من الشِّرك الأصغر.
وكذلك أيضًا ما جاء في هذا الحديث: أنَّ الشِّرك في هذه الأُمَّة أخفى من دبيب النَّمل، وهذا يكون من قبيل الشرك في العبادة، فهذا الشِّرك الخفي والشِّرك الأصغر يصدر ممن يعتقد: أنَّه لا إله إلا الله، وأنَّ النفع والضّر بيد الله -تبارك وتعالى-، وأنَّ العطاء والمنع بيده، وأنَّه لا إله غيره، ولا ربَّ سواه، ولكنَّه كما يقول الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-: "لا يُخلص لله في مُعاملته وعبوديته، بل يعمل لحظِّ نفسه تارةً، ولطلب الدنيا تارةً، ولطلب الرِّفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارةً، فلله من عمله وسعيه نصيبٌ، ولنفسه وحظِّه وهواه نصيبٌ، وللشَّيطان نصيبٌ، وللخلق نصيبٌ، وهذا حال أكثر الناس"[7]؛ لما يوجد في القلب من الالتفات إلى غير الله -تبارك وتعالى-.
ولهذا قال النبي ﷺ: أخفى من دبيب النَّمل يعني: في حركته ومشيه على الأرض، ودبيب النَّمل مَن الذي يُدركه؟ ومَن الذي يُحصيه؟ ومَن الذي يُميزه؟ دبيب النَّمل لا يشعر به أحدٌ، فهذا يكون بهذه المثابة، ومن ثم فهو في غاية الغموض في أغلبه، حتى إنَّ بعضه يصل إلى هذه الصِّفة: أخفى من دبيب النَّمل، يعني: ليس كدبيب النَّمل، بل أخفى من دبيب النَّمل،فإذا كان دبيبُ النمل خفيًّا، فكيف بما هوأخفى من دبيب النَّمل؟!
فإلى أي حدٍّ يكون خفاؤه؟! فهو يزيد في الخفاء على دبيب النَّمل، الذي هو في غاية الخفاء، كيف يُدرك مثل هذا إلا بشدّة التَّفقد والمراقبة والمحاسبة للنَّفس: للخطرات، والسَّكنات؟
فليت العبد يُدْرِك بعضَ ذلك، مع بذل الجهد، وكثرة التَّنقيب والتَّفتيش والمحاسبة، وامتحان النَّفس، والبحث عن مداخلها ومخارجها وخدعها، كما يقول صاحب "الإحياء": "ولذلك عجز عن الوقوف على غوائلها سماسرةُ العلماء، فضلًا عن عامَّة العُبَّاد والأتقياء، وهو من أواخر غوائل النفس وبواطن مكايدها، وإنما يُبتلى به العُلماء والعُبَّاد والمشمّرون عن ساق الجدِّ لسلوك سبيل الآخرة"[8].
ويقول:"يظنّ أنَّ حياته بالله وبعبادته المرضية، وإنما حياته بهذه الشَّهوة الخفيَّة التي تعمى عن دركها العقولُ النَّافذة القويَّة، ويرى أنَّه مخلصٌ في طاعة الله، ومُجتنبٌ لمحارم الله، والنَّفس قد أبطنت هذه الشَّهوة تزيينًا للعباد، وتصنعًا للخلق، وفرحًا بما نالت من المنزلة والوقار، وأحبطت بذلك ثواب الطَّاعات، وأجور الأعمال، وقد أثبتت اسمَه في جريدة المنافقين، وهو يظنّ أنه عند الله من المقرَّبين"[9]،يعمل، ويجتهد، ويتصدَّق، ويُصلِّي، ويذهب هنا وهناك، ويُشارك في أعمالٍ كثيرةٍ جدًّا، ولربما يعظ الناسَ، أو يخطب، أو لربما يُقيم مشروعات وأوقاف وبرامج دعويَّة في كل مكانٍ، وأوقاته مشغولة في ذلك، ولربما في التَّأليف والكتابة، ولربما ملأ صفحات المنتديات في الإنترنت بمشاركات وتوجيه وتعليم، ولربما كان ذلك في القنوات الفضائية، فهو لا يفتر: يبذل، ويُقدّم، وينصح، ويُعلّم، ولكن النّية مدخولة.
ومن أصعب الأشياء في ضبط المقاصد والنّيات: ما يتَّصل بهذا الإعلام والظُّهور الإعلامي والشُّهرة، فتجد الإنسانَ ربما يتصنع كثيرًا في هيئته، وفي كلامه.
وليس أنفع للعبد -أيّها الأحبّة- من أن يُعظّم الله، وأن يعرفه معرفةً صحيحةً بأسمائه وصفاته، وأن يعرف ضعفَ الخلق، مع مُحاسبة النفس وحملها حملًا على التَّوجه إلى باريها وخالقها -جلَّ جلاله-، دون الالتفات إلى شيءٍ آخر.
وكثيرًا ما أُذكِّر ببعض ما يُعين على ذلك، وهو النَّظر إلى الخلق وهم صغار أمثال الذَّر في صورةٍ فضائيةٍ، أو في صورةٍ علويةٍ، حينما تعرض هذه القنوات للمُصلين في الحرم، أو الذين في ساحاته من بُعْدٍ، أو من علوٍّ شاهقٍ، تجد أنهم أمثال الذَّر، فمثل هؤلاء هل يستحقّون أنَّ الإنسان يصرف الأعمالَ والأموال والعبادات والأوقات والجهود إليهم، ويُلاحظهم في ذلك، ويُرائيهم؟! ومَن الخلق؟!
ويترك ربَّه -تبارك وتعالى- العظيم الأعظم، ذا الصِّفات الكاملة، والنُّعوت الجليلة، يعرض عن هذا المعبود -جلَّ جلاله-، ويتوجّه إلى هؤلاء المخلوقين، هذا لا شكَّ أنَّهغاية الجهل والظُّلم؛ ولهذا قال الله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[لقمان:13]، فكيف تُصْرَف العبادة إلى مخلوقٍ ضعيفٍ يتصنَّع له ويتزين؟
وهذه قضية ربما تتسرب إلى النَّفس بطرقٍ لا يشعر بها صاحبُها: أخفى من دبيب النَّمل؛ ولذلك ذكر بعضُ أهل العلم: أنَّ آخر ما يخرج من رؤوس الصَّالحين حبُّ الرئاسة، وقد يزهد بالمال، ويزهد بمتاع الدنيا وحطامها، ولكن تبقى هذه الرئاسةوالتَّقديم والتَّعظيم، وما إلى ذلك،ولو نُوزِع ذلك لعادى عليه.
وكذلك ما ذكره بعضُ أهل العلم من أنَّ النفس حينما يحصل لها الحبسُ عن شهواتها القريبة العاجلة، وحظوظها التي تكون من حظوظ الجسد غالبًا: كأكل الحرام، وأخذ المال الحرام، والفجور، والفواحش، والزنا، وشرب الخمر، ونحو ذلك، وتُحبس عن الغيبة والنَّميمة، وما إلى ذلك، وتُفطم عن هذه الرَّغبات؛ تتسلل النفسُ إلى مطالب أخرى خفيَّةً جدًّا، تجد فيها سلوتها، وتجد فيها بُغيتها، بل ربما تجد أعظم من ذاك الذي حُبست عنه؛ وهو التَّزين بالعمل أمام الناس، وطلب المحمدة، وما إلى ذلك، وهذه قضية تُبذل فيها الأموال.
انظروا إلى بعض الناس كيف يبذل الأموالَ الطائلة في بعض المقاطع؟! تُشاهدون أشياء! نسأل الله ألا يُؤاخذنا بما فعل السُّفهاء منا؛ تجد قدور راسيات، القدر فيه أكثر من خمسةٍ وعشرين رأسًا من الضَّأن، وقدور كثيرة جدًّا، على ماذا؟ على أمورٍ تافهةٍ، لا يُراد بها ما عند الله -تبارك وتعالى-، ويُقال: هذا لفلان الفلاني، وهذا صنعه فلان، وأموالٌ تُبذل، وسيارات تدور على الناس في المخيمات مليئة باللُّحوم والطَّعام، ويُقال لهم: مَن شاء فليأخذ، يعني: لا يُكتفى بمَن يأتي، بل يُدار به على هؤلاء الذين قد تجمَّعوا على توافه الأمور، ثم يعرض عليهم هذا، والناس من حولنا يموتون جوعًا، وحروب، وخوف، وجوع، وهذه الأموال تُبذل في سبيل ماذا؟
في سبيل الشَّيطان، وفي طلب المحمدة، والتَّكثر بحمد الناس ومدحهم، وما إلى ذلك، وعمَّا قريبٍ يضمحلّ ذلك، بل ربما في مقامه ذاك يكون ذمًّا وشينًا في حقِّه، والذين فعلوا هذه الأفاعيل في السنوات الماضية ماذا جنوا؟ وماذا حصلوا؟ وماذا بقي لهم من الحمد والثَّناء ممن يتصنع لهم، ويكذب في وجوههم؟ وإذا ذهب لمزهم في أفعالهم هذه، بل ربما لمزهم في أكثر من هذا، حتى ربما يلمزهم في أنسابهم، أليس هذا هو الواقع لدى الكثيرين؟
فهكذا أفعال الجاهلية تجلب أفعالًا أخرى من أمور الجاهلية: كالطَّعن في الأنساب، وما إلى ذلك من الأحساب.
فهذا كلّه تُبذل فيه الأموال؛ في سبيل تحصيل مثل هذه الحظوظ النَّفسية، فالنَّفس تتسلل -أيّها الأحبّة- إلى هذه المطالب، وتبحث عنها، والشَّرك -كالرِّياء والسُّمعة وحُبّ المحمدة- غالبٌ على النَّفس.
وكان عمرُ بن الخطاب يقول في دُعائه: "اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحدٍ فيه شيئًا"[10].
يقول شيخُ الإسلام: "وكثيرًا ما يُخالط النفوس من الشَّهوات الخفيَّة ما يُفسد عليها تحقيق محبَّتها لله، وعبوديّتها له، وإخلاص دينها له، كما قال شداد بن أوس: يا بقايا العرب، إنَّ أخوفَ ما أخاف عليكم الرِّياء والشَّهوة الخفيَّة. قيل لأبي داود السّجستاني -رحمه الله-: ما الشَّهوة الخفيَّة؟ قال: حبّ الرئاسة"[11].
يقول النبي ﷺ مُوجِّهًا أبا بكرٍ، ومُعلِّمًا للأُمَّة في طريق الخلاص من هذا الشِّرك: ألا أدلُّك على شيءٍ إذا قلتَه ذهب عنك قليلُه وكثيرُه؟ هذا شيءٌ تُبتلى به النُّفوس، والخلاص منه صعب، ولربما يتسلل إليها دون أن يشعر صاحبُها.
وصغار الشِّرك مثل قول الرجل: "ما شاء الله وشئتَ،ولولا فلانٌ لحصل كذا"، وكذلك ما قد يتسلل من هذه المقاصد الرَّديئة.
تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أُشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم، متى يقول هذا؟
بعض العُلماء يقول: يحتمل أن يقول ذلك كل يومٍ، أي: يُكثر من قول هذا؛ لأنَّ ذلك يتسلل مع أعماله صباح مساء، فيحتاج إلى تعاهدٍ وتنظيفٍ وتنقيةٍ وتطهيرٍ لهذه النَّفس، ولما يعلق من هذه المقاصد الفاسدة، وما يترتب على ذلك من المؤاخذة.
ويحتمل أن يكون ذلك كلّما شعرت النفسُ بالركون إلى شيءٍ من ذلك، أو الالتفات إلى غير الله -تبارك وتعالى-.
وهذا على كل حالٍ لا إشكالَ فيه، فيقوله العبدُ؛ لأنَّه قد يقعفي قلبه ما لا يشعربه، فيحتاج أن يُردد ذلك، فالنبي ﷺ أمر بالاستعاذة من الشِّرك المعلوم: أن أُشرك بك وأنا أعلم، وبالاستغفار لما لا يعلم.
"فالتوبة والعمل الصَّالح يحصل بهما التَّطهير والتَّزكية"، كما يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[12]-: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُذكر التوحيد،وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ[محمد:19]، وقال: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ[هود:1-2]، ثم قال: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ[هود:3]،فذكر التوحيد والاستغفار، فهذا كلّه مما يحصل به كمال العبد ونجاته.
وهذا الحديث أيضًا يدل على أنَّ مثل هذا النوع من الشِّرك الأصغر والشِّرك الخفي لا يُخرج من الملّة، فعقد الإيمان ثابتٌ؛ ولهذا النبي ﷺ وجَّه ذلك إلى الأُمَّة: الشِّرك فيكم يعني: أيّها الأمّة، فيبقى عقد الإيمان، فهذه الخواطر السَّيئة لا تُخرجه من أصل الإيمان، فهذا يقول هذا الدُّعاء فينفع معه، ولو كان من قبيل الشِّرك الأصغر لما نفع معه مثل هذا، والله تعالى أعلم.
فمثل هذه ليست كحال المنافقين، وليست كحال الكافرين، فالذي يتصنَّع بعملٍ من الأعمال، ويتزين به، أو نحو ذلك، أو يقول مثلًا: "لولا فلان لحصل كذا"، من هذه العبارات التي تكون من قبيل الشِّرك الأصغر، أو من ذرائعه ووسائله، فإنَّ مثل هذا لا يُخرجه من الملّة، فليس ذلك من الكفر الأكبر، ولا من النِّفاق الأكبر.
والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وآله، وصحبه.
- أخرجه أحمد برقم (19606)، وقال مُحققو "المسند": "إسناده ضعيفٌ؛ لجهالة أبي علي الكاهلي".
- أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" برقم (716)، وصححه الألباني.
- "صحيح الأدب المفرد" (ص265).
- أخرجه أحمد برقم (19606)، وقال مُحققو "المسند": "إسناده ضعيفٌ؛ لجهالة أبي علي الكاهلي".
- أخرجه مسلم: كتاب الطَّهارة، باب الصَّلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مُكفِّرات لما بينهنَّ ما اجتنبت الكبائر، برقم (344).
- أخرجه أبو داود: كتاب الأيمان والنذور، بابٌ في كراهية الحلف بالآباء، برقم (2829)، وصححه الألباني.
- "الجواب الكافي لمن سأل عن الدَّواء الشَّافي = الدَّاء والدَّواء" (ص131).
- "إحياء علوم الدين" ومعه "تخريج الحافظ العراقي" (5/2).
- "إحياء علوم الدين" ومعه "تخريج الحافظ العراقي" (5/3).
- "مجموع الفتاوى" (1/334).
- "مجموع الفتاوى" (10/214-215).
- "الزهد والورع والعبادة" (ص67).