الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(276) دعاء السفر
تاريخ النشر: ١٩ / ربيع الأوّل / ١٤٣٦
التحميل: 1963
مرات الإستماع: 1716

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

هذا باب "دعاء السفر"، وقد جاء عن عليٍّ الأَزْدِي: أنَّ ابن عمر -رضي الله عنهما- علَّمهم أنَّ رسولَ الله ﷺكان إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفرٍ كبَّر ثلاثًا، ثمَّ قال:سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ۝ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ[الزخرف:13-14]، اللهمَّ إنَّا نسألك في سفرنا هذا البرَّ والتَّقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهمَّ هوِّن علينا سفرنا هذا، واطوِ عنا بُعْدَه، اللهمَّ أنت الصَّاحب في السَّفر، والخليفة في الأهل، اللهمَّ إني أعوذ بك من وعثاء السَّفر، وكآبة المنظر، وسُوء المنقلب في المال والأهل، وإذا رجع قالهنَّ، وزاد فيهنَّ: آيبون، تائبون، عابدون لربنا حامدون.

هذا الحديث بهذااللَّفظ أخرجه الإمامُ مسلم في "صحيحه"[1].

وقد جاء في "الصَّحيحين"من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: أنَّ النبي ﷺ كان إذا قفل من غزوٍ أو حجٍّ أو عمرةٍ يُكبّر على كل شرفٍ من الأرض ثلاث تكبيرات، ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون لربنا حامدون، صدق اللهُ وعدَه، ونصر عبدَه، وهزم الأحزابَ وحده[2]، هذا فيمقفله ورجوعه -عليه الصَّلاة والسلام-.

ففي الرِّواية الأولى: أنَّه إذا رجع قالهنَّ –يعني: ما سبق- كبَّر ثلاثًا، وقال: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ... إلى آخر دُعاء السَّفر، ويزيد: آيبون، تائبون، عابدون لربنا حامدون.

وهنا زيادة من حديث ابن عمر نفسه -رضي الله تعالى عنه-، وهي في "الصَّحيحين": "كان إذا قفل من غزوٍ أو حجٍّ أو عُمرةٍ"، وهذا لا ينحصر بالحجِّ أو العُمرة أو الغزو، وإنما ذُكِرَ ذلك لأنَّ أسفارَ النبي ﷺ كانت لا تخلو من واحدةٍ من هذه المذكورات، وإلا ففي عموم الأسفار، فإذا سافر لصلة رحمٍ، أو سافر لطلب علمٍ، أو سافر لتجارةٍ، أو لأمرٍ مباحٍ، أو نحو هذا، فإنَّه يقول ذلك، وإنما اختلف العلماءُ في سفر المعصية: هل يقول فيه هذا أو لا؟ كما سيأتي.

وهنا هذه الرِّواية المخرجة في "الصَّحيحين": "كان إذا قفل من غزوٍ أو حجٍّ أو عمرةٍ يُكبّر على كل شرفٍ من الأرض ثلاث تكبيرات" على كل مُرتفعٍ يُكبّر ثلاث تكبيرات، ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، فهذه زيادة يقولها مع ما سبق، ويقول مع ذلك: آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، كما في هذه الرِّواية، لربنا حامدون، وفي بعض الألفاظ: حامدون لربنا ساجدون[3]، ويقول: صدق اللهُ وعدَه، ونصر عبدَه، وهزم الأحزابَ وحده.

وفي روايةٍ في البخاري:"كان إذا قفل من الغزو أو الحجِّ أو العُمرة يبدأ فيُكبّر ثلاث مرار"[4]، فهذا يدلّ على أنه يقول ذلك في مبدأ مقفله، يعني: في بداية سفر الرجوع يبدأ فيُكبّر ثلاث مرار، ثم يقول: آيبون، تائبون، عابدون لربنا حامدون، هذا من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.

وجاء من حديث أنسٍ في مقفله ﷺ في بعض الألفاظ في البخاري: "من عسفان"، وفيه: "فلمَّا أشرفنا على المدينة قال: آيبون، تائبون، عابدون لربنا حامدون، فلم يزل يقول ذلك حتى دخل المدينة[5]، يعني: كان يُردد: آيبون، تائبون، عابدون لربنا حامدون حتى دخل المدينة.

وجاء في روايةٍ من حديث أنسٍ: أنَّ ذلك كان في مقفله من خيبر[6]، وهذا هو المعروف.

والحافظ ابن حجر -رحمه الله-يقول: "والذي يظهر أنَّ الراوي أضاف المقفلَ إلى عُسفان؛ لأنَّ غزوة خيبر كانت عقبها، وكأنَّه لم يعتدَّ بالإقامة المتخللة بين الغزوتين؛ لتقاربهما"[7].

يقول: كأنَّ الراوي لقُرب ما بين الغزوتين أو السَّفرين: عُسفان وخيبر؛ ألغى هذا الفارق، فجعلها كأنَّها سفرة واحدة، وإلا فخيبر بعد ذلك.

وجاء ذلك مُصرَّحًا به في روايةٍ في "صحيح البخاري"، ومسلم أيضًا، من حديث أنسٍ، وفي آخره: حتى إذا كانوا بظهر المدينة، أو قال: أشرفوا على المدينة،قال النبيُّ ﷺ: آيبون، تائبون، عابدون لربنا حامدون[8].

وفي روايةٍ أيضًا: فلمَّا دنا، أو رأى المدينة قال: آيبون، تائبون، عابدون لربنا حامدون[9].

فمجموع هذه الرِّوايات -والله تعالى أعلم- تدلّ على أنَّ دعاء السَّفر يُقال في مبدأ السفر، ففي حديث ابن عمر هنا:"كان ﷺ إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفرٍ كبّر ثلاثًا"، ففي هذه الأوقات نقول: إذا ركب سيارتَه عند بيته يُريد السَّفر،فقبل أن يُفارق البُنيان، وهو عند بيته، إذا استوى في سيارته يقول دُعاء السَّفر، فإذا أراد أن ينتقل من وسيلةٍ لأخرى: كأن يركب الطائرةَ مثلًا، أو يركب حافلةً، أو يركب القطار،أو يركب السَّفينة، فلا يحتاج أن يقول دعاء السَّفر مرةً أخرى، وإنما يقوله عند بيته حينما يركب سيارته، كما يدل عليه هذا الحديث: "كان إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفرٍ كبّر ثلاثًا، ثم قال:سبحان الذي سخَّر لنا هذا".

فلا يبدأ السَّفرُ إذا ركبتَ الطَّائرة، وإنما يبدأ السفرُ-بالنسبة للدُّعاء- منذ ركوب السيارة، وأنت عند بيتك تقول هذا الدُّعاء، فإذا ركبتَ الطَّائرة لا تقل ذلك، وإنما تقول دعاء الركوب فقط، وهو الذي مضى في الليلة الماضية، وأمَّا أحكام السَّفر؛ فإنَّ ذلك يكون بعد مُفارقة البُنيان.

يعني: هنا في هذا البلد مثلًا متى تبدأأحكامُ السَّفر؟

إذا فارقتَ البُنيان، بمعنى: أنَّك إذا وصلتَ إلى مطار الدَّمام فأنت في سفرٍ،ولو أنَّك خرجتَ قبل أذان الظُّهر، وأذَّن المؤذِّنُ وأنت في مطار الدَّمام، تُصلي الظهرَ ركعتين، ولكأن تجمع معها العصر جمع تقديمٍ، ولو أنَّك قدمتَ من سفرٍ، ووصلتَ مطار الدَّمام، وقد أذّن الظهر، وأردتَ أن تُصلي في المطار، فإنَّك تُصلي ركعتين بلا إِشكالٍ؛ لأنَّك لم تصل بعد إلى البُنيان، فهذا يُعتبر خارج البُنيان، فتجري فيه أحكامُ السَّفر.

ولو أنَّ أحدًا في رمضان مثلًا خرج في النَّهار، ثم كان في مطار الدَّمام، وهو من أهل هذا البلد، فله أن يُفطر في المطار، ولو أنَّه جاء من سفرٍ، فلمَّا وصل إلى المطار شعر بشيءٍ من التَّعب، فأراد أن يُفطر، فلا بأس أن يُفطر في المطار، لكن لو أنَّه وصل إلى بيته فإنَّه لا يُفطر؛ لأنَّ أحكامَ السفر قد انتهت.

والعجيب أنَّ بعضَ الناس يسأل فيقول: بأنَّه بقي صائمًا في حال السَّفر، فلمَّا وصل إلى بيته جامع امرأتَه! يعني: هو ترك الرُّخصة في السَّفر فلم يُفطر، فلمَّا انتهت أحكامُ السفر ورُخَصُه أفطر على الجماع! وفيه كفَّارة مُغلَّظة: عتق رقبةٍ،فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ...فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا[المجادلة:4]، وهكذا يفعل الجهلُ بأصحابه، وسمعنا كثيرًا من هذه الأسئلة.

ولو أنَّه أفطر في السَّفر، وجاء إلى امرأته مثلًا وهي معذورة، كانت معه في السَّفر، وأفطرت مثلًا؛ فله أن يُجامعها على الأرجح، وكذلك أيضًا لو أنَّه وجدها مريضةً، قد أفطرت للمرض، وهي لم تُسافر، فله أن يُجامعها، ولكن هكذا يفعل الجهلُ.

إذًا هنا يقول:"كان إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفرٍ" فيبدأ دُعاء السَّفر منذ الركوب، وهو عند بيته.

"كبَّر ثلاثًا" يقول: الله أكبر،"إذا استقرَّ على بعيره" أي: استوى على البعير،وكذا على المركوب: كالسيارة، ونحوها.

"كبّر ثلاثًا" يحتمل أن يكون هذا التَّكبيرُ ثلاثًا باعتبار أنَّ هذا مقام ارتفاعٍ وعلوٍّ،حيث استوى على الدَّابة، فيُناسبه التَّكبير.

وكان من هديه ﷺ أنَّه إذا علا شرفًا يُكبّر-كما سبق-، فهنا لما ارتفع على الرَّاحلة كبَّر بهذا الاعتبار.

ويحتمل أن يكون ذلك باعتبار أنَّه استحضر عظمةَ الخالق -تبارك وتعالى-، فكبَّر باعتبار أنَّ الله سخَّر له هذه الدَّابة، أو هذا المركوب، ويسَّره له.

أو أن يكون ذلك باعتبار أنَّه يُكبّر؛ لأنَّ ذلك ربما أعجبه، والنبي ﷺ كان إذا أعجبه شيءٌ كبَّر، وإذا تعجَّب من شيءٍ سبَّح، هذا هو الغالب من هديه ﷺ، كأنَّ هذا يتعجَّب من هذا التَّسخير، أو نحو ذلك، فيقول: سبحان الذي سخَّر لنا هذا.

فالله أكبر من هذه المركوبات، وأكبر ممن صنعها، وأكبر من كل شيءٍ، فلا يحصل له تعاظم حينما يركب الطَّائرة، ويتَّكئ وينظر إلى السُّحب تحته، فإنَّه يقول:"الله أكبر"، فلا يحصل له شيءٌ من الزهو، ولا يحصل له شيءٌ من الغرور.

فبعض الناس إذا ركب المراكبَ الفاخرة ربما ينتشي في جلسته ونحو ذلك بطريقةٍ تدلّ على شيءٍ من التَّعاظم، ونحو هذا، فهو يتذكّر دائمًا: أنَّ الله أكبر.

ثم يقول: سبحان الذي سخَّر لنا هذا، هذا فيه الثَّناء على الله -تبارك وتعالى-، والتَّنزيه بتسخيره لهذه المركوبات التي تحمل الأثقالَ والنفوس إلى البلاد النَّائية، والأقطار الشَّاسعة.

وفي هذا اعترافٌ بنعمة الله -تبارك وتعالى- على العبد بهذه المراكب المتنوعة، سواء كانت من الإبل، أو كانت من المراكب البحرية، أو المراكب الجوية، أو كان بهذه المراكب البرية: السيارات، والقطارات، ونحو ذلك، فكلّه داخلٌ فيه:سبحان الذي سخَّر لنا هذا.

إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ[الشورى:33]، هذه السُّفن تبقى لا تتحرك، ولو شاء الله -تبارك وتعالى- لتعطّل كل شيءٍ، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي سخَّرها وهذه الدَّواب، ونحو ذلك.

وانظر إلى الوحشيَّة من الدَّواب كيف تندّ عن الناس وتنفر في أعالي الجبال، ونحو ذلك من الغيطان والأماكن التي لا يصل إليها الناسُ؟

أمَّا هذه الدَّواب مهما كان خلقُها وعظمتُها فإنها تذهب سارحةً في أول النَّهار، وتروح على أهلها، ثم هي في غاية التَّذليل: فهم يحلبونها، ويستطيعون التَّصرف فيها، والتَّنقل عليها بالركوب ونحو ذلك، ويستطيعون نحرها، والانتفاع بها، وبأصوافها، وهي في غاية التَّذلل لهم، هي حولهم، تذهب تسرح، ثم تروح عليهم سارحتُهم في آخر النهار، فهذا كلّه من تذليل الله -تبارك وتعالى- لهذه المركوبات والدَّواب.

سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ما كنا مُطيقين لذلك، فهو اعترافٌ بالعجز،وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ راجعون، واللَّام هذه للتَّأكيد، فهذا المركب الذي استوى عليه هذا الإنسان سيزول عن قريبٍ، فيُذكِّره بالعودة إلى الله -تبارك وتعالى-، وهذا الانتقال والسَّفر يُذكِّره بالسَّفر البعيد الطَّويل إلى الله والدار الآخرة.

هكذا يتذكّر المؤمنُ دائمًا بهذه المزاولات من الأسفار والتَّنقلات سفرَه إلى ربِّه وخالقه ، فمثل هذا أين يكون من جهة اليقظة والغفلة؟

لا يمكن أن تتطرق إلى قلبه غفلةٌ، فكل شيءٍ يُذكّرهبسفره إلى الله، وكل شيءٍ يُذكّره بتوحيده، ويُذكّره بإنعامه وفضله ومِنَّته عليه، ولا يكون كحال ذلك الغافل الذي يذهب ويجيء، ولا يدري كيف يذهب؟! وكيف يجيء؟! وإنما هو أكلٌ وشربٌ وانتقالٌ، كالبهيم الذي لا يعرف ربَّه، بل البهيم يعرف ربَّه، فهو خيرٌ منه: يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ[محمد:12]، هذا حال الكفَّار الذين لا يعرفون الله -تبارك وتعالى-.

ثم هذا السَّفر أيضًا محفوفٌ بالأخطار، حتى في الدَّواب القديمة، لو تقرؤون فيتراجم العُلماء، وما يُذكر في أخبارهم، تجد أنَّ هذا وقصته راحلتُه، وهذا نفرت الراحلةُ فسقط، فدُقَّت عنقُه، وهذا صدمته دابَّةٌ فمات، كلّ هذا تجدونه في كتب التراجم، فكانت تلك محفوفةً بالأخطار.

وكما في حديث أنسٍ المشار إليه هنا: لما قفل النبيُّ ﷺ من خيبر ومعه أمّ المؤمنين ابنة حُيي بن أخطب، وكان قد ردفها ﷺ خلفه على الراحلة، فعثرت ناقتُه ﷺ، فوقع رسولُ الله ﷺ، ووقعت معه أمُّ المؤمنين، وهذا في ضمن هذا الخبر، ولكني طويتُ ذلك اختصارًا.

فالمقصود أنَّ تلك الأسفار محفوفة بالأخطار، وهكذا اليوم مع ماتيسّر من هذه الوسائل، إلا أنَّ ذلك يكون محفوفًا بالأخطار -كما لا يخفى- بأنواع هذه المراكب.

فلمَّا كان الأمرُ كذلك، فالإنسان يقول: "وإنا إلى ربنا لمنقلبون"، فهو مُستعدٌّ للقاء الله ، ولا يدري ماذا يُوافي في مثل هذا السَّفر؟ وما الذي يلقاه؟ وهل يرجع، أو لا يرجع؟

اللهمَّ إنا نسألك في سفرنا هذا البرَّ والتَّقوى، ومن العمل ما ترضى، ولاحظ مُلازمة الطَّاعة، ومثل هذا التَّذكر في حال السَّفر، ومثل هذه اليقظة.

نسألك في سفرنا هذا البرَّ والتَّقوى، البرّ: أعمال البرّ، وهي تشمل جميع الطَّاعات، وكل محابّ الرب -تبارك وتعالى- هي من جملة البرّ،نسألك في سفرنا هذا البرَّ والتَّقوى، وذلك أيضًا من الأوصاف الجامعة، بحيث يكون بينه وبين عذاب الله وقاية بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى.

والسَّفر مظنّة للتَّخفف من حدود الله وفرائضه، وهو مظنّة لمواقعة ما لا يليق، وما لا يحلّ؛ لأنَّ الإنسان إذا اغترب في ناحيةٍ، أو بلدٍ، أو نحو ذلك، فربما يتخفف من كثيرٍ من المروءات، ويغفل عن كثيرٍ من الطَّاعات، لاسيّما مع المشقّة، والعامَّة لهم في هذا أمثال وأقوال معروفة: أنَّ البلد التي لا تعرف أهلها كذا، وعبارات غير صحيحةٍ، وغير لائقةٍ، ولكن –للأسف- يتداولها العامَّة، يقصدون بذلك التَّخفف من المروءات، وعدم الاحتراز، وحمل النَّفس على ما يليق وينبغي.

فهنا: نسألك في سفرنا هذا البرّ والتَّقوى، ومن العمل ما ترضى تصور هذا الإنسان الذي يذهب لمعصية الله ، وهو راكبٌ في الطَّائرة، أو في السيارة، وأصوات المعازف تتعالى، وربما يضع في أُذنيه السَّماعات التي يسمع فيها ما حرَّم الله -تبارك وتعالى-، وتراه في هيئةٍ بشعةٍ لا تدلّ على تقوى، ولا على صلاحٍ، وفي حالٍ من الفَرَهِ والفرح والبطر والأشر! ويقول: اللهمَّ إنا نسألك في سفرنا هذا البرَّ والتَّقوى، وهو ذاهبٌ إلى معصيةٍ، فأيّ برٍّ؟! وأي تقوًى مع هذه الحال؟!

فهذا كالمستهزئ بربِّه -تبارك وتعالى-، المستخفّ الكاذب فيما يُعلنه، وما يقوله، فهو يلوك بلسانه مثل هذه العبارات، وواقعه أبعد ما يكون عنها:نسألك البرَّ والتقوى وهو على معصيةٍ؟! وهو ذاهبٌ إلى معصيةٍ؟! يذهب إلى ما حرَّم الله -تبارك وتعالى-، أو يذهب يتجول في بلادٍ تظهر فيها أنواع المنكرات، وهو يقصد تلك المحال والنَّواحي للتَّرفيه والنُّزهة بزعمه، مهما سمَّى تلك سياحة، يرى فيها من المنكرات ما لا قبلَ له به، ولا يستطيع أن يتكلم بربع كلمةٍ في إنكاره، ويتجول مع أهله، ويتسحبون في تلك الأماكن، ثم يقول:نسألك في سفرنا هذا البرَّ والتقوى! أيّ برٍّ وتقوى؟!

المنكر تجب مُفارقته، والبُعد والنَّأي عنه، وهذا يقصده ربما بآلاف الأميال، ويُخطط له، ويبذل الأموال، ويُسافر بمَن جعلهم الله تحت يده، وسيُسأل عنهم.

فهنا أعمال البرِّ المتعلّقة بحقوق الله، وحقوق المخلوقين، والتَّقوى: اتِّقاء المساخط، وفعل الطَّاعات الظَّاهرة والباطنة.

ويسأله أيضًا من العمل ما يرضى، فالعمل الذي يرضاه الله -تبارك وتعالى- ما يكون فيه العبدُ مُخلصًا لله ، ومُتابِعًا للنبي ﷺ، ومُوافقًا للمشروع، يقول: يا ربّ، نسألك في هذا السَّفر البرَّ والتَّقوى، ومن العمل ما ترضى، إذًا هذا سفرٌ عامرٌ بالطاعة والعبادة.

هكذا ينبغي أن يكون سفرُ المؤمن، ولا يكون سفرًا لا يجني منه إلا التَّضييع والتَّفريط والغفلة، والتَّخفف من حقوق الله -تبارك وتعالى-، فهذا هو السَّفر الرابح، المبارك،النَّافع.

ثم يدعو ربَّه أيضًا: اللهمَّ هوِّن علينا سفرنا هذا، واطوِ عنا بُعْدَه، لما كان السفرُ قطعةً من العذاب، وهو مظنّة للمشقّة مهما تذللت الأسباب، وتيسرت السُّبل والوسائل، فإنَّ السفر لا يخلو من هذا، فهو يدعو ربَّه أن يسهل عليه هذا السَّفر؛ لأنَّه لا سهلَ إلا ما جعله اللهُ سهلًا، وقد يذهب الإنسانُ إلى مكانٍ قريبٍ، ويلقى فيه من المشاقِّ ما الله به عليم، فإذا كان اللهُ في عون الفتى؛ فإنَّ البعيدَ يكون قريبًا، والصَّعبَ يكون سهلًا يسيرًا، فهو يدعو ربَّه أن يُيَسّر له هذا السَّفر، وأن يطوي عنه بُعْدَه.

وأحيانًا الإنسان يُسافر مسافةً بعيدةً، ولا يشعر بها، وأحيانًا يُسافر مسافةً قريبةً، ويتطاول عليه هذا السَّفر جدًّا، ويحصل له فيه من الملل والسَّآمة والمشقّة ما الله به عليم، فكلّ ذلك بيد الله -تبارك وتعالى-.

اللهمَّ أنت الصَّاحب في السَّفر الله -تبارك وتعالى- هو الذي يتولّى عبدَه في سفره، وحضره، وإقامته بالرعاية والحفظ والكلاءة، فمعيَّته -تبارك وتعالى- تكون مع أهل الطَّاعة،وأهل الإيمان،فهؤلاء الذين يدعون: نسألك في سفرنا هذا البرَّ والتَّقوى، ومن العمل ما ترضى، هم الذين تكون معهم معيَّة الله -تبارك وتعالى-، المعيّة الخاصَّة، فيحصل له بذلك السَّلامة والرزق والإعانة والتَّوفيق، وما إلى ذلك، ويخلفه في أهله: بأن يرزقهم، وأن يُعافيهم، وأن يحفظهم، فكلّ ذلك إنما هو بيد الله -تبارك وتعالى-.

أنت الصَّاحب في السَّفر أنت معنا يا ربّ، وأنت الذي تحفظنا وتكلأنا، والخليفة في الأهل، الخليفة: مَن يقوم مقام غيره في إصلاح أمره، فالله -تبارك وتعالى- عليه المعول والرَّجاء والمعتمد في حفظ هؤلاء الذين نتركهم حينما ننتقل ونُسافر، وحفظ هؤلاء الزّوجات والبنات والأبناء، فهؤلاء قد يحصل لهم من العوارض، وقد يحصل لهم من الصَّوارف، وتجتالهم شياطين الإنس والجنّ، وقد يحصل لهم من العلل والأوصاب والأمراض.

والإنسان قد يُسافر سفرًا طويلًا، وقد يذهب للعمل سنوات، ووراءه زوجة وأولاد مُراهقين، وشباب وفتيات، فمَن لهؤلاء؟ وهم يختلطون في كل يومٍ، ويذهبون إلى أعمالهم، وإلى مدارسهم، وربما يُخالطون مَن لا يصلح مُخالطته، وربما يعرض لهم مَن يعرض من شياطين الإنس والجنّ.

يقول:والخليفة في الأهل احفظهم واكلأهم، فنحن عليك نُعوّل، وعليك نتَّكِل، فأنت المعين، وأنت الحافظ في حال حضورنا، وفي حال غيبتنا عن أهلنا، أنت تلمّ شعثَهم، وتُداوي سقيمَهم، وتحفظ عليهم أمانتهم ودينَهم.

اللهمَّ إنا نعوذ بك من وعثاء السَّفر الوعثاء يعني: المشقّة والشّدة.

وكآبة المنظر تغير النفس من الحزن ونحوه، فيرى أشياء تُسبب له الكآبة، ويرى ما يكرهه، ويُورثه الحزن، ونحو ذلك، فيتعوّذ بالله من ذلك، فلا يرى إلا ما يسرّه في هذا السَّفر، فإذا رأى الإنسانُ أمورًا يكرهها ربما يتحوّل هذا السفر إلى شيءٍ من الهمِّ والغمِّ والحزن والكآبة، وإذا حصلت هذه في حال السَّفر ازدادت المعاناة، وربما يكون ذلك من الرَّفيق، وربما لقيت المرأةُ شيئًا من ذلك بسبب زوجها الذي يُعنِّفها في السَّفر، وربما العكس فيكون ذلك من بعض رُفقائه؛ تتغير أخلاقُه في السفر، فيرى منه عنتًا، فينتظر متى يرجع من أجل أن يتخلّص من هذه الرُّفقة، ومن هذا الهمِّ، وربما يكون ذلك بمشاهد وحوادث مكروهة، ونحو ذلك، نسأل الله العافية للجميع.

وسُوء المنقلب يعني: الانقلاب من السَّفر، والعودة إلى البلد، فيستعيذ من أن يكون حالُه عند عودته حالًا لا تسرّ، فيرى في أهله ما لا يسرّه مثلًا: يرى انحرافًا في هؤلاء الأولاد، وتغيرًا في الزوجة، ويرى بُعْدًا عن الله ، وتضييعًا لحقوقه، ويرى انغماسًا في اللَّذات والشَّهوات المحرمة، وربما يرى ما يكرهه في أهله من وفاةٍ، أو مرضٍ، وربما يرى ما يكرهه في تجارته وماله، أو نحو ذلك، فتكون قد هلكت وخسرت وذهبت، ويرى أشياء من خدمه، وممن يعملون تحت يده في مؤسسته، أو غير ذلك: أنَّ هؤلاء قد جرى منهم ما لا يسرّ في غيبته.

كلّ هذه الأمور من سُوء المنقلب، فيستعيذ الإنسانُ من ذلك.

في المال والأهل أهل البيت من: الزوجة، والخدم، والحشم، ونحو ذلك، فهو استعاذ من أن ينقلب إلى بلده فيلقى ما يكتئب به، ويضيق به صدره: من سُوءٍ أصابه في أهله وولده، أو ماله، أو نحو ذلك، وأعظم ذلك إذا وجدهم على حالٍ من الانحراف، فيرى ذلك في وجوههم: وجوه بائسة ومُظلمة، وآثار المعصية ظاهرة عليها، غير الحال التي تركهم عليها، والإنسان يُدرك هذا لأول وهلةٍ، فأول ما تقع عينُه على الولد أو على البنت يرى ذلك في وجهه: من إشراق الطَّاعة، أو ظُلمة المعصية، مباشرةً تعرف أنَّ هذا الولد ازداد طاعةً، أو أنَّه يُقارف ما لايليق.

"فإذا رجع قالهنَّ" قال هذه الكلمات، وزاد:آيبون يعني: راجعون، ولاحظ هنا ذكر التَّوبة، فالرجوع يُذكّره بالرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-:تائبون من المعصيةإلى الطَّاعة، نحن آيبون، تائبون، يُخبر ويُحدّث عن نفسه؛ فيعزم على التوبة، ويُجددها.

فهكذا المؤمنُ في سفره وفي رجوعه في حالٍ من مُلازمة الطَّاعة، والثَّبات عليها، وتجديد التَّوبة.

لربنا حامدون، فقوله: لربنا يجوز أن يتعلق بقوله: عابدونأي: عابدون لربنا، ويحتمل أن يكون لربنا حامدون؛ لتخصيص الحمد بذلك، وكما في الرِّواية الأخرى: لربنا ساجدون[10]، وهذا هو الأقرب: أن يكون قُدِّم الجار والمجرور لإفادة الحصر، أو التَّخصيص: نحمد ربّنا، ولا نحمد غيرَه، فيكون ذلك كالخاتمة للدُّعاء.

فهنا يتذكّر العبدُ نعمةَ الله عليه، وما يسّر له، حيث قضى نهمتَه في هذا السَّفر، ووصل إلى بُغيته وغايته، ثم بعد ذلك هو يهمّ بالرجوع، وإذا رأى البلدَ التي يقصدها -يعني: بلده- فإنَّه يُردد ذلك حتى يصل إلى منزله: آيبون، عابدون لربنا حامدون، وبهذا يكون العبدُ في حالٍ من الذِّكرى واليقظة، لا تُفارقه أبدًا، يتذكّر بهذا السَّفر رجوعه إلى الله -تبارك وتعالى-.

هذا الحديث مشتملٌ على كثيرٍ من الفوائد من مصالح الدِّين، ومصالح الدُّنيا، وكذلك اشتملت هذه الدَّعوات على حصول المحابِّ، ودفع المكاره والمضارِّ، وشُكر النِّعَم، والتَّذكُّر لآلاء الله -تبارك وتعالى-، واشتمال السَّفر على الطَّاعة، وما يُقرِّب من المولى -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-، مع الاعتراف بنِعَم الله على العبد.

هكذا ينبغي أن نكون، ولكننا ننسى كثيرًا، وننسى حينما نخرج من المسجد ونهمّ بركوب السيارة دعاءَ الركوب، وهذا الكلام الذي سمعناه لم يطل العهدُ به، فكيف إذاطال العهدُ؟فالناس تحتاج إلى تذكّرٍ دائمٍ.

وبهذا نعلم أنَّ هذه الزيادة: آيبون، تائبون، عابدون يقولها مع دُعاء السفر إذا أراد الرجوع من البداية، ثم يُردد هذه الجملة حتى يصل إلى بلدته.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.

والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وآله، وصحبه.

 

 

  1. أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحجِّ وغيره، برقم (1342).
  2. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب التَّكبير إذا علا شرفًا، برقم (2995)، ومسلم: كتاب الحج، باب ما يقول إذا قفل من سفر الحجِّ وغيره، برقم (1344).
  3. أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب ما يقول إذا رجع من الغزو، برقم (3084).
  4. أخرجه البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، وهي الأحزاب، برقم (4116).
  5. أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسّير، باب ما يقول إذا رجع من الغزو، برقم (3085).
  6. أخرجه البخاري: كتاب اللباس، باب إرداف المرأة خلف الرجل، برقم (5968).
  7. "فتح الباري" لابن حجر (6/193).
  8. أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب ما يقول إذا رجع من الغزو، برقم (3086).
  9. أخرجه البخاري: كتاب اللباس، باب إرداف المرأة خلف الرجل، برقم (5968).
  10. أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسّير، باب ما يقول إذا رجع من الغزو، برقم (3084).

مواد ذات صلة