الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
هذا باب "دعاء دخول القرية أو البلدة".
لما ذكر دعاءَ الركوب، وقد يكون هذا الراكبُ مُسافِرًا؛ ذكر دُعاء السَّفر، وهذا المسافر من شأنه أن يأتي إلى بلادٍ يجتازها في طريقه، أو يقصدها في سفره، فذكر هذا الحديث، وهو حديث صُهيب -رضي الله تعالى عنه-: أنَّ النبي ﷺ لم يرَ قريةً يُريد دخولها إلا قال حين يراها: اللهم ربَّ السَّماوات السَّبع وما أظللن، وربّ الأرضين السَّبع وما أقللن، وربّ الشياطين ما أضللن، وربّ الرياح وما ذرين، فإنا نسألك خيرَ هذه القرية وخيرَ أهلها، ونعوذبك من شرِّها، وشرِّ أهلها، وشرِّ ما فيها.
هذا الحديث أخرجه النَّسائي في "السنن الكبرى"[1]، وابن حبان[2]، وابن خزيمة[3]، والحاكم[4].
وقال النَّسائي: فيه عبد الرحمن ابن أبي الزناد، ضعيفٌ[5].
وكذلك أيضًا قال أبو نُعيم: ثابت من حديث موسى بن عُقبةتفرد به عن عطاء[6].
وقال البيهقي: رُوِيَ من وجهٍ ضعيفٍ[7].
وقال الذَّهبي: له عِلّة.
وقال ابنُ كثيرٍ: غريبٌ جدًّا من هذا الوجه[8].
وحسَّنه الحافظُ ابن حجر[9]،وقال الهيثمي: فيه راوٍ لم يُسمّ، وبقية رجاله ثقات[10].
والشيخ ناصر الدين الألباني حسَّن هذا الحديثفي بعض المواضع، وفي بعضها قال: حسنٌ لغيره. وفي موضعٍ قال: صحيحٌ[11].
وقد حسَّنه أيضًا سماحةُ الشيخ عبدالعزيز بن باز[12]-رحم الله الجميع-.
ويوجد في بعض النُّسخ: أنَّ الحديثَ أخرجه مسلمٌ في "صحيحه"، وهذا خطأٌ، هذا غير صحيحٍ، فالحديث ليس في "الصحيحين"، ولا في أحدهما، وأيضًا ليس في السُّنن، وإنما أخرجه النَّسائي في "السنن الكبرى"، وليست -كما هو معلومٌ- من الكتب السّتة.
فقوله في هذا الحديث: بأنَّ النبي ﷺ لم يرَ قريةً يُريد دخولها إلا قال حين يراها، هذا يعني: أنَّه إذا رأى قريةً لا يُريد دخولها، ولا يمرّ بها، فإنَّه لا يقول ذلك.
فالإنسان في طريقه ربما يرى يمنةً أو يسرةً بعضَ القُرى، فإنَّه لا يقول ذلك، ولكنَّه إذا قصد هذه القرية بالدُّخول؛ ليمكث فيها، أو لحاجةٍ، أو لأنَّ الطريقَ يجتاز منها، فإنَّه يقول ذلك، فهذه ثلاث صورٍ: أن تكون هذه القريةُ مقصودةً، يعني: هو يذهب إليها، أو تكون له حاجة فيها، أو أنه يجتاز بها؛ لأنَّ الطريقَ يقطعها، فيقول ذلك.
والقرية ليس المقصودُ بها -كما هو العُرف الذَّائع الشَّائع في هذا العصر-: أنها مجمع البُنيان الصَّغير، وإنما تُقال لمجمع البُنيان والسُّكان، سواء كان صغيرًا أم كبيرًا، هذا في لغة القرآن، وفي لغة العرب، وفي كلام النبي ﷺ، وفي لغة الشَّارع عمومًا.
وألفاظ الشَّارع إن لم يكن للشَّارع فيها معنًى خاصٌّ كما هنا؛ فإنها تُحْمَل على عُرف المخاطبين، فإن لم يكن لهم عرفٌ خاصٌّ في ذلك الوقت؛ فإنها تُحمَل على ما تدلّ عليه لغة العرب، فلا يُوجد في لغة العرب تخصيصُ القرية بمجمع البُنيان الصَّغير، كما نُسميه الآن، ونقول: المدينة هي مجمع البُنيان الواسع الكبير،فهذا اصطلاحٌ حادثٌ، ولا تُفسّر به النّصوص، وهكذا في كتاب الله -تبارك وتعالى- حينما نجد لفظ القرية.
قوله في هذا الحديث: اللهم ربَّ السَّماوات السَّبع، الله -تبارك وتعالى- خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا[الملك:3]، فهذه السَّماوات فيها ملائكة، وفيها خلق، وبين كل سماءٍ وسماءٍ مسافة،كما هو معلومٌ، وليست مُتلاصقةً، وخلق من الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ[الطلاق:12]، لكن لم يوجد في كتابالله -تبارك وتعالى-، ولا في سنة رسول الله ﷺ شيءٌ ثابتٌ يدلّ على تفاصيل في الأرضين السَّبع، هل هي مُتلاصقة، أو مُنفصلة؟وهل يوجد فيها مخلوقات، أو لا يوجد فيها مخلوقات؟ هذا في علم الغيب، لا نخوض فيه، لكن السَّماوات لا شكَّ أنها مُنفصلة، كل سماءٍ فوق التي تحتها، إلى السَّماء السَّابعة، وفوق ذلك عرشُ الرحمن -تبارك وتعالى-.
والنبي ﷺ عُرج به إلى السَّماوات حتى وصل إلى السَّماء السَّابعة، وسدرة المنتهى، أمَّا الأرض فنحن نعلم أنها سبع أرضين: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يعني: سبعًا، والنبي ﷺ ذكر: مَن ظلم قيد شبرٍ من الأرض طوّقه من سبع أرضين[13]، يعني: هذا الشّبر يكون طوقًا في عنقه إلى الأرض السَّابعة.
وهكذا ما جاء في أحاديث أخرى فيما يتَّصل بالخسف ونحو ذلك، لكن لا توجد تفاصيل أكثر من ذلك، لا في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله ﷺ، والمرويات التي وردت في تفاصيل الأرضين لا يصحّ منها شيءٌ، يعني: في أنَّ هذه الأرضين فيها مخلوقات، وفيها من الآدميين، وكلّ ذلك لا يصحّ، ولا يثبت فيه شيءٌ، وهل تُرى إن وجدت فيها مخلوقات؟ وهل يرون السَّماء، أو لا يرون السَّماء؟ كلّ ذلك في علم الغيب، وما ورد فيه لا يصحّ.
أمَّا ما يذكره أهلُ علم الأرض -ما يُسمّى بالجيولوجيا- فيقولون: إنَّ الأرضين السَّبع هي الطَّبقات: القشرة، ثم بعد ذلك الطَّبقة المنصهرة، ثم، ثم، إلى النَّواة التي هي من الحديد الصَّلب، فليس هذا بتفسير للأرضين السَّبع إطلاقًا، وهم حينما يقولون ذلك إنما يذكرونه على سبيل الفرق، وإلا فهم لا يتيقّنون ذلك، وليست بحقيقةٍ علميَّةٍ ثابتةٍ.
وقد ناقشتُ بعضَهم، ووصلتُ معه إلى الإقرار بأنَّ هذا الكلام الذي يقولونه إنما هو مجرد فرضيّات، ولا يستطيعون إثباته بحالٍ من الأحوال، ولا يستطيعون الإثبات العلمي بمثل هذا، فلا يُفسّر بذلك الأرضين السَّبع كما يظنّه بعضُ الناس.
وقوله: وما أظللن من الإظلال، والمراد أنَّ هذه السَّماوات: كلّ سماءٍ فهي تكون مُكتنفةً لما تحتها، فتكون فوقها كالظُّلة، فهي سقفٌ لما فوقها، وهذه السَّماء الدنيا هي سقفٌ لما تحتها، وكل سماءٍ هي سقفٌ لما تحتها، وهذه السَّماء الدنيا سقفٌ لمن تحتها، فمَن على وجه الأرض يرون هذه السَّماء سقفًا، كما قال الله : وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا[الأنبياء:32]، وقال: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ[الصافات:6-7]، فهذه ما الذي يخرج عنها مما يتخوّفه الإنسان ويُحاذره على وجه الأرض من شياطين الجنّ والإنس، وسباع الوحش، وما يتخوّفه الإنسانُ من الشُّرور والآفات والأمراض والعِلل والفيروسات، وما إلى ذلك مما يعتري الناسَ في أسفارهم فيمرضون، ويتغير عليهم الهواء، ويتغير عليهم الطَّعام؟
حتى إنَّه ورد في بعض الإحصاءات: أنَّ المسافرين ربما تصل نسبةُ الإصابة فيهم بأمراض مختلفة إلى70%؛ إمَّا بسبب تغير الطَّعام -وهو الغالب-، أو يكون ذلك بسبب تغير الهواء؛ فيستوخم تلك النَّاحية، ولا تُلائمه، كما هو معلومٌ، فيحتاج العبدُ إلى التجاءٍ إلى الله -تبارك وتعالى-، واستعاذةٍبه أن يحفظه، وأن يُسلِّمه؛ لأنَّه يرد على أماكن لا عهدَ له بها، ولا يعرفها، ولا يعرف أهلَها.
ومَن يغترب يظنّ أنَّ عدوًّا صديقَه، ويُحسِن الظنَّ بمَن لا يستحقّ إحسان الظنِّ، وربما يدخل مداخل لا يصحّ له أن يدخلها، لكنَّه لا يعلم، وربما حصل له شيءٌ مما يكرهه، فيحتاج إلى أن يستعيذ بالله -تبارك وتعالى-، بربِّ هذه السَّماوات السَّبع وما أظللن، فهي تُحيط بكل شيءٍ تحتها، ولا يخرج عن ذلك شيء.
وربّ الأرضين السَّبع وما أقللن يعني: ما حملته على ظهرها من الناس والدَّوابِّ والأشجار والهوامِّ وأنواع الآفات، وما يمكن أن يعرض للإنسان على هذه الأرض، أو على الأرضين السَّبع، هل يخرج شيءٌ من ذلك؟ الجواب: لا.
ولاحظ هذا التَّفصيل في هذا الحديث: وربّ الشياطين وما أضللن من الإضلال، وهو الإغواء والصَّد عن سبيل الله -تبارك وتعالى-، وكبيرهم إبليس يقول: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ[النساء:119].
فالمؤمن التَّقي لا يتخوّفه الإنسان؛ لأنَّ تقواه وخوفه من الله -تبارك وتعالى- وإيمانه يحجزه عن ظلم الناس، والإساءة إليهم، فهو إن لم يُحسِن، فإنَّه لا يظلم، ولكن ليس كل الناس كذلك، فمن الناس مَن سجيَّته الظُّلم والعُدوان على الناس، وربما بعضهم يستهويه الغريب، فيقصده بالأذى والعدوان، أو الابتزاز، أو غير ذلك مما لا يخفى، فكلّ ذلك يُستعاذ منه، فيشمل: شياطين الإنس، وشياطين الجنّ، وليس ذلك فحسب، بل وربّ الرِّياح وما ذرين، والرِّياح هذه يحصل بسببها -كما هو معلومٌ- من البرد الشَّديد، والحاصب، وهو ما تحمله من أتربةٍ وحصباء، ويحصل بسببها أيضًا من السَّموم الشَّديد، ويحصل بسببها أيضًا من الآفات الأنواع الكثيرة، فالأمراض تنتقل -كما هو معلومٌ- عن طريق الرياح غالبًا، فأحيانًا تكثر الأمراضُ في الناس، وتذهب إلى الأطباء فيقولون: توجد فيروسات في هذه الأيام كثيرة في الهواء، فإذا جاء الإنسانُ واجتاز هذه النَّاحية الموبوءة وقع له البلاء بإذن الله وتقديره.
فهذه الرياح تُساق للعذاب، وقد تُساق للرحمة كما هو معلومٌ، وقد تكون هلاكًا، والنبي ﷺ في بعض أسفاره لما هبَّت ريحٌ شديدةٌ نهى أصحابَهأن يقوم أحدٌ، أو أن يتحرك أحدٌ، ولكنَّ أحدهم قام، فحملته الريحُ، وما وُجِدَ إلا عند جبل طيئ[14].
فكم من بيوتٍ وقُرى خربت بسبب الرِّياح؟! وكم من طوفانٍ مُدمرٍ كان بسبب الرياح؟! وكم اقتلعت من الأشجار والزروع؟! وكم هلك من الدَّواب بسبب الرياح الحارّة أو الباردة، كما هو معلومٌ؟!
فهذا المسافر يكون في غاية التَّرقب لأنواع المخاوف، فإذا هبَّت الرياحُ بدأ يتوجّس: ما الذي يمكن أن يعرض له في مكانٍ هو غريبٌ فيه، ولا يعرف أحدًا؟ وهكذا إذا رأى العوارضَ الأخرى من سحابٍ وغيره؛ وذلك مما تُثيره الرياحُ، فهنا يحتاج العبدُ إلى استعاذةٍ بالله -تبارك وتعالى- والتجاءٍ.
وما ذرين يعني: ما أطارته في الهواء، وكما قال اللهُ -تبارك وتعالى-: فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ[الكهف:45]، يعني: تُطيره، تُفرّقه، وما إلى ذلك.
ثم يسأل ربَّه -تبارك وتعالى- بعد هذا التَّوسل إليه بذكر هذه المحامد والأوصاف الكاملة، فيقول: فإنا نسألك خيرَ هذه القرية، وخيرَ أهلها، وليس المقصودُ أنَّ السؤالَ يتعلق بالقرية بعينها، وإنما المقصود ما يُلابسها، ويُخالطها، ويحتفّ بها من الخير، والاستعاذة مما يُلابسها ويحتفّ بها من الشَّر، يعني:هو يسأل السَّلامة، وزيادة على ذلك الخير الذي يكون في هذه القرية، وأن يكون دخولُه هذه القرية خيرًا وعافيةً من كل شرٍّ، ومن كل آفةٍ، وأن يكون سببًا لنيل البركات، وتحصيل المطالب الدِّينية والدُّنيوية، يعني: يحصل له خيرٌ في دينه، وفي دُنياه، فيكون في حال بقائه في هذه القرية -قلَّت مُدَّته أو كثرت- مُحصِّلًا للخير، سالـمًا من الشَّر والآفات من هذه القرية، ويسأل من خير أهلها، وما عندهم من الخير، وما عندهم من التَّقوى، وما عندهم من العلم النَّافع، وما إلى ذلك من الأخلاق الكريمة الفاضلة.
فالإنسان قد يُصادف في سفره هنا وهناك -حينما يجتاز ببلدٍ أو نحو ذلك- مَن ينتفع منه بكلمةٍ تُغير مجرى حياته، قد يرى في أخلاق الناس ما يُغير حياته جميعًا، وقد يرى من الإيثار، أو من الكرم.
وكم من أناسٍ -ونعرف من هذا أشياء كثيرة جدًّا، وأنتم تعرفون الكثير- يجتازون ببلدٍ، أو بقريةٍ، ولا يعرفون أهلها، ولا يعرفهم أحدٌ، ويحصل لهم أحيانًا: إمَّا تعطّل مركبةٍ، أو غير ذلك، فيأتيهم من كرام أهل تلك البلد مَن لا يعرفونه، ويأتيهم بسيارةٍ من أفضل المراكب، وهو لا يعرفهم، يأتيهم ويقول لكبيرهم: احمل أهلك، واحمل مَن معك، وهذا مفتاح السَّيارة، ومتى ما استغنيتُم عنها فهذا رقمي، طالت المدّة أو قصرت. هذا موجودٌ.
ومنهم مَن ربما يأتي بكلِّ ما يحتاجون إليه، وكأنَّه يعرفهم من عشر سنين، ويذهب بهم إلى مكانٍ يكون فيه سُكناهم، ويجدون فيه راحتهم، وكأنَّهم بين أهلهم، وهم لا يعرفونه.
فقد يُوفَّق الإنسانُ بأخيار وصُلحاء ينتفع منهم، بل بعض العلماء كان يجتاز في بعض النَّواحي، حينما كان الناسُ يُسافرون بوسائل بسيطةٍ ونحو ذلك، فيُقيم في تلك البلد؛ لما رأى من أهلها من الخير والفضل والدِّين والصَّلاح، والحرص على العلم، فيمكث ويستقرّ عندهم، وهو لا يعرفهم، ولم يدخل هذه البلدة قبل ذلك.
ومن الناس مَن يُصادف أشرارًا، واقرؤوا في رحلة الشيخ محمد الأمين الشَّنقيطي -رحمه الله- إلى حجِّ بيت الله الحرام، فهي من أنفع الكتب، ومن أنفع الرّحلات، وفيها من العلم كنوز، وذكر فيها أشياء من هذا القبيل، حينما جاءوا إلى الحجِّ من بلاد شنقيط، واجتازوا ببعض النواحي، وهم جاءوا على الجمال، فكانوا يسألون: هل يوجد أحدٌ من العرب؟ فأدخلهم رجلٌ في بعض تلك البلاد في مكانٍ لا يصلح إلا للحيوانات -أعزكم الله-، في ليلةٍ ظلماء، وأغلق عليهم البابَ، وهم في غاية الحاجة، والجوع، والشّدة، ولم يأتهم بطعامٍ، ولا شرابٍ، وظنّوا أنَّ هذا محلّ الإكرام، ولم يفتح عليهم حتى ارتفع النَّهار، كأنَّ هؤلاء من المجرمين، ومن قُطَّاع الطرق! فحبسهم في هذا المكان ليتوقّى شرّهم، ومعهم هذا الإمام، العالم، الجبل، لكن حينما اجتاز ببلدٍ آخر، مثل: السودان، ذكر ما وقع له هناك، وما حصل له من الإكرام،وما أغروه به من أجل الإقامة، وعزم على ذلك: أن يذهب إلى الحجِّ، ثم يرجع ويُقيم إقامةً دائمةً عندهم، ثم قيَّض الله له حينما جاء إلى الحجِّ، وجلس بجوار خيمةٍ لأحد الأُمراء في منى، فسمع الأمير مع جُلسائه يُرددون بعض الأبيات، فكان هذا البحرُ جالسًا في الشَّمس خارج الخيمة، لا يعرفهم، ولا يعرفونه، فكانوا يتوقَّفون في بعض الأبيات، وفي بعض القائلين، فكان يأتيهم يغرف لهم من بحرٍ، فتعجَّبوا، وذُهلوا من هذا الجالس خارج الخيمة، ويحمل هذا العلم الغزير.
والعلماء الذين لقوه في السُّودان كانوا يسألونه عن بيتٍ، أو جزءٍ من بيتٍ، أو كلمةٍ، فيأتي لهم بالقصيدة، ويذكر المناسبة، ويشرح لهم البيت، شيءٌ هائلٌ من العلم.
فالشَّاهد: أنهم لما رأوه أدخلوه في الخيمة، وأكرموه، ثم بعد ذلك أوصوا به خيرًا، وقالوا: إلى أين تُريد؟ قال: إلى المدينة، فأوصوا به هناك بعض أهل العلم، فلمَّا لقوه جلسوا معه، وعرفوا فضلَه وعلمَه، ورغبوا في بقائه، حتى بقي واستقرَّ، ونفع اللهُ بعلمه، فكانت له دروسٌ في المسجد النبوي في كل يومٍ، يُفسّر كتابَ الله .
ومَن أراد أن يعرف العلمَ الحقيقيَّ فليسمع خمس دقائق فقط من مقطع صوتي له -رحمه الله- في دروسه في التفسير، يعرف أين العلم؟ وهي موجودة في مواقع الإنترنت: في طريق الإسلام، وغيره.
وهذا -لاحظ- مرَّ ببلدٍ، فكان فيها استقراره وبقاؤه إلى أن تُوفي بمكّة -رحمه الله- سنة 1393، وكان قد قدم للحجِّ سنة 1360 هجري، فبقي هذه المدّة -رحمه الله- ثلاثة وثلاثين سنةً.
وخير ما فيها من الناس، والمساكن، والنَّواحي، والمرافق، والأسواق، وغير ذلك، فهو يسأل خيرَها بمساكنها، وأهلها، ومرافقها، ونواحيها، فهذا من الأدعية الجامعة التي يحتاج العبدُ إلى حفظه، وإلى تذكّره دائمًا.
فنسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وآله، وصحبه.
- أخرجه النَّسائي في "السنن الكبرى": كتاب السير، باب الدعاء عند رؤية القرية التي يُريد دخولها، برقم (8776).
- أخرجه ابن حبان: باب المسافر، ذكر ما يقول المسافرُ إذا رأى قريةً يُريد دخولها، برقم (2709)، وصححه الألباني.
- أخرجه ابنُ خزيمة، برقم (2565).
- أخرجه الحاكم في "المستدرك على الصحيحين"، برقم (2488).
- "السنن الكبرى" للنَّسائي-دار الكتب العلمية (6/140).
- "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" (6/46).
- "السنن الكبرى" للبيهقي (5/414)،برقم (10320).
- "البداية والنهاية" ط. إحياء التراث (4/209).
- كما ذكره ابن علان في "الفتوحات الربانية" (5/145).
- "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (10/135).
- "تخريج الكلم الطيب" (ص147)، برقم (179).
- "مجموع الفتاوى" (26/46).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب المظالم والغصب، باب إثم مَن ظلم شيئًا من الأرض، برقم (2453)، ومسلم: كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، برقم (1612).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الزكاة، باب خرص الثمر، برقم (1481)، ومسلم: كتاب الحج، باب أُحد جبل يُحبنا ونُحبّه، برقم (1392)،وكتاب الفضائل، بابٌ في معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم-، بنفس الرقم.