الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد:فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
هذا باب "دُعاء المسافر للمُقيم"، أورد فيه حديث أبي هريرة قال: ودَّعني رسولُ الله ﷺ فقال: أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.
فهذا الحديث أخرجه الإمامُ أحمد[1]، وابنُ ماجه[2]، والنَّسائي في"السنن الكبرى"[3].
وفيه رشدين بن سعد، وقد قال عنه ابنُ عدي: "عامَّة أحاديثه عمَّن يرويه عنه ما أقلّ فيها ممن يُتابعه أحدٌ عليه، وهو مع ضعفه يُكتب حديثه"[4]، وقال ابنُ القيسراني في رشدين بن سعد: "ليس بشيءٍ في الحديث"[5].
وهذا الحديث قال عنه الشيخُ ناصر الدين الألباني في بعض كُتبه: ضعيفٌ. وقال في بعضها: حسنٌ.
يقول: "ودَّعني رسولُ الله ﷺ فقال: أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه"، أصل الوديعة هو الترك والتَّخلي عن الشَّيء: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3] ما تركك، فهنا حينما نستودع الله -تبارك وتعالى- شيئًا، بمعنى: أننا نترك ذلك بحفظ الله -تبارك وتعالى- ورعايته وحياطته.
أستودعك الله يعني: أجعلك وديعةً عنده، الذي لا تضيع ودائعه الذي إذا استُحفظ شيئًا لا يضيع، فهو -تبارك وتعالى- إذا استُودع شيئًا فإنَّه يحفظه.
فإذا ترك المرءُ شيئًا يتخوَّف عليه إذا غاب عنه: من مالٍ، أو دارٍ، أو أهلٍ وولدٍ، أو نحو ذلك، فإنَّه يجعل ذلك وديعةً عند الله -تبارك وتعالى-، كأنَّه يتخلّى ويتبرأ من حفظه -حفظ المخلوق- والأسباب التي يبذلها من أجل الحرز لهذا الذي يتخوّف عليه، ويكل ذلك إلى الله -جلَّ جلاله-، فالله خيرٌ حافظًا.
ولكن ليس معنى ذلك أن يترك الأسباب، بل عليه أن يعقلها ويتوكّل؛ أن يفعل الأسبابَ المطلوبة في حفظ ما يتخوّف عليه، ثم هو بعد ذلك يستودع ذلك ربَّه -تبارك وتعالى-، ويكل حفظَها إلى خالقه الذي يملك الحفظَ.
وهذا الحديث فيه استحباب توديع الأهل، والقرابات، ونحو ذلك ممن يتركهم المسافرُ خلفه.
الباب الذي بعده هو باب "دعاء المقيم للمُسافر"، وذكر فيه حديث ابن عمر-رضي الله تعالى عنهما- قال: كان رسولُ الله ﷺ إذا ودَّع رجلًا أخذ بيده، فلا يدعها حتى يكون الرجلُ هو يدع يدَ النبي ﷺ، ويقول: أستودع اللهَ دينك، وأمانتك، وآخر عملك.
هذا أخرجه الإمامُأحمد[6]، والترمذي، وقال الترمذي: حسنٌ، صحيحٌ، غريبٌ من هذا الوجه[7].
وحسَّنه الحافظُ ابن عساكر[8]، وقال العراقي: بإسنادٍ جيدٍ[9].
وضعَّفه الشيخُ ناصر الدين الألباني في موضعٍ، قال: "ضعيفٌ، وله شاهدٌ"، ولكنَّه صححه في مواضع أخرى[10].
قوله:"كان إذا ودَّع رجلًا أخذ بيده فلا ينزعها" يعني: كان من عادته ﷺ، كما عرفنا أنَّ هذا التركيبَ يدلّ على الاستمرار والدَّوام والاعتياد.
"كان إذا ودَّع رجلًا أخذ بيده" بيد المودَّع، فلا ينزعها، هذا من لُطفه ﷺ، وكمال خُلُقِه، ورحمته بأصحابه -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم-: ألا ينزع يدَه، ويبدأ ذلك، وإنما يترك يدَه بيد صاحبه، حتى يكون ذلك هو الذي يدعها.
"إذا ودَّع رجلًا" يعني: مُسافرًا، "أخذ بيده"، يعني: هذا من تواضعه -عليه الصَّلاة والسَّلام-، وحُسن خلقه، ويقول لهذا المودّع: أستودع اللهَ دينك يعني: أستحفظ ربي وأطلب منه حفظَ دينك. وهذا الدِّين يشمل كلّ ما يصدق عليه من الإيمان والاعتقاد، وما يتَّصل بذلك من الأعمال، فكلّ ذلك من الدِّين.
وذلك أنَّ السَّفر مظنّة للمشقّة، ويُلابس فيه الإنسانُ ما يُلابس، ويُلاقي ما يُلاقي، فقد تكون هذه المشقّات مع الغُربة، وربما الانفراد يكون سببًا للتَّخفف من كثيرٍ من التكاليف الشَّرعية، بل ربما أخَّر الصلاةَ عن وقتها، وربما كان في الطَّائرة، ويدخل في الوقت!
ولا أدري: هذه الجموع الغفيرة، يُؤذّن لصلاة الفجر، ثم بعد ذلك يأتي الإسفارُ، ثم بعد ذلك تطلع الشمسُ، ولا ترى إلا الواحد بعد الواحد يقوم فيُصلِّي، والبقية في غطيطٍ! يعني: ما تقول: إنَّهم صلّوا في مقاعدهم مثلًا! مع أنَّ الطائرة توجد فيها -في الغالب- في الأسفار الطَّويلة أماكن للصَّلاة، ويوجد فيها مُتَّسعٌ، وتجد هذه الجموع –مئات- في غطيطٍ، فهؤلاء لا يُصلون، أو أنهم يُؤخّرون الصلاةَ، لا يُصلونها إلا إذا وصلوا في الظّهر، أو العصر،أو نحو ذلك، وهذا لا يجوز بحالٍ من الأحوال.
فهذه هي البداية؛ تكون بتضييع الركن الثاني من أركان الإسلام، وهو الركن الأول بعد الشَّهادتين.
وقل مثل ذلك فيما يحصل من التَّخفف والتَّخلي عن التَّكاليف الشَّرعية، يُسافرون إلى بلادٍ تعمّ فيها المنكرات وتظهر من بلاد الكفَّار، أو ما يُشبهها ممالا تحكمه شرائعُ الإسلام، ثم بعد ذلك المرأة تُلقي حجابها، أو تُلقي بعضَه، وكأنَّ المعبود -تبارك وتعالى- الذي تعبده هنا لا يُعبد هناك، فتظهر في حالةٍ لا تسرّ، وربما معها هذا القيّم، أو الزوج، أو الأب، أو نحو ذلك، لا يُحرِّك ساكنًا، فتضع هذا الحجابَ في حقيبتها، ثم يكون آخر العهد به حتى تركب الطَّائرة، وتُوشك أن تهبط حينما تعود إلى بلدها.
أستودع اللهَ دينك فهذا الدِّين قد يُضيّع حينما يُسافر الإنسان حيث لا يراه الناس، وربما يدخل الإنسان بمداخل الرَّيب، وأماكن لا يصحّ له أن يغشاها.
وقل مثل ذلك فيما يكون منه من النَّظر والمشاهدات والمخالطات التي لا تحلّ، إلى أمورٍ كثيرةٍ لا تخفى، فيُقال له: أستودع اللهَ دينك؛ لأنَّه في موضع مخافة أن يُنتقص هذا الدِّين؛ ولذلك كثيرٌ من الناس بعد السَّفر لا يرجع كما كان قبل السَّفر، يكون فيه نقصٌ وضعفٌ في إيمانه؛ من تلك المشاهد التي يُشاهدها، هذا إذا كان يغضّ البصر، فهي نظرةٌ أولى، وألف نظرةٍ أولى لا شكَّ أنها ستُؤثر تأثيرًا بليغًا في قلب الإنسان.
فهو يقول: أستودع اللهَ دينَك أَكِلُ ذلك إلى الله -تبارك وتعالى-، نتخلَّى من حراسته،فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يحفظ ذلك علينا، مع بذلنا لكلِّ الأسباب، ومَن توكّل على الله كفاه.
وأمانتَك فالإنسان في سفره يتعامل مع الآخرين بالأخذ والعطاء، والبيع والشِّراء، والمعاملات، ونحو ذلك، فقد يحصل منه ما يخلّ بالأمانة.
وكذلك أيضًا الأمانة باعتبار المعنى العامّ لها: فإنها تشمل سائر التَّكاليف الشَّرعية، فيما يتَّصل بحقوق الله ، وما يتَّصل بحقوق المخلوقين، هذا كلّه داخلٌ فيها:أستودع اللهَ دينَك وأمانتك، إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ[الأحزاب:72].
وقد ذكرنا في بعض المناسبات: أنَّه يدخل في هذه الأمانة سائرُ التَّكاليف الشَّرعية، فتستودع هذه الأمانة.
وقد قال بعضُ أهل العلم: إنَّ المقصود بالأمانة هنا الأهل والأولاد الذين خلفهم.
والأقرب -والله تعالى أعلم- هو المعنى الأول، فالإنسان مُؤتمنٌ على نفسه، ومُؤتمنٌ على التَّكاليف التي تعبَّده اللهُ بها، وكذلك هو مُؤتمنٌ على حقوق الخلق، سواء كان ذلك من قبيل الودائع التي تصل إليه منهم، أو كان ذلك في سائر الحقوق والعقود والعهود والمواثيق والمواعيد، فكلّ ذلك من الأمانات.
وقد قيل للإمام أحمد -رحمه الله-: بِمَ يُعرف الكذَّابون؟ قال:"بخلف المواعيد"[11] التي لا يفي بها صاحبُها، هذا مُضيّع للأمانة، يتّفق مع الناس على أن يُنجز هذا العمل أو المشروع في شهرٍ، أو في سنةٍ، أو نحو ذلك، ثم يتحوّل الشَّهرُ إلى شهورٍ، والسّنة إلى سنوات، ثم يصير هؤلاء في حالٍ من الاستجداء له؛ لعلّه أن يُخلّصهم، وأن يُنجز ما وعدهم.
هذا كلّه من قبيل تضييع الأمانة، فيدخل في ذلك ما ائتمنه اللهُ عليه، وما ائتمنه عليه الخلق،وما يتعلّق به من أنواع الأمانات.
وخواتيم عملك يعني: هنا يمكن أن يكون الخواتم بهذا السَّفر، أو كان ذلك في آخر العمر، وهو الأقرب؛ وذلك لشأن الخاتمة، كما هو معلومٌ، وما تُختم به الأعمال، والنبي ﷺ يقول: وإنما الأعمال بالخواتيم[12]، والله -تبارك وتعالى- يقول: فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[البقرة:132]، فيموت على هذه الخاتمة، وكيف يموت على هذه الخاتمة؟
هذا يحتاج إلى تثبيت الله -تبارك وتعالى-، مع حالٍ من الاستقامة في الحياة، فإنَّ الإنسان يموت على ما عاش عليه، والله -تبارك وتعالى- يقول: لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا[الكهف:30]،وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ[التوبة:115]، فمَن عاش على شيءٍ رُجِيَ أن يموت عليه، ويُلازم الإنسانُ الطاعةَ والاستقامةَ في حال السَّلامة والعافية، فإذا وافى فإنَّه يلقى الله -تبارك وتعالى- على حالٍ مرضيَّةٍ.
والله يحفظ عبدَه المؤمن، كما قال الله -تبارك وتعالى- في حقِّ يوسف -عليه الصَّلاة والسَّلام-: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ[يوسف:24]، وفي القراءة الأخرى: المخلِصين،فهو مخلصٌ، أخلصه الله -تبارك وتعالى- لإخلاصه، فالخلاص يكون لأهل الإخلاص.
وجاء عند الترمذي من حديث أنسٍ قال: جاء رجلٌ إلى النبي ﷺ فقال :"يا رسول الله، إني أُريد سفرًا، فزوّدني"، هذا يُريد السَّفر، فقال: زوَّدك اللهُ التَّقوى، قال: زِدْنِي. قال:وغفر ذنبك، قال: زدني بأبي أنت وأمي. قال: ويسَّر لك الخيرَ حيثما كنتَ[13].
إذًا الذي يُريد أن يُسافر يمكن أن يُقال له: "أستودع اللهَ دينَك، وأمانتك، وخواتيم عملك"، ويُمكن أن يُزاد ويُقال له: "زوَّدك اللهُ التَّقوى، وغفر ذنبك، ويسَّر لك الخير حيثما كنت".
وهذا الحديث ثابتٌ صحيحٌ عن النبي ﷺ.
هذا، والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (9230)، وقال مُحققو "المسند": "صحيحٌ لغيره".
- أخرجه ابن ماجه: كتاب الجهاد، باب تشييع الغزاة ووداعهم، برقم (2825)، وصححه الألباني.
- أخرجه النسائي في "السنن الكبرى": كتاب عمل اليوم والليلة، ما يقول عند الوداع، برقم (10269).
- "الكامل في ضُعفاء الرجال" لابن عدي (4/85).
- "ذخيرة الحفاظ" (2/1057).
- أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (6199)، وقال مُحققو "المسند": "حديثٌ صحيحٌ".
- أخرجه الترمذي: أبواب الدَّعوات، باب ما يقول إذا ودَّع إنسانًا، برقم (3442)، واللَّفظ له، وصححه الألباني.
- "معجم ابن عساكر" (2/780).
- "تخريج الإحياء" (2/315).
- انظر: "الصحيحة"برقم (16 و2485).
- "الفروع وتصحيح الفروع" لابن مفلح (11/92).
- أخرجه البخاري: كتاب القدر، باب العمل بالخواتيم، برقم (6607).
- أخرجه الترمذي: أبواب الدَّعوات، برقم (3444)، وقال الألباني: "حسنٌ، صحيحٌ".