الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
هذا باب "دعاء المسافر إذا أسحر"، يعني: إذا دخل في السَّحر، وقد أورد المؤلفُ حديثَ أبي هريرة : أنَّ النبي ﷺ كان إذا كان في سفرٍ وأسحر يقول: سمع سامعٌ بحمد الله وحُسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا، وأفضل علينا، عائذًا بالله من النار. رواه مسلم[1].
قوله:"كان إذا كان في سفرٍ وأسحر" هذا كما ذكرنا في مناسبات كثيرةٍ: أنَّ هذا التركيبَ يدلّ على المداومة والتَّكرار، أي: أنَّ من عادته -صلى الله عليه وآله وسلم- أنَّه إذا كان في سفرٍ وأسحر، يعني: دخل في وقت السَّحر، ووقت السَّحر يكون قُبيل طلوع الصبح، هو الجزء الأخير من الليل.
وبعض أهل العلم قدَّره بسُدس الليل الآخر، وهذا يتفاوت في طوله شتاءً وصيفًا، والليل إنما يُحْسَب من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فلو قلنا هنا مثلًا: بأنَّ أذان المغرب في الخامسة وعشر دقائق، هذه الأيام مثلًا، وأنَّ أذانَ الفجر في الخامسة وعشر دقائق، فهذا يكون الليلُ فيه اثنتي عشرة ساعةً، فإذا قسمت ذلك إلى ستة، فمعنى ذلك أنَّ السَّحر يبدأ من الساعة الثالثة وعشر دقائق في هذه الأيام، يعني: بمقدار ساعتين في مثل هذه الأيام، إذا كان الليلُ طويلًا، على هذا القول، وعامَّة أهل العلم يقولون: هو الجزء الأخير من الليل.
هنا "إذا كان في سفرٍ وأسحر" يحتمل أنَّه قام في السَّحر، أو انتهى في سيره إلى السَّحر، يعني: دخل في وقت السَّحر، فيقول: سمع سامعٌ،فسمع ضُبط بوجهين:
الأول: وهو الذي ذهب إليه القاضي عياض وجمعٌ من أهل العلم: سمّع سامعٌ، بالتَّشديد، هكذا ضبطها هؤلاء، والقاضي عياض يقول:"على هذا أكثر رُواة "صحيح مسلم"[2]، والحديث مُخرَّجٌ في "صحيح مسلم"، فكيف يكون المعنى على هذا؟
يقولون: المعنى: بلّغ سامعٌ قولي هذا لغيره، وقال مثله، يعني: يكون ذلك من قبيل التَّنبيهعلى الذكر في السَّحر، سمع سامعٌ يعني: سمّعه لغيره، وبلّغه لغيره، يعني: بلغ هذا الذكر وأوصله إلى غيره، مُذكِّرًا به، من أجل أن يذكر الله -تبارك وتعالى- في هذا الوقت الشَّريف، وهو جزءٌ من وقت التَّنزل الإلهي؛ لأنَّ الله -تبارك وتعالى- ينزل إلى السَّماء الدنيا كل ليلةٍ إذا كان ثلث الليل الآخِر.
والسَّحر لا شكَّ قطعًا أنَّه من الثلث الآخِر من الليل، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ[آل عمران:17]، هذا وقتُ الاستغفار، يعني: يقضون كثيرًا من الليل بالقيام، ويختمون ليلَهم وقيامَهم بالاستغفار، هذا على التَّشديد.
وضبطه بعضُهم -كالخطَّابي[3]وآخرين- بالكسر والتَّخفيف: "سَمِع سامعٌ"، معناه: شهد شاهدٌ على حمدنا لله -تبارك وتعالى- على نِعَمِه وحُسن بلائه.
بحمد اللهأي: بحمدنا له -تبارك وتعالى-.
وحُسن بلائهيعني: وباعترافنا بحُسن إنعامه علينا، وما تفضّل به، وأكرمنا، وأولانا، وأعطانا، فهو المنعِم المتفضّل على عباده، فيكون بهذا الاعتبار من قبيل الخبر، يعني: ليسمع سامعٌ قولَنا هذا، وثناءنا، فيكون خبرًا بهذا الاعتبار، فيكون المعنى: سمع مَن كان له سمعٌ بأنَّا نحمد الله، ونُحسن في ذلك، وأنَّا نشكره، ونُثني عليه؛ لما تفضّل به.
لكن من أهل العلم مَن يقول: إنَّ هذا الخبرَ مُضمَّنٌ معنى الأمر: سمع سامع يعني: ليسمع سامعٌ.
وبعضُهم يقول: هو خبرٌ محضٌ، وليس فيه معنى الأمر، يعني: ليس بمعنى: ليسمع، وإنما هو خبرٌ على ظاهره: سمع مَن كان له سمعٌ بأنَّا نحمد الله -تبارك وتعالى-، وهذا يحتمل على كل حالٍ.
وقوله: سمع سامعٌ"سامعٌ" هنا نكرة، وهي في مثل هذا السياق يُراد بها العموم، يعني: كلّ مَن يسمع بحمد الله وحُسن بلائه علينا.
والبلاء يكون بمعنى النِّعمة، والله -تبارك وتعالى- يبلو عبادَه بالشَّر والخير فتنةً لهم، يبلوهم بالضَّراء ليصبروا، ويبلوهم بالنِّعَم ليشكروا، فكلّ ذلك امتحانٌ لعباده، ومن الناس مَن قد يصبر في الضَّراء، ولكنَّه لا يشكر في السَّراء، ومن الناس مَن يكون حالُه بعكس ذلك، والله يقول: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35]،وبهذا يتبين الشُّكر، ويظهر الصَّبر.
ربنا صاحبنايعني: بحفظك ورعايتك وكلاءتك، وأفضل علينا نِعَمَك الجزيلة، واصرف عنا مانكرهه، وما نتخوّفه، وأدم علينا هذه النِّعَم التي تفضّلت بها علينا، ووفّقنا للقيام بحقِّها.
عائذًا بالله من النار هذا يحتمل، وانظروا إلى دقّة اللغة العربية، كيف يتحوّل المعنى؟
عائذًا باللهيحتمل أن يكون إعرابُ عائذًا أنَّه حال، فيكون ذلك ليس من قول النبي ﷺ، وإنما يكون من كلام الرَّاوي، يعني: أنَّ النبي ﷺ يقول: سَمِعَ سامعٌ، أو سمّع سامعٌ إلى آخره، والرَّاوي يقول: "عائذًا"، يعني: أنَّ النبي ﷺ يقوله حال كونه عائذًا بالله من النار، فيكون من كلام الرَّاوي، ليس من بقية الحديث، وليس من الذكر، فالرَّاوي يُخبِر عن النبي ﷺ، يقوله حال كونه عائذًا بالله من النار، وهذا إذا كان حالًا.
ويحتمل أن يكون مصدرًا، فيكون من كلام النبي ﷺ.
وجوَّز أيضًا النَّووي-رحمه الله- على الحال أن يكون من قول النبي ﷺ، يعني: حال كوني عائذًا بالله من النار[4].فهذا يحتمل.
والذي يظهر -والله أعلم- من السياق ومن غيره -كما سيتّضح- أنَّ ذلك من جملة قول النبي ﷺ، وليس من كلام الرَّاوي، يدلّ على هذا ما جاء عن مجاهدٍ -رحمه الله- قال: عن ابن عمر: أنَّه كان إذا كان في سفرٍ، فطلع الفجرُ، رفع صوتَه ونادى: "سمع سامعٌ بحمد الله ونِعَمِه وحُسن بلائه علينا"، ثلاثًا،"الله صاحبنا، فأفضل علينا، عائذًا بالله من النار، ولا حول ولا قوةَ إلا بالله"، ثلاثًا[5].
هذا عن ابن عمر ، فكان يقول: "عائذًا بالله من النار".
وابن عمر -رضي الله تعالى عنه- كان من أشدّ أصحاب النبي ﷺ اتِّباعًا له في كل شيءٍ، حتى في الأمور العادية، حتى إنَّه كان يبرك ناقتَه في المكان الذي تبرك فيه ناقةُ النبي ﷺ؛ فهذا يكون قرينةً على أنَّ قوله:عائذًا بالله من النار أنَّه من قول رسول الله ﷺ، فيكون من جملة هذا الذكر.
وهذا الذكر لعله من الأذكار التي نغفل عنها كثيرًا.
أُعيده ثانيةً:"كان إذا كان في سفرٍ وأسحر"، إذًا هذا يُقال في السَّفر، سواء كان في الطَّريق، أو كان في بلدٍ بقي فيها في سفره،أو بات فيها، أو نحو ذلك،"يقول:سمع سامعٌ بحمد الله وحُسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا".
لاحظ هنا:"في سفرٍ"، فيحتاج إلى كلاءة الله ومعيَّته وتأييده وحفظه: وأفضل علينا، عائذًا بالله من النار، إذًا لا يكون ذلك من الأذكار التي تُقال في السَّحر مطلقًا، وإنما يكون ذلك من الأذكار المقيدة في السَّفر، يقوله إذا دخل في السَّحر -والله تعالى أعلم-.
اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما صليتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا.
والسلام عليكم ورحمة الله.
- أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التَّعوذ من شرِّ ما عمل، ومن شرِّ ما لم يعمل، برقم (2718).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (8/214).
- "معالم السنن" للخطَّابي (4/145).
- "شرح النووي على مسلم" (17/40).
- "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" (ص141).