الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
هذا باب "ذكر الرجوع من السفر"، وذكر فيه المؤلفُ حديثًا قد تطرقتُ إلى شيءٍ من الكلام عليه عند الكلام على حديث السَّفر، وقد أخَّر موضعَه؛ وذلك لأنَّه ذكر بعد دعاء السَّفر ما يُشرع للمُسافر من التَّكبير والتَّسبيح في سيره، وكذلك أيضًا إذا دخل في السَّحر ماذا يقول، وكذلك الدُّعاء إذا نزل منزلًا، وقلنا: إنَّ ذلك لا يتقيد بالسَّفر.
ثم ذكر هذا الحديث، وهو حديث عبدالله بن عمر-رضي الله عنهما-: أنَّ رسول الله ﷺ كان إذا قفل من غزوٍ أو حجٍّ أو عمرةٍ يُكبّر على كلِّ شرفٍ من الأرض ثلاث تكبيرات، ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، آيبون، تائبون، عابدون لربنا حامدون، صدق اللهُ وعدَه، ونصر عبدَه، وهزم الأحزابَ وحده. وهو مُخرَّج في "الصَّحيحين"[1].
وقد أوضحتُ جملًا مما جاء في هذا الحديث.
فقوله:"كان إذا قفل" سبق أنَّهذا يدلّ على أنَّ ذلك كان من عادته -عليه الصَّلاة والسَّلام-؛ لأنَّ هذا التركيبَ يدلّ عليه ويقتضيه.
و(قفل) بمعنى: رجع من السَّفر،وإنما سُمِّي المسافرون بـ(القافلة) تفاؤلًا لهم بالقفول والسَّلامة، مع أنَّ بعضَ أهل العلم -كالجوهري- يقول: بأنَّ القافلة: الرُّفقة العائدة من السَّفر[2]، فقيَّده بذلك، لكن ليس ذلك محلّ اتفاقٍ، فمَن يُقيده بهذا يقول: بأنَّ التي تخرج للسَّفر يُقال لها: الصَّائبة، يعني: الذين يذهبون ويُسافرون وينتقلون من بلدهم يُقال لهم في انطلاقهم هذا: الصَّائبة، من باب التَّفاؤل، كأنها تُصيب كلَّما خرجَتْ إليه.
وبعض أهل العلم يقول أيضًا لمثل هؤلاء: قافلة، سواء كان ذلك في الذَّهاب، أو الرجوع، وإنَّ أكثر ما يُستعمل ذلك في الرجوع.
وقوله:" كان إذا قفل من غزوٍ أو حجٍّ أو عمرةٍ" قلنا: إنَّ ذلك لا يتقيّد به، ولكن لما كانت أسفارُ النبي ﷺ تتنوع إلى هذه الأنواع الثلاثة ذكرها، وإلا فلو سافر لتجارةٍ، أو لصلة رحمٍ، أو طلب علمٍ، أو غير ذلك من الأمور المشروعة، أو الأمور المباحة؛ فإنَّ ذلك يُقال فيها، وهذا هو ما ذهب إليه الجمهورُ من أهل العلم -رحمهم الله-: أنَّ ذلك يُشرع في كل سفرٍ، لكنَّهم اختلفوا في سفر المعصية.
قوله: "يُكبّر على كلِّ شَرَفٍ" يعني: المكان العالي.
وذكرتُ أوجهًا للتَّكبير على الأماكن المرتفعة، فمن ذلك ما ذكره بعضُ أهل العلم: من أنَّ الاستعلاء والارتفاع شيءٌ تطلبه النُّفوس، وأنَّه يحصل لها بسبب ذلك من الشُّعور بالعلو والظُّهور والغلبة والتَّمكن، وما إلى ذلك، وهنا يحتاج العبدُ إلى أن يتذكّر كبرياء الله وعلوه، وأنَّه أعلىوأكبر من كل شيءٍ.
وحديث جابرٍ الذي مضى في الصَّحيح: "كنا إذا صعدنا كبّرنا، وإذا نزلنا سبّحنا"[3].
فالله -تبارك وتعالى- مُتَّصفٌ بالعلو، وهو الكبير، فيُناسِب ذلك إذا ارتفع أن يقول: الله أكبر من كل كبيرٍ، وإذا نزل سبَّح مُنزِّهًا لله -تبارك وتعالى- عن السُّفول والدُّنو الذي هو بمعنى السُّفول، وإلا فإنَّ الله -تبارك وتعالى- ينزل إلى السَّماء الدنيا، كما هو معروفٌ، وكذلك النُّصوص الواردة في الباب، لكن يُنزَّه عن كل عيبٍ ونقصٍ.
"ثم يقول: لا إله إلا الله"وهذه كلمة التوحيد، فيحتمل أنَّ ذلك يُقال بعد التَّكبير مباشرةً، فجاء بـثم التي تُفيد التَّراخي، وأنَّه يقول ذلك إذا صعد إلى مكانٍ مرتفعٍ، قال:"الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله..." إلى آخره، هذا يحتمل.
ويحتمل أنَّه يُكبّر، ثم يُكبّر على الأماكن المرتفعة، ثم يقول ذلك في سيره، لكن إذا كان المكانُ المرتفع ضيقًا، ولا يتَّسع إلا للتَّكبير، فهل يقف وينتظر حتى يقول:"لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له..." إلى آخره حتى ينتهي، ثم بعد ذلك ينزل؟
الجواب: لا، وإنما يُكمل هذا الذكر وهو في حال النزول والانحدار، ولا يستمر واقفًا في مكانه، لكن إذاكان المكانُ مرتفعًا ومتَّسعًا؛ فإنَّه يقول فيه ذلك بلا إشكالٍ.
وفي تعقيب التَّكبير بالتَّهليل إشارة إلى أنَّ الله -تبارك وتعالى- أكبر من كل شيءٍ، وهو مُتفردٌ بالكمال، وهو المستحقّ للعبادة وحده، دون ما سواه -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه-.
له الملك، وله الحمد تقديم الجار والمجرور يُفيد الحصر، أو الاختصاص، فالملك له وحده، وأيضًا له الحمد وحده دون ما سواه.
آيبون يعني: راجعون،وهذا يحتمل أن يكون المرادُ-كما ذكرنا سابقًا- بمعنى: العودة إلى البلاد التي خرجوا منها، ويحتمل أن يكون ذلك باعتبار الأوبَة إلى الله -تبارك وتعالى-.
ولا شكَّ أنَّ مَن تتبع نصوصَ الشريعة فإنَّه يجد الاقترانَ بين الأمور التي يُلابسها الإنسان، وما يتَّصل بآخرته، وما يتعلّق بها، كما في قوله -تبارك وتعالى- في نفير الحاجِّ في اليوم الثاني عشر والثالث عشر: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ[البقرة:203]، هذا التَّفرق يعقبه حشرُ يوم القيامة:وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى[البقرة:197]، فذكَّرهم بالزاد الأُخروي، وهكذا في مواضع لا تخفى.
فيحتمل أن يكون ذلك آيبونأي: إلى الله -تبارك وتعالى-، ويحتمل أن يكون الرجوعُ إلى الموضع الذي خرجوا منه، وهو بلدهم، مُستصحبين هذه الأوصاف، يعني: لا يكون ذلك مجرد إخبارٍ؛ لأنَّه تحصيلُ حاصلٍ، ومعلومٌ أنهم في حال رجوعٍ من سفرهم، ولكن مع استصحاب هذه الأوصاف:آيبون، تائبون يعني: نحن، عابدون،ساجدون، كما جاء في بعض رواياته[4].
فهنا الأوبَة والرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-، والرجوع أيضًا إلى البلاد التي يقطنونها، فهم آيبون، عابدون لله، تائبون له، ففي أوبتهم ورجوعهم هذا يستصحبون التوبة والعبادة لله -تبارك وتعالى-، والحمد، والسُّجود، وما إلى ذلك، يُذكّرون أنفسَهم بهذا، ويُجددون توبتهم.
وهذا ليس مجرد إخبارٍ، بل هو إنشاء أيضًا لمثل هذه المعاني والأوصاف، فيتذكّرها المؤمن، فيقول: أرجع من سفري -وهو سفر طاعةٍ، كمثل هذا الحجّ والجهاد ونحو ذلك-وأنا آيبٌ، وتائبٌ، وراجعٌ إلى الله -تبارك وتعالى-، وحامدٌ له، فهكذا حال المؤمن؛ دائمًا يُجدد التوبة، ويُجدد العلاقة بالله -تبارك وتعالى-، وكذلك تحقيق العبودية له.
فمناسبة هذا الرجوع أن يرجع بحالٍ جديدةٍ، وبوجهٍ جديدٍ، وبقلبٍ جديدٍ، هذا هو اللَّائق بالمؤمن.
ويحتمل أن يكون ذلك من قبيل الإعلام؛ باعتبار أنَّ السَّفر المقصود قد انقضى، فهو استبشارٌ بكمال العبادة من الحجِّ، أو الجهاد، أو نحو ذلك، بحصول المقصود والظّفر به.
وهنا في ذكر التوبة (التائبون) فيه إشارة إلى التَّقصير، فالإنسان لا يخلو من تقصيرٍ في العبادة، ولا يخلو من وقوعٍ في مخالفات، ولكن النبي ﷺ قال ذلك تواضعًا -عليه الصَّلاة والسَّلام-، وهكذا ذكر جمعٌ من أهل العلم.
وقال بعضُهم: إنَّ التوبة قد تُستعمل بمعنى: البقاء على الطَّاعة والثَّبات والاستمرار عليها، فيكون المرادُ أنَّه لا يقع منهم ذنبٌ في المستقبل، فهم مُقيمون على طاعته وعبادته، والاستقامة على صراطه المستقيم.
وذكرنا من قبل أنَّ قوله:لربنا حامدون، يحتمل أن يتعلّق قوله:لربنا بما قبله:عابدون لربنا، ثم يقول:حامدون يعني: نحن حامدون.
ويحتمل أن يتعلّق بما بعده: لربنا حامدون، يعني: نحن آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون، وهذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم.
وفي قوله:لربنا حامدون تذكير النَّفس، وتذكير مَن يسمع أنَّه لولا الله -تبارك وتعالى- لما حصل لهم مثل هذه الأمور التي تُسهل عليهم الانتقال والسَّفر، فيحمدوا الله -تبارك وتعالى- على أن هيَّأ لهم من المراكب ما يقطعون به المسافات الطَّويلة، ويحملهم، ويحمل أمتعتَهم، وأثقالهم، ولم يكن لأحدٍ أن يبلغ هذه المحالّ والمواضع النَّائية إلا بإعانة الله، وما سخّر ويسّر من هذه الوسائل والمراكب، فيخرج الإنسانُ من حوله وقوّته وعلمه وقُدرته، ويحمد ربَّه -تبارك وتعالى- على هذه النِّعَم الجزيلة.
ثم يقول:صدق اللهُ وعدَه فيما وعد من إظهار الدِّين: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً[الفتح:20]،وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا[النور:55].
فهذا وعدٌ منه -تبارك وتعالى- لهؤلاء المؤمنين، فهذا واضحُ المناسبة في سفر الغزو، ومناسبته لسفر الحجِّ والعُمرة كما في قوله -تبارك وتعالى- في الوعد: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ[الفتح:27].
ونصر عبدَه وهو محمدٌ ﷺ، ويحتمل أن تكون الإضافةُ هنا: (عبد) مُفرد مُضاف إلى المعرفة (الهاء)–الضَّمير-؛ فيكون ذلك للعموم: نصر عباده المؤمنين، وعامَّة أهل العلم حمل ذلك على نصر النبي ﷺ، وكذلك ما جاء في قوله: وهزم الأحزابَ وحده، فالله وعد نبيَّه ﷺ بالنَّصر، وصدق وعدَه؛ فأيَّده وعصمه من الناس، وهزم الأحزابَ وحده، فهو القوي القادر على كل شيءٍ .
وهذا الوعد حمله بعضُ أهل العلم على معانٍ أعمّ من إظهار الدِّين، وكون العاقبة للمُتقين، وغير ذلك مما وعد اللهُ به عبادَه المؤمنين.
وهزم الأحزابَ وحده أكثر أهل العلم حملوا ذلك على يوم الأحزاب؛ وذلك أنَّ الله -تبارك وتعالى- أرسل عليهم ريحًا؛ فارتحلوا بغيظهم، لم ينالوا خيرًا، ولم يحصل لهم مطلوبٌ.
ومن هنا ربط بعضُ أهلالعلم بين قوله: صدق وعده، مع قوله: وهزم الأحزابَ وحده، وهذا في مقابل قول المنافقين: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا[الأحزاب:12]، فوَعْد الله قد تحقق لأهل الإيمان، وإن اختلف أهلُالعلم بالمراد بالأحزاب هنا، لكن أكثرهم يقولون: بأنَّ المراد هم أولئك الذين تحزَّبوا من قريشٍ والأحابيش، ومَن مالأهم من اليهود، والمنافقين، وغطفان، ومَن شايعهم، هم مَن عُنِيَ بهذا الحديث.
وبعض أهل العلم يقولون: المراد ما هو أعمّ من ذلك؛ من أحزاب الضَّلال والكفر، والذين يُحاربون الإسلامَ وأهله. لكن المشهور هو الأول.
وهذا الحديثُ نلاحظ أنَّه جاء بجملٍ وعبارات لا تخلو من سجعٍ، مع أنَّ السَّجع مكروهٌ في الأذكار والدُّعاء، ونحو ذلك، فمحمل ذلك على ما كان من غير تكلُّفٍ، وأمَّا المتكلّف فإنَّه لا يكون محمودًا.
فما جاء هكذا من غير تكلُّفٍ فيه فلا بأس-والله تعالى أعلم-، أمَّا إذا تكلَّف، وصار الإنسانُ يُنمّق العبارات، ويسجع كلامه؛ فإنَّ ذلك يشغل قلبَه، ويُفرّقه عن مطلوبه عند الذكر أو الدُّعاء.
وفي هذا الحديث: الحثُّ على ذكر الله وشُكره على أوبة المسافر ورجوعه، والثَّناء عليه بما هو أهله، ولا شكَّ أنَّ هذا من التَّعبدات والواجبات، وهو من المطالب الشَّرعية، وفي مثل هذه المناسبات على سبيل الخصوص.
وقد اشتمل هذا الدّعاء على المطالب الدّينية والدّنيوية،ومصالح الدنيا والآخرة، وحصول المحابِّ، ودفع المكاره، وعلى شُكر نِعَم الله ، وذكر آلائه، واشتمال السَّفر على طاعة الله -تبارك وتعالى-، وما يُقرّب إليه، وفيه اعترافٌ بنعمته آخرًا، كما اعترف بها أولًا.
وقد عرفنا أنَّه يقول ذلك في مبدأ رجوعه، وأنَّه إذارأى البلدَ التي قد قدم إليها يقول: آيبون، تائبون، عابدون لربنا حامدون،ويُكرر ذلك، كما كان النبيُّ ﷺ يفعل، وقد ذكرتُ الرِّوايات في هذا.
هذا ما يتعلّق بهذا الحديث.
وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب الدُّعاء إذا أراد سفرًا أو رجع، برقم (6385)، ومسلم:كتاب الحج، باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره، برقم (1344).
- "الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية" (5/1803).
- أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب التَّسبيح إذا هبط واديًا، برقم (2993).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: أبواب العمرة، باب ما يقول إذا رجع من الحجِّ أو العُمرة أو الغزو، برقم (1797)، ومسلم: كتاب الحج، باب ما يقول إذا قفل من سفر الحجِّ وغيره، برقم (1344).