الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(312) الاستغفار والتوبة "من قال أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفر الله له وإن كان فر من الزحف"
تاريخ النشر: ١٢ / جمادى الأولى / ١٤٣٦
التحميل: 1398
مرات الإستماع: 2035

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: في باب "الاستغفار والتوبة" أورد المؤلفُ حديثَ بلال بن يسار، عن أبيه، عن جدِّه، وهو زيد مولى النبي ﷺ، وليس زيد بن حارثة، وإنما هو زيد بن بولا، وهو من أهل النوبة، وقد أعتقه النبيُّ ﷺ، يقول النبيُّ ﷺ: مَن قال: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه؛ غفر اللهُ له، وإن كان فرَّ من الزحف.

هذا الحديث أخرجه أبو داود[1]، والترمذي، وقال الترمذي:"غريبٌ لا نعرفه إلا من هذا الوجه"[2]،وقال المنذري:"إسناده جيدٌ مُتَّصلٌ"[3]، وصححه الشيخُ ناصر الدين الألباني[4] -رحم الله الجميع-.

يقول: مَن قال: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيّ القيّوم هذه الجُمَل مضى شرحُها في مناسبات سابقة، فقوله: أستغفر الله يعني: أطلب مغفرته، وعرفنا أنَّ المغفرة تعني: التَّجاوز، وعدم المؤاخذة، بالإضافة إلى السّتر، فلا يفتضح.

أستغفر الله العظيمالسين والتاء للطلب: أطلب مغفرته، الذي لا إله إلا هو، هذا توسّل إليه بتوحيده -تبارك وتعالى-،وعرفنا أنَّ هذه الكلمة أشرف كلمةٍ، وأنها مفتاح الجنة، وأنها متضمنة للنفي والإثبات: لا إلهنفيٌ لكل معبودٍ سوى الله -تبارك وتعالى-، إلا الله إثبات الوحدانية له -تبارك وتعالى-، الحيّ ذو الحياة الكاملة التي لم تُسبق بعدمٍ، ولا يلحقها عدمٌ، ولا يعتورها نقصٌ،و القيّوم هو القائم بنفسه، المقيم غيره، هو الذي يُقيم خلقَه بما يكون من أنواع القيام، يقوم عليهم بآجالهم، وأرزاقهم، وأعمالهم، ورزقهم، فهو المدبّر شؤونهم، الذي لا تخفى عليه من أمرهم خافيةٌ.

وقوله:الحيّ القيّوم هنا يمكن أن يكون بالنَّصب:أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيّ القيّوم يكون ذلك عائدًا إلى لفظ الجلالة، ويمكن رفعه:"الحيُّ القيوم"، فيكون بدلًا من الضَّمير: لا إله إلا هو الحيّ القيوم، أو خبر مُبتدأ محذوف على المدح، يقول:إنَّ مَن قال ذلك، ولم يُقيّده بعددٍ، قال: وأتوب إليه؛ غفر اللهُ له، وإن كان فرَّ من الزحف، المغفرة يحتمل أن تكون من الصَّغائر، دون الكبائر، ويحتمل أن تكون من الصَّغائر والكبائر.

فقوله ﷺ: غفر اللهُ له، وإن كان فرَّ من الزحف الفرار من الزحف يعني: يفرّ من صفِّ القتال إذا تقابل الصَّفان والجمعان، فهذا الجيش في سيره؛ لكثرة عدد الجنود الذين ينتظمهم هذا الجيش كأنَّه يزحف، كأنَّ سيرهم من قبيل الزحف والدَّبيب، فالأشياء الكثيرة والجموع الغفيرة تُرى من بعيدٍ، يراها النَّاظر من بعيدٍ كأنها تزحف، كأنها تسير ببطءٍ.

تصور لو أنَّك ترى جيشًا يملأ الأرض، فتنظر إليه من بعيدٍ؛ فإنَّ مشيته تكون في غاية البُطء، فيُقال لذلك: الزحف.

فهؤلاء يزحفون إلى عدوهم، أو يمشون، فذلك حينما يتواجه الجمعان، ويلتقي الصَّفان؛ فإنَّه لا يجوز الفرار، والله يقول: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16].

فهذا الوعيد الشَّديد يدلّ على أنَّ الفرار من الزحف من الكبائر، بل جاء في السّبع الموبقات: الفرار من الزحف[5]،والسّبع الموبقات هي أعظم الذنوب والجرائم، وأكبر الكبائر: الفرار من الزحف، فذكره النبيُّ ﷺ هنا، فما دون الفرار من الزحف يكون من باب أولى أنَّه يُغفر إذا قال ذلك، لكن هذا ما حمله؟ هل ذلك حينما يقوله بطرف لسانه، دون أن يحضر قلبه، أو أن يستحضر التوبة؟

الأمر ليس كذلك، وإنما لا يكون ذلك للمُصرين على الذنوب، الذين يقولونه وهم لا يقصدون بذلك التوبة، يقول: أستغفر الله، وأتوب إليه وهو عازمٌ على مُواقعة الذنب، مُصرٌّ عليه، لم يندم على فعله، فهذه ليست بتوبةٍ.

فهذا الحديث حينما يقوله المؤمنُ، يقول: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم، وأتوب إليه، فهو يتوب، ومَن تاب تاب اللهُ عليه، فالتوبة تجُبّ ما قبلها: تقطعه، تمحوه، فيبدأ بصفحةٍ جديدةٍ، ويستأنف العمل من جديدٍ، كأنما ولدته أُمُّه من جديدٍ، فهذا ليس عليه خطيئة إذا كانت توبتُه عامَّةً، التوبة الصَّحيحة المستوفية للشروط، فهذا تُغفر له جميع الذنوب: الكبائر، والصَّغائر، وليس مجرد القول باللِّسان.

ثم أيضًا هذا الحديث فيه فائدةٌ أخرى، وهي: صيغة الاستغفار والتوبة: أستغفر الله، وأتوب إليه، كيف يقولها؟

كما جاء في الأحاديث السَّابقة، النبي ﷺ يقول: والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة[6]، ويقول: يا أيّها الناس، توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مئة مرة[7]، ماذا كان يقول -عليه الصلاة والسلام-؟

هذه صيغة، يعني: يمكن للإنسان أن يقول: أستغفر الله، وأتوب إليه، فيكون قد حقق المراد، ولكن الأكمل من هذا أن يقول ماجاء عن النبي ﷺ: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم، وأتوب إليه، فهذه من أكمل صيغ الاستغفار والتوبة، فيقولها المؤمنُ، ويُرددها في اليوم كثيرًا: عشرات المرات، بل مئات المرات.

أسأل الله أن يتوبَ علينا، وأن يُوفِّقنا وإياكم لما يُحبّ ويرضى، إنه سميعٌ مُجيبٌ.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وآله وصحبه.

 

 

  1. أخرجه أبو داود: كتابالصلاة، بابٌ في الاستغفار، برقم (1517)، وقال مُحققه: "صحيحٌ".
  2. أخرجه الترمذي: أبواب الدّعوات، بابٌ في دعاء الضيف، برقم (3577).
  3. انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (2/311).
  4. انظر:"صحيح سنن أبي داود" للألباني (5/248).
  5. متفق عليه:أخرجه البخاري: كتابالوصايا، باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، برقم (2766)، ومسلم: كتابالإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، برقم (89).
  6. أخرجه البخاري: كتابالدعوات، باب استغفار النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليوم والليلة، برقم (6307).
  7. أخرجه مسلم: كتابالذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، برقم (2702).

مواد ذات صلة