الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
(318) فضل التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير "كملتان خفيفتان عل اللسان ثقيلتان في الميزان..."
تاريخ النشر: ١٩ / جمادى الأولى / ١٤٣٦
التحميل: 1565
مرات الإستماع: 1695

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: في باب "فضل التَّسبيح، والتَّحميد، والتَّهليل، والتَّكبير" أورد المؤلفُ حديثَ أبي هريرة : أنَّ النبي ﷺ قال: كلمتان خفيفتان على اللِّسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.هذا الحديث مُخرَّجٌ في "الصحيحين"[1].

فقوله كلمتان هذا فيه ترغيبٌ، فذلك شيء يسير يخفّ على المكلّفين، ليس فيه مشقّة، ولا عنت.

والمقصود بالكلمتين، بمعنى: الجملتين المفيدتين؛ لأنَّ الكلمة كما عرفنا تُطلق على الكلام، كما يُقال: كلمة الشَّهادة، وتُقال للخطبة، يُقال: ألقى كلمةً، ونحو ذلك، فيُقصد بها الكلام، وتُقال للجملة، فهي الكلمة بالمعنى اللُّغوي، أو العُرفي، وليست الكلمة عند النُّحاة؛ لأنَّ الكلمة عند النُّحاة هي اللَّفظ المفرد، فـ"زيد" كلمة عند النحاة، لكن "زيد كريم" هذه كلمة عند أهل اللُّغة، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ[البقرة:255] هذه كلمة عند أهل اللغة: كلمة الشَّهادة، كلمة التوحيد، ونحو ذلك، فهذا هو المراد.

كلمتان ليس المرادُ أنهما لفظتان مُفردتان، وإنما جملتان خفيفتان، في هذا إشارة إلى قلّة ما تضمّنتهما من الألفاظ، مع خفّة ذلك على الألسن، فهما شيء سهل، يسير، شبه في سهولة جريانه على اللّسان بما خفَّ على الحامل الذي يحمل المتاع، فيكون الشيء الخفيف مما لا يُثقله، ولا يُرهقه، ولا يُلحق به عنتًا ومشقَّةً.

خفيفتانهكذا وصفهما النبيُّ ؛ لسهولتهما على اللِّسان؛ لحُسن نظمهما، واشتمالهما أيضًا على الاسم الكريم، على اسم الله -تبارك وتعالى-، ولما تضمّنته هذه الجُمل من تنزيهه -تبارك وتعالى-، وتسبيحه، وتقديسه -جلَّ جلاله، وتقدّست أسماؤه-، عملٌ قليلٌ، عبارات قليلة، والجزاء المرتّب عليها كبيرٌ، وزنها في الميزان عند الله -تبارك وتعالى- ليس بالشَّيء السَّهل.

الحسنة قد تثقل على بعض النفوس، أو على كثيرٍ من النفوس: فعل الحسنات، فعل المعروف، وقد تخفّ عليهم السَّيئة، وفعل السَّيئة؛ فيُقدم عليها، وربما يلتذّ بها، وتدعوه نفسه دعاءً حثيثًا إلى مُقارفتها، ويُروى عن عيسى -عليه السلام- أنه علل ذلك باعتبار أنَّ الحسنة حضرت مرارتها، وغابت حلاوتها، باعتبار أنَّ الجزاء عليها موعود؛ فثقلت، بخلاف السيئة، يعني: لذّة عاجلة، حاضرة، مُنقضية، ثم بعد ذلك يعقبها مرارة، وجاء في ذلك الأثر: فلا يحملنك ثقلها على تركها، والسّيئة حضرت حلاوتها، وغابت مرارتها؛ فلذلك خفّت، فلا تحملنّك خفّتها على ارتكابها[2].

ثقيلتان في الميزان يعني: مع الخفّة على الألسن، في المقابل فإنَّ الميزان تثقلان فيه، وهذا يدلّ على أنَّ تسبيح الله -تبارك وتعالى- وتقديسه من أفضل الأعمال الصَّالحة التي يُتقرب إلى الله -تبارك وتعالى- بها، فهي من أجلّ ما يدّخر من الأعمال، من أعظم الذَّخائر التي يرصدها العبدُ لآخرته، فيجد أثرَ ذلك حينما يقدم على ربِّه -تبارك وتعالى-، هذا بالإضافة إلى ما يعجل له من ذلك من انشراحٍ في الصَّدر، وانفساحٍ فيه، وراحةٍ، وطُمأنينةٍ: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ[الرعد:28]، بما ينضاف أيضًا إلى ذلك مما جاء في قوله -تبارك وتعالى-: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ[البقرة:152]، فإذا ذكر الله -تبارك وتعالى- العبد فلا تسأل عن ألطافه المتتابعة التي تُصوّب تجاه هذا العبد كالمطر.

وهنا وصف هاتين الكلمتين بأنهما أيضًا: ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، الميزان: أجمع أهلُ السُّنة على إثبات الميزان، كما أخبر الله -تبارك وتعالى-، وكما أخبر النبيُّ ، فهذه الموازين تُوزن بها أعمال العباد، كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ[الأنبياء:47]، وقال: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ[الأعراف:8]، وقال: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ[الأعراف:9]، وقال: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ[الأعراف:8]، إلى غير ذلك من النصوص الواردة في كتاب الله -تبارك وتعالى-، وفي سنة رسول الله -عليه الصلاة والسلام-،كقوله -عليه الصلاة والسلام- عن ساقَي ابن مسعودٍ حينما ضحك الصَّحابةُ وتعجّبوا من دقّتهما، فأخبر النبيُّ أنهما: أثقل في الميزان من أُحُدٍ[3].

وكذلك في حديث البطاقة المعروف في الرجل الذي يُؤتىبه، فيُنشر له تسعة وتسعون سجلًّا، كل سجلٍّ من هذه السّجلات مدّ البصر، فيُوضع في كفّةٍ من الميزان، ويُؤتى له ببطاقةٍ فيها شهادة "أن لا إله إلا الله"، فذكر النبي أنَّ هذه البطاقة طاشت بتلك السّجلات[4]، وهذا أمرٌ ثابتٌ، لا خلافَ فيه بين أهل السُّنة والجماعة؛ فالأعمال تُوزن، ويُوزن العاملون، كما قال النبي يُؤتى بالرجل السَّمين يوم القيامة، فيُوضع في الميزان، فلا يزن عندالله جناح بعوضةٍ[5]، وتُوزن السّجلات، بدليل حديث البطاقة، فالأعمال تُوزن، والسّجلات تُوزن، والناس يُوزنون في الميزان، والعبرة هناك ليست بكثرة ما توفر في هذه الأجساد من اكتنازٍ بلحمٍ، أو امتدادٍ لقامةٍ، أو نحو ذلك، إنما العبرة بالأعمال التي تثقل الموازين، فهذه لكمال عدل الله -تبارك وتعالى- أخبر أنه يضع الموازين لوزن أعمال العباد، فيُريهم أعمالهم، تُوزن أمامهم، فيكون الواحدُ شاهدًا على نفسه، وهنا تنقطع حجّتهم، ويكون ذلك غاية في إنصافهم، ويكون في ذلك من التَّبكيت للمُسيئين الذين خفّت موازينهم ما فيه، فالله -تبارك وتعالى- قد أحصى لهم هذه الأعمال، ويُجازيهم عليها، ويزنها أمامهم، ثم بعد ذلك تتكشّف الحقائق بمذخور الأعمال، تخفّ موازين العبد، أو تثقل، وعندها يُقال: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا[الإسراء:14].

فهذا الميزان: ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن،حبيبتان إلى الرحمن بأي اعتبارٍ؟

باعتبار أنهما موصوفتان بكثرة المحبوبية، فالحبيب بمعنى المحبوب، وكما جاء: أحبّ الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم[6]،وذكر الله -تبارك وتعالى- محبوبٌ له، ولكن منه ما يكون أكثر محبوبيّة، وأقرب إليه -تبارك وتعالى- مما يكون سببًا لقُرب الذَّاكر بذلك.

وذكر الرحمن في هذا الموضع فيه ما فيه من الإشارة إلى تعلّق ذلك برحمته -تبارك وتعالى-؛ فإنَّ المقصود من الحديث بيان سعة رحمته على عباده، حيث يُجازي على العمل القليل بالثواب العظيم.

خفيفتان على اللِّسان، ثقيلتان في الميزان فهذا من رحمته -تبارك وتعالى- بخلقه، حبيبتان إلى الرحمن هاتان الكلمتان سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، وقد عرفنا معنى التَّسبيح، ومعنى "سبحان"، وأنَّ ذلك يعني: التَّنزيه، وعرفنا أنَّ هذه الواو -أيضًا قبل ليلتين- هل هي واو الحال، كأنه يقول: أُسبّح الله مُتلبسًا بحمدي له، أو أنها عاطفة، والتَّقدير: أُسبّح الله، وأتلبّس بحمده، أو أنها للاقتران: أُسبّحه تسبيحًا مُقترنًا بحمده، أو أنَّ ذلك يتعلق بمحذوفٍ: أُسبّح الله وأُثني عليه بحمده؟ إلى غير ذلك من الاحتمالات، والأمر في ذلك يسيرٌ.

سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيمهذا الحديث هو آخر حديثٍ ختم به الإمامُ البخاري -رحمه الله- "صحيحه"، كأنه يُشير في ذلك إلى ختم المجالس بالتَّسبيح، فالمجلس حينما يُختم يُختم بـ سبحانك اللهم ربناوبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك[7]، تختم المجالس، فكذلك أيضًا تُختم صلاة الليل بالتَّسبيح، وتُختم الفرائض بالتَّسبيح في الأدبار: أدبار الصَّلوات، إلى غير ذلك من الذكر الوارد في أعقاب بعض العبادات، فالبخاري -رحمه الله- ختم "صحيحه" بهذا الحديث، وتبعه على ذلك جمعٌ من الأئمّة في تصانيفهم.

فأسأل الله أن يختم لنا ولكم بالسَّعادة، وأن يُعيننا وإياكم على ذكره، وشُكره، وحُسن عبادته، وأن يشرح صدورنا، وأن يعظم أجورنا، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله، وصحبه.

 

 

  1. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الأيمان والنذور، باب إذا قال: "والله لا أتكلم اليوم"، فصلَّى، أو قرأ، أو سبّح، أو كبّر، أو حمد، أو هلل، فهو على نيّته، برقم (6682)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، برقم (2694).
  2. انظر: "سبل السلام" للشوكاني (2/718).
  3. أخرجه أحمد في "مسنده"، برقم (3990)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة المختصرة"، برقم (3192).
  4. أخرجه الترمذي: أبواب الإيمان، باب ما جاء فيمَن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله، برقم (2639)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (5559).
  5. أخرجه ابنُ أبي شيبة في "مصنفه":  كتاب ذكر النار، باب ما ذُكِرَ فيما أعدّ لأهل النار وشدّته، برقم (34174)، وصححه الألباني في "تخريج أحاديث مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام"، برقم (126).
  6. أخرجه مسلم: كتاب الآداب، باب كراهة التَّسمية بالأسماء القبيحة وبنافع ونحوه، برقم (2137).
  7. أخرجه أبو داود: كتاب الأدب، بابٌ في كفَّارة المجلس، برقم (4859)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"، برقم (80).

مواد ذات صلة