الثلاثاء 07 / شوّال / 1445 - 16 / أبريل 2024
(223) فضل التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير "جاء إعرابي إلى رسول الله فقال: علمني كلاماً أقوله..."
تاريخ النشر: ٠٢ / جمادى الآخرة / ١٤٣٦
التحميل: 1656
مرات الإستماع: 1569

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

في باب فضل الذكر أورد المؤلفُ حديثَ سعد بن أبي وقَّاص قال: جاء أعرابيٌّ إلى رسول الله ﷺ فقال: علِّمني كلامًا أقوله. قال: قل: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله ربِّ العالمين، لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العزيز الحكيم، قال: فهؤلاء لربي فما لي؟ قال: قل: اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني. أخرجه مسلم في "صحيحه"[1].

قوله: "جاء أعرابي" الأعرابي هو مَن سكن البادية، سواء كان من العرب، أو من غيرهم.

فقال للنبي ﷺ: علِّمني كلامًا أقوله. يعني: مما يذكر به ربَّه -تبارك وتعالى-، ولم يُقيد ذلك بحالٍ من الأحوال، أو بموضعٍ من المواضع، فلم يقل: أقوله بعد الصَّلاة، أو أقوله طرفي النَّهار، أو أقوله إذا أويتُ إلى فراشي، أو نحو ذلك، وإنما أراد بذلك الإطلاق.

قال: قل: لا إله إلا الله، وعرفنا مضمون هذه الكلمة، وما تدلّ عليه من التوحيد، وأنَّ ما بعدها من قوله: وحده هو تأكيدٌ للتوحيد بالإثبات والإفراد، وأنَّ قوله: لا شريكَ له تأكيدٌ بنفي الشَّريك، وإلا فإنَّ هذه الكلمة بشقّيها -النَّفي والإثبات- تدلّ على ذلك، فقوله: لا إله هذا كقوله: لا شريكَ له من حيث المضمون؛ فإنَّ قوله: لا إله يتضمّن نفي الشَّريك عن الله -تبارك وتعالى-، وأنَّ قوله: إلا الله يتضمن قوله: وحده، فذلك هو الإفراد.

وقدَّم هذه الكلمة على الجمل التي بعدها باعتبار أنها المفتاح، وأنها الأشرف، فهي كلمة الإسلام، ومفتاح الجنَّة -كما سبق-، وأول ما يجب على المكلَّف، فأول واجبٍ عليه أن يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، فبدأ هنا بهذه الكلمة، وهو التوحيد الذي هو مبدأ الأعمال؛ فإنَّ الأعمال لا تصحّ إلا بذلك، كما أنَّه هو الختم الذي يختم به، كما جاء عنه ﷺ: مَن كان آخر كلامه: لا إله إلا الله؛ دخل الجنَّة[2].

الله أكبر كبيرًا، لاحظوا أنَّه لم يعطف هذه الجملة على ما قبلها، فلم يقل: "لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، والله أكبر كبيرًا"، وإنما أفردها، فجاء بها مُستقلّة، وفصلها عمَّا قبلها، كأنَّه يُشير إلى استقلال كل جملةٍ من هذه الجُمَل بمُفردها، فيحتمل أن يكون (كبيرًا) من قبيل المفعول المطلق، أو أن يكون حالاً مُؤكَّدةً، أي: حال كونه كبيرًا، ويمكن أن يكون بمعنى: كبرتُ كبيرًا.

وهكذا جاء بعده بالعطف: والحمد لله كثيرًا، فإنَّ هذه الجملة وصلت بما قبلها من التَّكبير لمشاركتها لها في الدّلالة على اتِّصاف الله -تبارك وتعالى- بأوصاف الكمال، وأنَّه -تبارك وتعالى- هو الأكبر من كل شيءٍ، فهو الذي يستحقّ الحمد المطلق من كل وجهٍ.

وإعراب (كثيرًا) كما سبق في "كبيرًا"، أي: حمدًا كثيرًا.

وسبحان الله ربِّ العالمين عرفنا في الكلام على الأسماء الحسنى وفي شرح هذه الأذكار: أنَّ الربَّ يُقال للخالق، والمالك، والسيد، والمربي خلقَه بأنواع النِّعَم الظَّاهرة والباطنة، وما أشبه ذلك، فكلّ هذه المعاني داخلة في معنى "الرب"، وهي مُفسّرة له.

وعرفنا أيضًا أنَّ ما سوى الله فهو داخلٌ في (العالمين): قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ۝ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [الشعراء:23-24]، فكلّ ما سوى الله -تبارك وتعالى- في العالم العلوي والسُّفلي فهو داخلٌ في ذلك، لكن الصِّيغة -كما ترون- جاءت بصيغة العُقلاء تغليبًا لهم؛ لأنَّهم الأشرف.

ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العزيز الحكيم قبل ليلتين تكلّمنا على معنى هذه الجملة: لا حول ولا قوة إلا بالله، وقلنا: بأنَّ الأقرب في تفسيرها: أنَّ ذلك بمعنى: لا تحوّل من حالٍ إلى حالٍ مُطلقًا، يعني: لا يُقال فقط من الطَّاعة إلى المعصية، أو من المعصية إلى الطَّاعة، وإنما ذلك يكون في أحوال الإنسان كلِّها، فلا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العزيز الحكيم.

وجاء في بعض الرِّوايات في غير الصَّحيح: العلي العظيم[3]، و"العزيز الحكيم" مناسبٌ هنا أيضًا، باعتبار أنَّه إن كان لا تحوّل من حالٍ إلى حالٍ إلا به، فكونه لا تحوّل من حالٍ إلى حالٍ إلا بإعانته، هذا يدلّ على عزَّته -تبارك وتعالى-، فهو الذي لا يُغالب في مُراده، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فهذا داخلٌ في معنى العزَّة، وأنَّ العزيز أيضًا حكيم، فهو حكيمٌ مع عزَّته، باعتبار أنَّه يضع الأمورَ في مواضعها، ويُوقعها في مواقعها، فما يحصل من تحوّلاتٍ في أحوال هذا العالم، سواء كان ذلك بهذه الجمادات، أو كان ذلك في هؤلاء المخلوقات من الآدميين وغيرهم من ذوات الأرواح، أو غير ذلك من أحوال النَّبات، أو الرياح، أو غير ذلك، فكلّ هذا إنما هو صادرٌ عن عزَّته وحكمته وعلمه وتدبيره -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه-، فله في ذلك الحكمة البالغة، فوجه الارتباط فيه لا يخفى.

قال الأعرابي: "فهؤلاء" أي: هذه الجُمَل "لربي"؛ لما فيها من الثَّناء عليه -تبارك وتعالى-، مع إثبات وحدانيَّته، وما إلى ذلك من التَّنزيه.

"فما لي؟" يعني: ما الذي لي أدعو به مما يعود عليَّ بالنَّفع الدِّيني أو الدُّنيوي؟ وهذا كما جاء في الفاتحة: فإذا قال العبدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، قال اللهُ تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، قال: مجَّدني عبدي -وقال مرةً: فوَّض إليَّ عبدي-، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل[4].

فهنا يقول: "ما لي؟" أي: ما الذي يكون لي مما أدعو به لنفسي؟ فعلَّمه النبيُّ ﷺ أن يقول: اللهم اغفر لي، وعرفنا أنَّ الغفرَ يقتضي أو يدلّ على معنى السَّتر، وكذلك التَّجاوز عن الإساءة: اللهم اغفر لي، وبدأ بهذا كأنَّ ذلك من باب التَّخلية، ثم ذكر بعده الرحمة، وهذا من باب التَّحلية: اغفر لي وارحمني، فالرحمة هنا بمعنى: أن يشمل الله -تبارك وتعالى- عبدَه بألطافه في الدنيا وفي الآخرة، فإذا غفر له فقد ستره ووقاه شُؤْمَ ذنوبه وجرائره وجرائمه، فإذا رحمه فإنَّ ذلك يقتضي أن ينال هذا العبدُ من الرحمات والألطاف والخير في الدنيا والآخرة، وآخر ذلك يكون بدخول الجنة، والنَّظر إلى وجه الله الكريم، والتَّنعم بذلك كلِّه، فيكون العبدُ مرحومًا بذلك.

واهدني فذكر الهدايةَ أيضًا بعد الرحمة، وهذه الهداية مُطلقة: أن يُهدى لأحسن الأحوال والأقوال والأعمال، فإنَّ العبد لا يمكن أن يهتدي بنفسه، وإنما تكون هدايته بهداية ربِّه -تبارك وتعالى-، فمَن يهدي الله فهو المهتدي، فلا اهتداءَ إلا بهدايته -تبارك وتعالى-، والله  يقول لنبيِّه ﷺ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].

وارزقني والرزق هنا يشمل الرزقَ المادي بالمال، وكذلك بما يغذو به الأجسام، ويدخل في ذلك أيضًا الرزق بالعلم، وهو من أجلّ الرزق وأفضله، إلى غير ذلك من أنواع الرزق.

وعافني فهنا سؤال المعافاة بعد ذلك كلّه، المعافاة من الابتلاء، وما يتخوّفه فيما يتَّصل بدينه ودُنياه، والعافية معنى واسع، والعبد بحاجةٍ إلى سؤال ربِّه -تبارك وتعالى-، فالعفو والعافية في الدِّين والدنيا والآخرة، وقد مضى الكلامُ على هذا.

والهداية والرزق هي من جملة الرحمة؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- إذا رحم العبدَ فقد هداه ورزقه، فكلّ ذلك من رحمته -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه-.

فيكون ذلك من عطف الخاصِّ على العامِّ، ولكن الهداية هي المفتاح لمهمات الدِّين، وأمَّا الرزق فهو أيضًا المهم من أمر دنيا الإنسان، مما يكون به قوام الأبدان، وإنما تمس حاجة الإنسان إلى مثل هذين -والله تعالى أعلم-، فالعبد بحاجةٍ إلى هدايةٍ، وبحاجةٍ إلى رزقٍ.

فنسأل الله أن يُعيننا وإياكم على ذكره وشُكره وحُسن عبادته.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التَّهليل والتَّسبيح والدُّعاء، برقم (2696).
  2. أخرجه أبو داود: كتاب الجنائز، بابٌ في التَّلقين، برقم (3116)، وصححه الألباني.
  3. أخرجه أبو داود: أبواب تفريع استفتاح الصَّلاة، باب ما يُجزئ الأمي والأعجمي من القراءة، برقم (832)، وحسَّنه الألباني.
  4. أخرجه مسلم: كتاب الصَّلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كلِّ ركعةٍ، وأنَّه إذا لم يُحْسِن الفاتحةَ ولا أمكنه تعلّمها قرأ ما تيسر له من غيرها، برقم (395).

مواد ذات صلة