الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
12- العقل والنقل. (القواعد 159-169)
تاريخ النشر: ١٦ / محرّم / ١٤٣٣
التحميل: 5219
مرات الإستماع: 3415

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فاللهم اغفر لنا، ولشيخنا، والحاضرين، والناقلين، والمستمعين.

قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: وفي القرآن والحكمة النبوية عامةُ أصول الدين من المسائل والدلائل.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: 

فهذا في ضمن الجواب الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على سؤال وُجه إليه حينما كان في مصر، يسأله فيه بعضهم عن هذه التي يسميها المتكلمون بأصول الدين، هل بينها الرسول ﷺ أو لم يبينها؟ وإذا كان النبي ﷺ لم يبينها هل يجوز لنا الخوض فيها؟ وهل يُكتفى بذلك، يعني بمعرفته بغلبة الظن أو لابد من القطع؟ إلى غير ذلك من السؤالات التي أوردها، وذلك جاء عرضاً بطريقة تشبه الاستطراد وإلا فهو -رحمه الله- يرد على الرازي وأضرابه من المتكلمين فيما يسمونه بالقانون الكلي، يعني عند التعارض تعارض العقل والنقل يقدم العقل عندهم، فهو يرد عليهم، ويجيب عن هذا، لكن هذا في ضمن هذا السؤال الذي عرض له -رحمه الله- فلا زال يجيب عنه.

يقول: "وفي القرآن والحكمة النبوية عامةُ أصول الدين من المسائل والدلائل"، يعني هذه القضايا التي يسمونها بأصول الدين ليست كذلك، ليست كما يقولون.

وذكر -رحمه الله- من الأدلة من الكتاب والسنة مما يدلل فيه -تبارك وتعالى- بالدلائل العقلية وغيرها على أصول الدين، وأن الأدلة الصحيحة التي تورث اليقين هي في مضامين دلائل الكتاب والسنة لا فيما يقوله المتكلمون، ثم بدأ يذكر نماذج من هذه التي يسمونها بأصول الدين.

وذكر نماذج من هذه الدلائل أيضاً التي في الكتاب والسنة والأمثال المضروبة، لكن الشيخ -رحمه الله- هنا يختصر، ولا بأس أن أذكر بعض الأمثلة القليلة لذلك، ومن شاء فليراجع الأصل، كقوله -تبارك وتعالى- في أمر المعاد: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهمْ وَجَعَلَ لَهمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء:99]، هذا يستدل به على إثبات المعاد أنّ مَن خلقهم أول مرة فهو قادر على الإعادة، فهذا دليل من المعقول، دليل نقلي قد تضمن الدليل العقلي، فكل منصف سيقول: إن الذي خلق أولاً قادر على الإعادة ثانية؛ لأن الإعادة أسهل بالنسبة للمخلوقين من الابتداء.

وهكذا في خلق الأجرام العظيمة الكبيرة كقوله -تبارك وتعالى-: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهمْ بَلَى وَهوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس:81]، فخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، فكيف يعجز عن إعادتهم؟ إلى غير ذلك من الدلائل: وَهوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه وَهوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَه الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [الروم: 27]، إلى غير ذلك.

أما ما يسمونه بأصول المتكلمين فهو يمثل لها، هذه التي يسأل عنها هذا السائل ويقول: هل بينها النبي ﷺ؟ وهل يجب علينا أن نتعلمها؟ وهل يكفي في ذلك غلبة الظن؟ إلى آخره.

فيقول: وأما ما يُدخله بعض الناس في هذا المسمى من الباطل فليس ذلك من أصول الدين -يعني المتكلمين- وإن أدخله فيه، يقول: مثل المسائل والدلائل الفاسدة، نحن عرفنا الدلائل الفاسدة، وكذلك أيضاً المسائل الفاسدة، وهي كثير من مسائل المتكلمين في هذا الباب من نفي كثير من الصفات، أو نفي الصفات كما يفعله المعتزلة، أو غير ذلك مما يقولونه، قال: مثل نفي الصفات والقدر، ونحو ذلك من المسائل، ومثل: الاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأعراض التي هي صفات الأجسام القائمة بها، إلى آخر ما يذكره في هذا مما يسمونه بأصول الدين، والواقع أن هذا لم يشتغل به السلف الصالح  ولم يتطرق له النبي ﷺ، لم يتكلم بهذه الدلائل، ولم يتكلم في هذه المسائل بالطريقة التي يقررها أهل الكلام، فيقول: هذه التي أدخلوها في أصول الدين وسموها أصول الدين، ويسأل عنها هذا السائل الواقع أنها ليست كذلك.

والمشكلة أن هؤلاء يتلقون شيئاً ويتوارثونه، ويدرسونه في مدارسهم، ومعاهدهم وما إلى ذلك، يتلقونه عن شيوخهم، فيتقرر ذلك عندهم على أنه هو أصول الدين، وأن من أخطأ في هذه المسائل فبعضهم يطلق عليه الكفر، أو من لم يعرفها، أو من خالف فيها، أو نحو ذلك كما في العبارات المتفرقة لهؤلاء من أهل الكلام.

بعضهم يقول: نكفر من كفرنا، وبعضهم يقول: من خالفنا فيها فقد كفر، وبعضهم يقول: من لم يعتقد ذلك فهو كافر، وبعضهم يقول: لا أكفر أحداً من أهل القبلة كما يقوله الأشعري في بعض كتبه كمقالات الإسلاميين، فكل هذا مما يدندنون حوله ويسمونه بأصول الدين،ثم يأتي مثل هذا ويسأل عنه، وهذه مشكلة الموروثات الباطلة حينما يتوارثها الناس، ولا يعرفون غيرها، ثم بعد ذلك يتعصبون لها، ويحصل بسبب ذلك من الفساد والفتنة ما الله به عليم.

قال -رحمه الله-: ذم السلف والأئمة للكلام وأهله متناول لمن استدل بالأدلة الفاسدة، أو استدل على المقالات الباطلة، فأما من قال الحق الذي أذن الله فيه حكماً ودليلاً فهو من أهل العلم والإيمان، والله يقول الحق ويهدي السبيل، وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك، وكانت المعاني صحيحة، وإنما كرهه الأئمة إذا لم يُحتج إليه.

هنا يتكلم على قضية قد يتوهم فيها بعضهم خلاف مقصود السلف  فالسلف حينما ذموا الكلام وحذروا منه، وقال فيه مثل الشافعي -رحمه الله-: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، وأن يطاف بهم في العشائر والأسواق، وأن يقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، واشتغل بالكلام المذموم"[1].

يقول: ليس لأنه يتضمن بعض المصطلحات الحادثة، ليس هذا هو السبب، وإنما لما يعتمد عليه من الدلائل الفاسدة، والأحكام الباطلة، فيقول: ذموه من أجل هذا، فكثير من دلائل هؤلاء هي غير صحيحة، ثم أيضاً هذه الأحكام التي يقررونها كثيرٌ منها غير صحيح، فذم السلف علم الكلام لهذا.

إذن المسألة ليست مجرد مخالفة في اصطلاح، وإنما المسألة أن مضمون علم الكلام في جملته وغالبه باطل، على خلاف طريقة السلف  وهذه قضية مهمة؛ لأن البعض قد يظن أن المسألة هي مجرد صيغ وعبارات لم يقبلها السلف لمجرد كونها اصطلاحات واستعمالات جديدة وحادثة، فالمضامين من دلائل ومسائل أحكام ليست كما ينبغي، ومن ثَمّ أورثتهم كثرة الاختلاف والحيرة والاضطراب، ووصلوا إلى طرق مسدودة، هذا المعنى هو الذي يقرره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.

ثم يقول بأن السلف لا يمنعون من استعمال المصطلحات الحادثة بإطلاق، وإنما يقول: العلم الصحيح ما يقوم على الدلائل الصحيحة والأحكام الصحيحة، فمن كان متصفاً بذلك متحققاً به فهو من أهل العلم والإيمان، ولكلٍّ من هذا الوصف -يعني أنه من أهل العلم والإيمان- بحسب ما يتحقق به من هذا الشرط.

أما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم، فيقول: مثل هذه القضية لا إشكال فيها، يقول: "فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة، وإنما كرهه السلف إن لم يُحتج إليه"، في أي الحالات يحتاج إليه؟

قد أشرت في مرات سابقة، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في عدد من كتبه أحوالا لهذا الاحتياج، يقول: مثل من لم يفهم إلا من هذا الطريق؛ فإنه يُخاطَب كما يخاطَب الأعاجم بلغتهم، يقول: إذا احتيج إلى مثل هذا فإنهم يخاطبون بالأعجمية من أجل أن يتوصل بذلك إلى إفهامهم الحق، وتعليمهم له، وكذلك أيضاً أن مِن الناس من لا يقتنع، ولا يستجيب، ولا ينقاد، إلا بسلوك الطرائق الصعبة في الاستدلال، والمصطلحات الجديدة أو الغامضة، أو الغريبة، أو الصعبة التي تحتاج إلى فك؛ ليتميز بزعمه سواءً صرح بذلك، أو لم يصرح بذلك عن طرائق الجمهور، أو من يسمونهم بالعوام، يريد أن يتميز فلا يقبل أن يخاطَب بطريقة معهودة كما يخاطب غيره، فيقول: مثل هؤلاء يمكن أن يُستدل عليهم، وأن يناقشوا، وأن يحتج عليهم بمثل هذه المصطلحات، وتستعمل في الألفاظ؛ لأن ذلك كاستعمال الألفاظ الأعجمية، لكن هل هذا يكون اختياراً من البداية؟

الجواب: لا، وإنما هو مثل الدواء الذي يحتاج إليه بعض المرضى، بعض أصحاب النفوس العليلة يحتاجون إلى مثل هذا، ومن عافاه الله فإنه يجد مَقْنعاً وكفاية في دلائل الكتاب والسنة.

وقال -رحمه الله-: فإذا عُرفت المعاني الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة، وعُبر عنها لمن يفهم بهذه الألفاظ؛ ليتبين ما وافق الحق من معاني هؤلاء، وما خالف فهذا عظيم منفعة، وهو من الحكم بالكتاب بين الناس فيما اختلفوا فيه، ونهى الكتاب والسنة عن أمور، منها:

  • القول على الله بغير علم.
  • وقول غير الحق.
  • والجدل بغير علم.
  • والجدل في آياته.
  • والتفرق والاختلاف.

قوله -رحمه الله-: "فإذا عُرفت المعاني الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة، وعُبر عنها بمثل هذه الألفاظ والمصطلحات؛ ليتبين"، يعبر بها لمن لا يفهم إلا بهذا، "ليتبين ما وافق الحق من معاني هؤلاء، وما خالف فهذا عظيم المنفعة"، يعني: ينتفع بمثل هذا، هذا الكلام ذكره بعده أن قرر أن السلف لم يذموا الكلام لمجرد كونه يحوي اصطلاحات مولدة، أو جديدة، وإنما لما في مضامين ذلك من المعاني الباطلة في الأدلة والأحكام، وتلك الألفاظ تشتمل على معانٍ مجملة، وتحتمل الحق والباطل في النفي والإثبات.

يقول: "من أجل هذا كان السلف يذمون الكلام والعلوم الكلامية"، وذكر -رحمه الله- أن مثل هذا الحكمُ بين سائر الأمم بالكتاب فيما اختلفوا فيه من المعاني التي يعبرون عنها بوضعهم، وعُرفهم، وذلك يحتاج إلى معرفة معاني الكتاب والسنة، ومعرفة معاني هؤلاء أيضاً بألفاظهم، ثم اعتبار هذه المعاني بهذه المعاني ليظهر الموافق والمخالف، فيكون كالترجمة لمن لا يفهم العربية، لكن يحتاج من يستعمل مثل هذا، ويتطرق له إلى أن يكون عارفاً بهذه الألفاظ، وما في مضامينها، ويعرف دلالات هذه المصطلحات، ويعرف أيضاً الحق الذي جاء به الرسول ﷺ فإذا كان عارفاً بدلائل الكتاب والسنة، ولكنه لا يعرف ما تتضمنه هذه الألفاظ والعبارات والمصطلحات؛ فإنه قد يقع في شيء من الانحراف، وهو لا يشعر، إما برد بعض الحق، أو بتقرير الباطل، وهذا الذي وقع فيه الكثيرون.

وهؤلاء جعلهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على مراتب متفاوتة، فمنهم من كان له بصر بعلوم المنقول، ولم يكن له بصر بعلوم المعقول هذه وهذه العلوم الكلامية، ثم بعد ذلك دخل في شيء من الكلام فوقعت له انحرافات، ويقابله الطرف الآخر، وهو من أوغل في العلوم الكلامية، وليس له معرفة بالعلوم النقلية، فهذا قد اشتط في الانحراف، وأوغل في الباطل، وبين هذا وهذا طوائف ومراتب ذكرها -رحمه الله- حتى أنه أوصل ذلك إلى خمس درجات، يعني: من الأول من الطرف إلى الطرف وما بينهما، جعل ذلك بهذه المثابة.

والحاصل أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هنا يقول: "ونهى الكتاب والسنة عن أمور، منها: القول على الله بغير علم"، الآن يجيب على هذا السائل الذي يسأل يقول: هل هذا مما نهى عنه الشارع؟ إذا كان النبي ﷺ ما تطرق إلى هذه القضايا -هذه المسائل- فهل يأثم من اشتغل بها؟ هل يكون ذلك من المحرم؟ هل هذا مما نهى عنه الله ورسوله؟ فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "نهى الكتاب والسنة عن أمور، منها: القول على الله  بغير علم"، وذكر أدلة على هذا: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 169].

قال: "وقول غير الحق"، أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [الأعراف: 169].

قال: "والجدل بغير علم"، يقول الله فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل عمران: 66]، فالذي يجادل بالباطل يجادل بغير علم، إما لإبطال الحق، أو لتقرير الباطل، أو أنه يجادل لمجرد المجادلة، فكل هذا مذموم بأنواعه الثلاثة.

قال: "والجدل في آياته": إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا [فصلت: 40]، وكذلك النبي ﷺ لما خرج على بعض أصحابه وهم يتجادلون في القَدَر، فخرج ﷺ مغضباً، وقد احمر وجهه كأنما فُقئ في وجهه حب الرمان ﷺ.

وهكذا أيضاً مما نهى الله عنه ورسوله ﷺ التفرق والاختلاف: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا [آل عمران: 105]، إلى غير ذلك، ومن شاء أن يتوسع في هذا فليرجع إلى كلامه في الأصل.

وقال -رحمه الله-: يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول إيماناً مجملاً عامًّا، ولا ريب أن معرفة ما جاء به على التفصيل فرض كفاية؛ فإن ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله به رسوله، وداخل في تدبر القرآن، وعلم الكتاب والحكمة، وحفظ الذكر والدعاء إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ونحو ذلك مما أوجبه الله على المؤمنين، فهو واجب على الكفاية منهم.

وأما ما وجب على أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدْرهم وحاجاتهم، ومعرفتهم، وما أُمر به أعيانهم، ولا يجب على العاجز عن سماع بعض العلم، أو عن فهم دقيقه ما يجب على القادر على ذلك.

ويجب على من سمع النصوص، وفهمها من علم التفصيل ما لا يجب على من لم يسمعها.

ويجب على المفتي، والمحدِّث، والمجادل ما لا يجب على من ليس كذلك.

هذا أيضاً ذكره جوابًا على سؤال هذا السائل الذي يقول: إذا كان يجوز تعلم هذه الأمور، فهل هذا واجب؟

فشيخ الإسلام كما ترون في إجاباته يفصل، ولا يجيب بإجابات مجملة، وهذا ينبغي أن يكون سمة لطالب العلم، أن لا يكون قوله جزافاً بالنفي أو الإثبات إذا كان المقام يتطلب التفصيل، وإنما يتحرى التفصيل والبيان دون الإجمال والإطلاق، وكثير ممن يطلقون في أحكامهم وأجوبتهم يخطئون، ويقع الخلاف بسبب ذلك في المسائل العلمية، والأمور العملية، هذا تجده كثيراً في قضايا الاعتقاد، وفي غيرها من الأمور الأخرى العملية.

فهذا يقول مثلاً: الله في جهة، وهذا يقول: الله ليس في جهة، هذا يقول: الله -تبارك وتعالى- مثلاً يُرى في جهة، وهذا يقول: الله يُرى لكن لا في جهة، فهذا يحتاج إلى تفصيل، هذا يثبت الجسم وهذا ينفي الجسم، وهذا يقول مثلاً حينما يتكلم على قضية الأمر من الله هل الأمر يقتضي الإرادة، أو لا يقتضي الإرادة يقول: الأمر لا يقتضي الإرادة، وهذا يقول: الأمر يقتضي الإرادة، تجد هذا في كثير من المسائل، والكتب التي تقرر هذه القضايا على طريقة المتكلمين ككثير من كتب أصول الفقه، تجد فيها مثل هذا، وكثير من الدارسين لا يتفطن لما تحتها من الانحرافات، يعني على سبيل المثال هذه القضية، أو أي قضية من القضايا تجدها في كتب أصول الفقه، إما في مقدماته، أو في ثنايا صلبه مما يذكر من المسائل والأصول، يقولون مثلاً في مقدماته: العلم، ثم يتحدثون يقولون: أصول الفقه، الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية بأدلتها التفصيلية، ثم يوردون على أنفسهم سؤالاً، يقولون: العلم؟ عبرنا بالعلم والعلم أمر يستوجب القطع، لا يكون من باب المظنون، طبعاً أنا أقرر على طريقتهم، وليس الصواب كما يقولون.  

ثم يقولون: إذا كان كذلك فالفقه من باب الظنون -الظنيات- لأنهم يطعنون بالأدلة من جهة الثبوت -أخبار الآحاد، ومن جهة الدلالة، أن الدلالة يرد عليها الاحتمال، إذن هو من باب الظنون إن سلم من جهة الثبوت، يعني: إن كان من قبيل التواتر لم يسلم عندهم من جهة الدلالة، فيقولون: هو من باب الظنون، وهكذا يوهِّنون الشريعة، ومن ثَمّ يلجئون إلى ما يسمونه بالمعقول، نسأل الله العافية.

فالشاهد أنهم حينما يوردون على أنفسهم هذا يقولون: العلم، وبعضهم يلجأ يقول: المعرفة حتى لا يقع في هذا الإشكال، فيردّ عليهم الآخرون فيقولون: العلم والمعرفة رديفان، أو في غاية التقارب عند من ينفي الترادف.

إذن ماذا يقال؟

فهم يقررون عندها، يقولون: العلم لا يتفاوت مثلاً، حينما يتحدثون عن خبر الواحد يقولون: العلم لا يتفاوت، هو يفيد الظن بإطلاق مثلاً، العلم لا يتفاوت هذا بناءً على أن الإيمان عندهم لا يتفاوت -عند المتكلمين- فأصل المسألة غلط، هي مبنية على قضية كلامية، على قضية منحرفة، على اعتقاد فاسد، وقل مثل ذلك في هل الأمر يقتضي الإرادة، أو لا يقتضي الإرادة؟ 

هذا بناءً على أصل فاسد، نحن لا نقول بإطلاق: إنه يقتضي الإرادة، ولا نقول بإطلاق: لا يقتضي الإرادة، وإنما فيه تفصيل، عندنا إرادة كونية، وعندنا إرادة دينية شرعية، فهم لا يفرقون بين الإرادتين فيستشكلون وجود الأمر مع الإرادة؛ لأن الإرادة تقتضي عندهم المحبة -محبة المراد- فهل الله حينما يأمر بالكفر مثلاً -يأمر به كوناً وقدراً- هل معنى ذلك أنه يحبه؟ ولهذا يقول بعضهم في بعضَ المقالات الفاسدة الباطلة: إن الله لم يخلق أفعال العباد أصلاً؛ ليتخلص من مثل هذه الأمور، بينما أهل السنة يقولون: الإرادة الكونية لا تقتضي محبة المراد، وهي تقتضي وقوع المراد، وإرادة شرعية دينية مثل: الأمر بالصلاة، والزكاة، ما أمر به شرعاً وديناً فهذه تقتضي المحبة، ولكنها لا تقتضي الوقوع، وقد تجتمع الإرادتان في المؤمن المطيع.

وقل مثل ذلك حتى في المسائل العملية، الآن تجد جدالا كثيرًا عند إخواننا المشتغلين بالتجويد، ومن قد يخالفهم هل التجويد واجب أو ليس بواجب؟

فتجد رسائل ومؤلفات وردودًا هؤلاء يقولون: واجب، وهؤلاء يقولون: ليس بواجب، التجويد مستحب وليس بواجب، ومن ثَمّ تجد الاختلاف بينما المسألة فيها أن التجويد يتفاوت، فقدر منه واجب أن يخرج الكلام بطريقة صحيحة كما تتكلم العرب، فهذا القدر واجب، وهناك قدر غير واجب وهو ما كان من قبيل المحسنات من جهة الأداء، مثل: الإدغام، والإخفاء، والإقلاب، والغنة، وما أشبه ذلك مما لا يحصل به لحن جلي، فمثل هذا القدر الزائد لا يقال: إنه واجب، ولا يقال: إنه ليس بواجب بإطلاق، وإنما فيه تفصيل.

المقصود الذي أريد أن أصل إليه وهي قضية مهمة في حياتنا العملية، وفي أحكامنا العلمية: لا تطلق الأحكام جزافاً، ولا تكن حدِّيًّا -كما يقال- في ردود أفعالك، وفي أجوبتك، وفي مجادلاتك، وإنما يكون الإنسان ولو كان الذي يخالفه بغيضاً يكون في أحكامه يفصل كما ترون في أجوبة شيخ الإسلام، وسترون أيضاً أشياء من هذا القبيل كثيرة لاسيما في هذا الكتاب العظيم النفع.

يقول في مسألة: هل يجب على كل أحد؟ هم طبعاً يقولون: نعم يجب على كل أحد، ومن لم يعتقد ذلك فهو كافر، على الأقل يقوله طوائف منهم، شيخ الإسلام يقول: أولاً هذه المسائل التي يدندنون حولها ليست هي التي يقال لها: مسائل أصول الدين حقيقة، وإنما أحدثوا مسائل، وأدخلوها في هذا الباب، وسموها بأصول الدين.

يقول: أما ما جاء به الرسول ﷺ فهذا يجب الإيمان به إيماناً مجملاً، لا يجب على كل الناس أن يؤمنوا، وأن يعلموا تفاصيل هذه الأشياء، وإلا فإن ذلك أمر لا يطاق بالنسبة إليهم، فقدرات الناس العقلية والملكات، وأيضاً ما يتوفر لهم من الفرص، ومن الأوقات في التعلم هذا أمر يتفاوت الناس فيه غاية التفاوت، ولا يطلب من الناس جميعاً أن يتخصصوا في العلوم الشرعية، ولو فعلوا أيضاً فإنهم لا يستطيعون الإحاطة بكل تفاصيل الشريعة كما قال الشافعي -رحمه الله- بأنه لا يحيط أحد بذلك، أي أحد يعلم كل الأدلة، فهذا أمر متعذر، ولكن العلماء يتفاوتون فيه، ويتمايزون، فهذا يعلم أشياء تخفى على هذا، وهذا يعلم أشياء تخفى على هذا، ولكن ذلك لا يكون خافياً على مجموعهم.  

فيقال: يجب الإيمان بما جاء به الرسول ﷺ إيماناً مجملاً، لا نرد شيئاً من ذلك، ولا نكذب به، فكل ما ثبت عنه فهو حق نؤمن به وننقاد له، ما فهمنا معناه أثبتناه، وما خفي علينا فإننا نكِل علمه إلى عالمه، لكن لا نكذب به، ولا نحرف، ولو سمينا ذلك تأويلاً، يبقى أنّ تعلُّم التفاصيل هو من قبيل فروض الكفاية، أنه يجب على بعض الأمة أن يعرفوا تفاصيل الشريعة، أي: يتخصصوا في هذه الأمور، وكل من ولج في باب أو تعلق به حكم فإنه يجب عليه أن يتعلم ما أُنيط به من هذا الجانب، فمثلاً: الذي يدخل في مجادلة الفلاسفة، أو أهل الكتاب، أو يدخل في مجادلة أهل البدع، أو نحو ذلك يحتاج من العلم بالتفاصيل ما لا يحتاجه غيره، فلا يتقحّم هذا الباب وهو خالي الوفاض، لا بصر له بما يتطلبه العلم بهذه الأمور، وقل مثل ذلك أيضاً في من وجب عليه زكاة مثلاً في نوع من التجارات، أو الأموال أو دخل في شيء من هذه المعاملات يجب عليه أن يعرف أحكامها.

العبادات التي هي من قبيل فروض الأعيان الصلاة والصيام، وما إلى ذلك، هذه يحتاج المكلف أن يتعلم كيف يؤديها على وفق ما جاء به الرسول ﷺ.

وهكذا الذي يتصدى مثلاً للفتيا؛ فإنه يجب عليه أن يكون عارفاً بالأحكام، والفقه، وما إلى ذلك.

الذي يتصدى للاستنباط واستخراج الأحكام وما إلى هذا يحتاج إلى معرفة بالأصول، واللغة العربية، وأمور من الأدلة من الكتاب والسنة، وما إلى ذلك، فهذا يتفاوت الناس فيه كلٌّ بحسبه، لكن لا يقال: إن ذلك يجب على التفصيل على الجميع بإطلاق سواءً كان في قضايا الاعتقاد، أو في القضايا العملية، يعني: يكفي مثلاً: أن يؤمن بالله، وملائكته، ورسله، وكتبه، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، لكن هل نطالب هؤلاء بالتفاصيل أن نقول: عدد الرسل الذين ورد ذكرهم  في الكتاب والسنة؟ لا بد أن تعرف جميع الأسماء الحسنى الواردة في الكتاب والسنة؟ هل يجب عليك أن تعرف جميع الكتب بأسمائها التي وردت في الكتاب والسنة على سبيل التفصيل؟ نقول لجميع الناس هذا؟

الجواب: لا، يكفي أن يؤمن بذلك إيماناً مجملاً، هذه مسألة الوجوب، فذكر فيها أن ذلك يكون على هذا التفصيل.

وقال -رحمه الله-: وما أوجب الله به اليقين وجب فيه ما أوجبه الله كقوله: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:98]، فَاعْلَمْ أَنَّه لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه [محمد:19]، وكذلك يجب الإيمان بما أوجب الله الإيمان به، وقد تقرر في الشريعة أن الوجوب معلق باستطاعة العبد.

هذا أيضاً جواب على سؤال أورده هذا السائل، يقول: إذا كان ذلك يجب أن نتعلمه، فهل يكفي في ذلك غلبة الظن، أو لابد من اليقين؟

مهم جدًّا أن نعرف هذا الجواب خرج من أي وجه؛ حتى ننزله في موضعه الصحيح، فهنا يقول: "ما أوجب الله به اليقين وجب فيه ما أوجبه" أيضاً هو يفصل هل يجب اليقين في كل شيء؟ أو يكفي في ذلك غلبة الظن؟ وهل يتوصل كثير من الناس إلى اليقين في كل مطلوب شرعي؟

الجواب: أن هذا أمر لا يمكن؛ لتفاوت قُدر الناس، لتفاوت إمكاناتهم، لتفاوت علومهم، فيصل إلى هذا من الأدلة ما لا يصل إلى غيره، وكذلك الحاذق بالشيء يعني العالم بالسنة، وبجهود علمائها في حفظها، وضبطها يعرف من تفاصيل ذلك أشياء كثيرة جدًّا، مثل هذا يكون يقينه بهذا الحديث المنقول عن النبي ﷺ كيقين ذلك العامي الذي لا يعرف شيئًا من هذا، ويقول: ربما يكون هذا ولو كان في الصحيحين، ربما أحد أضافه، كما يقوله بعض العوام؟

فمن كان عارفاً حاذقاً في هذا الباب له بصر فيه، واشتغال فإنه يكون عنده من اليقين ما لا يكون عند غيره، هذا من جهة السنة، وثبوت ذلك عن النبي ﷺ وما يفيد منه اليقين، بخلاف الجاهل الذي لا يعرف شيئاً من هذا. 

فالمقصود أن الناس يتفاوتون، هناك قضايا تحتاج إلى تقرير في المسألة المعينة بدلائلها، وهناك أشياء تحتاج إلى خلفية قبل ذلك، يعني: أن يكون عند هذا الإنسان قاعدة ينطلق منها، درس العلم لعشرات السنين، وصار عنده من اليقين والثقة بهؤلاء الرواة، أو بهذه الكتب الصحاح كصحيح البخاري، وصحيح مسلم مثلاً ما لا يوجد عند غيره من آحاد طلبة العلم فضلاً عن العوام، لكن هل يستطيع أن ينقل هذا اليقين بمجلس واحد إلى من كان خلواً من هذه الأمور؟

الجواب: لا يستطيع، وهكذا من عرف النبي ﷺ وعرف تفاصيل أحواله فإنه يكون عنده من اليقين ما لا يكون عند غيره من هذه الجهة، فاليقين يتفاوت، فكيف بغيره؟ إذا كان إبراهيم ﷺ قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى [البقرة:260]، قال الله: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، فأراد إبراهيم ﷺ أن ينتقل من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين، وعين اليقين أرفع من علم اليقين، فاليقين مراتب، والعلم مراتب ودرجات، ثم أيضاً الظن على مراتب، منه ظن مرجوح لا يُتَّبع، ومنه ما كان من قبيل الشك فلا ينفع وهو مستوي الطرفين، ومنه ما يكون غالباً، فذلك قد يكون هو غاية ما يتوصل إليه المكلف في بعض المسائل، فيكون معذوراً إن لم يكن ذلك من جراء التقصير، يعني: اشتغل بعلوم كلامية مثلاً، وصار في القضايا الشرعية عنده غلبة ظن فقط؛ لإعراضه عن دلائل الكتاب والسنة فهو لا يشتغل بها ولا يلتفت إليها، فمثل هذا قد يذم ولا يعذر، والله تعالى أعلم.

فالشاهد أن هذا هو تفصيل يذكره شيخ الإسلام جواباً على سؤال هذا السائل: هل يكفي اليقين أو غلبة الظن؟ فيقول: "ما أوجب الله به اليقين وجب فيه"، اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:98]، فَاعْلَمْ أَنَّه لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه [محمد:19]، هذه المسائل أنه لا يعلم الغيب إلا الله مثلاً، أن الله واحد أحد، هذه لا ينفع فيها غلبة الظن.

يقول: "وقد تقرر في الشريعة أن الوجوب معلق باستطاعة العبد"، فالمسائل التي لا يتوصل إليها إلا بغلبة ظن غاية ما هنالك أن يكون عنده غلبة ظن، فمثل هذا ما لم يكن مقصراً فإنه لا يكون مذموماً، ويكون معذوراً بذلك.

قال -رحمه الله-: وليس عليه أن يترك ما يقدر عليه من اعتقاد قول غالب على ظنه؛ لعجزه عن تمام اليقين، بل ذلك هو الذي يقدر عليه لاسيما إذا كان مطابقاً للحق، فالاعتقاد المطابق للحق ينفع صاحبه، ويثاب عليه، ويسقط به الفرض إذا لم يقدر على أكثر منه.

يعني: إذا كان هذا غاية ما هنالك، ما يستطيع إلا غلبة الظن، فهل يقال: هذا لا ينفع؟ لا يصح لك العمل بمقتضى غلبة الظن؟

الجواب: لا؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وهو يذكر هنا يقول: "فإذا كان كثير مما تنازعت فيه الأمة من هذه المسائل الدقيقة قد يكون عند كثير من الناس مشتبهاً لا يُقدر فيه على دليل يفيد اليقين لا شرعي ولا غيره، لم يجب على مثل هذا في ذلك ما لا يقدر عليه، وليس عليه أن يترك ما يقدر عليه من اعتقاد قول غالب على ظنه..."[2]، إلى آخر ما ذكر هنا.

فالمتكلمون في هذه المسائل الدقيقة يرتبون عليها أحكاماً صعبة من التكفير، ولذلك صارت الفرقة الواحدة عندهم من المعتزلة وغيرهم تنقسم إلى فرق، يضلل بعضها بعضاً، ويكفر بعضها بعضاً في مسائل دقيقة، ما تكلم فيها النبي ﷺ ولا يتوصل بها عندهم بطرائقهم إلى يقين، بدليل أن الواحد منهم كما سيأتي من كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- يقرر المسألة والقول في موضع، ويقرر غيره لربما في نفس الكتاب، بل قد يقرر ما يناقضه، وقد يقرر ذلك في كتاب آخر، فغاية ما هنالك أنهم يدورون على ظنون وإن سموا ذلك يقيناً، ولهذا قال بعضهم: من طلب اليقين بالكلام فقد طلب محالاً، يعني: الأمر لا يمكن، وذكرنا من كلامهم في هذا وحيرتهم، وسيذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- من هذا أشياء، ونقل كثيراً من نصوصهم وعباراتهم في هذا الباب، في هذا الكتاب وغيره حتى إنه قال: "لو نقلت ما بلغني من ذلك لطال المقام، فكيف بما لم يبلغني منه؟"[3]، يعني مِن تحير هؤلاء، ومن شكهم، ومن وقوفهم، قال: "حتى إن الغزالي -وهو من أحذقهم وأذكاهم وأعلمهم- يناظر الفلاسفة ويقول: تارة نرد عليهم بدلائل المعتزلة، وتارة نرد عليهم بقول الكرامية، وتارة نرد عليهم بقول الأشعري"[4]، فهو يريد أن يكسر الفلاسفة بأي طريق.

يقول: "وكثيراً ما يتوقف"، يقول: "أما الآمدي فهو يرد عليهم -يعني المتكلمين-ويبطل كثيراً من أقوالهم، ثم يتوقف بعد ذلك، لا يقرر شيئاً"[5]، يعني ما ترجح عنده شيء.

وآخر يقول: "أضطجع علي فراشي، وأضع الملحفة علي وجهي، وأقابل بين أدلة هؤلاء وأدلة هؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي شيء"[6].

وآخر يقول: "أرجع إلى دين العجائز، أموت على عقيدة عجائز نيسابور"[7]، ومع ذلك يتكلمون في اليقين، وطلب اليقين، وما إلى ذلك في مثل هذه المضائق والدقائق.

وقال -رحمه الله-: وقد أخبر تعالى في غير موضع من كتابه بالضلال، والعذاب لمن ترك اتباع ما أنزله، وإن كان له نظر وجدل واجتهاد في عقليات وأمور غير ذلك، وجعل ذلك من نعوت الكفار والمنافقين.

ذكر هذا الكلام -رحمه الله- بعد أن بين أن عامة ضلال من ضل في هذا الباب إنما كان بسبب تفريطه وإعراضه عن دلائل الكتاب والسنة، والاشتغال بذلك، اشتغل بالعلوم الكلامية، فيحصل له ضلال بسبب ذلك، أو يحصل له عجز عن معرفة الحق الذي جاء به الرسول ﷺ يقول: فالله -تبارك وتعالى- قد حكم في غير ما موضع من كتابه بالضلال والعذاب لمن ترك اتباع ما أنزله، وإن كان له نظر وجدل واجتهاد في عقليات وأمور غير ذلك، وجعل هذا من نعوت الكفار والمنافقين، كما قال الله وَجَعَلْنَا لَهمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهمْ سَمْعُهمْ وَلَا أَبْصَارُهمْ وَلَا أَفْئِدَتُهمْ مِنْ شَيْءٍ [الأحقاف:26]، نسأل الله العافية.

وهكذا لما ذكر أحوال المكذبين للرسل ذكر في جملة أوصافهم: أنهم فرحوا بما عندهم من العلم، كانت عندهم علوم لكنها لم تسعفهم، ولم تنفعهم، فلم يتوصلوا بها إلى الحق والاعتقاد الصحيح، بل كانت صارفة لهم عن اتباعه، ولهذا يذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- في كلامه على بعض هؤلاء المنحرفين يقول: "أوتي ذكاءً ولم يؤتَ زكاءً"[8].

فالذكاء قد يضر صاحبه فيغتر بذلك، فيأنف من اتباع الحق ابتداء، أو يكون ذلك بسبب أنه يريد أن يتميز على غيره، فلا يُخاطَب بما يخاطب به الجمهور كما يزعم، ولذلك تجد كثيرًا من الأذكياء اليوم لربما يتقحم ويتجشم الطرائق الصعبة، ويركب المراكب التي لا يجوز ركوبها، ويضل وينحرف، ويسفسط في قضايا قد لا يتبين ما تحتها، كل ذلك من أجل أن  يتميز في طرحه، وفي كلامه في القضايا التي يدعو إليها، ويقررها في صفحته في الفيس بوك، أو فيما يكتبه في التويتر، أو نحو ذلك، فيتميز عن الآخرين، فيتكلم بمصطلحات في قضايا، ويقرأ لبعض الفلاسفة العرب، أو الفلاسفة الأعاجم في كتبهم المترجمة، قد يكون هذا من الأذكياء، لكنه لم ينفعه ذكاؤه فطلب طريقاً يتميز فيها، ولكنه ضل بسبب ذلك، وبعضهم قد يلجأ إلى مثل هذه الأمور؛ لعجزه عن تحصيل العلوم الشرعية النقلية، كما جاء عن عمر : "إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا"[9]، فجاءوا بمثل هذه الآراء والبدع والضلالات والانحرافات.

وقال -رحمه الله-: فمن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلاً، أو لتعديه حدود الله بسلوك السبيل التي نهى عنها، أو لاتباع هواه بغير هدى من الله، فهو الظالم لنفسه، وهو من أهل الوعيد، بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطناً وظاهراً الذي يطلب الحق باجتهاده فهذا مغفور له خطؤه.

هذا كله تابع لما سبق، هل يجب القطع، أو يكفي غلبة الظن؟

يقول: الناس في هذا يتفاوتون، والقضايا تتفاوت أيضاً، فكل من بذل وسعه، واتقى الله ما استطاع فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، لكن الكلام في التضييع والتفريط والإعراض، فإذا أورثه ذلك شكًّا، أو كان غاية ما هناك أنه توقف، أو لم يصل إلى مطلوبه، أو صار في حال من الظنون الكاذبة، وما إلى ذلك فمثل هذا يكون مذموماً مؤاخذاً، والله تعالى أعلم.

وقال -رحمه الله-: إذا تعارض دليلان سواء كانا سمعيين، أو عقليين، أو أحدهما سمعيًّا، والآخر عقليًّا، فالواجب أن يقال: لا يخلو إما أن يكونا قطعيين، أو يكونا ظنيين، وأما أن يكون أحدهما قطعيًّا، والآخر ظنيًّا، فأما القطعيان فلا يجوز تعارضهما سواء كانا عقليين، أو سمعيين، أو أحدهما عقليًّا والآخر سمعيًّا، وهذا متفق عليه بين العقلاء؛ لأن الدليل القطعي هو الذي يجب ثبوت مدلوله، ولا يمكن أن تكون دلالته باطلة، وحينئذ فلو تعارض دليلان قطعيان، وأحدهما يناقض مدلول الآخر للزم الجمع بين النقيضين،وهو محال، بل كل ما يعتقد تعارضه من الدلائل التي يعتقد أنها قطعية فلابد من أن يكون الدليلان، أو أحدهما غير قطعي، أو أن لا يكون مدلولاهما متناقضين، فأما مع تناقض المدلولين المعلومين فيمتنع تعارض الدليلين، وإن كان أحد الدليلين المتعارضين قطعيًّا دون الآخر فإنه يجب تقديمه باتفاق العقلاء سواء كان هو السمعي، أو العقلي؛ فإن الظن لا يدفع اليقين، وأما إن كانا ظنيين فإنه يصار إلى طلب ترجيح أحدهما، فأيهما ترجح كان هو المقدم سواء كان سمعيًّا، أو عقليًّا.

الآن انتهى من الإجابة على سؤالات ذلك الرجل الذي سأله حينما كان في البلاد المصرية، ورجع مرة أخرى إلى القانون الكلي الذي ذكره الرازي، وكان قد ذكره في أول الكتاب وبدأ يرد عليه، ثم جاءت هذه القضايا -سؤالات هذا السائل- ثم بعد ذلك رجع للقانون الكلي، وهذه عادة شيخ الإسلام -رحمه الله- في كثير من كتبه، يستطرد، ولهذا يحتاج الذي يقرأ الكتب أن يكون حاضر الذهن، يربط أجزاء الكلام ببعضها، ويعرف بداية الاستطراد ونهايته.

فهنا رجع إلى الكلام على القانون الكلي الذي ذكره الرازي، وبدأ يرد على الرازي، أو يكمل الرد الذي ابتدأه على الرازي.

فالرازي كان يقول: إذا تعارض المعقول والمنقول، فبالسبر والتقسيم لا يخلو من أربع أحوال، إما أن نقبل المعقول والمنقول، وهذا لا يمكن -اجتماع النقيضين، وإما أن نرد المعقول والمنقول، وهذا لا يمكن، وإما أن نقبل المنقول، ونرد المعقول، وهذا عند الرازي لا يمكن؛ لأن العقل عندهم أصل، ويحتجون لهذا بشبهات سيرد عليها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وإما أن نقبل المعقول ونترك المنقول، فعند الرازي هذا هو الصحيح.

فالرازي بهذه الطريقة حينما يقسم إلى هذه الأقسام الأربعة باعتبار أنها حاصرة لا خامس لها، ثم يكرّ عليها بالاختبار الذي هو السبر، ثم يستخرج هذا الحكم أنه يقدم العقل على النقل، شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن الطريقة من أصلها غير صحيحة، ما يعني السبر والتقسيم، لكن طريقة تقرير الرازي، فيقول: التقسيم آخر غير هذا أصلاً، لاحظ: العقل الوقّاد الذي وهبه الله لشيخ الإسلام، كلما تقرأ له تقول: هذا الرجل وهبه الله علماً وعقلاً وتفتّقاً بطريقة عجيبة، فالله أعطاه كثيراً، وتفضل عليه بما لم يتفضل به على كثير من العلماء في عصره، وأيضاً في غير عصره، فكثير من أهل العلم لا يبلغ هذه المرتبة التي بلغها شيخ الإسلام -رحمه الله-.

فالشاهد أنه هنا يقول: التقسيم الذي يذكره الرازي غير صحيح، يقول: إنما عرْض القضية بصورة أخرى، يقول: إذا تعارض دليلان سواء كانا سمعيين، أو عقليين، أو أحدهما سمعيًّا والآخر عقليًّا، فالواجب أن يقال: إما أن يكونا قطعيين، أو يكونا ظنيين، الرازي ما تطرق لهذه القضية، وإنما قال: إما أن نردهما، أو أن نقبلهما، أو أن نقبل المعقول ونرد المنقول، أو العكس، وشيخ الإسلام يقول: لا، التقسيم غلط فإما أن يكونا سمعيين، أو عقليين، أو أحدهما سمعيًّا والآخر عقليًّا، ومن جهة اليقين والظن يقول: لا يخلو إما أن يكونا قطعيين، أو يكونا ظنيين، وإما أن يكون أحدهما قطعيًّا والآخر ظنيًّا، ثم بدأ يختبر هذه الأنواع، ذاك الذي يسمونه بالتقسيم: إما وإما وإما وإما.

قال: فأما القطعيان فلا يجوز تعارضهما سواء كانا عقليين، أو سمعيين، أو أحدهما عقليًّا والآخر سمعيًّا، يقول: هذا متفق عليه بين العقلاء، فهذا هو التقسيم والسبر والاختبار، والرازي يرد بالجملة، شيخ الإسلام يقول: لا، إن كانا قطعيين فإنه لا يجوز أن يتعارضا أصلاً، فالمقدمة فاسدة، الافتراض في غير محله أصلاً، لا يمكن أن يتعارض قطعيان.

ومعلوم أن المنقول لا يخالف المعقول، يقول: "وهذا متفق علية بين العقلاء"، ثم يقول: "وحينئذ فلو تعارض دليلان قطعيان وأحدهما يناقض مدلول الآخر للزم الجمع بين النقيضين، وهو محال، بل كل ما يعتقد تعارضه من الدلائل التي يعتقد أنها قطعية فلابد من أن يكون الدليلان أو أحدهما غير قطعي"، هو يتكلم بكلام طويل على أن كثيراً من هذه الدلائل التي يسمونها قطعية أنها ليست قطعية، ويمثل لها بأمثلة كثيرة جدًّا، ويذكر أقولهم فيها -أقوال كبار النظار- يقول: انظر ماذا يقول هذا، وانظر ماذا يقول الآخر، ويذكر أقوال الواحد منهم في موضعين من كتبه، وأحياناً في الكتاب الواحد، يقول: لو كانت هذه قضية قطعية كيف هذا يقول: إن هذا معلوم بالضرورة، معلوم بالعقل، بضرورة العقل، يعني: بدليل عقلي، معلوم بالضرورة يعلمه كل أحد، والآخر يقول: لا، ليس كذلك، هذا ليس في المسائل المعينة، يقول: أين العقول؟ أين الذين يقولون: إن هذا أمر قطعي؟

وهذا يقول في مسألة أخرى: هذا مما يعلم قطعاً بالعقل، والآخر يقول: لا، ليس هذا مما يقطع به من جهة العقل، الآن أنتم أصحاب العقول اختلفتم فكيف تقولون: هذا دليل قطعي عقلي معارض للدليل السمعي، فيقول: كثير من هذه الأدلة التي تقولون: إنها قطعية الواقع أنها ليست كذلك، حققْ أولاً أنها قطعية، يقول: فلابد من أن يكون الدليلان، أو أحدهما غير قطعي، أو أن لا يكون مدلولاهما متناقضين، يقول: إذا كانا قطعيين فلابد أن يكون المدلول غير قطعي، إما في الدليلين أو في أحدهما، فنكون فهمنا منه بوجه من الدلالة غير المعنى المقصود، غير المعنى الصحيح.

يقول: فأما مع تناقض المدلولين المعلومين فيمتنع تعارض الدليلين، وإن كان أحد الدليلين المتعارضين قطعيًّا دون الآخر؛ فإنه يجب تقديمه باتفاق العقلاء.

يقول: إذا تعارض دليلان قطعيان، فيقول: هذا أمر لا يمكن، أي أن يتعارضا من كل وجه إذا كانا أيضاً قطعيين من جهة الدلالة -يعني الدليل المنقول، يقول: هذا أمر لا يمكن، إما أن تكون هذه الدلائل القطعية التي يقولون عنها: قطعية غير قطعية، وإما أن يكون الدليل النقلي غير قطعي الدلالة، يحتمل معان.

ويقول: الافتراض الآخر في حالة أخرى إذا كان أحد الدليلين المتعارضين قطعيًّا دون الآخر، يقول: هنا يجب تقديم القطعي باتفاق العقلاء.  

يقول شيخ الإسلام -غير ما نقله هنا-: "ودونه خرط القتاد"[10]، يقول: هذا أمر لا يمكن، أي أن يكون التعارض بين دليل عقلي قطعي ودليل نقلي غير قطعي، يقول: هذا دونه خرط القتاد، لكن نحن نفترضها في مسألة التقسيم بالسبر والتقسيم من حيث هو، لكن من حيث الوجود والواقع هذا أمر لا يمكن، ويقرر هذا بتقريرات، وأن ما جاء به الرسول ﷺ لا يُعلم أن شيئاً منه عارض العقول الثابتة الصحيحة.  

يقول: ولذلك ما تجد شيئًا مما جاء به الرسول عارض العقليات القطعية، يقول: مثل مسائل الرياضيات -الحساب- ومثل كثير من مسائل الهندسة، وكثير من الطبيعيات، يعني التي يقطع العقل بها، نتائج، 1+1=2، يقول: مثل هذه لا توجد، ولم يتطرق إليها الشارع في الكتاب ولا في السنة، لا يوجد دليل واحد أبداً في الكتاب ولا في السنة نصٌّ تطرق فيه الشارع إلى قضية تخالف مثل هذه الأمور، لكن هذه الأمور أين تجدها؟

تجدها في كتب أهل الكتاب، ولذلك تجد هذا المناظر من بلاد الهند في بعض مناظراته مع القساوسة الغربيين، رجل حاذق في المناظرة اسمه "نايك"، هذا الرجل حاذق جدًّا في المناظرة، له مناظرة في الرياضيات في الكتاب المقدس، في جامعة، وهي مليئة بالناس، ويذكر الأرقام والأعداد التي يعرفها صغار الطلبة، ويقول: انظروا هذا مع هذا، وهذا زائد هذا، وهذا ناقص هذا كم تخرج النتيجة؟ كذا، يقول: انظر في الكتاب المقدس، فيأتي لهم بالجزء أو بالصفحة، أو الآية، ويقول لهم: انظروا في إصحاح كذا، في كذا، والناس إذا نظرتَ إلى الكاميرا وهي تعرض الوجوه بعضهم فغر فاه، وبعضهم تكاد عيونه تخرج، كل الكلام على قضايا رياضية محسومة.

فيقول: انظر إلى الكتاب المقدس كيف داخَلَه الخطأ في مسائل حسابية بسيطة يعرفها صغار التلاميذ؟ هذا لا يوجد أبداً في القرآن، ولا في السنة، شيخ الإسلام هنا يقول: "هذا دونه خرط القتاد"، يقول لك: دليل عقلي قطعي يعارض دليلا سمعيًّا غير قطعي، يقول: نحن نقدم القطعي، لكن لا يظن أحد أن هذا في الواقع موجود.

يقول: "وأما إن كانا ظنيين فإنه يصار إلى طلب ترجيح أحدهما، فأيهما ترجح كان هو المقدم سواء كان سمعيًّا أو عقليًّا"، هذا من حيث التقسيم، وإلا إذا كان هذا الدليل العقلي ظنيًّا فما قيمته؟  

فالحاصل أنه هنا يناقش قانون التأويل، يرد على الرازي، هذا الجواب مجمل الآن على مقدمة الرازي هذه في القانون الكلي، ثم بدأ بالجواب المفصل.   

والجواب المفصل في المجلد الأول ذكر تسعة عشر وجهاً، في أحد هذه الأوجه أجاب على مضامين أسئلة السائل التي مرت بنا وفيها كثير من الفوائد، والضوابط، والقواعد في هذا الدرس والدرس الذي قبله، هذا في وجه واحد فقط، وفي المجلد هذا فقط ذكر تسعة عشر وجهاً في الرد على القانون الكلي، ورده من وجوه مهمة جدًّا يُحتاج إليها في مناقشة هؤلاء من أصحاب المدرسة العقلية الحديثة، ومن يتبعهم بغير علم، يعني: بعض الشباب الصغار الذي يقول: أنا آخذ ما يملي عليّ عقلي، ولا أؤجر عقلي للآخرين، ولا تذهبْ لهؤلاء الشيوخ، وتسمع منهم، وتتلقف كأنك لا عقل لك، والله أعطاك عقلاً تفكر به.

فعنده أن كل ما يعرض من نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف، وأقوال أهل العلم، والإجماعات وغير ذلك يعرضه على عقله الضعيف المسكين، إذا كان شيخ الإسلام يناقش هؤلاء الجبال الأساطين، ويتكلم عنهم، ويقول: هؤلاء أذكياء، هم أذكى أهل زمانهم، ومع ذلك وصلوا إلى حيرة واضطراب وشكوك، وتوقف فضلاؤهم، ورجع كثير منهم، ثم يبدأ يذكر الذين رجعوا من أصحاب هذه المذاهب في آخر حياتهم.

ذكر أن الغزالي مات وصحيح البخاري على صدره، وذكر رجوع الجويني وغيره، فكيف يأتي إنسان خلوٌ من العلم والفهم والخبرة والمعرفة والعقل، والعقل منه ما هو وهبي، ومنه ما هو كسبي، وشيخ الإسلام يناقش هؤلاء في العقول وفي أقسامها، ويقول: أي عقول تقصدون، العقول الوهبية، أو العقول الكسبية؟ العقول الكسبية تكون بالتجارب، والمعارف، والعلوم إلى آخره، فهذه نسبية ما يكون عند هذا عقل يكون عند الآخر ليس بعقل حتى في المسائل الذوقية، هذا يرى أن هذا الشيء جيد، وهذا يرى أن هذا الكلام غير جيد.

وتجد هؤلاء يحضرون الخطبة وهذا يقول: هذه الخطبة ممتازة وجيدة، وهذا يقول: غير جيدة، هذا يسمع الكلام ويرى أنه مقنع جدًّا، وهذا يسمع هذا الكلام ويقول: غير مقنع، وهكذا في أمور كثيرة.

فهؤلاء تحيروا، فجاء قوم فقالوا: ما دامت العقول بهذه المثابة ووقعتم في هذا الاختلاف، وأنتم تدعون أنكم أصحاب عقول إذن لا حل إلا في المحسوسات، والعقول لا يعول عليها؛ لأنها تتفاوت، وهو أمر نسبي، وهناك من جاء وقال: حتى المحسوس لا ينفع، يَرى العصا في الماء منكسرة، والنجم من بعيد صغيرًا، والرجل من بعيد على هيئة الشجرة، لا نقل، ولا عقل، ولا حس، ما بقي شيء، نسأل الله العافية. 

وقال -رحمه الله-: وبهذا التفصيل المحقق المتفق عليه بين العقلاء يتبين أن إثبات التعارض بين الدليل العقلي والسمعي والجزم بتقديم العقلي معلوم الفساد بالضرورة، وهو خلاف ما اتفق عليه العقلاء.

هذا خلاف ما قرره الرازي؛ لأنه يقول: إن العقل مقدم على النقل عند التعارض، هذا القانون الكلي، فهذا الجواب الآن جواب مجمل ذكره شيخ الإسلام مع ما فيه من التفصيل الذي ترون، لكن سيأتي التفصيل الذي هو بحر من بحوره -رحمه الله- بعد هذا مباشرة، يعني تجدون هذا التفصيل في صفحة ستة وثمانين من المجلد الأول، يبدأ بالتفصيل في الكلام على هذه القضايا التي ذكرها الرازي. 

قال -رحمه الله-: عدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في أنفسها، فما أخبر به الصادق المصدوق ﷺ هو ثابت في نفس الأمر، سواء علمنا صدقه، أو لم نعلم.

هذا الكلام الذي يريد أن يقوله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بأن الحقائق ثابتة وعدم علمنا بها لا ينفي ثبوتها في أنفسها، هو يرد أيضاً على قول الرازي: إننا إذا قدمنا النقل كان ذلك طعناً في  أصله الذي هو العقل، فيكون طعناً فيه لماذا؟ كما قلت لكم: الرازي عنده شبهات، لماذا قال: نقدم العقل عند التعارض، يقول: لا نردهما -أي النقل والعقل- عند التعارض، ولا نقبلهما، ولا نرد العقل ونقبل النقل، لماذا؟

قال: لأننا إذا رددنا العقل وأبقينا النقل، فمعنى ذلك أننا طعنا في النقل؛ لأن العقل هو الذي دلنا على صحة النقل، وشيخ الإسلام -رحمه الله- ردُّه على هذه القضية ردٌّ قوي جدًّا وواضح.

فشيخ الإسلام يقول: قول الرازي: إن العقل أصل النقل، يقول: ماذا تقصد به؟ هل تقصد بذلك أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر، أو أصل لعلمنا بصحته؟ يعني هل كون العقل أصلا للنقل أنه لم تثبت هذه الحقائق الموجودة في النقل إلا بالعقل؟يقول: هذا لا يقول به عاقل، فهذه الحقائق ثابتة عند الله سواء علمناها، أو ما علمناها، توصلنا إليها أو ما توصلنا إليها، أصبنا في فهمنا أو أخطأنا، أو أصاب بعضنا أو أخطأ بعضنا، هذه قضية لا تغير من شأن هذه الحقائق، هي ثابتة، فإذا كانت الحقيقة ثابتة فكون الناس يخطئون في معرفتها، أو يصلون إليها، أو يعرفونها لا يتغير من حقيقة الأمر شيء، فيقول: إن العقل أصل للنقل ماذا تقصد؟ أصل لثبوته؟ يقول: هذا لا يقول به عاقل، فالحقائق ثابتة، يعني مثلاً حينما نعرف أنه يوجد في البلد هذا المسجد، آخر ما علم به هل تغير من الحقيقة شيء؟ ما تغير، الأشياء التي تدرك بالعقل يعني مثلاً مسائل الحساب، أو نحو ذلك 10÷2 =5 هذه حقيقة، لو أخطأ فيها أحد هل تتغير؟ هل يؤثر هذا فيها؟   

الجواب: لا، لو جهلها أحد ما فهمها أصلاً، هل يغير من الحقيقة شيئًا؟   

الجواب: لا، فيقول: الحقائق ثابتة، فالعقل ليس هو الذي أثبتها، هي ثابتة في نفسها، لكن العقل يمكن أن يقال: هو الذي دلنا، توصلنا وعرفنا عن طريقه مثل هذه القضية، ثم يبدأ يذكر هذا الكلام جواباً عليه، هو يجيب على دعوى أن العقل أصل في معرفتنا بالسمع، ودليل لنا على صحته، يقول: أنت تقول: إذا رددنا الدليل العقلي وأبقينا النقلي أبطلنا النقل؛ لأنا عرفنا النقل بالعقل، فأبطلنا الدليل فبطل المدلول.

نقول له: لا، الدليل العقلي هذا فقط هو وسيلة لعلمنا نحن بها، لكن هي ثابتة في نفسها، وقد دل عليها الكتاب والسنة في مواضع كثيرة، هذه القضايا التي هي أصول الدين، التي يجادل فيها هؤلاء المتكلمون، يقول: نحن نعرفها عن طريق دلائل الكتاب والسنة، والعقول لا تخالف ذلك، لكن لا يقال: إن العقل يقدم عند التعارض، مع أن هذا الافتراض غير وارد حينما يكون هذا قطعيًّا، وهذا قطعيًّا، رأيتم كيف يناقش هذه القضايا؟ مع أن أهل الكلام يعتقدون أن الرازي ليس بعده شيء في هذه القضايا العقلية، والله المستعان.

قال -رحمه الله-: عدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في أنفسها، فما أخبر به الصادق المصدوق ﷺ هو ثابت في نفس الأمر سواء علمنا صدقه، أو لم نعلم.

ومن أرسله الله إلى الناس فهو رسوله، سواء علم الناس أنه رسول، أو لم يعلموا، وما أخبر به فهو حق، وإن لم يصدقه الناس، وما أمر به عن الله فهو أمر به، وإن لم يطعه الناس، فثبوت الرسالة في نفسها، وثبوت صدق الرسول، وثبوت ما أخبر به في نفس الأمر ليس موقوفًا على وجودنا فضلاً عن أن يكون موقوفًا على عقولنا، أو على الأدلة التي نعلمها بعقولنا، وهذا كما أن وجود الرب وما يستحقه من الأسماء والصفات ثابت في نفس الأمر سواء علمناه، أو لم نعلمه، فتبين بذلك أن العقل ليس أصلاً لثبوت الشرع، ولا معطياً له صفة لم تكن له، ولا مفيدًا له صفة كمال؛ إذ العلم مطابق للمعلوم المستغني عن العلم، فالعلم تابع له ليس مؤثراً فيه، فإن العلم نوعان:

أحدهما: العملي وهو ما كان شرطاً في حصول المعلوم، كتصور أحدنا لما يريد أن يفعله...

هو يفصل العلم: علم تصوري، يعني: أنت الآن تريد أن تبني بناء كهذا لابد أن يكون عندك تصور ماذا تريد؟ تريد أن تبني بيتاً أو مسجداً، فيتوقف عليه المراد.

تريد أن تسافر إلى مكة لابد أن تسلك طريقاً يوصل إليها، فهذا في الأمور العملية لابد من تصور المراد، وهناك أمر آخر الذي يذكره شيخ الإسلام وهو الخبري النظري، وهو ما كان المعلوم غير مفتقر في وجوده إلى العلم به، كعلمنا بوحدانية الله وأسمائه وصفاته، هذا علم خبري سواء علم الناس أو لم يعلموا، فالله واحد، ومعنى هذه اللفظة وحّد يوحد توحيداً، هذا المصدر توحيد هل هو من النسبة أو من الجعل؟

من النسبة، وليس من الجعل، يعني نحن حينما نوحد الله هل نحن الذين جعلناه واحدًا بنفس الأمر، أو أن الله واحد سواء وحده الناس أو لم يوحدوه؟

إذن هو من النسبة، نسبنا الله -تبارك وتعالى- إلى ذلك، أو نسبنا الوحدانية لله  فهو من النسبة لا من الجعل، يعني حينما توحد الله لست أنت الذي جعلته واحداً، فالله واحد قبل أن تُخلق، إنما نسبت إليه الوحدانية فقط، فهذا في الأمور الخبرية النظرية بلغنا أو ما بلغنا، توصلنا إليه بعقولنا، توصلنا إليه  بالمنقول، أو أخطأنا ذلك، هذه الحقائق ثابتة، لكن متى يُحتاج إلى العلم ويتوقف عليه وجود الشيء؟ هذا في الأمور التصورية العملية، تريد أن تصنع بهذا الخشب طاولة، أو نافذة؟ لابد أن يكون عندك تصور، وهذا الذي يسمونه بالخَلق، فهو يأتي بمعنى التقدير، لابد أن يكون قدّر الشيء، ثم بعد ذلك يوجده.

ولأنتَ تَفْري ما خلقتَ وبعْ ضُ القومِ يخلقُ ثم لا يفري

تفري ما خلقتَ: يعني ما قدّرتَ، يمدح ملكًا تستطيع أن تخطط وتنفذ، وغيرك يخلق يعني يقدر ويخطط، ثم لا يفري أي ما عنده إمكانيات يحقق الخطط التي قد وضعها.

وقال -رحمه الله-: أحدهما: العملي وهو ما كان شرطاً في حصول المعلوم، كتصور أحدنا لما يريد أن يفعله، فالمعلوم هنا متوقف على العلم به محتاج إليه.

والثاني: الخبري النظري: وهو ما كان المعلوم غير مفتقر في وجوده إلى العلم، كعلمنا بوحدانية الله وأسمائه وصفاته، وصدق رسله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وغير ذلك، فإن هذه المعلومات ثابتة سواء علمناها أو لم نعلمها، فهي مستغنية عن علمنا بها، والشرع مع العقل هو من هذا الباب؛ فإن الشرع المنزل من عند الله ثابت في نفسه سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه، وهو مستغنٍ في نفسه عن علمنا وعقلنا، ولكن نحن محتاجون إليه وإلى أن نعلمه بعقولنا، فإن العقل إذا علم ما هو عليه الشرع في نفسه صار عالماً به، وبما يتضمنه من الأمور التي يحتاج إليها في دنياه وآخرته، وانتفع بعلمه به، وأعطاه ذلك صفة لم تكن له قبل ذلك، ولو لم يعلمه لكان جاهلاً ناقصاً.  

هذا رد على الرازي في كلامه السابق أن بالعقل عرفنا صحة النقل، يقول له: أي صحة تقصد؟ فصِّل في الكلام، إن كنت تقصد أنه متوقف عليه ثبوته ووجوده، فهذا غير صحيح، وإن كنت تقصد أننا عرفنا فقط نحن المساكين الضعفاء، فهذا معناه أن هذه الحقائق ثابتة، وأن معرفتنا وعدم ذلك لا يؤثر في كونها ثابتة، وأنها حق، ومن ثَمّ لا نقول: نرد الدليل النقلي، ونقبل الدليل العقلي كما يقول الرازي.

ومَن أكثر من قراءة كتب شيخ الإسلام لاسيما مثل هذا الكتاب العظيم يكون عنده من القدرة، وتفتُّق الذهن، والحجج، والتأصيل. 

والتأصيل أول ما يكون بذكر دلائل الكتاب والسنة، هذا أعظم التأصيل، هذه الأصول، وما يرجع إلى ذلك من ذكر الإجماع والقياس والأدلة المعتبرة، والقواعد المتنوعة التي تبنى عليها المسائل الفرعية، هذا هو التأصيل، يُقعِّد وينطلق من قواعد، ويذكر الدلائل، وخلاف التفصيل ما يكون على سبيل التقرير كما يذكره بعضهم، أو كثير منهم في دروس الفقهاء -رحمهم الله- فيقرأ الكتاب من المتون، أو نحو ذلك من غير أن يبين مأخذ هذا القول وأدلته، وما إلى ذلك، فهذا يقال له: درس غير مؤصل، يعني يقرأ كلام صاحب المتن ويوضح بعض العبارات التي تحتاج إلى توضيح لها، ثم يمضي، هذا درس غير مؤصل، ولكن حينما يذكر مأخذ هذا القول، ثم الأدلة فهذا هو التأصيل.

فهذا الكتاب مليء بالدلائل، كثيرًا ما يذكر أدلة الكتاب والسنة، وتتعجب من قوة استحضاره، وأحياناً يذكر الدلائل العقلية تتعجب من توقُّد ذهنه، وأحياناً يورد أقوال السلف في مسألة من المسائل، وتتعجب تقول: هذه الكتب بين يديه، أو أن الرجل يغترف من بحر، في السجن ما عنده كتب، ولا مراجع، نعم أحيانًا يطلب كتابًا كما في بعض رسائله، يقول: أحضروا لي المجلد الفلاني من الكتاب الفلاني، نسخ خطية، ويأتي مثل هذا العلم كأنما يغترف من بحر -رحمه الله- فهذا: فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [المائدة:54].

  1. انظر: الاستقامة (1/ 280)، ودرء تعارض العقل والنقل (1/ 232)، ومجموع الفتاوى (5/ 261).
  2. انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 53)، ومجموع الفتاوى (3/ 314).
  3. درء تعارض العقل والنقل (1/ 166).
  4. انظر: مجموع الفتاوى (4/ 72).
  5. انظر: الرد على المنطقيين (ص:421).
  6. درء تعارض العقل والنقل (1/ 165).
  7. انظر: مجموع الفتاوى (4/ 73)، وبيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (1/ 408).
  8. انظر: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 139).
  9. انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 139)، برقم (201)، وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1042)، برقم (2003)، ودرء تعارض العقل والنقل (5/ 219).
  10. انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 80)، ومنهاج السنة النبوية (2/ 577).

مواد ذات صلة